الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / ابن عربی /

فهرس الموضوعات

ابن عربی

ابن عربی

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

ثم إن ابن عربي یقسم «المفعولات» إلی 5 أقسام: المفعول الصناعي كالقمیص والكرسي؛ والمفعول التكویني الذي هو الفلك والكواكب؛ والمفعول الطبیعي كالموالد من المعادن والنبات والحیوان؛ والمفعول الانبعاثي الذي هو النفس الكلیة المنبعثة من العقل؛ وأخیراً المفعول الإبداعي الذي هو الحقیقة المحمدیة، ویسمی أیضاً العقل الأول، وهو القلم الأعلی الذي أبدعه الله من غیر شيء (ن.م، 1/94). والنقطة الثانیة عن أول المخلوقات الروحانیة: العقل الأول والنفس الكلیة والطبیعة والهباء والجسم الكل، إذ یربط ابن عربي كما مرّ خلق العقل الأول بالاسم الإلهي البدیع، فأول ما خلق الله العقل (=‌القلم) وهو أول مفعول إبداعي أظهره الله في نَفَس الرحمن في العماء، والعقل الأول موجود جعل سبباً لكل إمداد إلهي في الوجود، ثم یورد ابن عربي تفسیراً آخر للعقل الأول فیقول: لما خلق الله الملائكة وهي العقول المخلوقة من العماء، وكان القلم الإلهي أول مخلوق منها، اصطفاه الله وقدمه وولاه علی دیوان إیجاد العالم كله، وجعله بسیطاً حتی لایغفل ولاینام ولاینسی، علمه الله من ضروب العلوم، وكتبها كلها مسطرة في اللوح المحفوظ. فلما ولاه ما ولاه من أسمائه المدبر والمفصل من غیر فكر ولا رویة وهو في الإنسان الفكر والتفكر (ن.م، 2/422-423).

وفي هذا الإطار یورد ابن عربي نقاطاً مثیرة لها أهمیة خاصة في نهجه الفكري ورؤیته الكونیة. منه أن الأمر لیس أكثر من شیئین حق وخلق، وأنه وجود محض لم یزل ولایزال، وإمكان محض لم یزل ولایزال، وعدم محض لم یزل ولایزال، فالوجود المحض لایقبل العدم أزلاً وأبداً، والعدم المحض لایقبل الوجود أزلاً وأبداً، والإمكان المحض یقبل الوجود لسبب ویقبل العدم لسبب أزلاً وأبداً، فالوجود المحض هو الله لیس غیره، والعدم المحض هو المُحال وجودُه لیس غیره، والإمكان المحض هو العالم لیس غیره، ومرتبته بین الوجود المحض والعدم المحض، فیما ینظر منه إلی العدم یقبل العدم، وبما ینظر منه إلی الوجود یقبل الوجود، فمن الإمكان ظلمة وهي الطبیعة، ومنه نور وهو النفس الرحماني الذي یعطي الوجود لهذا الممكن، فالعالم حامل ومحمول، فبما هو حامل هو صورة وجسم وفاعل، وبما هو محمول هو روح ومعنی ومنفع، فما من صورة محسوسة أو خیالیة أو معنویة إلا ولها تسویة من جانب الحق وتعدیل، كما یلیق بها وبمقامها وحالها (ن.م، 2/426). فالخلق جدید في كل نفس دنیا وآخرة، فنفس الرحمن لایزال متوجهاً للخلق والطبیعة لاتزال تتكون صوراً لهذا النفس الرحماني حتی لایتعطل الأمر الإلهي إذ لایصح التعطیل، فصور تحدث وصور تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النَفَس الرحماني (ن.م، 2/427).

ویقال عن خلق النَّفس الكلیة وصلتها بالاسم الإلهي «الباعث»: إن النفس الكلیة هي اللوح المحفوظ، وهو أول موجود انبعاثي، وأول موجود وجد عند سبب، وهذا السبب هو العقل الأول. ولم خلق الله هذا العقل الأول قلماً، طلب بحقیقته موضع أثر لكتابته فیه لكونه قلماً، فانبعث من هذا الطلب اللوح المحفوظ، وهو النفس الكلیة، فلهذا كانت أول موجود انبعاثي، فألقی العقل الأول إلی النفس الكلیة جمیع ما عنده إلی یوم القیامة مسطراً منظوماً، وجعل الله في القلم الإلقاء لما خلق فیه، وجعل في اللوح القبول لما یقی إلیه. وصورة التلقي الإلهي للعقل تجل رحماني عن محبة من المتجلي والمتجلی له (ن.م، 2/427-428). أما الطبیعة فمن الاسم الإلهي الباطن، والطبیعة عند ابن عربي في المرتبة الثالثة من وجود العقل الأول، وهي معقولة الوجود غیر موجودة العین. فلو كان لها وجود عیني لكان دون النفس، فهي وإن لم تكن موجودة العین فهي مشهودة للحق، ولهذا میزها وعین مرتبتها، وهي للكائنات الطبیعیة كالأسماء الإلهیة تعلم وتعقل وتظهر آثارها وأحكامها. ولاعین لها جملة واحدة من خارج، كذلك الطبیعة تعطي ما في قوتها من الصور الحسیة المضافة إلیها الوجودیة، ولاوجود لها من خارج، فهي ذات معقولة، مجموع أربع حقائق، ویسمی أثر هذه الأربع في الأجسام المخلوقة الطبیعیة حرارة ویبوسة وبرودة ورطوبة، وهذه آثار الطبیعة في الأجسام لاعینها (ن.م، 2/430). ثم یشیر ابن عربي إلی أن الطبیعة لایمكن أن تثبت علی حالة واحدة فلا سكون عندها، ولهذا لایوجد الاعتدال في الأجسام الطبیعیة العنصریة، فهو معقول لاموجود، ولو كانت الطبیعة تقبل المیزان علی السواء، لما صح عنها وجود شيء ولاظهرت عنها صورة. فلابد من ظهور بعض حقائقها علی بعض لأجل الإیجاد، ولهذا لیست الطبیعة واحدة ومعتدلة الحكم في الأشیاء (ن.م، 2/431).

ویمكن الإشارة إلی مسألة «النكاح» المهمة في رؤیته العرفانیة للكون فلها أهمیة خاصه لدیه، فقد ألف فیها مصنفاً مستقلاً باسم كتاب النكاح الأول، یبدو أنه مفقود، وقد أشار إلیه في مصنفاته الأخری (ن.م، 1/139، 2/689، «عقلة»، 46). ویبدأ ابن عربي بشرح النكاح وتأكیده علی مبادئ هذه النظریة «النكاح أصل في الأشیاء كلها، فله الإحاطة والفضل والتقدم» (الفتوحات، 1/167)، ویسمیه علم التوالد والتناسل وهو من علوم الأكوان وأصله من العلم الإلهي. ثم یقسم ابن عربي النكاح إلی ثلاثة أقسام: حسي ومعنوي وإلهي، ویورد أمثالاً له في عالم الحس وعالم الطبیعة، وفي المعاني الروحانیة والعلم الإلهي. ففي عالم الحس من الواضح أنه إذاكان من المفروض أن یظهر شخص ببین اثنین، وجب اجتماعهما علی وجه مخصوص وشرط مخصوص، والثالث الذي یظهر یسمی ولداً، والاثنان یسمیان والدین واجتماعهما یسمی نكاحاً وسفاحاً، وهذا أمر واقع في الحیوان. وأما في المعاني فإن حكم النكاح صادق أیضاً. ویستخدم ابن عربي القیاس المنطقي نموذجاً لذلك ویفسره وبشكل مثیر جداً بحیث یعتبر نموذجاً من نظریته في المعرفة: إذا أردنا أن نعلم وجود العالم هل هو عن سبب أولا، فلنعمد إلی مفردین أو ما هو في حكم المفردین، مثل المقدمة الشرطیة، ثم نجعل أحد المفردین موضوعاً مبتدأ، ونحمل المفرد الآخر علیه علی طریق الإخبار به، فنقول: كل حادث له سبب. فقام من هذین المفردین صورة مركبة، كما قامت صورة الإنسان من حیوانیة ونطق، فقلنا فیه: حیوان ناطق. فتركب المفردین بحمل أحدهما علی الآخر لاینتج شیئاً، ثم نطلب مقدمة أخری نعمل فیها ما علمنا في الأولی. ولابد أن یكون أحد المفردین مذكوراً في المقدمتین، فهي أربعة في صورة التركیب، وهي ثلاثة في المعنی، والآن نقول في هذه المسألة في المقدمة الثانیة: العالم حادث، وقد كان هذا الحادث الذي هو محمول في المقدمة موضوعاً في الأولی حین حملت علیه السبب فتكرر الحادث في المقدمتین، وهو الرابط بینهما، فإذا ارتبطا سمي ذلك الارتباط وجه الدلیل، وسمي اجتماعهما دلیلاً وبرهاناً، فینتج بالضرورة أن حدوث العالم له سبب، وبهذا یتبین أن النتائج إنما ظهرت التوالج الذي في المقدمتین اللذین هما كالأبوین في الحس، وأن المقدمتین مركبة من ثلاثة، أو ما هو في حكم الثلاثة، فإنه قد یكون للجملة معنی الواحد (ن.م، 1/170-171).

أما فیما یتعلق بالنكاح والتوالج في العلم الإلهي، فیستدل ابن عربي بقوله: إن ذات الحق لم یظهر منها شيء أصلاً من كونها ذاتاً غیر منسوب إلیها أمر آخر، وهو أن ینسب إلی هذه الذات أنها قادرة علی الإیجاد أو كونها علة. ومع هذه النسبة، وهي كونه قادراً لابد من أمر ثالث، وهو إرادة الإیجاد لهذه العین المقصودة بأن توجد، فكان ظهور العالم في العلم الإلهي عن ثلاث حقائق معقولة فسری ذلك في توالد الكون بعضه عن بعض، لكون الأصل علی هذه الصورة (ن.م، 1/171).

ویقول ابن عربي في البحث المتعلق بمعرفة الآباء العلویات والأمهات السفلیات: لما كان المقصود من خلق هذا العالم، الإنسان وهو الإمام، لذلك أضفنا الآباء والأمهات إلیه فقلنا آباؤنا العلویات وأمهاتنا السفلیات. ثم یتحدث عن النكاح، وبعد أن یشیر إلی أن كل مؤثِّر فیه أم، یشیر مرة أخری إلی نكاح المقدمتین في القیاس المنطقي تنكح إحداهما الأخری بالمفرد الواحد الذي یتكرر فیهما وهو الرابط، والنتیجة التي تصدر بینهما هي المطلوبة. ثم یقول فیما یتصل بالآباء العلویات والأمهات السفلیات: إن الأرواح كلها آباء والطبیعة أم، لما كانت محل الاستحالات. وتتجه هذه الأرواح علی هذه الأركان التي هي العناصر القابلة للتغییر والاستحالة، تظهر فیها المولدات، وهي المعادن والنبات والحیوان والجان والإنسان، كذلك الأركان في عالم الطبیعة أربعة، وبنكاح العالم العلوي لهذه الأربعة یوجد الله مایتولد فیها. وأول الأباء العلویة معلوم، وأول الأمهات السفلیة شیئیة المعدوم الممكن؛ وأول نكاح، القصد بالأمر من قبل الله، وأول ابن، وجود عین تلك الشیئیة، فهذا أب ساري الأبوة، وتلك أم ساریة الأمومة، وذلك النكاح سار في كل شيء، والنتیجة دائمة لاتنقطع في حق كل ظاهر العین، ویسمی ابن عربي ذلك «النكاح الساري في جمیع الذراري». ویفسر مسألة النكاح فیما یتعلق بأول مراحل الخلق، وأول المخلوقات، واتصال الآباء والأمهات العلویة والسفلیة الأول عن طریق النكاح المعنوي والحسي، فیقول: إن العقل الأول هو أول مبدّع خلق، وهو القلم الأعلی، ولم یكن هَمّ محدّث سواه وكان مؤثراً فیه من انبعاث اللوح المحفوظ عنه كانبعاث حواء من آدم في عالم الأجرام، لیكون ذلك اللوح موضعاً ومحلاً لما یكتب فیه هذا القلم الأعلی الإلهي، فكان اللوح المحفوظ أو موجود انبعاثي، وقد ورد في الشرع أن أول ما خلق الله القلم، ثم خلق اللوح، وقال للقلم: اكتب، قال القلم: وما أكتب؟ قال الله له: اكتب وأنا أملي علیك، فخط القلم في اللوح ما یملي علیه الحق، وهو علمه في خلقه الذي یخلق إلی یوم القیامة، فكان بین القلم واللوح نكاح معنوي معقول، وأثر حسي مشهود، وكان ما أودع في اللوح من الأثر مثل الماء الدافق الحاصل في رحم الأنثی (ن.م، 1/138-139).

ثم یورد ابن عربي مسألة مثیرة جداً فیما یتعلق بنظریته عن العناصر الأربعة، ویتحدث عن اختلاف العقائد في أي من العناصر أصل في نفسه. وهذا یذكرنا بنظریات الفلاسفة الیونان القدماء الأولی عن «أصل الأسیاء الأول». یقول ابن عربي: قالت طائفة: ركن النار هو الأصل (نظریة هیراكلیتس، 544-478ق.م) فما كثف منه كان هواء، وما كثف من الهواء كان ماء، وما كثف من الماء كان تراباً؛ وقالت طائفة: ركن الهواء هو الأصل (نظریة آناكسیمنس، 585-528ق.م) فما سخف منه كان ناراً، وما كثف منه كان ماء؛ وقالت طائفة: ركن الماء هو الأصل (نظریة طالس، 624-546ق.م)؛ وقالت طائفة: ركن التراب هو الأصل؛ وقالت طائفة: الأصل أمر خامس، ویری ابن عربي أنه هو الصحیح ویسمیه الطبیعة. وربما كان قصده من الأصل الخامس نظریة آناكسیماندروس الذي یری أن الأصل الأول هو طبیعة غیر محدودة (ن.م، 1/138-139؛ للاطلاع علی النظریات المذكورة آنفاً، ظ: شرف، نخستین فیلسوفان یونان) ویری ابن عربي أن الطبیعة هي المعقول الوحید التي ظهر منها ركن النار والعناصر الأخری. وما هو مثیر في حدیث ابن عربي عن ذلك اعتقاده بأن الماء كان أول العناصر التي ظهرت، ویقول: كان الماء أول العناصر، ثم كان منه الهواء والنار، وبذلك یقترب من نظریة طالس، حیث یقول «ووافقنا علی ذلك بعض الناس من النظار في هذا الفن» (الفتوحات، 2/677).

ونظریة ابن عربي الأخری المثیرة التي یتحدث عنها في بحثه حول النكاح هي أن المعاني تنكح الأجسام نكاحاً غیبیاً معنویاً، فیتولد بینهما أحكامهما، ومن ذلك جمیع الصور الظاهرة في الهباء، والهباء لها كالمرأة، والصور لها كالبعل، وهذا من أعجب الأسرار أن یكون الولد عین الأب والأم، والأب والأم عین الولد، ولایكون هذا الأمر إلا في هذا النكاح (ن.م، 2/656).

ولابن عربي نظریة حول سلسلة وجود الأشیاء الأرضیة النزولیة تتضمن نقاطاً مثیرة، فبناء علی هذه النظریة، كان أول ما ظهر بعد نزول التكوین إلی الأرض هو المعادن ثم النبات ثم الحیوان وأخیراً الإنسان، وجعل آخر كل صنف من هذه المكونات أولاً الذي یلیها، فكان آخر المعادن وأول النبات الكمأة، وآخر النبات وأول الحیوان النخلة، وآخر الحیوان وأول الإنسان القرد («عقلة»، 93-94).

ویجدر هنا أن نورد خلاصة عن رؤیته العرفانیة للكون. فالعالم عبارة عن كل ما سوی الله، ولیس إلا الممكنات، سواء وجدت أولم توجد، فإن الإمكان حكم لها لازم في حال عدمها ووجودها، والإمكان للممكنات ذاتي لأن الترجیح لها لازم، فالمرجح معلوم ولهذا سمي عالماً من العلامة لأنه الدلیل علی المرجح، أي الله. ولیس العالم في حال وجوده سوی الصور التي قبلها العماء، وظهرت فیه، فالعالم إن نظرت حقیقته إنما هو عرض زائل، أي في حكم الزوال، فالجوهر الثابت هو العماء، ولیس إلا نَفَس الرحمن، والعالم جمیع ما ظهر فیه من الصور فهي أعراض فیه یمكن إزالتها، وتلك الصور هي الممكنات، ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة، تظهر فیها لعین الرائي، والحق تعالی هو بصر العالم فهو الرائي، فظهر العالم بین العماء وبین رؤیة الحق، فكان ماظهر دلیلاً علی الرائي، أما نضده علی الظهور والترتیب، فأرواح نوریة إلهیة في صور نوریة خلقیة إبداعیة في جوهر نَفَس هو العماء، من جملتها العقل الأول وهو القلم، ثم النفس الكلیة، وهو اللوح المحفوظ، ثم الجسم الكلي، ثم العرش ومقره وهو الماء الجامد والهواء والظلمة، ثم ملائكته، ثم الكرسي ثم ملائكته، ثم الأطلس، ثم ملائكته، ثم فلك المنازل، ثم الجنات بما فیها، ثم مایختص بها وبهذا الفلك من الكواكب، ثم الأرض، ثم الماء، ثم الهواء العنصري، ثم النار، ثم الدخان. وفتق سبع سموات: سماء القمر وسماء الكاتب (عطارد) وسماء الزهرة وسماء الشمس وسماء الأحمر (المریخ) وسماء المشتري وسماء المقاتل (زحل)، ثم أفلاكها المخلوقون منها، ثم ملائكة النار والماء والهواء والأرض، ثم المولدات المعدن والنبات والحیوان، ثم نشأة جسد الإنسان، ثم ما ظهر من أشخاص كل نوع من الحیوان والنبات والمعدن (الفتوحات، 3/443، أیضا ظ: 3/444-446).

والنقطة المثیرة عند ابن عربي في ذلك أنه یعتبر العالم أفضل مایمكن وأنه الأكمل من كل ناحیة، فهو یقول اعتماداً علی قول أبي حامد الغزالي: إنه لم یبق في الإمكان أبدع من هذا العالم، إن الله خلق العالم في غایة الإحكام والإتقان، وقد ورد في الخبر أنه تعالی خلق آدم علی صورته، والإنسان مجموع العالم، ولم یكن علمه بالعالم تعالی إلا علمه بنفسه، إذ لم یكن في الوجود إلا هو، فلابد أن یكون علی صورته، فلما أظهره في عینه كان مجلاه، فما رأی فیه إلاجماله، فأحب الجمال، فالعالم جمال الله، فهو الجمیل المحب للجمال، فمن أحب العالم بهذا النظر فقد أحبه بحب الله، وما أحب إلا جمال‌ الله، فإن جمال الصنعة، لایضاف إلیها، وإنما یضاف إلی صانعه فجمال العالم جمال ‌الله (ن.م، 2/345، أیضاً ظ: 3/449).

وتجدر الإشارة هنا إلی نظریة ابن عربي عن الزمان والمكان والدهر، فنظریته في هذا المضمار تشبه إلی حد بعید وتذكر بنظریة الفیلسوف الألماني عمانوئیل كانت (تـ 1804م) عن الزمان والمكان. یقول ابن عربي في ذلك: إن الزمان والمكان من لواحق الأجسام الطبیعیة، غیر أن الزمان أمر متوهم لاوجود له في العین تظهره حركات الأفلاك أو حركات المتحیزات، إذا اقترن بها السؤال بـ «متی»؟ فالحیز والزمان لاوجود له في العین أیضاً، وإنما الوجود لذوات المتحركات والساكنات، وأما المكان فهو ماتستقر علیه المتمكنات، لافیه، فالمكان أمر نسبي في عین موجودة یستقر علیه المتمكن، أو یقطعه بالانتقالات علیه، لافیه، وعلی هذا فالزمان والمكان راجعان إلی طریقة إدراك الإنسان، لا إلی نفسیهما، ولا إلی الذات الموصوفة التي هي أجسام الطبیعیة (ن.م، 2/458).

ویتعمق ابن عربي في هذا الموضوع في موضع آخر، فیقول: إن نسبة الأزل إلی الله نسبة الزمان إلینا، ونسبة الأزل نعت سلبي لاعین له، فلا یكون عن هذه الحقیقة وجود، فیكون الزمان للممكن نسبة متوهمة الوجود لاموجودة، لأن كل شيء تفرضه یصح عنه السؤال بـ «متی»، ومتی سؤال عن زمان، فلابد أن یكون الزمان أمراً متوهماً لاوجوداً، ثم إن لفظة الزمان اختلف الناس في معقولها ومدلولها، فالحكماء تطلقه بإزاء أمور مختلفة، وأكثرهم علی أنه مدة متوهمة تقطعها حركات الأفلاك، والمتكلمون یطلقونه بإزاء أمر آخر وهو مقارنة حادث لحادث یسأل عنه بمتی، والعرب تطلقه وترید به اللیل والنهار الظاهرین بحركة الشمس من طلوعها إلی غروبها، ویظهر الیوم وجود الحركة الكبری، وما في الوجود العیني إلا وجود المتحرك لاغیر، ما هو عین الزمان. وبناءً علی هذا فالزمان أمر متوهم لاحقیقة له (ن.م، 1/291-292).

ولابن عربي نظریة خاصة عن الدهر أیضاً، وهو في ذل یعتمد علی حدیث الرسول‌(ص): «لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» (فنسینك، 2/387)، فالدهر هویة الله، وحقیقة معقولة لكل داهر، وهو المعبر عنه بحضرة الدهر، وهو عین أبد الآبدین، فللدهر الأزل والأبد، أي له هذان الحكمان. ولكن معقولیة حكمه عند الأكثر في الأبد، ومن جعله الله فله حكم الأزل والأبد، وعین العالم لم یزل ثابت العین في الأزل الذي هو الدهر الأول ولما أفاده الحق الوجود ماطرأ علیه إلا حالة الوجود، فظهر في الوجود بالحقیقة التي كان علیها في حال العدم، فتعین بحال وجود العالم الطرف الأول المعبر عنه بالأزل، ولیس إلا الدهر، وتعین حال وجود العالم بنفسه وهو زمان الحال وهو الدهر عینه، ثم استمر له الوجود إلی غیرنهایة، فتعین الطرف الآخر وهو الأبد، ولیس إلا الدهر. فمن راعی هذه النس جعله دهوراً، وهو دهر واحد ولیس إلا عین الوجود الحق بأحكام أعیان الممكنات، أو ظهور الحق في صور الممكنات؛ فتعین أن الدهر هو الله. ثم إن تولید العالم إنما هو للزمان، وهو الدهر، یولج اللیل في النهار فیتناكحان فیلد النهار جمیع ما یظهر فیه من الأعیان القائمة بأنفسها، وغیر القائمة بأنفسها من الأجسام والجسمانیات والدرواح والروحانیات والأحوال. ویولج الله النهار في اللیل فیتناكحان فیلد اللیل مثل ما ولد النهار. فهذه مقالید الدهر الذي له مقالید السموات، ونكاحهما المقلاد، والإقلید الذي به یكون الفتح، فیظهر ما في خزائن الجود وهو الدهر، فهكذا وجد العالم عن نكاح دهري زماني لیلي ونهاري (الفتوحات، 4/265-266).

 

3. معرفي الإنسان العرفانیة

لیس جزافاً إذا قلنا إن مقولة الإنسان وصلته بالله أساس محور تفكیر ابن عربي العرفاني وتجربته، ثم إن المحور الأساس لمعرفة الإنسان عنده أیضاً نظریته ذات الأهمیة الكبیرة عن «الإنسان الكامل». فیری ابن عربي قبل كل شيء أن الإنسان هو القصد والهدف من خلق العالم وما فیه، فیبدأ الحدیث عن ظهوره وخلقه: لما شاء الحق سبحانه من حیث أسماؤه الحسنی التي لایبلغها الإحصاء أن یری أعیانها، وإن شئت قلت أن یری عینه، في كون جامع یحصر الأمر كله لكونه متصفاً بالوجود ویظهر به سره إلیه، فإن رؤیة الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤیته نفسه في أمر آخر یكون له كالمرآة، فإنه یظهر له نفسه في صورة یعطیها المحل المنظور فیه مما لم یكن یظهر له من غیر وجود هذا المحل ولاتجلیه له. وقد كان الحق أوجد العالم كله وهو وجود شبح مسوّیً لاروح فیه، كان كمرآة غیر مجلوة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوّی محلاً إلا ویقبل روحاً إلهیاً عبر عنه بالنفخ فیه [إشارة إلی الآیة: «فإذا سوّیته ونفخت فیه من روحي» (الحجر/15/29)]. وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصور المسواة لقبول الفیض التجلي الدائم الذي لم یزل ولایزال. وما بقي خارج الحقیقة الإلهیة إلا قابل، والقابل لایكون إلا من فیضه الأقدس، فالأمر كله منه ابتداؤه وانتهاؤه، «وإلیه یرجع الأمر كله»، كما ابتدأ منه، فاقتضی الأمر الإلهي جلاء مرآة العالم، فكان آدم عین جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة، وكانت الملائكة من بعض قوی تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في مصطلح القوم بـ «الإنسان الكبیر». فسمی الحق هذا الوجود إنساناً وخلیفة، وهذا الإنسان هو للحق بمنزلة إنسان العین من العین الذي یكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصر، فلهذا سمي إنسانا، فإنه به ینظر الحق إلی خلقه فیرحمهم، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة؛ قیام العالم بوجوده، فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم، فلایزال العالم محفوظاً مادام فیه هذا الإنسان الكامل (فصوص، 48-50).

الصفحة 1 من15

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: