الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

و من جملتهم بايزيد البسطامي الذي كان من «أهل السكر»، والذي كان يبدو في أواخر عمره و قد استولى قبض على أحواله. و في نفس الوقت، أنه لم‌يكن يتوقف عند مستوى تفكير عوام مريديه. و قد نسبت إليه شطحات كثيرة، و عرفت عنه حكايات غريبة عن حالات سكره (من بينها، ظ: المولوي، الكراس 4، البيت 2102 و مابعدها) و لعل إسناد جميع، أو أكثر تلك الحالات، أو الحكايات إليه، لايخلو من معتقدات مريديه المبالغ فيها. و كان الحارث المحاسبي من «أهل الصحو»، و كتابه الرعاية لحقوق الله هو نموذج لحالة صحوه هذه. و يدل قوله في باب الرضا الذي يعد لدى معظم المشايخ في عداد المقامات، و لديه من جملة الحالات (الهجويري، 219)، على غوره و تأمله في نظم أحوال أهل السلوك و مقاماتهم.

و بذل محمد بن علي الترمذي، المعروف بالحكيم جهوداً كبيرة في الرد على أهل الملامة الذين كانوا قد ظهروا آنذاك في نيسابور، و كانوا يتهمون الصوفية بعدم الإخلاص في العمل. و قد كانت أقواله في باب القلب و ما يسميه الصوفية بأطوار القلب السبعة تتسم بالجدة، و قد سبقت أقواله ما قاله الآخرون في هذا الباب أمثال الغزالي و نجم‌الدين كبرى (ظ: زرين‌كوب، جست‌وجو...، 54). كما يحظى كلامه في باب مسألة الولاية بأهمية خاصة، و يدل على اعتقاده بتفوق الولاية على النبوة، و قد ظهرت فيما بعد مناقشات كثيرة بين الصوفية في مجال تلك الاعتقادات؛ كما طرح في هذا الباب بعض الأسئلة التي استرعت اهتمام ابن‌عربي بعد عدة قرون.

و كان أبوالقاسم الجنيد، المعروف بشيخ الطائفة، معلم صوفية بغداد و إمامهم في عصره. و كان ابن أخت السري السقطي من المشايخ الكبار للصوفية، و كان في نفس الوقت تلميذ الحارث المحاسبي، و قد اعتبره مشايخ الأجيال التالية آخر ممثل للتصوف، و رأوا في موته موتاً للتصوف الحقيقي (ن.م، 114). و قد حول التصوف من خلال اللطائف و الدقائق التي قالها في ذلك الباب، إلى علم تقريباً و سعى لأن يفتح مجالاً لعلم التصوف إلى جانب علم الفقه و علم الكلام. و قد تبقت منه بضع رسائل و مقالات قصيرة في هذا المجال، حيث تشير إلى أهمية شخصيته في نشر التصوف. و حسب تعليماته ــ التي كانت في ذات الوقت محتاطة و قائمـة على الصحـو و التزام الشريعـة ــ كانت غاية السلوك عبارة عن الفناء في «المذكور»، كما يلفت الانتباه في باب نهاية السير إلى أن «النهاية هي الرجوع إلى البداية» (ظ: السهروردي، عمر، 257؛ عبدالرزاق، شرح منازل، 12؛ قا: اللاهيجي، 741).

و رغم أن أبا سعيد الخراز كان يعتبر نفسه مريداً لأبي‌القاسم الجنيد، إلا أنه كان لدى باحثي الأجيال التالية «بار خداي جنيد... و أز أو مه» (مولى الجنيد و أفضل منه) (الخواجه عبد‌الله، 159). وقد أبدى قدرة في التفكير و التحليل في تقرير لطائف التصوف والرسائل المختصرة التي تبقت منه و منها الصدق و المسائل وعدد من الرسائل غير المنشورة، تضعه في مصاف الجنيد والحكيم الترمذي كأحد مؤسسي مايسمى بعلم الإشارات و الذي هو التصوف العلمي و البحثي؛ و رغم البلاء الشديد الذي ظهر في بغداد للصوفية في هذه الفترة، و رغم أن غلام الخليل الذي كان من متشرعة الصوفية (الهجويري، 172-173) اتهمهم بالإلحاد لدى الخليفة و استدرجهم إلى المحكمة، و أنه اعتزل كما فعل الجنيد، إلا أن تأثير أقوال هذا الأستاذ و التلميذ كانت تستحق الملاحظة في بيان حقائق التصوف.

و قد كان لأبي الحسين النوري الذي أبدى ثباتاً في هذا البلاء خلافاً لهم، و أُحضر إلى محكمة القاضي أيضاً، شيء من الميل إلى السكر، رغم الالتزام بمتابعة ظاهر الشريعة، و كان يعتبر من أصحاب الألم (ظ: ماسينيون، «مجموعة...»، 51)، و هو ما يمكن أن يصور أوصاف الشبلي من أصحاب الجنيد. و قد كان الشبلي موافقاً له في حادثة الحلاج مثل ابن عطا، و لكنه لم‌يظهر ذلك خلافاً للأخير، كما هو الحال بالنسبة إلى أبي عبدالله الخفيف المعروف بالشيخ الكبير الذي يعتبر من جملة متأخري الصوفية، إذ بقي على التزام الصحو و اجتناب طريقة أهل السكر، رغم تأييد الحلاج.

 

دور الحلاج في تاريخ التصوف

هناك حادثتان رئيستان تركتا تأثيراً حاسماً في مسيرة تاريخ التصوف، و أدت بالنتيجة إلى نشر و توسيع غالبية المباحث المتعلقة بالعرفان بين الصوفية: حادثة محاكمة الحلاج و قتله (309ه‍) و ظهور محيي‌الدين ابن عربي. و قد ظهر كلا العاملين خارج نطاق تأثير سلاسل الصوفية، ولكنهما أديا بعد فترة من حادثة الحلاج إلى ظهور الأقوال المخالفة و الموافقة بشكل يستحق الملاحظة، و ذلك بين سلاسل الصوفية و طرقها. و بالطبع فإن ظهور المثنوي المعنوي لمولانا جلال‌الدين يجب اعتباره أيضاً عاملاً مؤثراً في تحول تاريخ التصوف، و لكن نطاق نفوذه كان متركزاً في الغالب على الأدب الصوفي و ما كان يرتبط بهذا الأدب.

و قد عززت حادثة الحلاج و كذلك ظهور ابن عربي الموضع النقدي للمتشرعة أمام الصوفية رغم تباعدهما بثلاثة قرون، ووجهت معارضات ناقدي الصوفية بشدة إلى أقوالهم و أحوالهم.

وقد فقد أبوالمغيث الحسين بن منصور الحلاج الذي كان يعتبر هو أيضاً من حين لآخر من أئمة التصوف مثل الجنيد وأبي‌سعيد‌الخراز، مكانته كأحد أئمة التصوف لأنه كُفِّر لدى فقهاء بغـداد، و أعرض عنه متصوفة مذهب الجنيـد ــ سوى ابن عطا الآدمي تقريباً ــ و تعرض لاختلاف الآراء، أو التوقف في الحكم. و مع كل ذلك، فإنه يعتبر في التصوف ظاهرة جديدة و مقولة مستقلـة، و رغـم أنه كان يجالس لفتـرة طويلـة سهـل التستـري و أبا‌يعقوب الأقطع وأبا عثمان المكي، ورغم أنه خصص ردحاً من عمره للزهد و الرياضة، و اجتاز مقامات الصوفية من مرتبة التبتل حتى الفناء، إلا أن النشاطات التي قام بها خارج نطاق التصوف، أو نسبت إليه، جعلته عرضة لسوء ظن شديد من قبل المتشرعة.

و قد وضعته علاقته بالشيعة الإمامية و الانتساب إلى القرامطـة ــ حيث كانـوا آنذاك قـد عرضوا الخلافة لهزات عنيفة ــ موضع الاتهام لدى بلاط الخلافة، و أثارت قلقه، كما أن المواعظ الحماسية و الأسفار الدعائية التي كانت تنقل خلالها الكرامات المقترنة بالدعاوي و الشطحات التي لايمكن قبولها كقوله «أنا الحق»، أثارت شكوك مشايخ الصوفية و سوء ظنهم به. إن دعوى الحب الإلٰهي التي كان يذكرها بحماس في أسواق بغداد و في التجمعات الأخرى، و القول بما كان يصفه أتباعه بأنه عين الجمع، و ينظر إليه عوامهم بعين المظهرية، أو الألوهية، أوقعاه في تهمة الاعتقاد بالحلول و الاتحاد. و قد أفتى ابن داود (تـ 297ه‍( الفقيه الظاهري ــ الذي وجد أن كلاً من القول بالحب الإلٰهي و الإيمان بالحلـول و الاتحاد فيما كان ينسب إلى الحلاج يتضمنان الكفـر ــ بوجوب قتله. و لكن الرأي المعارض للفقيه الشافعي المنافس له، ابن سريج حال دون تنفيذ تلك الفتوى.

كما أنكر أتباعه إسناد مثل هذه الأقوال إليه، و مع كل ذلك، فقد ظلت هذه الدعاوى تنقل عنه، و كانت تنعكس و تتكرر في أشعاره و مواعظه. كما يبدو تصريح تلميذه فارس الدينوري الذي ينسب إليه الحلاجيون، بهذا الكلام نفسه، و تبرؤ أكثر الصوفية منه وطعنهم له (الهجويري، 164)، يدل على تصريح الحلاج بمثل هذه الأقوال (ظ: البغدادي، 241 و مابعدها؛ قا: نيكلسون، «فكرة...»، 130). و على هذا فإن إسناد القول بالحلول و الاتحاد إلى الحلاج يمثل قولاً له تاريخ طويل (عريب بن سعد، 911) و قد ذكر أيضاً لدى قدماء الشيعة (ظ: إقبال، 112-116). كما أن التوقيع الذي قدمه الإمام (ع) بشأنه (المقدس الأردبيلي، 737)، يؤيد خلفية هذا الاتهام له، و على هذا فإن الإصرار على إنكاره لايخلو من التعسف مع شهرته في عصر الحلاج و فارس الدينوري (قا: ماسينيون، «آلام...»، I/302 و مابعدها).

كما أن القدماء الذين أرادوا دفع هذا الإسناد عن الحلاج، خطّؤوا بشدة قطعة معروفة للغاية منسوبة إليه مضمونها: «سبحان من أظهر ناسوته/ سرسنا لاهوته الثاقب...» (ظ: الحلاج، «ديوان»، 150 ومابعدها)، و رفضوا إسناده إلى الحلاج دون ذكر دليل (الديلمي، 101). و فيما عدا هذا القول الذي تبرأ منه متصوفو العصر و بسببه قطع بعض المشايخ علاقتهم معه، فإن ماذكره الحلاج في كتاب الطواسين و خاصة في «طاسين الأزل»، في اعتذار إبليس و مقارنة حاله مع حال النبي محمد (ص) (ظ: ص 41)، و الذي تكرر فيما بعد على شكل تراث عرفاني لدى أحمد الغزالي و عين القضاة الهمداني ــ بل إنه جاء أيضاً بشكل شاعري و كنوع من التأييد الخفي في قطعة منسوبة إلى السنائي الغزنوي (ص 871؛ قا: الخاقاني، 616)، كما جاء أيضاً في حكاية تمثيلية من المثنوي لجلال الدين المولوي (الكراس 2، البيت 2616 ومابعدهـا) ــ كان من جملة الأقوال التي وردت في كلام الحلاج مشفوعة بالتأكيد و التصريح، و أدت إلى مزيد من الإنكار له من قبل المتشرعة. و قد تعرض الحلاج للسجن و التعذيب بتهمة الكفر و الميول الإلحادية (301ه‍/914م)، و حوكم و قتل في بغداد (ذو القعدة 309) بعد سجن طويل.

و رغم أنه لايوجد شك في تصوف الحلاج، و أهمية الأقوال التي نقلت عنه في مجال العرفان، و لكن الحكم بشأن معتقداته وآرائه مايزال عسيراً، فنحن بحاجة إلى أدلة قاطعة و موثوق بها أكثر، خاصة و إننا يجب أن نتجنب الاستناد إلى الأبيات المنسوبة إليه. كما أننا يجب أن لاننظر نظرة التأييد إلى ما قاله بعض المؤيدين له من أنه كان يخبر عن الأسرار ( أخبار الحلاج، 92). وإشارة حافظ (ص 143) الذي قال استناداً إلى قوله بإفشاء سر الربوبية: «كانت جريرته إفشاء الأسرار»، تعد من الإشارات المعروفة، و من الطريف أن هناك كلاماً للحلاج نفسه نقل في هذا الباب ( أخبار الحلاج، 19).

 

شيوخ إيران الكبار في خراسان

بعد انقضاء عصر الطبقات، وقبـل أن تظهـر السلاسـل و الطـرائــق الصوفيـة بشكل جـدي و رسمي، كان هناك 3 شيوخ كبار على الأقل في العهد الغزنوي نالوا شهرة واسعة، و حظوا ككل أئمة القوم بتأييد عامة الصوفية وتكريمهم و هم: الشيخ أبوالحسن الخرقاني و الشيخ أبوسعيد ابن أبي الخير الميهني في خراسان و الشيخ المرشد أبو إسحاق الكازروني في فارس. و قد أسس أصحاب هذا الشيخ الأخير فيما بعد طريقة باسمه عرفت بالطريقة المرشدية.

و رغم أن أبا الحسن الخرقاني (تـ‍ 425ه‍( كان أمياً، و لم‌يكن مطلعاً على مدارس عصره، إلا أنه أثبت في إدراك حقائق التصوف أن التصوف هو علم الخِرَق لاعلم الوَرَق. و قد كان وارث معنوية بايزيد، و متأثراً على مايبدوبمنقولات أقواله و أحواله. و كان في شبابه يقضي أوقاته في الاحتطاب والاشتغال بوصفه عاملاً، ولكنه كان يبدي دقة و رغبة في سلوك الطريقة. و قد نقل السمعاني عنه أنه قال: وجدت الحق في مرافقتي لحماري (5/93)، أي عند عمله كأجير بحماره. و قصة التقاء السلطان محمود به، حيث قيل إنه لم‌يستقبل السلطان إلا بصعوبة، و كذلك قصة سفر أبي‌ علي‌ ابن‌ سينا للالتقاء به و التي وردت في التذاكر، هما على الأرجح من مبالغات كتّاب المناقب (قا: زرين‌كوب، جست‌وجو، 56-60).

و قد ذكرت مجموعة من أحوال الخرقاني و أقواله في كتاب باسم نور العلوم و رغم أنه لايخلو من مثل هذه المبالغات، و لكنه يدل على شهرته و أهميته في نطاق أهل التصوف. و قد كانت حالة القبض هي الطاغية على أحواله و هو ما كان يخالف تماماً حالات صديقه و الشيخ الكبير المعاصر له أبي سعيد بن أبي‌الخير، حيث كانت طريقته تقوم على البسط، و يبدو أن هناك نوعاً من التفاؤل و النشاط الروحي مسيطراً على جميع أقواله و أحواله.

تلقى أبوسعيد بن أبي الخير، المعروف بالشيخ الميهني و«بوسعيد مهنة» (ت‍ـ 440ه‍( في شبابه العلم الرسمي الشائع لدى أهل المدرسة لفترة، و تبحر في الفقه و الكلام و التفسير و الأدب، و لكن جاذبية التصوف دفعته إلى ترك علوم الظاهر. و قد خصص قسماً من أوقاته للعبادة و الرياضة، و بالغ في مجاهدة النفس والإعراض عن متاع الدنيا، حيث جمعت مجالس وعظه و تذكيره فـي ميهنة ونيسابـور مريديـن كثيرين حوله. و رغم أن قراءتـه لـ‍ «البيت» على المنابر و إقدامه على إقامة مجلس السماع، أثارتا معارضة المتشرعة ضده، إلا أن ازدياد مريديه، حفظه من المعارضين. و في أواخر عمره، كان كما يروي العوفي، يعيش بين هؤلاء المريدين الكثر كسلطان، لاكزاهد.

و قد أدت طريقته التي كان قد وفق فيها بين السكر و الصحو، وتعليماته التي كان يعبر عنها بعبارة «الصدق مع الله، و الرفق مع الخلق»، إلى أن يزداد أتباعه بشكل ملفت للنظر بالقياس إلى من التف حول منافسيه مثل أبي‌القاسم القشيري و غيره، و تدفعهم من حين لآخر إلى التآمر عليه. وقد جمعت حالاته و مقاماته في كتابين عرفا باسم حالات و سخنان شيخ أبوسعيد و أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد و لاشك في أن القسم الأكبر من حكايات الكرامات فيهما هو من مبالغات المريدين.

كان الشيخ المرشد أبو‌إسحاق الكازروني (تـ‍ 426ه‍) يمضي أوقاته في شبابه في المهن الحقيرة، كما كان الحال بالنسبة إلى أبي الحسن الخرقاني، و قد كان وارث معنوية الشيخ الكبير أبي عبدالله الخفيف، و رغم أنه أدرك هذا الشيخ في أواخر عمره، إلا أنه كان في الغالب متخرجاً على يد مريديه، و كان يعتبر في الحقيقة وارث معنويته فقط. و رغم أن ما جمع عن حالاته ومقاماته في كتاب فردوس المرشدية لايخلو من المبالغات، إلا أن تصوفه يبدو متضمناً لنشر الإسلام و قائماً على محاربة المعارضين و هو الأمر الذي استمر من حين لآخر في الطريقة المرشدية المنسوبة إليه بدقة و إصرار و في «الثغور» الإسلامية.

كان هؤلاء الشيوخ الثلاثة من أئمة الصوفية في عصرهم، و قد اهتم شيخ الإسلام الخواجه عبدالله الأنصاري، المعروف بشيخ هراة و شيخ الحاجـات (تـ 483ه‍) بنشر الطريقة الصوفية بنفس حماسهم ورغبتهم؛ رغم أن أقواله كانت منسجمة أكثر من أعماله مع أسس التصوف التي كانت تشمل الإعراض عن الصراعات في عصره. و يبدو أن كتابه منازل السائرين و التقرير الذي كتبه عن طبقات الصوفية لعبد‌الرحمان السلمي بالفارسية الهروية، يدل على تعمقه وتأمله الخارق‌العادة في التصوف كعلم، و ما نقل من أقواله في تفسير كشف الحقائق للميبدي يشير أيضاً إلى إحاطته بمسائل الصوفية، واستغراقه الشخصي في سلوك الطريقة في نفس الوقت. وما لايبدو متلائماً مع هذه الأحوال تقلده لمنصب «شيخ الإسلام» الذي كان يلزمه بالمحافظة على الشريعة أمام تطرف أهل الطريقة.

و فـي تلك الفتـرة، سعـى الشيـخ أحمـد الغـزالـي (تـ‍ 520ه‍) وعين‌القضاة الهمداني (تـ‍ 525ه‍) في تقرير لطائق التصوف رغم اشتغالهما في الأمور المتعلقة بالشريعة، حيث تختلف أحوالهما اختلافاً بارزاً عما نقل عن الخواجه عبدالله الأنصاري، و هذه الملاحظة هي من الحالات التي تكشف لنا عن أننا يجب أن لانعتبر التصوف دائماً تياراً واحداً و متماثلاً.

و على أي حال، فقد نفذ السكر و السماع و الشطح و الملامة و الأحوال المشابهة للإباحة تدريجياً في تيار التصوف خلال توالي طبقات الصوفية و تعاليم المشايخ بعد ذلك العصر، حيث كانت شائعة قبل ظهور السلاسل و الطرائق الصوفية، و عرض من جهة التصوف لسوء ظن أكثر من قبل المتشرعة، و من جهة أخرى قرّبه أكثر مما عرف باسم العرفان، و اعتبر استغراقاً في المعرفة. وظهور أبي حامد الغزالي (ت‍ـ 505ه‍( الذي بذل جهوداً جادة في التوفيق بين الشريعة و الطريقة، هو الذي أدى إلى أن يحظى التصوف مرة أخرى باهتمام و قبول أكثر لدى متشرعة الفقهاء وخاصة الأشعرية و الشافعية، رغم حادثة الحلاج التي كانت ماتزال عالقة في الأذهان، و جعلت التصوف يفقد قيمته لدى المتشرعة، وجعل استمراره في حياته في المجتمع الإسلامي ممكناً و خالياً من الإشكاليات الكثيرة.

 

ابن عربي، العامل الآخر الصانع للتاريخ في مسيرة التصوف

حول ابن‌عربي، محيي‌الدين محمد بن علي الطائي الأندلسي، المعروف بالشيخ الأكبر ــ الذي كان يمثل الوارث لكل مواجيد الصوفية و أذواقهم في شرق العالم الإسلامي و غربه ومفسر الأسرار و اللطائف المنقولة عن متقدمي عارفين العالم الإسلامي و متأخريهم، و مؤسس طريقة جديدة في تقرير حقائق التصوف على أساس نوع من التوفيق بين المعرفة الكشفية والمعرفة البحثية ــ من خلال طرح مسألة الولاية و الخاتمية من جديد، و طرح مسألة وحدة الوجود في أوسع مفهوم، و طرح مسألة وجود الإنسان الكامل و عدد من المسائل الأخرى، التصوف من صورة علم التصوف الذي كان أبوالقاسم الجنيد قد مهد لأساسه، إلى صورة نظرة عالمية عرفانية يمكن تسميتها فلسفة التصوف، أو الحكمة الصوفية، حتى إنه أوجد لها نمطاً تعبيرياً ولغوياً خاصاً مفعماً بلطائف التلميحات المأخوذة من القرآن والحديـث و القائمة علـى زبـدة المعـارف الإسلامية الموروثـة، و التي كان يتم تعليمها، أو تقريرها في عصره في شرق العالم الإسلامي و غربه بشكل علني، أو سري بين المتكلمين و أتباع إخوان الصفاء و بعض طلاب الحكمة، والتي كان يحتاج إيجاد تركيب متجانس و مترابط منها إلى نوع من النبوغ التحليلي والتطبيقي، حيث استطاع أن يقدمه بشكل كامل تقريباً.

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: