الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

جذور الفكر الكلامي في العراق

و مما يجدر ذكره قبل كل شيء أن تعاليـم 3 مـن أصحـاب النبـي (ص) ــ الإمـام‌علي (ع) والخليفة عمر وابن‌مسعـود ــ لعبت دوراً أساسياً في تأسيس أولى حلقات الدراسة الدينية في الكوفة (ظ: الخطيب، 13/334). ومن الصعب تعيين مدى تأثر كل من مدارس الكوفة بتعاليم كل واحد من الأصحاب، ولكن من الواضح إجمالاً أن هذا التأثير كان مختلفاً بالنسبة إلى المذاهب المختلفة. كان العراق في العقود الأولى من القرن 1ه‍، على عهد خلافة عمر، القاعدة الأصلية لقيادة حروب الفتوح. و قد كان حضور جماعة كبيرة من الصحابة والتابعين الذين كانوا اختاروا الكوفة، أو البصرة موطناً لهم، قد حول هاتين المدينتين الحديثتي التأسيس إلى مركزين للتدريس والدراسة؛ ولكن يجب ملاحظة أن الاهتمام الأكبر في عهد الصحابة، وفي المحيط الجهادي للكوفة و البصرة، كان منصباً على تعلم القرآن والسعي في العبادة، فلم‌تكن تلاحظ في الكثير من الأوساط الدينية رغبة في المواضيع النظرية، بل و حتى تبادل الحديث.

عرفت الكوفة دوماً منذ صدر الإسلام كمركز للاتجاهات العلوية و الشيعية و قد كان بعض أصحاب علي (ع) من الصحابة و التابعين من أكثر الأشخاص تأثيراً في ظهور أولى الأسس الكلامية في تلك المنطقة. و قد كان من بين تعاليم الإمام علي (ع) الأساسية نبذ التمييز القبلي و القومي و القبول بعدالة متساوية بين قريش و غيرها، و بين العرب و غيرهم، و قد طرحت هذه الفكرة على نطاق واسع في 33ه‍/653م من قبل أصحاب الإمام علي (ع) و خاصة في الكوفة. و قد اكتسبت هذه الفكرة التي كانت تستند في الأصل إلى أساس سياسي ـ أخلاقي مفهوماً كلامياً، ذلك لأنها كانت تتناقض مع فكرة «الأئمة من قريش». وقد كان على رأس الحركة المذكورة أشخاص من مبرزي الشيعة مثل مـالك الأشتـر و صعصعـة بن‌ صوحـان و كميـل بـن‌ زيـاد و عمرو‌بن الحَمِق (ظ: الطبري، 4/ 318-326)؛ و كان إلى جانبهم أشخاص مثل عبداللـه بن الكواء (عن مذهبه، ظ: ابن دريد، 340) انضموا إلى صف المحكمة بعد حادثة التحكيم (ظ: الطبري، ن.ص؛ ابن إباض، 126-127)، و نقلوا هذا التفكير باعتباره أساساً في مبحث الإمامة الكلامي، إلى الأجيال اللاحقة من المحكمة، بل وحتى الفئات من غير المحكمة. و على رأس قراء البصرة المتعبدين في نفس الفترة أيضاً كان هناك عامر بن عبداللـه بن عبد قيس الذي شارك خلال الاعتراض على عثمان في 33ه‍، إلى جانب المعترضين الكوفيين باعتباره ممثلاً لهم، ويبدو أنه نفي إلى الشام لهذا السبب (ظ: الطبري، 4/327- 328، 333؛ أيضاً ابن‌إباض، 127؛ ابن سعد، 7(1)/77- 78).

و إزاء قراء العراق المتعبدين، كان هناك أصحاب ابن مسعود ــ الذين كان على رأسهم عبيدة السلماني و علقمة بن قيس (ظ: نصر، 115، 188)، يمثلون نزعة في أوساط الكوفة، كانت قد وفقت بين العمل للآخرة و الحياة المتعارف عليها في هذه الدنيا (ظ: ابن سعد، 6/47، 58، 64). و كان هناك أيضاً اتجاه فرعي بين أصحاب ابن مسعود يترأسه الربيع بن خُثَيم، و الذي كان يشتمل من جهة على الخصائص العامـة لمذهب القراء المتعبديـن ــ و منهـا الزهد و التأكيد علـى الأمر بالمعـروف (ظ: م.ن، 6/ 129؛ أبونعيم، 2/ 108-116) ــ و لكنه و رغم هذا التشدد و الزهد في الدنيا، كان و من خلال تقديم رأي متفائل يرى أن الذنب نوع من الأمراض تبتلى به روح الإنسان، و أنه يعالج من خلال التوبة والاستغفار (م.ن، 2/ 108-109). إن هذه الفكرة، و كذلك موقف الربيع الاعتزالي في حرب صفين (ظ: نصر، 115) يربطانه بتاريخ فكرة الإرجاء في الكوفة، و يدلان على أن من الواجب البحث عن الجذور الأولى للإرجاء في تعاليم زهاد مثل الربيع، لافي تعاليم أهل التسامح.

و في هذه الطبقة تجب الإشارة بشكل خاص إلى شخصية أبي عبدالرحمان السلمي المعقدة الذي كان يطرح بوضوح في تعاليمه الكلامية نفي «الاستثناء في الإيمان» (ظ: أبوعبيد، 22)، حيث كانت تمثل أساس نظرية «الإرجاء المتأخر» الكلامية ـ الأخلاقية. و كان أبوالعالية الرياحي الذي كان من الشخصيات البارزة في البصرة في نفس تلك الفترة، يؤكد من خلال الاستناد إلى الاستغفار، على «الرجاء» بالعفو الإلٰهي، و ذلك في مواجهة أسلوب الزهاد (ظ: ن.ص؛ أبونعيم، 2/217-219)، و كان تعميم الرجاء في نظرته الكلامية، و يميل إلى الوقف في مواقفه المثيرة للجدل (ظ: ن.ص؛ ابن سعد، 7(1)/82، 83).

 

محاربة الجور و الفسق

بعد شهادة الإمام علي (ع) في 41ه‍، وخلافة الإمام الحسن (ع) التي امتدت لبضعة أشهر، انتقل الحكم إلى معاوية بن أبي سفيان، و بذلك انتهى عهد الخلفاء الأوائل وبدأ العصر الأموي. و كان الانتقال السلمي نسبياً للحكم إلى معاوية و استمراره لمدة 20 سنة قد أوجد ثباتاً سياسياً في العالم الإسلامي، كان يسوق الحكام و الكثير من الناس إلى النزعة الدنيوية. و كان مجمل الأوضاع و الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة قد هيأ الأرضية لرواج «الجور» من قبل الحكام، و «الفسق» من قبلهم و من قبل المطيعين لهم أيضاً، و قد بلغ ذروته بعد موت معاوية في فترة حكم ابنه يزيد (60-64ه‍).

و رغم أن الشيعة لم‌يكونوا بصدد محاربة الأمويين بعد تخلي الإمام الحسن (ع) الإمام الثاني للشيعة (الإمامة: 41-50ه‍) عن منصب الخلافة في 41ه‍، و رغم أن هذا الوضع استمر حتى موت معاوية في عهد الإمام الحسين (ع) (الإمامة: 50-61ه‍(، و لكن نشر التعاليم الشيعية بواسطة رجال هذا المذهب و تأكيد علماء على محاربة الجور و الفسق، كان يدفع معاوية أحياناً خلافاً لمعاهدته مع الإمام الحسن (ع) التي تنص على عدم إيذاء أحد من «شيعة علي (ع)» (ظ: أبوالفرج، 67)، إلى أن يقتل أشخاصاً مثل حجر بن عدي و عمرو بن الحمق (عن كتاب اعتراض الإمام الحسين (ع)، ظ: الكشي، 49-50؛ الطبرسي، 1/297). و قد تمثلت ذروة حركة الشيعة في محاربة الجور و الفسق، في حركة الإمام الحسين (ع) ضد يزيد في 61ه‍ و التي انتهت بشهادته (ع) لتبقى ذكراها باعتبارها أعظم ملحمة دينية في تاريخ الإسلام.

و قد تواصلت سنة القيام بالسيف ضد الجور و الفسق في الفترات التالية أيضاً من قبل بعض رجال أهل البيت (ع) و على رأسهم زيد ابن الإمام زين العابدين (ع) (ظ: أبوالفرج، كافة أرجاء الكتاب)، و اعتبرت لدى الفرقة الزيدية من المذهب الشيعي مبدأً أساسياً (ظ: سعد، 18؛ الشهرستاني، 1/137 و مابعدها). كما كانت تلاحظ إلى جانب هذه الفكرة، نزعة أخرى بين بعض شيعة الكوفة الذين كانوا يعترفون بالإمامة لمحمد بن الحنفية ابن الإمام علي (ع) من غير فاطمة (ع)، و قد كانت هذه النزعة التي كانت حجة للمختار الذي كان من مفكري العراق المحبين لعلي (ع) من أجل أن يكسب دعم الشيعة، أساس ظهور مذهب الكيسانية الذي لم‌يدم طويلاً (ظ: سعد، 21-22، مخ‍(. و رغم أن زعيم الإمامية الإمام زين‌العابدين علي بن الحسين (ع) (الإمامة : 61-95ه‍( لم‌يكن يرى حسب المنهج الأساسي لمذهب الشيعة، مصلحة في القيام بالسيف، و لكنه كان دائماً يؤكد في تعاليمه على تجنب الدنيا والبعد عن الفسق (ظ: ن.د، 6/272-273).

وقد كانت فرقة المحكمة أكثر الفرق الفكرية إثارة للجدل في العقود الوسطى من القرن 1ه‍؛ فقد كانت متفقة على محاربة الجور والفسـق رغم وجـود النزعتيـن المتمثلتيـن فـي القيـام بالسيـف، و القعود. و في الفترة بين سنة 37 حتى 65ه‍ كان يوجد بشكل مستمر تياران متطرف و معتدل بين أهل التحكيم، فقد كان المعتدلون الذين كانوا يسمون «القَعَدة» يجيزون اجتناب الثورة ضد نظام الجور و السكوت و التقية بشروط. و في عهد إمارة زياد في العراق (45-53ه‍( كان الكثير من القعدة يعيشون بهدوء وبعيداً عن تعرض الجهاز الحاكم، بل كانت تمنح لهم العطايا أحياناً، ويقلدون مناصب في الدولة أيضاً (ظ: المبرد، 7/201-202). و قد كانت السياسة العامة التي اتخذها زياد إزاء المحكمة هي إنه كان يعاقب الدعاة الذي يجهرون بدعوتهم و يترك أهل التقية والقعدة و شأنهم (م.ن، 7/201).

و رغم أن أوائل منظري المحكمة و أنصارهم كانوا رجالاً من الكوفة (ظ: الطبري، 5/72-75، 191؛ الإمامة...، 1/146)، و لكن سرعان ما انتقل مركز نشاط المحكمة إلى البصرة. و يعد أبوبلال مرداس بن أُدَيّة (مق‍ 61ه‍( من رجالهم البارزين و زعمائهم في هذه الفترة، حيث كان يحظى باحترام جميع فرق المحكمة؛ فقد كان يأخذ بالتقية و يعارض أساليب المحكمة المتطرفين مثل القيام بالسيف و «الاستعراض» (ظ: المبرد، 2/518، 7/187). يجدر ذكره أنه لايمكن تعيين حدود دقيقة بين هذه الاتجاهات حتى 64ه‍، رغم وجود اختلافات في الأساليب و وجهات النظر، و يجب تسمية هذا التيار المشترك بين المحكمة «المحكمة الأوائل». وفيما يتعلق بالتعاليم الاعتقادية يجب القول إن خلفية أكثر المباحث الكلامية تعود إلى عهد المحكمة الأوائل، سوى بعض التعاليم الأساسية مثل تكفير المعارضين و الآراء العامة في الإمامة، فالإشارات إلى أسسهم الاعتقادية الأخرى في تلك الفترة قليلة للغاية (مثلاً عن استنباط حول مسألة التجسيم، ظ: پاكتچي، «تحليلي...»، 125-126).

 

الافتراق الكبير بين المحكمة

في عهد انتقال السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني للأمويين و التي اقترنت بفترة قصيرة في حكم بني أمية، ائتلفت المحكمة الأوائل في جبهة واحدة مع عبد الله بن الزبير المدعي الخلافة، و لكن الاختلافات الأساسية بين زعماء المحكمة في الأفكار الاعتقادية ـ السياسية بعد فشل الائتلاف مع ابن الزبير، انتهى إلى افتراق أساسي. ففي 65ه‍ ترك زعماء المحكمة معسكر ابن الزبير و اتجهوا إلى بلدانهم في البصرة و اليمامة. و ابتلوا بالاختلافات حول الأسلوب الذي يجب أن يتخذ إزاء المسلمين غير المحكمة و سلك كل منهم سبيلاً، و أسس فرقة له (ظ: المبرد، 7/ 219-220؛ الطبري، 5/566-568). و رأت المصادر التاريخية أن أكثر عوامل انفصال المحكمة عن ابن الزبير تأثيراً كان يتمثل في نافع بن الأزرق وأعوانه وخاصة بني الماحوز (مثلاً ظ: البلاذري، 4(1)/317).

و قد اعتقل و سجن نافع بن الأزرق و جماعة أخرى من المحكمة عند وصولهم البصرة، بأمر من ابن زياد (ظ: ابن حبيب، 171). و على أثر التحولات السياسية بعد موت يزيد وخلاص نافع و أتباعه، جمع في الفور جماعة من المحكمة المطالبين بالقيام (البلاذري، ن.ص) و نظم في الأيام التي كان فيها البصريون تمزقهم النزاعات القومية، معسكراً حربياً قوياً لم‌يدرك زعماء البصرة خطره، إلا بعد ظهوره. و مع استقرار معسكر الأزارقة في الأهواز، أبدى نافع بعض المواقف الدينية المتطرفة، و بعد أن أعلن براءته من القعدة، أعلن أن القيام واجب لايمكن التخلف عنه (ظ: الطبري، 5/ 568). لقد لعب الأزارقة دوراً سياسياً هاماً في أحداث النصف الثاني من القرن 1ه‍ و خاصة خلال السنوات 64-78ه‍/684-697م، و أسسوا في هذه الفترة التي استمرت 14 سنة إمامة خارجية في حالة كر و فر دائمين في مناطق إيران توالى عليها خلال فترة قصيرة عدة زعماء (للتفاصيل، ظ: ن.د، الأزارقة).

و رغم أن متقدمي الأزارقة كانوا من القبائل العربية الساكنة في البصرة، إلا أن مجموع نقاط الجذب التي كانت تمتد جذورها في التعاليم المذهبية للأزارقة أدت إلى أن يرى الإيرانيون الأحرار و كذلك العبيد الذين كانوا ساخطين على القيود الاجتماعية السائدة في النظام الأموي، في المسلك الأزرقي طريقاً لاستعادة سعادتهم، و يخرجوا معسكر الأزارقة من حالة الجماعات المتمردة و الخطيرة. و قد ابتلي معسكر الأزارقة في السنوات الأخيرة بتشتت شديد و زالت آخر بقايا اقتداره السياسي في 78ه‍ (ظ: ن.ص). و من بين بقايا الأزارقة القلائل بعد هذه المذابح، كانت هناك مجموعة من أنصار عبيدة بن هلال في قومس يبدو أنهم ظلوا أوفياء للمذهب الأزرقي حتى النهاية. و في فترة من عهد حكم الحجاج بن يوسف (حك‍ 75-95ه‍) كان مايزال هناك بقايا من تنظيم للأزارقة في الري كان قد أثار القلق لدى أهالي هذه المنطقة بسبب إقدامهم على الاستعراض (ظ: ابن سعد، 6/234).

و من خلال دراسة آراء الأزارقة الكلامية، يمكن تحديد عدة خصائص: ففي منزلة المخالفين لأهل القبلة كان نافع بن الأزرق ينسبهم صراحة إلى الكفر بمعنى الخروج الكامل عن الدين الإسلامي (ظ: الأشعري، 86-87). و لم‌يكن الأزارقة يجيزون التقية، لا في العمل و لا في القول (ظ: الشهرستاني، 1/110) و قد استتبع ذلك اعتبار الهجرة و القيام بالسيف واجباً بشكل منطقي (عن كتاب نافع، مثلاً ظ: المبرد، 7/235- 238؛ لتفاصيل الاعتقادات، ظ: ن.د، الأزارقة). و قد كان الانعكاس العملي لميول الأزارقة المتطرفة يرى بشكل واضح في أسلوب الاستعراض وقتل المعارضين في المذهب (مثلاً ظ: أبوقحطان، 119). حتى إن الأزارقـة كانوا ــ بحكـم الشـرك ــ يجيزون استعراض و قتل النساء و الأطفال في حالة انتمائهم إلى المذهب المخالف (ظ: مسائل الإمامة، 69؛ البغدادي، 50).

و قد كانت فرقة النَّجَدات التي اشتقت اسمها من اسم نجدة بن عامر تعتبر من فرق المحكمة المعتدلة و التي كانت تعد في الغالب اتحاداً سياسياً، لا مذهباً كلامياً منظماً، خلافاً لظاهر مصادر معرفة الفرق. و قد كان لنجدة الذي كان قد أسس في اليمامة منذ 61ه‍ إمامة صغيرة (ظ: الطبري، 5/ 479)، حضور فاعل في الائتلاف بين المحكمة و ابن الزبير، و قد تبرأ عن وعي من مواقف نافع بن الأزرق المتطرفة بعد افتراق المحكمة (عن كتابه لنافع، ظ: المبرد، 7/234-235؛ ابن عبدربه، 2/396-397). و على أثر افتراق المحكمة الكبير، تجنب أبوطالوت و أبو فديك اللذان كانا من زعماء قبيلة بكر‌بن وائل الكبيرة و عطية بن الأسود من زعماء بني حنيفة، المواقف المتطرفة لنافع، و انضما إلى نجدة (ظ: الطبري، 5/566؛ البغدادي، 52؛ ابن الأثير، 4/201). و في حوالي سنة 68ه‍، ابتليت إمامة النجدات بالنزاعات الداخلية، و انقرضت فرقة النجدات تقريباً بسقوطها في 73ه‍ )ظ: البغدادي، 52-54؛ أيضاً پاكتچي، تاريخ...، قسم النجدات). كان لنجدة و أتباعه ميول معتدلة، فقد طرحت في كتاب له إلى نافع بن الأزرق، مواقف مثل جواز العقود، و النهي عن الاستعراض وضرورة أداء أمانات المخالفين (ظ: المبـرد، 7/234-235). و لم‌يكونـوا ــ خلافاً لجميع فرق المحكمة ــ يقولون بالتكفير فيما يتعلق بمنزلة مرتكبي الكبائر، كما لم‌يكونوا يعتبرون المرتكبين مستحقين للعذاب الأبدي (ظ: الأشعري، 86؛ أيضاً پاكتچي، «تحليلي»، 118-119، 131؛ أيضاً عباس، 83-84: أبيات لأبي مسلم بن جبير).

يجب البحث عن جذور فرقتي العجاردة و الثعالبة من فرق المحكمة في تعاليم عطية بن الأسود الذي كان من زعماء ائتلاف النجدات في اليمامة. فقد انعزل في 72ه‍ و دخل جنوب شرق إيران و جمع هناك أتباعاً كثيرين أُطلق عليهم اسم «العطوية» (ظ: الأشعري، 92-93؛ البغدادي، 52). و قد كانت تعاليم عطية تنتشر في تلك المنطقة طيلة السبعينيات من الهجرة، ولكن مع مقتله في حوالي سنة 80ه‍ و انتقال الزعامة إلى تلامذته، تحول مذهب العطوية إلى مذهبي العجاردة و الثعالبة و لكن ليس بشكل مفاجئ، بل من خلال تحول في الأفكار و اتخاذ التعاليم الأساسية لعطية كأصل إلى حدما. و قد جمع أحد تلامذة عطية و يدعى عبدالكريم‌بن عجرد الذي كان يتميز بأفكار خاصة، غالبية العطويين و استطاع من خلال طرح تعاليم مبتكرة كانت أساس ظهور مذهب «العجاردة» من الناحية السياسية أيضاً أن ينظم من جديد إمامة المحكمة القصيرة و الممزقة في سجستان. و قد أدى عدم حضور عطية الرائد الذي لم‌يكن أحد يقوى على إظهار وجوده أمامه، إلى أن ينفتح باب الاختلاف في العقيدة، و البراءات على أثره بين العطوية. و قد كانت معارضة ثعلبة بن عامر (أو مشكان) لابن عجرد في مسألة ولاية الأطفال و براءتهم أهم عامل فرقة كان نقطة انفصال العجاردة و الثعالبة عن بعضهم البعض، وعلى أثر هذا الاختلاف كفّر و تبرأ ثعلبة و ابن عجرد عن بعضهما البعض (ظ: الأشعري، 97؛ البغدادي، 60؛ الشهرستاني، 1/ 118).

و من الزعماء الآخرين الحاضرين في حادثة الافتراق، أبو‌بيهس هيصم بن جابر (ظ: المبرد، 7/240-241) الذي شارك أيضاً لفترة في ائتلاف النجدات باعتباره أحد القادة المتطرفين نسبياً (ظ: البغدادي، 54). و من تعاليمه الخاصة به، رأي معتدل يفيد بالتفريق بين «مايسع جهله» و «ما لايسع جهله» في الاعتقادات، و جواز التوقف عند «مايسع جهله» (ظ: الشهرستاني، 1/113). و إن ظهور الفرقة الصفرية التي لم‌تكن تختلف كثيراً عن الأزارقة في التطرف، حتى إذا لم‌يكن قد حدث خلال الافتراق الكبير سنة 65ه‍، كما ذكر الطبري نقلاً عن أبي مخنف (5/566، 568) لم‌يتأخر كثيراً أيضاً (ظ: البلاذري، 5/270). و تعود أول حركة تاريخية معروفة عن الصفرية إلى 76ه‍ في بلاد الجزيرة حيث كان يقودها ناسك يدعى صالح بن مسرّح الذي كان له أتباع في الكوفة أيضاً بالإضافة إلى موطنه (ظ: الطبري، 6/216 ومابعدها). و قد ظلت ذكرى صالح بن مسرّح باقية في أذهان الصفريين من الأجيال التالية بحيث أصبح قبره في الموصل مزاراً لهم (ظ: ابن‌دريد، 217).

و أخيراً يجب ذكر الإباضية في مبحث الافتراق الكبير، حيث كان زعيمهم عبداللـه بن إباض أبرز زعيم للمحكمة في معارضة المواقف المتطرفة لنافع بن الأزرق (ظ: المبرد، 7/ 219؛ الطبري، 5/566- 568)، و من بعد ابن إباض كان أبو الشعثاء جابر بن زيد الذي كان من التابعين البارزين في البصرة أكثر الشخصيات تأثيراً في ظهور تعاليم الإباضية، حيث كان الإباضيون يقرون له بالإمامة (ظ: الدرجيني، 2/205 و مابعدها؛ أيضاً ابن سعد، 7(1)/132)، رغم أنه لم‌يكن يفترق كثيراً عن الحسن البصري من حيث التعاليم. ورغم أن الحكومة الأموية كانت تتحمل منذ عهد ابن إباض حضور هذه الجماعة في البصرة، و لكن علاقاتهم مع الحجاج بدأت تسوء على أثر ظهور بعض المواقف المتشددة بينهم، فنفي جابر إلى عُمان مع عدد من زعماء الإباضية (ظ: EI2,III/649).

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: