الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

و في النصف الأول من القرن 2ه‍، كان انتقال الفقه من مرحلته الأولى إلى مرحلة «الفقه التقديري»، أو النظامي، يمثل تحولاً سريعاً، حيث استتبع معه نزعة واسعة إلى الرأي و المناهج الاجتهادية غير المدونة بعد، و قد كان هذا الأمر قد أحدث بدوره اختلافات واسعة في الفتاوى و اضطرابات في مجال القضاء. وفي هذه الفترة كان الكاتب الإيراني المعروف ابن المقفع (تـ‍ 142ه‍( قد شجع الخليفة العباسي المنصور في رسالة بعثها إليه مشيراً إلى هذه الاضطرابات، على أن يدون المناهج القضائية و أساليب استخراج الحكم، و أن يبلغها للجميع باعتبارها حكماً عملياً (ظ: ابن المقفع، 125-126). و لكن تدوين الفقه القضائي و الإفتائي أيضاً بالأسلوب الذي اقترحه ابن‌المقفع، لم‌يتحول أبداً إلى واقع عملي، و لعله لم‌يكن عملياً في المجتمعات الإسلامية المختلفة، بسبب وجود تشتت النزعات و تنوع الأوضاع الاجتماعية؛ و لكن الفقه كان قد دخل أيضاً من الناحية العملية أول منزل من مرحلته النهائية، أي الفقه المدون و المنظم، و ذلك خلال مسيرة التدوين المتسارعة و حتى منتصف القرن 2ه‍ بعد اجتياز مرحلة الفقه التقديري.

 

اتجاهات الفقه الشيعي

تعد سلسلة زعماء الشيعة، حلقات مترابطة من أئمة أهل البيت (ع) بدأت منذ القرن الأول الهجري بالإمام علي (ع)، و استمرت بشكل مترابط، في القرنين 2و 3ه‍ بأئمة مثل الباقر و الصادق (ع) و الذين عرفوا في مصادر المذاهب المختلفة أيضاً باعتبارهم فقهاء بارزين. و يجب أن لانتجاهل حقيقة أن تأكيد كل من الأئمة على جوانب خاصة من الأفكار و التعاليم الفقهية، لم‌يكن بمعزل عن الأوضاع الاجتماعية و الاحتياجات الثقافية لعصرهم و على هذا الأساس فإنه ليس من المستغرب أن يكون تدوين فقه الإمامية و تنظيمه قد تحولا إلى واقع بفضل جهود الإمام الصادق (ع) و تزامناً مع مسيرة التدوين في تاريخ الفقه.

و يبدو البحث حول اتجاهات فقه الإمامية في القرون الأولى صعباً بسبب التحولات المهمة في بنيته، و بسبب قلة المصادر بشأن تاريخه أيضاً. و في الوقت الحاضر فإن الطريق الوحيد للاطلاع على جوانب النظام الفقهي في عصر تواجد الأئمة (ع)، هو التقارير التي وصلتنا في قالب الروايات فـي المجاميع الحديثيـة ـ الفقهية. و في هذه الروايات، يتم في الغالب إرجاع الأحكام والفتاوى الفقهية إلى الأئمة الأطهار (ع). و مع ذلك، فإن اختيار الرواة الذين كانوا أحياناً يمثلون فقهاء معروفين، من الممكن أن يستخدم كمصدر لدراسة اتجاهات الرواة و ذلك في المسائل التي يلاحظ فيها الاختلاف بين الحديثين، أو الأحاديث (ظ: پاكتچي، 12).

و في العقود الأولى من القرن 2ه‍، كان بعض من علماء الشيعة في العراق من أصحاب الأئمة (ع) مثل جابر بن يزيد الجعفي وأبان بن تغلب، يعرفون في بيئة العراق الفقهية كفقهاء بارزين. ولكن مع كل ذلك، يجب تتبع بروز الفقه الإمامي و تميزه بشكل مستقل عن المحافل الفقهية الأخرى في عصر أصحاب الإمام الصادق (ع). و استناداً إلى المواقف المتعلقة باستخدام الأدلة الفقهية المختلفة، يمكن إجمالاً تحديد عدة أجنحة مختلفة نسبياً في القرن 2ه‍ كانت تستخدم في فقهها فكراً تحليلياً يتجاوز نصوص الروايات: الجناح الأول هو جناح ذو نزعة كلامية كان ممثلوه في جيلين متتاليين، علماء بارزين مثل هشام‌‌بن‌الحكم و يونس بن عبدالرحمان، و في الجناح الثاني يمكن ذكر رجال مثل هشام بن سالم و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، و في الجناح الثالث يجب ذكر فقهاء آل أعين و على رأسهم زرارة بن أعين، ثم عبدالله بن بكير، و أخيراً، يجب أن نذكر بعض الحلقات المحدودة أكثر مثل حلقتي محمد بن مسلم الثقفي وأبي بصير الأسدي. و يجب اعتبار هذه الأجنحة التي يمكن أن نعدها مع شيء من التسامح في المصطلح «أهل الاجتهاد»، و قد واصلت طريقها حتى منتصف القرن 3ه‍، فيما كان هناك جو محارب للاجتهاد يكتسب القوة إزاءها، حيث لم‌يكن يجوز أي اجتهاد و استنباط يتجاوزان النصوص؛ و هو النمط الفكري الذي يلاحظ في جميع أرجاء الآثار القديمة لمحدثي الإمامية. و دون أن ننفي الحالات الاستثنائية، يجب أن نذكّر أن هذا الجو المعادي للاجتهاد كان قد ساد أوساط فقه الإمامية في القرن 3ه‍ و قد كان هذا الاتجاه موجوداً بشكل مشترك في تعاليم المحدثين والمتكلمين الإماميين. و إلى جانب الأجنحة الغالبة، لم‌تستمر أجنحة القرن السابق سوى لفترة زمنية قصيرة؛ و من جملة ذلك أن أتباع هشام بن الحكم في القرن 3ه‍ كانوا مايزالون يتمتعون بتميز نسبي، رغم قربهم من الجناح الغالب في بعض الجوانب، و كان هناك أشخاص مثل الفضل بن شاذان يعتبرون من زعمائهم الفكريين (عن المصادر و التحاليل، ظ: م.ن، 14-17).

و في أواخر القرن 3ه‍ كان الرد على الاجتهاد و فروعه يحظى بباب خاص به في آثار الفقهاء من أصحاب الحديث (مثلاً ظ: الصفار، 319-320؛ البرقي، 209-215) و خلال تيار متواصل من هذه الفترة و حتى القرن التالي، كان من الأساليب المعمول بها في الخطوات التي خطاها هذا الجناح من الفقهاء لتدوين الفقه الإمامي، أن توضع نصوص الروايات بحذافيرها تحت تصرف المستفتين باعتبارها «حكماً معمولاً به» (ظ: الطوسي، المبسوط، 1/2). و في مثل هذه الآثار التي يمكن اعتبار الكافي للكليني، و الشرائع لعلي ا‌بن بابويه و من لايحضره الفقيه لمحمد ابن بابويه من أبرز نماذجها التي وصلتنا، و لانلاحظ الإضافات و الاستنتاجات من قبل المؤلفين إلا بندرة. و حتى محمد ابن بابويه فإنه لم‌يكتف بنفي الاجتهاد في بيان هذه المواقف، بل إنه انتقد أي نوع من التجاوز لنصوص الروايات و الإقدام على «الاستنباط» و«الاستخراج» الفقهيين (ظ: ابن بابويه، 1/62). و في مقابل الفقهاء من أصحاب الحديث، سلك الفقهاء المتكلمون طريقاً آخر في نفي الاجتهاد.ورغم أن رديات أبي‌سهل النوبختي على ابن الراوندي وعيسى بن أبان و التي هي العلامة الفارقة لتآليف متكلمي ذلك العصر في محاربة اجتهاد الرأي لم‌تصلنا و كذلك الحال بالنسبة إلى آثار أبي منصور الصرام النيسابوري و البعض الآخر من المتكلمين المعاصرين له (عن الآثار، ظ: ابن النديم، 225؛ الطوسي، الفهرست، 13، 190؛ النجاشي، 32، 442)، و لكننا نستطيع أن نجد نموذج تعامل المتكلمين الإماميين في ذلك العصر مع مسألة الاجتهاد، في آثار ابن شاذان و ابن قبة.

و فيما يتعلق بفقه الزيدية القديم، يجب البدء بالحديث عن زيد ‌بن علي (ع) أيضاً، فقد عد استناداً إلى رواية مذكورة في مسند زيد (ص 293)، «إجماع الصالحين» معتبراً في حالة عدم العثور على حكم في الكتاب و السنة، و إلا يتم الرجوع إلى الاجتهاد والقياس من قبل الإمام، أو قاضي المسلمين. و في النصف الأول من القرن 3ه‍‌، قدم أحمد بن عيسى بن زيد وكذلك القاسم بن إبراهيم الرسي اللذان كانا من أئمة الزيدية، نظامين فقهيين بشكل متزامن أحدهما في العراق و الآخر في الحجاز، ومالبث الحسن بن يحيى أن جمعهما بأسلوب مقارن في أثر بعنوان الجامع على مذهب القاسم و أحمد بن عيسى (ظ: عزالدين، 166). و قد واصل محمد بن المنصور المرادي (تـ‍ 290ه‍‌) هذا الأسلوب في الجمع بين النظامين الفقهيين في آثاره الواسعة (عن العناوين، ظ: GAS,I/563). إن عوامل مثل التشابه بين بعض أفكار زيد و أبي حنيفة (استناداً إلى رواية أبي خالد عن زيد في مسند)، و إحساس الزيديين بالقرب من أبي حنيفة بسبب خدماته خلال الثورات الزيدية، و كذلك الانتشار و النفوذ المتزايدين للفقه الحنفي المدون في البلاد الإسلامية، كل ذلك أدى إلى أن يتأثر الفقه الزيدي في مسيرة ظهوره بالفقه الحنفي إلى حد كبير (أيضاً ظ: ن.د، 4/537).

كان النصف الثاني من القرن 3ه‍، عهد ظهور مذهبين مزمنين في الفقه الزيدي: فمن جهة أسس الإمام الزيدي الهادي إلى الحق حفيد القاسم الرسي و مؤسس الإمامة في اليمن استناداً إلى الفقه القاسمي و الفقه الحنفي فقهاً ثابتاً أطلق عليه اسم الفقه الهادوي نسبة إليه، حيث كان متناغماً في نطاق واسع مع الفقه الحنفي باستثناء خصائص محدودة؛ إلى درجة أن رأي الهادي يتطابق مع رأي أبي حنيفة في جميع المواضع التي لانجد فيها فتوى بالنص للهادي، كما يرى ذلك أبوطالب الهاروني أحد أئمة الزيدية (ظ: أبوزهرة، 502-503، نقلاً عن أبي طالب). و فيما يتعلق بالفقه القاسمي ـ الهادوي يجب القول إنه كان متفقاً مع فقه الإمامية في بعض الخصوصيات مثل ذكر «حي على خير العمل» في الأذان والإقامة، و التكبيرات الخمس في صلاة الميت، و ممنوعية المسح على الخفين، و ذلك رغم ابتعاده الملفت للنظر عن مذهب الإمامية كقوله بعدم شرعية نكاح المتعة (ظ: الهادي، 1/84، 349، مخ‍؛ ابن‌المرتضى، 2/ 69، 191، مخ‍‌).

و قد كانت هناك حركة موازية لحركة الهادي و لكنها مختلفة قادها الناصر الأطروش (تـ ‍‌304) إمام الزيدية في طبرستان، حيث كان قد أسس استناداً إلى فقه الكوفة الزيدي و كذلك المصادر النقلية للإمامية، نظاماً عرف بالفقه الناصري، و كان قريباً من الفقه الإمامي بشكل ملفت للنظر. و قد كانت آراؤه الفقهية قريبة من الإمامية إلى درجة أن الشريف المرتضى عمد في كتاب الناصريات إلى تحليل آرائه و مقارنتها مع المذهب الإمامي (أيضاً ظ: النجاشي، 57).

 

النزعة للرأي في الكوفة

في النصف الأول من القرن 2ه‍‌، تنامى الاتجاه إلى الرأي و الأساليب الاجتهادية في المباحث الفقهية، بشكل بارز في الكوفة حتى أصبحت هذه المدينة تعرف كقاعدة لفقه «أصحاب الرأي». و يجب أن نذكر من بين أولى الشخصيات المؤثرة في ظهور مذهب أصحاب الرأي في الكوفة، حماد بن أبي سليمان، أبرز شخصية في مدرسة ابن مسعود في عصره، حيث كان رجوع أهل العلم إليه لسماع الأحاديث و الآثار نادراً و للاطلاع على رأيه غالباً (ظ: ابن سعد، 6/232؛ أيضاً الذهبي، 1/596). و من جملة العلماء من بعده و الذين عرفوا كفقهاء قائلين بالرأي في الكوفة، ابن شبرمة و ابن أبي ليلى (ن.ع.ع)؛ و لكن الشخصية التي لعبت دور المؤسس في ظهور تعاليم أصحاب الرأي، هي شخصية أبي حنيفة إمام الحنفيين التي كان فقهها يتمتع بتدوين نسبي في الأسس النظرية.

و من خلال نظرة تحليلية إلى أساليب أصحاب الرأي، و خاصة نظام أبي حنيفة الفقهي، يجب القول إن أبا حنيفة كان يتميز في الأحكام التعبدية و السنن النبوية بتشدد خاص، حيث لم‌يكن يعتبر الأخبار الضعيفة و غير الثابتة، على حد قوله كافية لإثبات السنة النبوية. فقد كان ينبذ جانباً السنة غير الثابتة أمام السنة الثابتة في حالات التعارض بين الأخبار، ولم‌يكن يصر على الجمع بين الروايتين، و كان يرى نفسه مخيراً في الاختيار بين الأقوال في حالة الاختلاف بين آراء الصحابة؛ و رغم أن هذا الأسلوب في النقد و الاختيار، كان يمثل نوعاً من اتباع النصوص، ولكنه كان يخفي وراءه طبعاً أسلوباً درائياً و رأياً خفياً. و فيما يتعلق بالإجماع، لم‌يكن الفقهاء من أصحاب الرأي في القرن 2ه‍ وعلى رأسهم أبوحنيفة يبدون بشكل عام ميلاً إلى طرح مصدر فقهي باعتباره «إجماعاً»، فحجية اتفاق الصحابة في فقه أبي حنيفة أيضاً لم‌تكن تقوم على تأصيل الاتفاق، بل على تأصيل أقوال الصحابة (ظ: ن.د، 4/ 529 و مابعدها). كما كان الحال بالنسبة إلى ابن أبي ليلى، الفقيـه الآخر المؤمن بالـرأي (تـ‍ 148ه‍‌)، إذ كان قد أسس فقهه، بعد الكتاب و السنة، على أساس اتفاق الصحابة و تخيير نفسه في حالة اختلافهم في الاجتهاد (ظ: القاضي النعمان، 1/92-93). و مما يجدر ذكره، أن علماء أهل الرأي مثل أبي يوسف أبدوا في النصف الثاني من القرن 2ه‍‌، و مع انتشار التمسك بالإجماع في فقه أصحاب الحديث، معارضتهم على التمسك المبالغ فيه بالإجماع (مثلاً ظ: أبويوسف، الرد...، 11، 21، مخ‍ ).

و خلال دراسة مكانة الرأي و القياس في فقه أصحاب الرأي، يجب التذكير بأن العمل بهذه الأساليب في فقههم لم‌يكن غير محدود رغم اشتهارهم في استخدام الرأي. و يجب القول إجمالاً إن الأحكام التعبدية في فقه أبي حنيفة مثلاً، تتبع النصوص الشرعية، و إن الأرضية الأوسع لاستخدام الرأي تتركز في الأحكام الشرعية المتعلقة بالحياة اليومية للإنسان (ظ: ن.د، 4/529-535). و يلاحظ الاستحسان (ن.ع) باعتباره عدولاً عن القياس بلحاظ صارف من الخارج و الذي يعد بحد ذاته مظهراً آخر لاستخدام الرأي الفقهي، بشكل بدائي في فقه أبي حنيفة، حيث بدأ ظهور هذا الأسلوب بشكل عملي مع أبي يوسف. و فيما يتعلق بأبي حنيفة، فإن أهم رواية هي تلك التي نقلها سهل بن مزاحم، حيث تفيد بأنه كان يلجأ إلى الاستحسان في حالات قبح القياس، و كان يرجع في بعض المسائل إلى «تعامل المسلمين» (العُرف) (ظ: المكي، 1/82؛ ن.د، 4/533-534). و من خلال دراسة آراء أبي حنيفة في نماذج من العمل بالاستحسان أيضاً، يمكن اعتبار العوامل الرئيسة المؤثرة في عدوله عن القياس، ملاحظات مثل عدم تناسب القياس مع العلاقات الاجتماعية المتعارف عليها، و المسيرة المتداولة للمعاملات، و إيجاد العسر و الحرج (ظ: ن.م، 4/534). كان أبوحنيفة يذم الإفراط في استخدام القياس (ظ: ابن عدي، 7/2476) و يبدو أحياناً أنه كان يخصص القياس العام من خلال التمسك ب‍ـ ‌«أثر»‌ما، لأنه يعتبر الأخذ بهذا القياس قبيحاً في بعض الحالات، فكان يعدل عن القياس في تلك الحالات الخاصة، و هو الأثر الذي ربما كان يعتبر بحد ذاته ضعيفاً لديه، فكان دافعه الدرائي يدعوه إلى طرح ذلك الأثر (ظ: ابن العربي، 2/755).

و يلاحظ العدول عن القياس بالأثر مراراً في مؤلفات القاضي أبي يوسف باعتبارها أقدم آثار فقه أهل الرأي، و هو الأسلوب الذي سماه أبويوسف نفسه بالاستحسان (مثلاً ظ: الخراج، 178). ويوجد فيمايتعلق بهذه الاستحسانات، في الجانب المخالف للقياس، أثر، أو فتوى لفقيه متقدم (مثلاً ن.م، 189) لايمكن أن يكون بحد ذاته أساساً قوياً لحكم الفقيه في نهجه الفقهي، و لكن الرأي له في هذا المجال دوراً لايمكن إنكاره و هو إنه يعوض عن الضعف السندي للأثر. و من نتائج فقه أبي يوسف الاستحساني، قاعدة تغير الأحكام، على أساس أن الواجبات الشرعية تقبل التغيير بتغير الزمان و المكان و الظروف. فقد أجاز حتى في مثل هذه الحالات صدور حكم خلافاً لمنطوق النص استناداً إلى سبب التشريع، مستنداً إلى أن الحكم يمكن أن يتغير بتغير العرف في الأحكام الشرعية الدائرة في مدار العرف (على سبيل المثال، ظ: ن.م، 85-86؛ أيضاً ن.د، 5/517؛ أيضاً ظ: محمد بن الحسن، 3/48-166، عن الاستحسان لديه).

 

المدينة رمز فقه النزعة للأثر

لقد شهد الاتجاه الذي ذكر في المصادر الإسلامية القديمة بالعنوان العام المتمثل في أصحاب الحديث، شرائح مختلفة خلال قرن من الحضور الفاعل و المصيري في أوساط المسلمين الدينية، و من خلال نظرة عابرة، يمكن الأخذ بعين الاعتبار اتجاهين مختلفين و خاصة في فترتين تاريخيتين، أي القرن 2ه‍ في مناطق مختلفة، و القرن 3ه‍‌ في بغداد كمركز؛ و يبلغ هذا الاختلاف حداً بحيث إن بعض ممثلي الفترة المتأخرة مثل ابن قتيبة، قد صنف فقهاء أصحاب الحديث المتقدمين، في عداد الفقهاء أصحاب الرأي و إلى جانب أشخاص مثل أبي حنيفة (ظ: ابن قتيبة، المعارف، 496-499). و رغم أن فقهاء ذوي نزعة حديثية كان لهم حضور في الأقطار الإسلامية المختلفة في القرن 2ه‍، و لكن المدينة كانت دوماً رمزاً للاتجاهات التقليدية إزاء اتجاهات الكوفيين.

و يعد الحديث عن النزعة التقليدية لأهل المدينة و محاربتهم لأصحاب الرأي، بحد ذاته بحثاً طريفاً و واسعاً (ظ: ن.د، أصحاب الحديث، أيضاً أصحاب الرأي)، و لكن يجب القول إجمالاً إن فقهاء المدينة في القرن 2ه‍، لم‌يكونوا يتجنبون بشكل جدي استخدام الرأي في المسائل غير المنصوص عليها، و كانت نزعتهم التقليدية تعود في الغالب إلى أسلوب تعاملهم مع المسائل الفقهية و كيفية نقد مصادر الفتوى. و قد شرح ابن شهاب الزُهري في عبارة قصيرة إجابة على سؤال فرعي في موضوع الطهارة منهجه الفقهي باختصار باعتباره ممثل جماعة المدينة من أصحاب الأثر في الربع الأول من القرن 2ه‍؛ و في معرض طرحه للأسلوب المتمثل في أن كل مسألة لايمكن التوصل إليها بالبحث في الأسانيد و الروايات، أضفى الموضوعية على «اجتماع الناس»، وطرح نوعاً بدائياً من فكرة الإجماع كدليل يمكن الاستناد إليه في المسائل غير المنصوص عليها (عن الرواية، ظ: الصنعاني، 1/332). و بتعبير آخر فإن «سيرة السلف» (مامضى عليه الناس) هي التي كانت تعرف كمصدر أساسي في فقه أصحاب الحديث بشكل عام و في فقه المدنيين خاصة.

و يجب أن نذكر هنا محفل ربيعة الرأي كتيار بموازاة تعاليم الزهري و الذي عرف في تاريخ الفقه كرمز لفقه أصحاب الرأي في المدينة (مثلاً ظ: الليث، 84). و رغم أن فقه ربيعة لم‌يكن قد دُرِس بعد في قالب دراسة تحليلية، و لكن يبدو من المصادر التاريخية أنه ابتعد في بعض المسائل التي كانت تعتبر موضوع الاختلاف، عن السنة السابقة لأهل المدينة، و مال إلى وجهة نظر أخرى، من خلال رؤية ناجمة عن الرأي (مثلاً ظ: ن.ص؛ أيضاً ابن‌سعد، القسم المتمم، 323-324). و رغم وجود الاختلاف في الأسلوب، فإن المقارنة بين الفتاوى المتبقية من ربيعة تشير إلى التقارب الكبير بين فقه ربيعة و سنة الفقهاء المدنيين، ذلك لأن حلقة الفقهاء أصحاب الرأي في المدينة لم‌تنفصل أبداً، كما كان الحال بالنسبة إلى أبي‌حنيفة، عن حلقات أصحاب الحديث. و في جيل أكثر شباباً، كان هناك فقهاء مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، رغم أنهم كانوا ينتمون إلى حلقة أصحاب الرأي في المدينة (ظ: الليث، ن.ص) لكـن في نفس الوقت كانوا ــ شأنهم شاأن ربيعة نــفسـه ــ النـاقليـن لتراث المدينـة الفقهي إلـى مالك أبرز مـمـثـل لـفـقـه المدينـة الحديثـي و إمـام المـالكييـن أيضـاً (عـن انعكاس للرأي المحدود في فقه مالك، مثلاً ظ: مالك، 523).

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: