الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

الأفكار الكلامية في القرنين 2 و 3ه‍

كان القرنان 2 و 3ه‍، قرني تدوين و بلورة المذاهب الفكرية المختلفة في تاريخ الفكر الكلامي، و في مجالات العلوم الإسلامية الأخرى أيضاً. ففي هذين القرنين ظهرت أهم المذاهب الكلامية الخالدة، أو العريقة، أو اكتسبت شكلها الثابت، و في المقابل، أنهت الفرق غير الناضجة، أو غير المتناسبة مع الظروف الاجتماعية حياتها القصيرة. و من الخصائص الأخرى لهذه الفترة، طرح مباحث معقدة و نظرية تماماً في المجالات الكلامية المختلفة، كانت متأثرة إلى حدما بالارتباط الأقرب للمسلمين مع علماء الأديان الأخرى، و كذلك بحركـة ترجمـة الآثار الفلسفيـة و الفلسفيــة ـ الدينية اليونانية والإسكندرانية. و في هذا المجال تجب الإشارة بشكل خاص إلى طرح مباحث مثل صفات الباري وخلق القرآن في أوائل القرن 2ه‍، و موضوعات كلامية ـ فلسفية، أو ما يصطلح عليه ب‍ـ «المباحث الدقيقة» مثل الجوهر و العرض و الجزء الذي لايتجزأ (ظ: الأشعري، 300-301: مصطلح «الجليل»)، و ذلك مع بداية القرن 3ه‍ (ظ: ولفسُن، 132-133,466-468، مخ‍ ).

و من أجل التوضيح يجب التذكير بأن الفرق و المذاهب الإسلامية المختلفة في القرنين 2و3ه‍ يمكن تصنيفها بشكل نسبي من حيث كيفية تناول المباحث الكلامية إلى عدة فئات. وفي هذا المجال فئات مثل المعتزلة و المذاهب المتفرعة، أو القريبة منها داعية إلى «علم الكلام»، و كانت تطرح فكرها الكلامي كنظام ديني لعلم الكونيات قائم على الاستنتاجات العقلية و ذلك من خلال تقديم مجموعة عقائد منظمة و محلَّلة مسبقاً. و أما الفئة الثانية فقد عمدت إلى اتخاذ المواقف و البحث في باب المسائل الكلامية أحياناً كتعامل انفعالي و كرد فعل على تعاليم علماء الكلام، و كانوا أحياناً يتوصلون هم أنفسهم إلى نوع من الكلام المعارض، أو المعتدل. و كفئة ثالثة، تجب الإشارة إلى مذاهب ذات تاريخ مثل المحكِّمة و التي حافظت على بعض معتقدات مذهبها الأساسية، ومالت في ذروة المباحث الكلامية في القرنين 2و 3ه‍، إلى الأجنحة المتصارعة المختلفة، و أوجدت هي نفسها مذاهب كلامية متداخلة و مركبة.

و استناداً إلى ماقيل، فإن من الواضح أن المباحث الكلاميـة ـ الفلسفية، أو المباحث الدقيقة هي وحدها التي كانت تحظى باهتمام الفئة الأولى من المتكلمين، و من يشاركهم في التفكير من الفئة الثالثة، و أما الفئة الثانية المتهربة من الكلام، أو المحاربة له فقد كانت تأبى دوماً الخوض في هذه المباحث التي كانت بعيدة عن النصوص الشرعية. و رغم أن تناول مباحث الكلام الدقيقة في القرنين 2و3ه‍، يحظى باهتمام كبير من حيث الدراسات المقارنة بين الكلام الإسلامي و كلام الأديان الأخرى (لبحث واسع في هذا المجال، مثلاً ظ: ولفسن، كافة أرجاء الكتاب)، إلا أنها سوف لايكون لها استخدام مباشر لمعرفة الأفكار الكلامية، بمعنى أن تقدم صورة عن المظاهر المختلفة للعقائد المنسوبة إلى الدين الإسلامي في هذه الفترة. و خلال دراسة الأفكار الكلامية في المحافل الإسلامية للقرنين المذكورين، فإن من الممكن أن تدرس هذه الأفكار بشكل مصنف تماماً، و وفق ترتيب المواضيع الرئيسة مثل الإمامة و الإرجاء و القدر و ما إليها، أو حسب ترتيب الفرق والمذاهب، أو ترتيب البلدان، و لكن تصنيفاً مركباً من كل العوامل الثلاثة المذكورة مع التركيز على أهم الأفكار و أهم المذاهب وأهم البلدان يمكن أن يكون أكثر جدوى للحصول على معرفة إجمالية لأهم التيارات الكلامية و أكثرها تأثيراً.

 

تعاليم أئمة أهل البيت (ع)

اهتم الإمام محمد الباقر (ع) في عهد إمامته (95-114ه‍)، بالتدقيق في تعاليم الشيعة و تفصيلها، وتدل الروايات الكثيرة عنه (ع) حول العقائد و الفقه و الأخلاق على أن التعاليم الدينية للشيعة اتجهت إلى التدوين و التبلور منذ عهده. و قد كان الخط الشيعي الأصيل بعد وفاته (ع) يعترف بالإمامـة للإمام جعفر الصادق (ع)؛ و هـو الخط الذي كان يعتبر ــ خلافاً للزيدية ــ ثبوت الإمامة ب‍ـ «النص الجلي» و بتعيين كل واحد من الأئمة بالأمر الإلٰهي و لذلك فقد أطلق عليه اسم «الإمامية» نسبة إلى «الإمام» (ظ: المفيد، 38-39؛ الجرجاني، 31). و يشتمل مصطلح الإمامية في التاريخ على طيف واسع من الاتجاهات الشيعية التي كان يقودها بعد الإمام الباقر (ع) الإمام الصادق (ع) و الأئمة الآخرون من أبنائه، و قد سلكت سبيلاً حافلاً بالأحداث خلال ظهورها في القرنين 2و3ه‍ .

اقترن عهد إمامة الإمام الصادق (ع) (114- 148ه‍( من جهة بفترة الانتقال السياسي، و بالتالي توفر جو مساعد للنشاطات الثقافية، و اقترن من جهة أخرى بعصر تدوين العلوم الإسلامية. وفي مثل هذه الفرصة واصل الإمام الصادق (ع) سبيل تفصيل تعاليم المذهب الذي كان الإمام الباقر (ع) قد شقه من قبل، و كما يتضح من الروايات العديدة المنقولة عنه (ع)، فقد بين بتفصيل تام تعاليم المذهب في المواضيع المختلفة و خاصة الإمامة و منزلة الإمام، فضلاً عن بيان مواقف الإمامية في المسائل العقائدية موضوع النقاش في ذلك العصر. و على سبيل المثال فقد تم وبشكل واسع بيان مفهوم الإمام المفترض الطاعة، ومسألة عدم خلو الأرض من حضور الإمام، و عدم وجود إمامين في زمان واحد، و فكرة الوصية و النص في سلسلة الإمامة، و انحصار انتقال الإمامة من الأخ إلى الأخ فيما يتعلق بالحسنين (ع) (مثلاً ظ: الكليني، 1/ 168 و مابعدها).

و قد اتخذ الإمام الصادق (ع) مواقفه في المسائل الكلامية المتداولة في عصره مثل صفات الباري و القدر و منزلة الفاسق، وتعامل بشكل عام مع المسائل برؤية معتدلة. و في مسألة الصفات، إزاء الاتجاهين المتطرفين و هما التعطيل و التشبيه، أكد (ع) على أزلية صفات الذات مثل العلم في نفس الوقت الذي شدد فيه على تنزيه ذات الباري من أي كيفية و خصائص جسمانية (ظ: م.ن، 1/107- 108، مخ‍(، فكان يوصي بسبيل بين التعطيل والتشبيه (ظ: م.ن، 1/82-83). و كفرع من مسائل الصفات تجب الإشارة إلى موضوع خلق القرآن، حيث اتخذ (ع) موقفاً بين القائلين بخلق القرآن، أو عدم خلقه و ذلك بقوله « فإن القرآن كلام اللـه محدث غير مخلوق» (مثلاً ظ: ابن بابويه، 227).

و فيما يتعلق بموضوع القدر الواسع النطاق، فإن الرأي المعروف عن الإمام الصادق (ع) و أئمة أهل البيت (ع) هو نفي الجبر و التفويض (الاختيار المطلق) و الميل إلى «أمر بين أمرين» (مثلاً ظ: الكليني، 1/ 159-160؛ ابن بابويه، 362). و قد بين هو والأئمة الآخرون (ع)، من خلال التفريق بين مفهومي المشيئة والإرادة، و طرح نوعين من الإرادة الإلٰهية: إرادة الحتم وإرادة العزم كيف من الممكن أن يأمر اللـه بعمل و لاتقع مشيئته عليه في نفس‌الوقت (ظ: الكليني، 1/150 و مابعدها). و أخيراً تجب الإشارة من بين المباحث الشائعة في ذلك العصر إلى مسألة تعريف الإيمان، حيث اعتبر من خلال اتخاذ موقف معتدل الإسلام مفهوماً أعم من الإيمان، و رأى أن منزلة مرتكب الكبيرة هي «الإسلام»، و ذلك في معرض تصريحه بدخول العمل في تحقق الإيمان، و سلب صفة الإيمان عن مرتكب الكبيرة (ظ: م.ن، 2/27).

و كمثال على طرح المباحث الكلامية الدقيقة من قبل الإمام الصادق (ع) و الأئمة بعده، تجب الإشارة إلى تعبير «خلق لامن شيء» لبيان مفهوم الإبداع (مثلاً ظ: م.ن، 1/114)؛ و هو التعبير الذي حل بشكل دقيق محل التعبير الشائع «خلق من لاشيء». وقد فضل هذا التعبير في القرون التالية علماء مثل الفارابي على التعبير الشائع (ظ: الفارابي، 101). و في الحقيقة، وخلافاً لتصور بعض من الباحثين الغربيين (ظ: ولفسن، 367-368)، فإن هذه الفكرة التي وجدت صدى واسعاً منذ القرن 4ه‍ في المؤلفات الكلامية ـ الفلسفية للعلماء المسلمين و كذلك المتكلمين المسيحيين واليهود، يمكن ببساطة أن تكون صادرة من المصادر الإسلامية القديمة (لتحليل ذلك، ظ: پاكتچي، 159-160).

و قد كان يطلق على أتباع المذهب الشيعي الذي يتزعمه الإمام الصادق (ع)، منذ ذلك العصر اسم «الجعفرية» نسبة إليه (ع) (مثلاً ظ: الكشي، 255؛ أيضاً ظ: القاضي عبدالجبار، 20 (متمم)/176) و حمد السيد الحميري (105-ح 173ه‍) الذي كان قد خرج من مذهب الكيسانية ليدخل مذهب الإمام الصادق (ع)، اللـه في أشعار له «تجعفره»، أي دخوله في المذهب الجعفري (ظ: ابن‌شهرآشوب، 4/246).

 

متكلمو الإمامية في الكوفة

من خلال نظرة إلى مسيرة بلورة الكلام لدى الإمامية يجب القول إننا إذا استثنينا التعاليم المشتركة بين المذاهب الكلامية مثل مباحث التوحيد، و التعاليم الخاصة بالمذهب الإمامي في بسط مسائل الإمامة و التي كانت تشكل أساس المباحث الكلامية في المحافل الإمامية، فإن أموراً مثل وقوع «الرجعة» و تجويز «البداء» و «التقية» (ن.ع.ع) رغم كونها فرعية، كانت من الأمور التي عرف الإمامية الأوائل لدى الفرق الكلامية الأخرى، بالاعتقاد بها (مثلاً ظ: فرق الشيعة، 55؛ الذهبي، ميزان...، 1/ 379-383).

يتمتع التدوين و التأليف في علم الكلام بتاريخ طويل بين الإمامية، و يجب اعتبار متكلمي الإمامية من جملة العلماء الأوائل الذين أدوا دوراً هاماً في تدوين هذا العلم بشكل عام. و في القرن 2 و النصف الأول من القرن 3ه‍ كان هناك مذهب كلامي عريق مثّله خلال الأجيال المتلاحقة متكلمون مثل هشام بن الحكم ويونس بن عبدالرحمان و علي بن منصور و أبوجعفر السكاك والفضل بن شاذان (ظ: الكشي، 539؛ أيضاً النجاشي، 250). وبالإضافة إليهم، يجب أن نذكر من بين المتكلمين الإماميين المتقدمين، محمد بن علي صاحب الطاق، و هشام بن سالم الجواليقي اللذين كانا على الأرجح ينتميان إلى مدرسة واحدة (لقرائن على انتمائهما لمدرسة واحدة، مثلاً ظ: م.ن، 433؛ ابن أبي الحديد، 3/223- 228)، كما يمكن ذكر زرارة بن أعين و أبا مالك الحضرمي اللذين كانا متكلمين معروفين و يتميزان بآراء خاصة في المباحث المختلفة و منها القدر (ظ: الكشي، 145، مخ‍؛ الأشعري، 31 و مابعدها؛ البغدادي، 43 و مابعدها؛ النجاشي، 175). و قد درس هؤلاء المتكلمون في آثارهم المباحث الكلامية المختلفة و خاصة التوحيد و القدر و الإمامة و كانوا أحياناً مثل هشام بن الحكم يتحدثون عن المباحث الكلامية «الدقيقة» مثل الحدوث و القدم (ظ: الأشعري، ن.ص؛ ابن‌النديم، 224-225؛ النجاشي، 175، 205، مخ‍؛ أيضاً فان إس، «كلام...»، I/316 ومابعدها).

و إلى جانب المذاهب الكلامية القديمة، و خاصة مذهب هشام ابن الحكم الذي استمر حتى القرن 3ه‍، انضمت في هذا القرن إلى الإمامية لفترة على الأقل شخصيتان كلاميتان معقدتان هما أبوعيسى الوراق و ابن الراوندي (ن.ع.ع) اللذان كانت مسيرتهما الفكرية طيلة حياتهما بمثابة لغز، و لكن هذا الانضمام لم‌يكن يحظى بارتياح كبير من قبل كبار الإمامية. و في أواخر القرن 3ه‍، كان أبو علي الجبائي زعيم المعتزلة، يعتبر مذهب هشام بن الحكم العريق، و المذهب المشتت لأبي عيسـى ـ ابن الراوندي الممثلين الوحيدين لكلام الإمامية (ظ: الشريف المرتضى، الشافي، 1/81).

و تعد العقود الأخيرة من القرن 3 و المؤدية إلى القرن 4ه‍ في تاريخ كلام الإمامية برهة حساسة؛ ففي هذه الفترة، ألف متكلمو هذا المذهب حشداً من التأليفات في مباحث الإمامة، ولكن الحركة التي لعبت دوراً مصيرياً في هذه الفترة كانت ظهور مذهب النوبختيين الكلامي و على رأسهم أبوسهل النوبختي الذي استطاع أن يقدم نظاماً كلامياً شاملاً و يتصدى لهجمات المتكلمين المقتدرين المعارضين. و تدل عناوين آثار أبي سهل على أنه كان يتفق بشكل عام مع المعتزلة في الكثير من المباحث الكلامية الأخـرى ــ سـوى مبـاحـث الإمـامــة ــ و تعتبــر بعض الآراء المنقولة عن بني نوبخت في الأوائل للشيخ المفيد و خاصة في باب الوعيد تأييداً لذلك (مثلاً ظ: ص 65-67، 69-70، 82-84؛ قا: ابن نوبخت، 172؛ أيضاً ظ: ماديلونغ، 15-16).

 

الاتجاه الزيدي في الكوفة

كان زيد بن علي بن الإمام زين العابدين (ع)، عالماً متعبداً يعتقد بالقيام بالسيف ضد حكام الجور، و قد قاد في الكوفة في 122ه‍ ثورة ضد الأمويين أدت إلى استشهاده (ظ: أبوالفرج، 127 و مابعدها). و لم‌يكن من بين أنصار زيد و ملازميه الشيعة باتجاهاتهم المختلفة و حسب، بل جماعة من المرجئة و المحكمة أيضاً (ظ: م.ن، 128؛ البلاذري، 3/237). ويبدو أن الميل إلى الثورة ضد النظام الأموي الآيل إلى الضعف كان بالنسبة إلى الفئات الشيعية في العراق دافعاً لأن تؤسس بعض التنظيمات الدينية من خلال تقديم زيد للزعامة، وقد كانت هذه التنظيمات تسمى الزيدية بشكل عام، في حين أنه تلاحظ بين هذه الفئات في بعض المسائل العقائدية اختلافات أساسية في وجهات النظر و منها الإمامة و الموقف إزاء خلافة الشيخين (للتفاصيل، ظ: سعد، 71 و مابعدها).

و تبلغ المعلومات المباشرة عن أفكار زيد من القلة، والروايات المنسوبة إليه من الاختلاف، حداً بحيث لايمكن إلا بصعوبة معرفة مدى استقاء تعاليم الزيدية من أفكاره. و من جملة ماتمكن نسبته باطمئنان إلى زيد، عقيدته بشأن الشيخين فمن جهة أكد على أحقية الإمام علي (ع) في الخلافة و من جهة أخرى اعتبر ما قاما به غير مستوجب للبراءة منهما (ظ: الطبري، 7/180-181؛ البلاذري، 3/240-243؛ الأشعري، 65). و قد كان يؤكد في تعاليمه على وجوب محاربة الفسق و الجور، و يعتبر الإمام ملزماً بمحاربة أهل الجور و البغي إذا التف حوله ثلاثمائة و نيف من الأنصار (ظ: مسندزيد، 360-361). و استناداً إلى بعض الروايات، فإن زيداً لم‌يكن يؤمن بفكرة «الإمام المفترض الطاعة» بالنص (ظ: الكشي، 186-187؛ الطبرسي، 376).

و في فترة تقرب من قرن، أي حتى بداية القرن 3ه‍، اجتاز تيار الزيدية جزء مضطرباً من تاريخه، و كان في الغالب مبتلى بالثورات و الحركات السياسية. و من خلال نظرة إلى أفكار الزيدية في هذه الفترة، و كرؤية مشتركة بينهم يجب طرح فكرة أن الإمامة استمرت بعد شهادة الإمام الحسين (ع)، في أبناء الحسنين (ع) ــ و جميع أبناء الإمام علي (ع) عند أقلية، منهـم ــ فمن قام بالسيف من هذه الأسرة و دعا الناس فهو إمام مفترض الطاعة دون أن يكون هناك نص بالضرورة (ظ: سعد، 71؛ ابن قبة، 96). و في هذا المجال اتخذت فرقة الجارودية أقرب المواقف من الإمامية في نفي إمامة الشيخين و التفريق بين علم أهل البيت وعلم العامة، فيما كانت فرق كالبترية و السليمانية قد اقتربت إلى حد كبير من العامة بقبولها تقدم المفضول على الأفضل و قبول إمامة الشيخين و خاصة البترية بتوقفها حول عثمان (ظ: سعد، 18، 71-74؛ الشهرستاني، 1/140 و مابعدها). و قد كان هذا الاتجاه نفسه قد أدى إلى أن يعتبر متقدمو الإمامية الفئة الأولى «أقوياء» الزيدية والآخرين «الضعفاء» (مثلاً ظ: سعد، 73). و في معرض الحديث عن تنوع الآراء الكلامية لدى الزيدية المتقدمين، تجب الإشارة كمثال إلى أتباع الصباح المزني الذين كانوا يعتقدون بالرجعة (م.ن، 71؛ أيضاً الذهبي، ميزان، 2/93). كما كان بعض المتقدمين الزيدية كالإباضية يقولون ب‍ـ «كفر النعمة» في مبحث منزلة مرتكب الكبيرة (ظ: ابن النديم، 201؛ العلامة الحلي، 454). و فضلاً عن ذلك، فقد كان يوجد تشتت في الآراء بين الجماعات الزيدية المختلفة في أهم مسائل صفات الباري و العدل و الاستطاعة (ظ: الأشعري، 70 و مابعدها).

اتجه القسم الرئيس للزيدية منذ بداية القرن 3ه‍ نحو الانسجام الفكري و التنظيم المذهبي، و طوى النسيان أسماء فرق القرن 2ه‍ سوى الجارودية. و يعد القاسم الرسي (تـ‍ 246ه‍( أكثر المتكلمين الزيدية تأثيراً في هذا التيار، حيث كرس الميل إلى أفكار المعتزلة و الابتعاد عن الإمامية على حساب المحافل الزيدية من خلال تأليف عشرات الآثار (ظ: ماديلونغ، كافة أرجاء الكتاب). وهناك حركة أخرى في هذا الاتجاه تعود إلى يحيى بن الحسين، الملقب بالهادي إلى الحق الذي أسس في 283ه‍ الإمامة الزيدية العريقة في اليمن و عمل من خلال تأليف آثار عديدة على تثبيت الكلام الزيدي ذي النزعة الاعتزالية (عن الزيدية غير المعتزلة في أواخر القرن 3ه‍، ظ: ابن قبة، 122).

 

جهم، الممهد للمذاهب الكلامية

كان جهم بن صفوان السمرقندي (تـ‍ 128ه‍) رجلاً من موالي بني راسب، و قد اتجه إلى خراسان، و رافق فيها أميراً يدعى الحارث بن سريج، و فجر ثورة واسعة ضد بني مروان، و كان يؤكد كثيراً على الأمر بالمعروف. لم‌يتبق من أفكار جهم شيء بشكل مدون، و ماهو معروف منها مواضيع ذكرت في مؤلفات المعارضين. و استناداً إلى نقل الأشعري، فإن جهماً لم‌يكن يستسيغ إطلاق كلمة شيء على اللـه تفادياً للتشبيه، و كان يعتبر القرآن مخلوقاً، و الله هو الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان، و الإيمان هو المعرفة الوحيدة لله (ظ: الأشعري، 279-280؛ أيضاً الشهرستاني، 1/79-81؛ أيضاً ظ: فان‌إس، «كلام»، II/493 و مابعدها). و يعد جهم أكثر قدمة من أن نستطيع بسهولة الحديث عن جذور فكره الكلامي، و لكن يجب بشكل إجمالي اعتبار تعاليمه منظومة كلامية بدائية و خالية من التعقيد تتضمن 3 عوامل رئيسة هي توحيد الصفات و الجبر والإرجاء. و قد كسب مذهب جهم أتباعاً كان بقاياهم لايزالون معروفين في ترمذ حتى القرن 4ه‍ (ظ: المقدسي، 323)، ولكن يجب أن نعلم أن الجهمية كانت تشيع في القرنين 2و3 كتهمة في العقيدة، و لم‌يكن الكثير من الأشخاص الذين عرفوا في مصادر تراجم أصحاب الحديث كجهميين، أتباعاً لمذهب جهم، بل مفكرين قريبين منه في الفكر. إن خلو تعاليم جهم من تعقيدات العصور التالية في باب توحيد الصفات، جعله يعرف دوماً في مصادر معرفة الفرق كرمز للتطرف فـي نفي الصفات، أو ما يصطلح عليه ب‍‌ـ «التـعـطيـل» (مثلاً ظ: الشهرستاني، 1/81؛ أيضاً عبدالقادر، 2/196).

و قد كان من جملة المعاصرين الآخرين لجهم، شخص يدعى الجعد بن درهم (تـ‍ ح 118ه‍( من علماء البصرة و الذي يجب اعتباره هو أيضاً من أوائل من قدموا نظاماً كلامياً بسيطاً. و يمكن اعتبار الجعد مشتركاً في العقيدة مع جهم في باب خلق القرآن بغض النظر عن التفاصيل، و لكنه كان يأخذ بالاختيار في مسألة القدر (ظ: ابن الأثير، 5/ 429؛ الذهبي، ميزان، 1/ 399). و قد ذكر اسم الجعد في المصادر إلى جانب جهم باعتباره أول القائلين بخلق القرآن (ظ: الدارمي، الرد على الجهمية، 4).

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: