الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

ومن خلال تحليل عام لخصائص فقه مالك باعتباره المجموعة الوحيدة المتبقية من فقه المدينة الحديثي و رمز هذا الاتجاه في تاريخ الفقه، يجب التذكير بأنه أبدى تمسكاً كبيراً في التعامل مع ظواهر الكتاب، و أنه أبدى تشدداً في قبول الحديث و الأثر المتعارضين مع ظاهر الكتاب رغم ميله إلى الأحاديث و الآثار. وفي مجال المقارنة، من الملفت للنظر أن إصرار مالك على هذا الأسلوب فاق أباحنيفة، حيث عرف بسوء الظن بالنسبة إلى الكثير من الآثار و المثال على ذلك الحكم العموم الظاهري لآيتي «صيد البحر» (المائدة/5/96) و «قل لا أجد...» (الأنعام /6/145) حول اللحوم التي يحل أكلها (ظ: ابن رشد، 1/467 و مابعدها؛ ابن‌هبيرة، 2/455- 458). و في مجال التعامل العام مع الأخبار، يمكن أن يوضح كتاب الموطأ إلى حدما اتجاهات مالك الرئيسة؛ و في الحقيقة فإذا ما صرفنا النظر عن الأمثلة المعدودة، فإن الأسانيد المقدمة في هذا الأثر هي عموماً أسانيد مدنية و هذا مايدل على مدى اتباع مصادر فقه مالك النقلية للسنة المدنية المحلية؛ بحيث إن الاستناد إلى مرسلات فقهاء المدينة المتقدمين يلاحظ أيضاً كثيراً في الموطأ (مثلاً ص 7). و رغم أن مالك كان هو نفسه محدثاً قديراً، و لكن تسجيل عدد محدود من الأحاديث في الموطأ يدل على تشدده في اختيار الحديث.

و فضلاً عن آراء الصحابة، أدرجت في جميع أرجاء الموطأ فتاوى و سيرة فقهاء المدينة من التابعين أيضاً، و يبدو من خلال مقارنتها مع الفتاوى المنقولة عن مالك، أن آراء التابعين، و خاصة سعيد بن المسيب و الزهري و عروة بن الزبير، لعبت على الأقل دوراً مؤثراً في ظهور فقهه، إذا افترضنا أنها لم‌تكن تعتبر حجة في رؤية مالك النظرية. إن ما كان مالك يعتبره «بلاغاً» من المتقدمين، و لجأ إليه مراراً في حالة عدم وجود دليل من الكتاب و السنة (مثلاً ص 56)، يمكن اعتباره تعبيراً مجملاً عن آراء الصحابة و التابعين. و أخيراً، تجب الإشارة في أصول مالك الفقهية، إلى «سنة» و «سيرة» أهل المدينة، و التي هي ملجأه النهائي في الاستناد النقلي في كل مباحث مالك الفقهية؛ و لم‌يكن يقول بالموضوعية و الأصالة لسيرة الفقهاء و أهل العلم وحسب، بل أيضاً لسيرة عامة المدنيين (ظ: ص 8، 56، مخ‍ ) و باختصار فإن فقه مالك، أضفى في الأدلة النقلية أصالة خاصة على المدينة.

 

نظرة عامة إلى الفقه ذي النزعة للأثر في القرن 2ه‍

عرفت غالبية فقهاء الأمصار في القرن 2ه‍، كشخصيات متعلقة بشرائح أصحاب الحديث عموماً، رغم أن البعض مثل ابن جريج و عثمان البتي، كانوا أيضاً من أهل استخدام الرأي. و رغم أن عدد هؤلاء الفقهاء كبير، و كانوا متفرقين في البلاد الإسلامية، و لكن الأشخاص الذين لعبوا دوراً مؤثراً في تاريخ الفقه، وتمتع مذهبهم بدوام نسبي، لم‌يكن عددهم كبيراً. و تجدر الإشارة من بين هؤلاء الفقهـاء المعدودين، إلى أبـي عمرو الأوزاعـي (تـ‍ 157ه‍ )، الفقيه والمحدث الشامي البارز الذي كان قد أفاد من مشايخ الشام والحجاز و العراق و مصر و اليمامة (ظ: ابن عساكر، 10/66 ومابعدها).

و تدل دراسة المقطوعات المتبقية من الأوزاعي، على أن نهجه الفقهي كان قريباً إلى حد كبير في الكليات من نهج مالك، ففضلاً عن استناداته إلى الكتاب و السنة النبوية، يلاحظ بكثرة الاستناد إلى السيرة و سنة المسلمين الجارية بمثابة كاشف عن السنة النبوية، مع هذا الاختلاف وهو أننا لم‌نلاحظ في فقه الأوزاعي أثراً للاستناد الخاص إلى سيرة أهل المدينة، أو منطقة خاصة أخرى (لنماذج، ظ: أبويوسف، الرد، 5، 17، مخ‍). كما أنه اهتم اهتماماً خاصاً بالإجماع، و تمسك مراراً باجتماع أهل العلم و اتفاقهم على حكم ما (مثلاً ظ: ن.م، 23). و رغم أن الأوزاعي يعتبر من فقهاء أصحاب الحديث (مثلاً ظ: ابن النديم،284)، و لكن الرأي والقياس كانا مقبولين لديه على مستوى محدود نسبياً، كما كان الحال بالنسبة إلى جماعة أخرى من الفقهاء أصحاب الحديث في القرن 2ه‍ (مثلاً ظ: ابن قتيبة، المعارف، 496-497). و لاستعمال الاستحسان في شكله البدائي و غير المدون نماذج في فقه الأوزاعي أيضاً؛ فقد تحدث مثلاً في البحث حول «الجارية المغنية» عن بطلان البيع، ثم صرح بأن «هذا [الحكم على أساس] الاستحسان و يقتضي القياس الصحة» (ظ: السبكي، 3/191).

و يعتبر سفيان الثوري (تـ ‍‌161ه‍‌ ) الشخصية المعروفة الأخرى في عداد الفقهاء ذوي التأثير الكبير، حيث كان في فترة حياته فقيه الكوفة دون منازع. و لم‌يكن سفيان بعيداً عن الرأي الفقهي رغم نزعته إلى الحديث، حيث كان كتابه الجامع في الرأي الذي يضم آراءه الفقهية، متداولاً لفترة طويلة (ظ: أبوالعرب، 127، 220). ورغم أن سفيان كان ينتقد أبا‌حنيفة بسبب القول بالرأي (ظ: البسوي، 3/21)، و كان يعارض أساليبه الفقهية (ظ: الخطيب، 13/406)، و لكنه هو نفسه لم‌يكن يتجنب كثيراً العمل بالرأي، كما كان حال معاصريه الآخرين (ظ: ابن قتيبة، ن.م). و قد اعتبر سفيان أصحاب الرأي مثل ابن أبي ليلى و ابن شبرمة أبرز فقهاء الكوفة (ظ: 4/529)، و بذلك فقد أظهر موقفه الإيجابي من الرأي المعتدل. و تدل مقارنة إحصائية بين فتاواه و فتاوى أبي حنيفة على أن آراء‌هما الفقهية كانت متقاربة كثيراً من الناحية العملية (ظ: ن.د، 4/529)، و قد كان سبب هذا التقارب بالدرجة الأولى الدعم النقلي المشترك لهما في السنّة المحلية للكوفة.

 

الشافعي، النزعة الأصولية و تضييق دائرة السنة

يجب أن لانعتبر شخصية الشافعي الفقهية شخصية محلية خلافاً لغالبية الفقهاء في القرن 2ه‍، ذلك لأنه اجتاز مراحل دراسته في مناطق مختلفة هي مكة و المدينة و اليمن و العراق، حيث نلاحظ انعكاسات مواقف تعاليم تلك المناطق في آثاره. و قد قدم في رحلته الثانية إلى العراق و لأول مرة نظاماً فقهياً مدوناً و أسلوبياً كان بالإمكان مطابقته في العموميات مع المقاييس التقليدية لأصحاب الحديث، و في هذه الفترة أيضاً ألف النسخة الأولى من كتاب الرسالة في علم الأصول، ثم أفرغه فيما بعد بشكله النهائي في مصر (ظ: النووي، 1(1)/46 و مابعدها).

ومن خلال المقارنة بين أساليب المتقدمين مثل أبي حنيفة ومالك و بين الشافعي، فإن مما يلفت النظر في النظام الفقهي للشافعي الاستناد إلى الحديث باعتباره مرآة السنة و محوراً أساسياً، و قد بلغ هذا الاستناد حداً بحيث إنه يطرح الفقه الشافعي باعتباره فقهاً «ذا نزعة حديثية» و ذلك من خلال الحد من مراجعة الكتاب بشكل مباشر. و فيما يتعلق بالموقف من كتاب الله، لم‌يكن الشافعي يعتبر العموم الظاهري للقرآن الكريم قابلاً للتمسك به في مقابل التخصيصات الواردة في السنة، و كان يرى في مخصصات السنة دليلاً على الإرادة الخاصة من عبارة الكتاب العامة (ظ: الرسالة، 56 و مابعدها)؛ إن فكرة الشافعي هذه والمتمثلة في اعتباره السنة النبوية مفسرة لظواهر الكتاب، حدّت من الناحية العملية من التمسك بظواهر الكتاب بالنسبة إلى استخدام الأحاديث، و حتى إذا تجاوزنا مسألة التخصيص، فإن الشافعي ترك أحياناً في نماذج مثل آية التسمية (الأنعام/6/121) المعنى الظاهري من خلال التمسك بالحديث النبوي و الاستناد إلى التأويلات اللغوية، و أفتى بجواز الترك العمدي للتسمية على الذبح (ظ: الأم، 2/234).

و بما أن الفقه الشافعي كان قد خرج من الشكل المحلي الواحد من حيث المصادر الروائية، فقد اكتسبت مسألة الأحاديث المتعارضة، أو مايصطلح عليه بـ ‍‌«اختلاف الحديث» (ن.ع)، مكانة فائقة الأهمية في الفقه الشافعي؛ و قد بذل جهداً كبيراً في الجمع بين الأحاديث، و بيّن أساليب التعامل مع المسألة و إزالة التعارض باختصار في الرسالة و بتفصيل في اختلاف الحديث. و فيما يتعلق بالموقف من آثار الصحابة و التابعين، فإن الشافعي اعتبر من خلال تقديم تعريف مضيّق عن السنة، الأحاديث المرفوعة هي الممثل الوحيد للسنة، و هاجم بشدة نهج الفقهاء المتقدمين مثل مالك و الأوزاعي في تقليد الصحابة، و ترجيح الأقوال المنقولة عنهم على الأحاديث المرفوعة أحياناً، و لم‌يستثن في هذا المجال سيرة الشيخين (للتفصيل، ظ: الشافعي، «اختلاف مالك...»، أيضاً «سير الأوزاعي»، مخ‍ ‍‌).

و فيما يتعلق بالإجماع، لم‌يكن الشافعي يرى قيمة في الإجماع المحلي الذي يتمسك به المدنيون، و ذلك استناداً إلى خصوصية فقهه غير المحلية، و كان يعتبـر «إجمـاع الأمـة كلها» دليـلاً شرعيـاً يمكـن الاستنـاد إليـه ( الرسالة، 403، 471-476). و رغم أنه كان يرى أن الإجماع لايتحقق أبداً خلافاً للسنة النبوية (ن.م، 534-535)، و لكنه اعتبر أحياناً الإجماع حجة في تخصيص حديث فقهي، أو صرف دلالته عن المفهوم الظاهري بالمفهوم «المؤول» (ظ: ن.م، 322، الأم، 7/194).

و فيما يتعلق بموقف الشافعي من الاجتهاد و القياس، يجب التذكير بأنه كان يعتبر أي رأي فقهي و رأي قياس مردودين ضمن تأكيده على حجية القياس، و كان يرى الاجتهاد المشروع مترادفاً مع القياس من الناحية العملية (ظ: الرسالة، 477). و من خلال نظرة إلى نظرية الشافعي الفقهية، نرى أن القياس يحتل أدنى المرتبات بين الأدلة، و تقتصر حجيته على حالات الضرورة وفقدان النص (ظ: ن.م، 476 و مابعدها)، و لكن الشافعي اشتهر في الاستخدام العملي، في العمل بالقياس بنفس النسبة التي اشتهر بها أبوحنيفة في العمل بالرأي (مثلآً ظ: ابن النديم، 295؛ أيضاً قا: أبوهلال، 61). و فيما يتعلق بالاستحسان، هاجم الشافعي بشدة هذا الأسلوب على اعتبار أن ترك القياس لاأساس له سوى الاستحسان الشخصي (ظ: الأم، 7/270-277، الرسالة، 502- 508؛ أيضاً ابن النديم، 264)، و قد عرفت عنه العبارة التالية «من استحسن فقد شرع» (ظ: الغزالي، 1/274).

 

أصحاب الحديث المتأخرين، عودة إلى التهرب من النظام

مع تحول بغداد إلى مركز منذ منتصف القرن 3ه‍، مالبثت هذه المدينة أن أصبحت مركزاً للمواجهة بين المذاهب المختلفة، حيث كان ذلك بدوره أرضية لظهور مذاهب جديدة و غير محلية. و في النصف الثاني من القرن نفسه، كان هناك فقهاء بارزون باتجاهات مختلفة قد تجمعوا في بغداد من المراكز العلمية المتمثلة في العراق و الحجاز و الشام و إيران. و انضم إليهم أشخاص من أبرز أصحاب أبي حنيفة و مالك و الفقهاء الآخرين، حيث كانت إمكانية المواجهات العلمية القريبة بينهم، تهييّء الأرضية لظهور حركات جديدة في علم الفقه. كانت جهود أصحاب الرأي الواسعة لتدوين الفقه بشكله البدائي، و تقنين الأساليب الاجتهادية طيلة نصف قرن، قد أدت إلى أن يتعزز موقفهم و خاصة في بيئة العراق، بل و أن يتجه إلى أوساطهم أتباع مذهب أصحاب الحديث أيضاً لتعلم الفقه المدون و الاجتهادي (ظ: ن.د، 6/37 ومابعدها).

و في أواخر القرن 2ه‍، تغيرت الأمور لصالح أصحاب الحديث إلى حدما بظهور الشافعي كفقيه من أصحاب الحديث كان يقدم فقهاً منظماً و قائماً على أسس معينة، و ضاقت دائرة نفوذ أصحاب الرأي تدريجياً. و قد كان ذلك بداية لأن يعرض فريق من الفقهاء الشباب في العراق و إيران مثل أحمد‌بن‌حنبل و إسحاق بن راهويه و الكرابيسي و أبي ثور الذين كانوا ينظرون بعين الاعتبار إلى التعاليـم الفقهية لأصحاب الـرأي ــ رغـم اهتمامهـم بالحديـث ــ عن محافل أصحاب الرأي بشكل كامل، بعد طرح التعاليم الأصولية الشافعية في بغداد (ظ: البيهقي، 1/221 و مابعدها)، ولكن ذلك لم‌يكن يعني أن يبقى هؤلاء الفقهاء على الأساليب الفقهية الشافعية. كان دور الشافعي في تحول فقه أصحاب الحديث عن أساليب القرن 2ه‍ كالنهج الفقهي لأحمد‌‌بن‌حنبل، يغلب عليه الطابع التحذيري و هذه الاتجاهات الفقهية لايمكن بأي حال أن تعتبر استمراراً مباشراً للتعاليم الشافعية.

و إذا ما أردنا تحليل المناهج الفقهية لهذا الفريق، يجب أولاً القول فيما يتعلق بأحمد، أنه كان محدثاً غزير الرواية، و كان يصر كثيراً على اتباع الآثار و تـرك القياس و الـرأي ــ إلا في حالات الضـرورة ــ و ذلك بفضل تمتعه بمثل هذه الأرضية النقلية والتهرب من الاستخدام الواسع للرأي، و قد كان موقفه هذا مقترناً مع تجنب طرح المسائل التقديرية. و من خلال نظرة عابرة، فقد كان نهج أحمد في الفقه يتلخص في أن يجد حكم المسألة في الأدلة النقلية، سواء في الكتاب، أم السنة النبوية، و عندما يكون مدلول الأحاديث مختلفاً عن آراء الصحابة، أو يرجع إلى أقوال التابعين بخلفية الحكم، فإنه يقوم بالترجيح و الاختيار بين النقول. و رغم أن أحمد كان يعيش في عصر يُتَوقَّع فيه أن تكون آراؤه مدونة، ولكنه لم‌يكن أساساً يوافق على تأليف مثل هذه الآثار، فلم يعمد هو نفسه إلى كتابة الآثار الفقهية و الأصولية، و لايسمح لتلامذته لأن يبادروا استناداً إلى تعاليمه لتدوين مثل هذه الآثار تحت إشراف الأستاذ (ظ: ن.د، 6/38). و فيما يتعلق بالحديث عن السنة النبوية، فعلى الرغم من أن مذهب أحمد كان يقتضي أكبر قدر ممكن من الاستناد إلى الأحاديث المنقولة عن النبي (ص)، إلا أنه عمد في مجال الاستناد إلى تصنيف الأحاديث من حيث القوة، و كان يرى أن من الواجب نبذ الأحاديث «المنكرة» جانباً، والتمسك فقط بالأحاديث «المعروفة» الصادرة عن نبي الإسلام (ص). و قد كان يعتبر من النقاد الجادين في التعامل مع الإجماع، وكان يرى أن الكثير من حالات الإجماع المزعومة ادعاءات كاذبة و بعيدة عن الاحتياط (ظ: ن.م، 6/40-41).

و لاشك في أن الأساليب الاجتهادية في فقه أحمد كان لها استخدام محدود أكثر مقارنة مع الفقهاء أصحاب الرأي، ولكن هذا لايعني أن أحمد نفى بشكل كامل هذه الأساليب. و ربما يمكن اعتبار بعض الفتاوى القائمة على القياس في فقه أحمد، نوعاً من البحث عن القول الأحوط في الاتفاق مع القياس (ظ: ن.م، 6/42).

و مما يجدر ذكره أن فقه أحمد كان في بداية ظهوره يمثل أراء عالم من أصحاب الحديث في القرن 3ه‍ ذي اتجاهات معارضة للرأي، و كانت شخصية مثل إبراهيم الحربي تعتبره ممثلاً لفقه أصحاب الحديث إلى درجة أنه لم‌يكن يقصد من تعبير «قول أصحاب الحديث» في بادئ الأمر سوى قول أحمد (ظ: ابن أبي‌يعلى، 1/92). و رغم ذلك، فإنه لايمكن تعميم جميع خصائص فقه أحمد على جميع فقهاء أصحاب الحديث في القرن 3ه‍ . و على سبيل المثال، فمن خلال نظرة سريعة إلى فقه أبي ثـور (تـ‍ 240ه‍(، الفقيه البغدادي الذي استمر مذهبه لفترة طويلة، و كان له أتباع، يجب القول إنه كان قد أدرك دروس علماء بارزين من شريحتي أصحاب الحديث و أصحاب الرأي، و كان له في الفقه نزعة معتدلة، و بالطبع فإننا يجب أن لانتوقع من هذا الاعتدال دائماً موافقة الجمهور، ذلك لأنه اتخذ في منهجه الفقهي، فيما يتعلق بكتاب الله، أسلوباً قريباً من الظاهرية في الاستناد على ظواهر الكتاب خلافاً لأستاذه الشافعي و على هذا الأساس، فقد كان يبدي آراء شاذة في بعض المسائل (مثلاً ظ: المروزي، 154-155)؛ ويجب اعتبار بعض آرائه الخاصة نتيجة اتباع أحاديث لم‌يعمل بها الفقهاء الآخرون، و رجحوا الأحاديث المعارضة (ظ: ن.د، 4/433-434). و بشكل عام فإن فقهه يتراوح بين الفقه الروائي وفقه أهل الرأي (ظ: الخطيب، 6/65)، إلى درجة أن أبا حاتم الرازي نفسه قام بتخطئته من حيث النزعة إلى الرأي (ظ: الذهبي، 1/29).

كما يجب أن نذكر أبا عبيدالقاسم بـن سـلام (تـ‍ 224ه‍(، الفقيه البارز من أصحاب الحديث، الذي قدم في آثاره العديدة، أسلوباً قائماً على سنة أصحاب الحديث المتقدمين، و لكن بتركيبة و وجه منتظم. و يبدو مما استنبطه أبوعبيد من أسلوبه المعتاد في استنباط الأحكام أنه كان يتخذ من موافقة الرأي المشهور أصلاً في اتباع النصوص (الكتاب و السنة)، و لم‌يكن يجيز العمل بالقياس؛ بل إنه لم‌يكن أحياناً يأخذ بالخبر المتنافي مع القول المشهور للفقهاء، حتى في التعامل مع الحديث أيضاً (ظ: أبوعبيد، الناسخ، 86-87، الأموال، 434-435، مخ‍ ). و قد استبدل أبوعبيد إجماع الشافعي الصعب الوصول نسبياً (ظ: الشافعي، الرسالة، 534-535) بــ «الشهرة في الفتوى»،بل إنه كان يستخدم هذه الشهرة في نقد الأخبار و التراجيح؛ و هو الأسلوب الذي يمكن البحث عن جذوره في المناهج الفقهية القديمة.

 

المتكلمون و الأفكار الفقهية

لم‌يستبعد متكلموا المعتزلة المتقدمون، في القرنين 2و3ه‍ علم الفقه إلى جانب التعاليم الكلامية، و تداولوا في بحوثهم أساليب الاستدلال الفقهي، والأسس الأصولية للفقه. و كأول آراء كلامية حول أسس الاستدلال الفقهي تجب الإشارة إلى نقل قصير، و لكنه بالغ الأهمية على لسان واصل بن عطاء يجب على الفقيه استناداً إليه أن يسلك طريق «العقل السليم» في حالة فقدان دليل من الكتاب و«خبر جاء مجيء الحجة» (ظ: القاضي عبدالجبار، «فضل الاعتزال»، 234). و رغم أن التوصل إلى مفهوم واضح عن أسلوب العقل السليم في هذه العبارة المجملة يبدو صعباً، و لكن من خلال مقارنة عبارة واصل هذه مع الروايات الشائعة في عصره، يمكن اعتبار تعبير العقل السليم بديلاً عن تعبير «اجتهاد الرأي» في الروايات المعنية، حيث يبدو أن واصلاً استبدل التعبير المنصوص عليه إلى عبارة أكثر توافقاً مع فكرته العقلية، و ذلك من باب التعمد و بهدف التهرب من الأخذ بمشروعية الرأي.

و من جملة المتكلمين المعتزلة في الأجيال التالية، تعتبر نظرية إبراهيم النظام حول مصادر الاستدلال الفقهي من النظريات التي تستحق التأمل، حيث يمكن اعتبارها استمراراً لفكر واصل. فكان يرى أن الأدلة [النقلية] في الفقه هي عبارة عن الكتاب و«الخبر القاطع للعذر» (ظ: ابن قبة، 120)، و كان يرى أن جميع الأشياء هي في حكم الإطلاق العقلي سوى الحالات التي ثبت فيها حكم في الخبر القاطع للعذر (ظ: م.ن، 122)؛ و هي الفكرة التي كانت أساس ظهور مبدأ البراءة في الفترات التالية لعلم الأصول. وقد كان للنظام حول الإجماع الذي كان يتم تثبيته في تلك الفترة كدليل نقلي ثالث، موقف معارض؛ فقد نقد في كتابه النكت، الأسس التي استند إليها القائلون بحجية الإجماع و خاصة «عدم اجتماع الأمة على الخطأ»، و ناقش حجية الإجماع (أيضاً ظ: ابن‌قتيبة، تأويل...، 18)، و لكن من الممكن أن يكون حديث ابن‌الراوندي أدق نقلاً حول وجهة نظر النظام، فهو يقول إن النظام كان يعتقد أن أمة النبي (ص) من الممكن أن تجتمع من حيث الرأي و القياس على الضلالة، لا من حيث «التنقل عن الحواس» (أي الإخبار عن الواقع) (ظ: الخياط، 51؛ أيضاً لتأييده، القاضي عبدالجبار، المغني، 298). و يلاحظ نظير هذا التعامل مع الإجمـاع، في الجيل التالي، في النظـام الفكري لجعفر بن مبشـر (تـ‍ 234ه‍‌)، حيث يعتبر في الحقيقة منظر نظام فقهي مدون بين المعتزلة (ظ: الخياط، 82؛ ابن النديم، 208؛ الشهرستاني، 1/60).

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: