الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

و في أواخر القرن 6م، استقدم برزويه الطبيب فريقاً من الأطباء الهنود، و كذلك عدداً من الكتب الطبية الهندية، معه إلى إيران (ابن المقفع، 25؛ ابن أبي أصيبعة، 1/ 308؛ سارتون، I/449).

تأسست مدرسة جندي سابور في القرن 6م و مالبثت أن تحولت إلى مركز مهم لترجمة الآثار اليونانية إلى البهلوية، وتعليم الطب باللغة الآرامية. و قد دعي عدد من الأطباء اليونانيين للتدريس في إيران. كما بني مستشفى كبير أيضاً في هذه المدينة. و قد بقيت هذه المدرسة سالمة بشكل كامل و استمر النشاط العلمي فيها خلال انتشار الإسلام ببركة دراية و ذكاء الناس الخيرين (ابن الأثير، 2/553؛ القفطي، 133-134؛ ابن العبري، 129). و قد تخرجت مجموعة من أكبر رواد الطب في العصر الإسلامي في جندي سابور و منهم عدد من أسرة بختيشوع، و حنين بن إسحاق، و ابن ماسويه (ابن أبي أصيبعة، 1/123-126، 171-172، 184-185؛ سارتون، I/537,574,611).

و فضلاً عن ذلك كانت مدارس الرياضيات و الطب قائمة في أواخر عهد الساسانيين في مرو و بلخ و سغد، و قد ظلت مزدهرة حتى العصر الإسلامي (أوليري، 110-114).

و مع بداية انتشار الإسلام و فتح أنطاكية، و جندي‌سابور والإسكندرية، ارتبطت جميع هذه المراكز، أو التراث الثقافي المتبقي، أو المنتقل منها، بالعالم الاسلامي خلال عقدين، سوى الصين (صاعد، 47- 48؛ ابن الأثير، 2/492-495، 553، 567).

 

العلم في الكتاب و السنة

للعلم حرمة كبيرة في الدين الإسلامي، حيث تتساوى قيمته مع قيمة الإيمان: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات» (المجادلة/ 58/11). وجاء في الحديث النبوي أن أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً (ابن بابويه، الأمالي، 27)، و طلب العلم فريضة (ابن‌ماجة، 1/80؛ البيهقي، أحمد، 2/254؛ الكليني، 1/30-31)، و أطلبوا العلم ولو كان في الصين (البيهقي، أحمد، ن.ص؛ السيوطي، 1/44)، وفضل العلم أحب إلى الله عزّ و جلّ من فضل العبادة (ابن بابويه، الخصال، 4، الأمالي، 58)، كما قال علي‌بن‌أبي‌طالب (ع) في خطبة: و لاكنز أنفع من العلم (ن.م، 264).

و هكذا، فاستناداً إلى التعاليم الإسلامية فإن العابدين يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم، و العلماء يتمتعون بهذه الكفاءة أيضاً و هي أنه بإمكانهم أن ينقذوا الناس من الجهل. و الآيات القرآنية التي دار الحديث فيها عن منازل القمر و أهلته و مواقع النجوم (البقرة/2/189؛ الأنعام/6/97؛ يونس/10/5؛ ظ: ابن قتيبة، 2)، لاتبقي مجالاً للشك في شمول العلم لنطاق واسع من المعلومات عن الهيئة و النجوم و الرياضيات. و كذلك الحديث النبوي الذي أجيز فيه تجشم عناء السفر إلى الصين لطلب العلم؛ و هو البلد الذي كان آنذاك مدرسة لتعليم طائفة واسعة من العلوم المحضة، وكانت الرياضيات و الطب فيها مشهورين أكثر من العلوم الأخرى (سارتون، I/474,478). و على هذا، فإن تعليم الهندسة والحساب كان في الحساب أيضاً و يبعث إلى اعتبار و قيمة أكثر. وقد كان القراء و المفسرون يتلون من صميم قلوبهم: «رب زدني علماً» (طه/20/114). و هذا الأثر العميق لمثل هذه التعاليم هو الذي دفع على سبيل المثال المعتضد العباسي و أبا العباس خوارزمشاه إلى أن يتعاملا بتواضع مع ثابت‌بن‌قرة و البيروني (ظ: البيهقي، أبوالفضل، 669) بحيث إن ذلك كان يحير المؤرخين لقرون بعد عصرهم، و يهيء بالطبع الأرضية المناسبة لتطور العلم.

 

فترة الازدهار

خلافاً للتصور السائد، فإن النشاط العلمي في العالم الإسلامي بدأ منذ القرن الأول على نطاق ملفت للنظر. و في الحقيقة فقد كان يوجد قبل ظهور الإسلام، عدد من الآثار العلمية باللغة العربية كانت تعرف كترجمات للنصوص اليونانية، أو السريانية القديمة، حيث كان الاستناد إليها يزداد يوماً بعد آخر، ويهيء الأرضية للتطور الهائل في القرون التالية (GAS,V، مقدمة، 13). كما تعرف بعض الأشخاص في بداية انتشار الإسلام على مدرسة أنطاكية و الآثار التي كانت ماتزال متبقية في الإسكندرية، و عمدوا إلى الاستفادة منها. و يعد ماسرجويه أقدم مترجم في العصر الإسلامي، حيث ذكر في المصادر. كما يقال إن خالد بن يزيد عندما يئس من الخلافة، فكر في الكيمياء على أمل الحصول على الثروة؛ فذهب إلى الإسكندرية، و دفع جماعة من أهل العلم إلى ترجمة الآثار اليونانية (المسعودي، 4/ 169؛ ابن‌النديم، 303، 304، 355، 419؛ ابن جلجل، 61؛ صاعد، 48؛ القفطي، 324؛ ابن خلكان، 2/224؛ سارتون، I/489,490,495). وسرعان ما ظهرت أوضاع و ظروف اتجه في ظلها علماء و طلبة علم كثيرون من الشرق و الغرب إلى العالم الإسلامي و خاصة بغداد. و في وقت كان فيه اليهود في جميع أرجاء العالم المسيحي يضطهدون من قبل المسيحية، كما كان المسيحيون الباحثون يواجهون محاربة القساوسة للعلم، كان العلماء من كل مذهب وأمة يكرّمون في المجتمع الإسلامي. و هكذا، ذهب ماسرجويه اليهودي البصري إلى دمشق، و انهمك في ترجمة أثر يوناني في الطب للخليفة الأموي مروان بن الحكم؛ و دعا المنصور العباسي، جورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع إلى بغداد، و أسكنه في أحد دوره الفخمة، و أمر حاجبه بأن لايألو جهداً في إعداد مستلزمات الراحة و الرفاه له. و قد كلف هذا الخليفة نفسه جماعة بترجمة الآثار اليونانية؛ كما دعا جماعة من العلماء الهنود إلى بغداد، وأصدر الأمر بترجمة سيد هانتا، و تدوين أثر بنفس الأسلوب بالعربية (ابن النديم، 304، 355؛ ابن جلجل، ن.ص؛ صاعد، 49-50؛ القفطي، 220، 270، 324-327؛ ابن أبي أصيبعة، 1/133-134؛ GAS,III/206-207). و في مجال المرتبات و الجوائز، فإنها لم‌يكن يعتريها النقص و حسب، بل كانت تقدم بالإضافة إليها عطايا عديدة، فقد بلغت الجراية السنوية لجبرائيل بن بختيشوع من هارون‌الرشيد، 480 ألف درهم، و إذا أضفنا ما كان يدفع له بمناسبة الأعياد الإسلامية و المسيحية، يكون مجموع ما كان يتقاضاه من الخليفة سنوياً 600 ألف درهم. على أن ما كان يصله من المقربين إلى هارون كان يفوق ذلك، و على سبيل المثال فإن أسرة البرامكة وحدها كانت تدفع له سنوياً مبلغ 000,400,2 درهم (ابن أبي أصيبعة، 1/136-137؛ كانتور، I/695).

تسارعت النشاطات العلمية، و خاصة الترجمة في عهد خلافة هارون‌الرشيد. و في هذه الفترة نشط البرامكة أيضاً، حيث كانوا يبدون همة كبيرة في تشجيع المترجمين. كما تأسس مركز علمي سمي بيت الحكمة، و ازداد اتساعاً في عهد المأمون. و قد كان يعمل فيه بالترجمة و التنقيح و الشرح و التأليف علماء و مترجمون كبار مثل بني موسى و حنين بن إسحاق و حبيش بن الحسن وثابت بن قرة. و كان كل من المترجمين يتقاضى مرتباً شهرياً قدره 500 دينار. و قد بلغت مهارة حنين بن إسحاق في الترجمة حداً بحيث إن المأمون كان يدفع له من الذهب على قدر وزن الكتاب الذي كان ينقله إلى العربية (ابن النديم، 304؛ ابن أبي أصيبعة، 1/187).

و هكذا، تمت ترجمة أهم الآثار اليونانية في الطب والـريـاضيـات و الفلك، مثـل الوصـايـا و الفصـول و إبيـدمـي و الأخلاط لبقراط و التشريح و الأسطقسات و المزاج و النبض الكبير لجالينوس و أصول الهندسة لأقليدس و المجسطي لبطلميوس، و عشرات الآثار الأخرى، و كذلك ترجم عدد من الكتب الفارسية و الهندية إلى العربية، و كتبت عليها الكثير من الشروح و التفاسير لوجود إبهامات كثيرة في النصوص المترجمة، و أعدت المئات من التحريرات و التأليفات الجديدة (ابن النديم، 304-305، 347-350).

و خلال 3 قرون تخرج المئات من العلماء النوابغ: مثل محمد‌بن موسى الخوارزمي رائد استخدام الأساليب الجبرية في حل المسائل الهندسية، حيث إن ترجمة كتابه في الحساب إلى اللغة اللاتينية تحت عنوان كتاب الخوارزمي، جعلت اسمه يطير في آفاق العالم، و أضافته إلى مفردات اللغات الأوروبية على شكل كلمة ألغوريسم المصحّفة بمعنى الأسلوب الخاص بالحساب (زوتر، 10-11)؛ و ثابت بن قرة، الذي لعبت ابتكاراته في حل المسائل الرياضية و منها في محاسبة القطع المكافئ و حجم الجسم المكافئ الدوراني دوراً كبيراً في تطور الرياضيات وخاصة حساب التكامل؛ و أبو‌كامل المصري، الذي واصل جهود الخوارزمي في استخدام الأساليب الجبرية في حل المسائل الهندسية و وسعها و عمد على مايبدو إلى طرح و حل المعادلات السيالة دون الاطلاع على أعمال اليونانيين (سارتون، I/630-631؛ ن.د، 5/274-276)؛ و إبراهيم بن سنان الذي أبدع أسلوباً جديداً أسهل من أسلوب أرخميدس في تربيع القطع المكافئ (سارتون، I/631-632؛ ن.د، 2/131)؛ و إخوان الصفاء بعدد من الرسائل في الرياضيات و العلوم الأخرى (سارتون، I/660)؛ و أبوالوفاء البوزجاني، الذي احتل مكانة هامة في تاريخ المثلثات من خلال إثبات العلاقة بين الجيب و الجيب تمام في المجموع و تفاضل الزوايا، بواسطة الجيب و الجيب تمام لكل من تلك الزوايا ومحاسبة جيب نصف الدرجة (زوتر، 71-72؛ سارتون، I/666-667)؛ و أبوسعيد السجزي، الذي قام ببحوث جديدة حول الكثير من المسائل الهندسية و منها القطوع المخروطية، و حل لأول مرة مسألة تثليث الزاوية بأسلوب علمي، و سلط ضوء جديداً على مبدأ التوازي لدى أقليدس و طرح في الأسطرلاب الذي صنعه، موضوع حركة الأرض الدورانية (البيروني، استخراج...، 40، 41، 56، 91، استيعـاب...، الورقة 36)؛ و ابن الهيثم، الذي استنـد علماء الغرب إلى بحوثه و دراساته إلى حد كبير، و منها بحوثه في علم البصريات، و حل مسألة في هذا المجال تنتهي بمعادلة من الدرجة الرابعة، و عرفت باسمه، و ابتكاراته في حل المسائل المرتبطة بالعلوم الطبيعية و استخدام أسلوب الإفناء لحساب الحجم، والـذي انتهـى أخيـراً إلـى إبـداع حساب التكامل (شوي، I/243-244؛ فيدمان، II/771؛ سارتون، I/721؛ ن.د، 4/255)؛ وأبوالجود، الذي تعتبر إنجازاته الكبيرة في الرياضيات و منها رسم أشكال منتظمة ذات 7 أضلاع و 9 أضلاع و أجوبته على أسئلة البيروني، ذات قيمة كبيرة في تاريخ الرياضيات (كانتور، I/159؛ زوتر، 97؛ أيضاً ظ: ن.د، 4/447-449)؛ و البيروني، الذي كان أكثر علماء عصره موسوعية و كان يتمتع بذهن بحّاث لانظير له، و احتل مكانة مهمة في تاريخ الرياضيات بفضل إبداعاته في حل الكثير من المسائل الرياضية و منها تثليث الزاوية، و حساب الوتر من الدرجة الأولى، و حساب نسبة قطر الدائرة إلى محيطها، إلى جانب العلوم الأخرى (زوتر، 98-100؛ سارتون، I/694-697,706؛ قرباني، 339-422)؛ و عمر الخيام، الذي لفت اهتمام مؤرخي العلم بأعمال منها رسالة في الجبر والمقابلة التي تعتبر أحد أبرز الآثار الرياضية في اللغة العربية ودراسة منظمة في معادلات الدرجة الأولى و الثانية و الثالثة، ورسالة في شرح غوامض الأصول الموضوعة لأقليدس (زوتر، 113؛ سارتون، I/759-760؛ مصاحب، 1/1230-1231)؛ و مئات الشخصيات الأخرى.

 

فترة الركود

كان عصر ازدهار العلم في العالم الإسلامي في طريقه إلى الانتهاء تدريجياً؛ و بالطبع فإن النشاط العلمي ظل مستمراً بنفس قوة القرون السابقة، و لكن الحماسة و الاندفاع كانا يضعفان تدريجياً. فقد كانت أعداد الطلاب الذين كانوا يضعون كل قدراتهم و مواهبهم في خدمة العلم، و يشجعون الأساتذة، تتضاءل شيئاً فشيئاً. و هكذا، كان هناك علماء يتخرجون سواء في الرياضيات، أو الفلك، أو العلوم الأخرى، و لكنهم كانوا أقل بكثير من علماء عصر الازدهار، و لم‌تكن تربطهم بهم أية علاقة من حيث قوة الفكر و البحث و الإبـداع. و يبدو أن عصر الخوارزمي و الكوهي و أبي‌الوفاء و السجزي و ابن الهيثم و البيروني وابن‌سينا ولّى من غير رجعة. و كانت بذور محاربة العلم التي كانت بعض المذاهب قد نثرتها في القرون السابقة و خاصة انتصار الفكر الأشعري على ساحة السلطات الحاكمة، تُظْهِر آثارها شيئاً فشيئاً في الحيلولة دون تطور العلم. و قد اعتبرت حصيلة هذا الدمار معادلة للدمار و الركود الناجمين عن هجوم المغول واللذين تلواه. و لاتمكن مقارنة الحروب الصليبية و الاضطرابات و انعـدام الأمن التـي نجمـت عنهـا ــ و التي كانت قد أخلّت بالأنشطة العلمية قبل ذلك في مناطق من العالم الإسلامـي ــ مع ماتمخض عن اجتياح المغول (كانتور، I/777-780).

و لم‌تواجه أية حضارة طيلة التاريخ مثل هذا الاجتياح المكثف و المدمر، و كان نصير‌الدين الطوسي هو الوحيد الذي استطاع أن ينقذ قسماً من تلك الثقافة العظيمة. و قد كان الازدهار القصير الأمد في القرن 7ه‍/13م، و ظهور أشخاص مثل كمال‌الدين ابن يونس و أثير‌الدين الأبهري و محيي‌الدين المغربي، و نصير‌الدين نفسه، حصيلة نهضة رياضية كبيرة و لكنها عابرة في نفس الوقت، و ذلك عبر رسائل في شكل القطاع، و حول الخطوط المتوازية وأفكار جديدة حول مبدأ التوازي، و تحرير أصول الهندسة لإقليدس، و تحرير المجسطي (إقبال، 501-502؛ زوتر، 146- 148,155,204-205؛ سارتون،II/10,600,867,1001-1005,1015-1016؛ براون، «تاريخ...»، I/286؛ ديورانت، 4/431).

 

أسباب الركود العلمي

كانت معارضة العلم، و احتقار العلماء و تكفيرهم من الآفات التي ابتليت بها الكثير من المجتمعات. فقد كانت تسمع في المجتمع الإسلامي منذ البدء أقاويل حول عدم فائدة علوم الأوائل، أو العلوم اليونانية، بل و حتى ضررها. و قد كان ناشرو هذه العلوم يواجهون أعداء كثيرين رغم المكانة السامية التي يحتلها العلم في الكتاب و السنة، و قد كان من بين ذوي النزعة للسنة السطحيين، و خاصة الأشاعرة، أشخاص كانوا يعتبرون تعلم الرياضيات و الفلك و الكيمياء عملاً محرماً، فضلاً عن محاربتهم للفلسفة. و حتى فن الطب فإنه لم‌يكن هو الآخر يسلم من تعرضهم أحياناً، رغم تساهلهم بشأنه لأسباب واضحة.كما أن من الواضح أيضاً أن بعض القادة عمدوا إلى إحراق الكتب خلال الفتوح الإسلامية؛ و قد وقع بعض من هذه الحوادث فيما بعد، فمحمود الغزنوي كان يعمد إلى حرق كتب الفلسفة والفلك أيضاً (البيروني، الآثار...، 35-36، 48؛ ابن الأثير، 9/372). و نحن نقرأ في رسالة منسوبة إلى مؤلف معروف من القرن 3ه‍/9م، أنه كان يتبرأ من الهندسة، و يطلب من الله تعالى أن يحفظه من شر هذا العلم، و يقسم بأنه سوف لايتابع دراسة الهندسة مطلقاً (أبوحيان، 157-163؛ ياقوت، 4/ 168-172). و حتى إذا لم‌يكن الإيمان القلبي لذلك المؤلف كذلك، و أنه قد كتب هذا الكلام لدفع تهمة الزندقة عن نفسه و عن أسرته، أو كما يقال أحياناً إن تلك العبارات قد اختلقت على لسانه بعد قرن، أو قرنين(ظ: ن.د، 2/553-554)، فإن ذلك يدل على طبيعة التفكير السائد في بعض المحافل بالنسبة إلى هذه العلوم.

و قد كان أبوالريحان البيروني يشكو من أنه عندما كان ينظر إلى الناس في عصره، فإنه كان يرى أشخاصاً ظاهرين في هيئة الجهل، و يتباهون به و يعادون أهل الفضل و يظلمونهم، و يتفقون على اعتبار أقبح الصفات و أضرها حسنة، و يسمي البعض منهم العلم ضلالاً كي يصوره في عيون الأناس الجاهلين في صورة غير مستحسنة و يسمه بسمة الإلحاد كي يفتحوا لأنفسهم باب قمع أهل العلم، و يتلبس أولئك الذين يمدحون أنفسهم بالإنصاف بلباس الحكماء ذوي الأراء الصائبة، و يتساءلون: مافائدۀ العلوم؟ ذلك لأنهم لايعلمون فضيلة الإنسان على الحيوان (تحديد...، 3-4). و نحن نرى الغزالي، مدرس النظامية و إمام الشافعيين الذي كان يسمى سيد الفقهاء حتى بعد عدة قرون من عصره و كان المذهب الشافعي يدور على مداره (ظ: همائي، 396-397)، يفتي بكل شجاعة أن الانهماك في تعلم علم أقليدس و المجسطي و دقائق الحساب و الهندسة على الرغم من أنها تقوي الذهن، و لكننا حرمنا تعلمها بسبب آفة فيها، ذلك لأنها من مقدمات علم الأوائل، و مثل هذه العلوم، تجر متعلميها إلى المذاهب الفاسدة (الغزالي، فاتحة...، 56). و قد قدم هو نفسه في شرح هذا الاستدلال في موضع آخر، دلائل أكثر على علمه: فمن علوم الرياضيات، أي الحساب و الهندسة و الهيئة تتولد آفتان: الأولى أن وضوح البراهين في هذه العلوم، يؤدي إلى حسن الظن في حق الفلاسفة ذلك لأن هذه العلوم من أسس عملهم و الشخص الذي يحمل مثل هذا الاعتقاد، عندما يسمع حديث كفرهم و إنكارهم، فإنه يصبح كافراً بالتقليد المحض، و قد رأيت أشخاصاً كثيرين أصبحوا كفاراً بهذا البرهان. و قد كان الغزالي يمتلك براهين كثيرة مثل هذه على عدم جواز تعلم الرياضيات. و بالطبع فإنه كان يرى في فترة من الفترات، كالكثير من الفقهاء الآخرين أن الطب ضروري للمحافظة على الصحة، و لكنه استنتج أخيراً أن الطب أيضاً لايزيد الإنسان، سوى تكبراً ( إحياء...، 1/27، المنقذ...، 112-113، كيميا...، 2/ 258). كانت النزعة المعادية للعلم، و إثارة العوام والجهال ضد أهل العلم و البحث، تمضي إلى الأمام بقوة النزعة السطحية، بل كان العلم يعد أحياناً من تلبيسات إبليس (ابن‌الجوزي، صيد...، 411، تلبيس...، 96-97). و في الكثير من الحالات كانت السلطة السياسية هي المحرك الرئيس، و تنهض، على أي حال، بمساعدة السطحيين (الغزالي، المنقذ، 155-157). والمجتمع الذي يسوده الجهل، فإن الأناس المحتالين سيصولون ويجولون فيه، و حينئذ لايبقى مجال لأهل العلم.

و في مثل هذه الظروف انتهى عصر الازدهار شيئاً فشيئاً. ومما كان يثير الحيرة هو المقاومة الطويلة التي أبداها الناس الراعين للعلم أمام تهديد السطحيين، و تكفيرهم و حافظوا لفترة طويلة على المجتمع الإسلامي باعتباره أهم مركز للعلم في العالم بفضل قوة أرواحهم الكبيرة. إن الإنجازات التي تحققت، و بلغت فيما بعد خلال مسيرة تكاملها مستوى العلم الحديث في مناطق العالم الأخرى، أي العلم الذي تتمتع البشرية الآن ببركاته، لم‌تكن ممكنة لولا تضحيات أولئك العلماء و الحكماء في العالم الإسلامي الذين وقفوا بجد أمام شراسة رعاة الجهل و القوى الداعمة لهم، ولم‌يلقوا راية العلم جانباً (ظ: سارتون، I/21).

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: