ابن عربی
cgietitle
1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵
https://cgie.org.ir/ar/article/234032
1446/11/15 ۱۹:۳۸:۴۱
نشرت
3
ویبین ابن عربي ذلك أیضاً بروایة عن الشعراني حیث یقول: المراد من «إن الله علی كل شيء قدیر»، أي قدیر علی الأشیاء التي تضمنها علمه القدیم من الأعیان الثابتة في العلم الذي هو العدم الإضافي، ولیس المراد منه العدم المحض لأن العدم المحض لیس فیه ثبوت الأعیان، ویؤید هذا قول ابن عربي في لواقح الأنوار حول هذه الآیة: ما لم یتضمنه علم الله فلیس هو بشيء (ظ: الشعراني، 73). ویجدر القول هنا إن مفهوم «الشيء أو شيء ما» یعود في الفكر الفلسفي إلی الرواقیین حیث یعتبرون «الشيء أو شيء ما» أفضل جنس أو أسوأ جنس ما اشتمل علی الموجود والمعدوم والجسماني وغیر الجسماني (تسلر، III(1)/94-95). وأكبر الظن أن نظریة المعتزلة القائلة بأن «المعدوم شيء ما» تنبع من هذه النظریة.
والنقطة الثانیة ذات الأهمیة الكبیرة والمهمة التي یوردها ابن عربي عن الأعیان الثابتة أو «حقائق الممكنات الثابتة في علم الله أزلاً» أن الممكنات ترجح شیئية ثبوتها علی شیئیة وجودها. وحاجة الأسماء الإلهیة إلی التأثیر في أعیان الممكنات یدعو إلی ظهورها. ویقول ابن عربي في موضع فیما یتعلق بعلوم «القطب الثالث»: من علوم هذا القطب علم الافتقار إلی الله بالله، وهو علم شریف ما رأیت له ذائقاً لما ذقته، ومعنی هذا وسره أن الله أطلعه علی أن حاجة الأسماء إلی التأثیر في أعیان الممكنات أعظم من حاجة الممكنات إلی ظهور الأثر فیها، وذلك أن الأسماء الإلهیة في ظهور آثارها السلطان والعزة والممكنات قد یحصل فیها أثر تتضرر به، وقد تنتفع به، وهي علی خطر، فبقاؤها علی حالة العدم أحب إلیها لو خیرت فإنها في مشاهدة ثبوتیة حالیة ملتذة بالتذاذ ثبوتي «منعزلة كل حالة عن الحالة الأخری، لاتجمع الأحوال عین واحدة في حال الثبوت» فإنها تظهر في شیئیة الوجود في عین واحدة فزید مثلاً الصحیح في وقت، هو بعینه العلیل في وقت آخر، لكن في الثبوت لیس كذلك، وسبب ذلك أن الثبوت بسیط مفرد غیر قائم شيء بشيء، وفي الوجود لیس إلا التركیب، فحامل ومحمول، فالمحمول مرتبته في الوجود أبداً مثل منزلته في الثبوت في نعیم دائم، والحامل لیس كذلك، فإنه إن كان المحمول یوجب لذة، التذ الحامل، وإن أوجب ألماً تألم الحامل، ولم یكن له ذلك في حال الثبوت. ثم یضیف ابن عربي قائلاً: وهذا الفن من أكبر أسرار علم الله في الأشیاء شاهدته ذوقاً إلهیاً لأن من عباد الله من یطلعه الله كشفاً علی الأعیان الثبوتیة فیراها علی صورة ما ذكرناها (الفتوحات، 4/81).
والنقطة المهمة الأخری التي یوردها عن الارتباط بین الأعیان الثابتة وعلم الله: هي أن الله ما كتب إلا ما علم، ولا علم إلا ما شهد من صور المعلومات علی ما هي علیه في أنفسها، ما یتغیر منها وما لایتغیر یشهدها كلها في حال عدمها أو تنوعات تغییراتها إلی ما لایتناهی، فلایوجدها إلا كما هي علیه في نفسها، فمن هنا نعلم بعلم الله بالأشیاء معدومه وموجودها وواجبها وممكنها ومحالها. ثم یقول ابن عربي: والعلم تابع للمعلوم، وما هو المعلوم تابع للعلم، ویضیف: «وهذه مسألة عظیمة دقیقة ما في علمي أن أحداً نبه علیها… وما من أحد إذا تحققها یمك له إنكارها»، فهناك فرق بین كون الشيء موجوداً فیتقدم العلم وجوده، وبین كونه علی هذه الصور في حال عدمه الأزلي له، فهو مساوق للعلم الإلهي به ومتقدم علیه بالرتبة لأن الله أعطاه العلم به لذاته. ثم یستنتج ابن عربي من ذلك فیقولك لو لم یكن في هذا الكتاب إلا هذه المسألة، لكانت كافیة لكل صاحب نظر سدید وعقل سلیم (ن.م، 4/16).
ویجدر هنا أن تذكر العبارة التي أوردها أحد أفاضل تلامذة ابن عربي وأكثرهم وفاءً صدر الدین القونوي عن شیئیة الثبوت وشیئیة الوجود، وتشتمل علی جوهر نظریة أستاذه: یقول: إن الشیئیة تطلق شرعاً وتحقیقاً باعتبارین: أحدهما شیئیة الوجود والآخر شیئیة الثبوت، ونعني بشیئیة الوجود كون الشيء موجوداً بعینه عند نفسه وغیره، وهذا القسم معلوم عند الجمهور، وقریب المتناول، والشیئیة بالاعتبار الآخر المسماة بشیئیة الثبوت عبارة عن صورة معلومیة كل شيء فیما علم الحق أزلاً وأبداً علی وتیرة واحدة غیر متغیرة ولا متبدلة بل متمیزة عن غیرها من المعلومات بخصوصیتها. ولم یزل الحق عالماً بها ویتمیزها عن غیرها لایتجدد له بها علم ولایحدث بها حكم… بل إیجاده بقدرته التابعة لإرادته بعد علمه السابق الأزلي الظاهر حكم تخصیصه بإلارادة الموصوفة بالتخصیص. والشیئیة بهذا الاعتبار هي الشیئیة المخاطبة بالأمر التكویني المنبه علیها بقوله تعالی: «… قولنا لشيء إذا أردناه…» (النحل/16/40) (ظ: یحیی، الهامش، 174).
ثم یتطرق ابن عربي إلی نقاط مهمة جداً في حدیثه عن كیف ولماذا یختار الله وجود أو ثبوت شيء ویقول: وأما اختیار الوجود من الضدین فلأنه صفة الله، فاختار للممكنات صفته، ولایصح إلا هذا، فإن له الاقتدار، والاقتدار لایكون عنه إلا الوجود. أما اختیاره الإثبات فهو «عین» الشيء الذي یقول له «كن» لأنه في حال عدمه رجح له الإثبات علی النفي حتی لایزال ممكناً في حال عدمه، وهي مسألة دقیقة في الترجیح في حال العدم، وبذلك الافتقار الذاتي الذي في الممكن قبل الوجود إذا أراده الحق منه، وأسرع إلیه بحكم الإثبات الذي هو علیه (الفتوحات، 2/169-170). ویبین ابن عربي هذه النقطة في موضع آخر فیزیدها وضوحاً بقوله: لم یكن للأعیان في حال عدمها شيء من النسب إلا السمع، فكانت الأعیان مستعدة في ذواتها في حال عدمها لقبول الأمر الإلهي إذا ورد علیها بالوجود، فلما أراد بها الوجود قال لها كن فتكونت وظهرت في أعيانها (ن.م، 1/168).
یقول ابن سودكین نقلاً عن ابن عربي: زعمت طائفة أن العدم ممكن من ذاته ولیس بصحیح، وإنما الممكن مستحق الفقر من ذاته، فله الافتقار الذاتي لا العدم الذاتي، إذ لو كان العدم له ذاتیاً لما تحقق بالوجود أبداً، وإن أول ما أفاض الله علی وجود الأعیان الثابتة أزلاً التي لم توصف بالوجود، السمع، فكان السمع أول نسبة قامت بهم وتوجهت علیهم، فأول مخلوق كان السمع، ثم قال الله للعین الثابتة كوني فكانت (ظ: یحیی، الهامش، 244).
معرفة الله العرفانیة: معرفة الله عند ابن عربي نوع من معرفة الله العرفانیة الخاصة، تشترك في بعض الجوانب مع بعض معارف الله العرفانیة قبله. ومع ذلك فإن له خصائص بارزة تماماً تمیزه بین مشابهیه؛ فمعرفة الله عند ابن عربي في الحقیقة محور كل نظامه العرفاني، نظام یمكن أن تطلق علیه «الحكمة الإلهیة العرفانیة». وأول حدیث لابن عربي عن معرفة الله أنه لایعرف بالطرق والوصائل التي لدی الإنسان عادة لمعرفة شيء أو أمر من الأمور.
فابن عربي یطرح تبعاً للسنة الأرسطیة الأسئلة الأربعة الأساسیة للوصول إلی معرفة الله وهي عبارة عن: «هل» سؤال عن الوجود؛ و«ما» السؤال عن حقیقة ما، یعبر عنها بالماهیة؛ و«كیف» سؤال عن الحال؛ و«لِمَ» سؤال عن العلة والسبب. یقول ابن عربي: اختلف الناس فیما یصح أن یسأل عن الحق، واتفقوا علی كلمة «هل»، واختلفوا فیما بقي، فمنهم من منع ومنهم من أجاز، فالذي منع وهم الفلاسفة وطائفة من العارفین. فمنهم من منعها عقلاً، ومنهم من منعها شرعاً، فأما صورة منعهم عقلاً أنهم قالوا في مطلب «ما» أنه سؤال عن الماهیة، فهو سؤال عن الحد والتعریف، والحق سبحانه لا حد له، إذ كان الحد مركباً من جنس وفصل، وهذا ممنوع في حق الحق، لأن ذاته غیر مركبة من أمر یقع فیه الاشتراك، فیكون به في الجنس، وأمر یقع به الامتیاز، وما ثَمّ إلا الله والخلق، ولا مناسبة بین الله والالم ولا الصانع والمصنوع، فلامشاركة فلا جنس فلا فصل. وأما منعهم الكیفیة، وهو السؤال بكیف، فانقسموا أیضاً قسمین: فمن قائل بأنه سبحانه ماله كیفیة لأن الحال أمر معقول زائد علی كونه ذاتاً، وإذا قام بذاته أمر وجودي زائد علی ذاته أدی إلی وجود واجبي الوجود لذاتهما أزلاً، وقد قام الدلیل علی إحالة ذلك، وأنه لا واجب إلا هو لذاته، فاستحالت الكیفیة عقلاً. ومن قائل إن له كیفیة، ولكن لانعلمها فهي ممنوعة شرعاً لا عقلاً، لأنها خارجة عن الكیفیات المعقولة عندنا فلا تعلم، وأما السؤال بـ «لِمَ» فممنوع أیضاً، لأن أفعال الله لاتعلل، لأن العلة موجبة للفعل فیكون الحق داخلاً تحت موجب أوجب علیه هذا الفعل زائد علی ذاته. وأبطل غیره إطلاق «لِمَ» علی فعل الله شرعاً لأنه لاینسب إلیه ما لم ینسب إلی نفسه. وأما من أجاز السؤال عن الله بهذه المطالب الأربعة من العلماء فهم أهل الشرع منهم، وقالوا ماحجر الشرع علینا حجرناه، وما أوجب علینا أن ننخوض فیه خضنا فیه طاعة أیضاً علینا حجرناه، وما أوجب علینا أن نخوض فیه خضنا فیه طاعة أیضاً (الفتوحات، 1/193-194).
أما فیما یتعلق بمعرفة الله فیقول ابن عربي بعد أن یقسم معلومات الإنسان إلی أربعة أقسام. المعلول الأول الحق تعالی وهو الموصوف بالوجود المطلق لأنه لیس معلولاً لشيء ولاعلة بل هو موجود بذاته، والعلم به عبارة عن العلم بوجده، وجوده لیس غیر ذاته، لكن یعلم ما ینسب إلیه من الصفات، أعني صفات المعاني وهي صفات الكمال. وأما العلم بحقیقة ذاته فممنوع، فلاتعلم بدلیل ولا ببرهان عقلي، ولایأخذها حد وتعریف، لأنه سبحانه لایشبه شیئاً ولایشبهه شيء فكیف یعرف من یشبه الأشیاء من لایشبه شيء ولایشبه شیئاً؟ فمعرفتك به إنما هي أنه لیس كمثله شيء، ویحذركم الله نفسه. وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في ذات الله (ن.م، 1/118-119).
ویؤكد ابن عربي في بحث الحیرة من كتاب الفتوحات علی أن ذات الله لاتدرك وسبب الحیرة في علمنا بالله، طلبنا معرفة ذاته بأحد الطریقین: إما بطریق الأدلة العقلیة وإما بطریق تسمی المشاهدة، والدلیل العقلي یمنع من المشاهدة، والدلیل السمعي قد أوماً إلیها، وما صرح، والدلیل العقلي قد منع من إدراك حقیقة ذات الله من طریق الصفة الثبوتیة التي هو سبحانه في نفسه علیها. وما أدرك العقل بنظره إلا الصفات السلبیة لاغیر، وسمی هذا معرفة (1/270، أیضاً ظ: 1/160).
ویبین ابن عربي هذه المسألة في موضع آخر بشكل أكثر استدلالاً وعمقاً، فیقول: العلم درك المدرك علی ما هو علیه في نفسه؛ إذا كان دركه غیرممتنع، وأما ما یمتنع دركه فالعلم به هو لادركه، ولادركه من جهة اكتساب العقل، كما یعلمه غیره، ولكن دركه من جوده وكرمه ووهبه كما یعرفه العارفون أهل الشهود، لا من قوة العقل من حیث نشره. ولما ثبت من ناحیة أخری أن العلم بأمر ما، لایكون إلا بمعرفة قد تقدمت قبل هذه المعرفة بأمر آخر یكون بین المعروفین مناسبة لابد من ذلك. وقد ثبت أنه لامناسبة بین الله وبین خلقه من جهة المناسبة التي بین الأشیاء. وهي مناسبة الجنس أو النوع أو الشخص. فلیس لنا علم متقدم بشيء فندرك به ذات الحق لما بینهما من المناسبة. إن الله لایعلم بالدلیل أبداً، لكن یعلم أنه موجود، وأن العالم مفتقر إلیه افتقاراً ذاتیاً لامحیص له عنه البتة (ن.م، 1/91-92).
وأخیراً یشیر ابن عربي إلی طریقین للوصول إلی العلم بالله: الأول طریق الكشف، وهو علم ضروري یحصل عند الكشف، یجده الإنسان في نفسه لایقبل معه شبهة، ولایقدر علی دفعه، ولایعرف لذلك دلیلاً یستند إلیه سوی ما یجده في نفسه. والثاني طریق الفكر والاستدلال بالبرهان العقلي، وهذا الطریق دون الطریق الأول، فإن صاحب النظر في الدلیل قد تدخل علیه الشبه القادحة في دلیله، فیتكلف الكشف عنها والبحث عن وجه الحق في الأمر المطلوب (ن.م، 1/319). والنتیجة أن العلم الإلهي لایتمكن للعقل أن یصل إلیه من حیث نظره، ولا من جهة شهوده ولا من تجلیه، وإنما یعلم بإعلامه علی الوجه الذي یكون إعلامه لمن اختصه من صور عباده الظاهرة، فإن العلم بالله من حیث النظر والشهود علی السواء، مایضبط الناظر ولا المشاهد إلا الحیرة المحضة (ن.م،4/31). ثم یری ابن عربي أن البرهان المعتبر الوحید في الارتباط بوجود الله مایسمیه بالبرهان الوجودي. وهذا الاسم المبتكر یحتاج إلی مزید من الدقة لأن ابن عربي یعتمد علیه فیقول: لیس في البراهین أصح من برهان «إنّ»، وهو عند القائلین بالبراهین، البرهان الوجودي، ولیس یدل شيء منه علی معرفة هویة الحق وغایته علمه بنسبة الوجود إلیه (ن.ص).
رأینا أن ابن عربي لایعتقد بفائدة أي من القوی والوسائل التي یعلمها الإنسان لمعرفة الحق، وینكر خاصة قدرة العقل النظري علی ذلك والمهم هنا أنه یعتقد بـ «الحس» أو «الإدراك الحسي» فیما یمكن أن یسمی «نظریته في المعرفة» ویربطها بـ «البرهان الوجودي»، فیبدأ ابن عربي أولاً بإیراد وسائل الإدراك التي یملكها الإنسان: سمع وبصر وشم ولمس وطعم وعقل، وإدراك جمیعها للأشیاء ماعدا العقل ضروري، ولكن الأشیاء التي ارتبطت بها عادة لاتخطئ أبداً. ثم یشیر ابن عربي إلی أن جماعة من العقلاء (في المعنی التهكمي الذي أورده لهذه اللفظة) قدغلطوا، فنسبوا الغلط للحس ولیس كذلك، وإنما الغلط للحاكم، یعني العقل، أما إدراك العقل للمعقولات فهو علی قسمین: منه ضروري مثل سائر الإدراكات ومنه ما لیس بضروري بل یفتقر في علمه إلی أدوات ست، منها الحواس الخمس ومنها القوة المفكرة، وإنما غلطت جماعة في إدراك الحواس فنسبت إلیها الأغالیط، وذلك أنهم رأوا إذا كانوا في سفینة تجري بهم مع الساحل رأوا الساحل یجري مجری السفینة، فقد أعطاهم البصر ما لیس بحقیقة ولامعلوم أصلاً، فإنهم عالمون علماً ضروریاً أن الساحل لم یتحرك من مكانه ولایقدرون علی إنكار ماشاهدوه من التحرك، والأمر لیس كذلك، ولكن التصور والغلط وقع من الحاكم الذي هو العقل لامن الحواس، فإن الحواس إدراكها لما تعطیه حقیقتها ضروري، كما أن العقل فیما یدركه بالضرورة لایخطئ، وفیما یدركه بالحواس أو بالفكرة قد یغلط، فما غلط الحس قط (الفتوحات، 1/213-214، قا: 1/159).
ونجد إثباتاً لهذه المسألة وإیضاحاً عند ابن عربي فیما یتعلق بالبرهان الوجودي نقلاً عن تلمیذه ابن سودكین حیث یقول: لما قرئ علی ابن عربي «جلّ جناب الحق أن تدركه الأبصار فكیف البصائر»، قیل: فأیهم أشرف وأصدق؟ فقال: الحس أصدق فإنه لایغلط وذلك اتخذه العقل دلیلاً، فلایقوم الدلیل عند العاقل إلا ببرهان الحس وهو البرهان الوجودي، وكذلك الأولیات التي واسطة بین الحس والعقل، فلو جاز الغلط علی الحس لما صح أن یكون صادقاً فیما یدل علیه، والوسائط في تجلي الحق في دار الدنیا هي الحس والعقل والطور الذي هو وراء طور العقل (ظ: یحیی، الهامش، 262).
ویؤكد ابن عربي علی أن الله غني عن الدلالات علیه، فدلیل الحق علی الحق وجود الحق في عین وجود الممكن للممكن من حیث ما هو وجوده وجود عین الحق، لامن حیث أنه موجود عن الحق أو مفتقر إلی الحق (الفتوحات، 1/439).
ویتفق ابن عربي مع الفلاسفة في مسألة وجود الله وكیفیته، بأن ماهیة الله عین الوجود، ویورد نظریته الأساس عن علم الله بالتفصیل فیقول: أنكر بعض العلماء من القدماء تعلق العلم الإلهي بالتفصیل لعدم التناهي في ذلك، وكونه غیر داخل في الوجود، ورفع الإشكال في هذه المسألة عندنا أهل الكشف والوجود والإلقاء الإلهي: أن العلم نسبة بین العالم والمعلومات، وما ثَمّ إلا ذات الحق وهي عین وجوده، ولیس لوجوده مفتتح ولا منتهی فیكون له طرف، والمعلومات متعلّق وجوده، فتعلق ما لایتناهی وجوداً بما لایتناهی معلوماً ومقدوراً ومراداً. فإن الحق عین وجوده، لایتصف بالدخول في الوجود فیتناهی، فإنه كل ما دخل في الوجود فهو متناه والبارئ هو عین الوجود، ما هو داخل في الوجود لأن وجوده عین ماهیته (ن.م، 4/6).
ویجدر هنا أن نتحدث عن نظریة وحدة الوجود الشهیرة عند ابن عربي ومدرسته، فقد أثارت هذه النظریة ضجة كبیرة في العرفان الإسلامي، حتی لیمكن اعتبارها المحور الأساس القوي لاتجاه خاص في النظرة العرفانیة الإسلامیة للعالم. ولابد أولاً من الإشارة إلی أن ابن عربي لم یستعمل مصطلح «وحدة الوجود» مطلقاً، لكن عبد الرحمن الجامي (تـ 898هـ/1492م) یدعوه بقدوة القائلین بوحدة الوجود وأسوة الفائزین بشهود الحق في كل موجود (نفحات…، 546، نقد النصوص، 18). وكل ما نعرفه أن ابن تیمیة (تـ 728هـ/1328م) ربما استعمل مصطلح «وحدة الوجود» لأول مرة (1/80، 82)، ودعا ابن عربي وصدر الدین القونوي بـ «أهل الوحدة» (1/80).
ولابد هنا أن نشیر قبل كل شيء إلی ما قاله أحد أصحاب الرأي من شراح آراء ابن عربي حول الوجود ووحدته، ثم نری كیف یشرح ابن عربي معنی وحدة الوجود، فداود القیصري (تـ 751هـ/1350م) یشیر في مقدمة شرحه علی كتاب ابن عربي فصوص الحكم إلی إحدی أكثر أصول علم الوجود العرفاني أساساً وأهمها فیقولك الوجود هو الحق فهو من حیث هو هو، أي لابشرط شيء، غیر مقید بالإطلاق والتقیید، ولا هو كلي ولا جزئي ولا عام ولا خاص ولا واحد بالوحدة الزائدة علی ذاته، ولا كثیر، بل یلزمه هذه الأشیاء بحسب مراتبه ومقاماته، فیصیر هذا الوجود مطلقاً ومقیداً وكلیاً وجزئیاً وخاصاً وواحداً وكثیراً من غیر حصول التغییر في ذاته (ص 4).
ونجد عند ابن عربي عبارات مختلفة تبین میله إلی وحدة الوجود، فیری أن الوجود أصل الأصول، وهو الله، إذ به تظهر المراتب كلها وتتعین الحقائق (الفتوحات، 2/309). ویقول: إن الحق لم یزل في الدنیا متجلیاً للقلوب دائماً فتتنوع الخواطر في الإنسان عن التجلي الإلهي من حیث لایشع بذلك إلا أهل الله، كما أنهم یعلمون أن اختلاف الصور الظاهرة في الدنیا والآخرة في جمیع الموجودات، لیس غیر تنوعه، فهو الظاهر إذ هو عین كل شيء (ن.م، 3/470). ویری ابن عربي أیضاً أن العالم وجمیع الموجودات فیه هي مظاهر وتجلیات الحق. «إن العالم لیس إلا تجلیه في صور أعیانهم الثابتة التي یستحیل وجودها بدونه» (فصوص، 81). ویقول عن الآیة: «لیس كمثله شيء»: وإذا أخذنا الآیة علی نفي المِثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحیح إلی أن الله عین الأشیاء، والأشیاء محدودة وإن اختلفت حدودها، فالحق محدود بحد كل محدود، فما یُحدُّ شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمی المخلوقات والمبدَعات، ولو لم یكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عین الوجود (ن.م، 111). وكثیراً ما یورد ابن عربي عبارتي «وما في الوجود إلا هو» و«لیس في الوجود إلا الله» (مثلاً ظ: الفتوحات، 2/367، مخـ). ویقول في موضع آخر: أعلی ما یكون من النسب الإلهیة أن یكون الحق هو عین الوجود الذي استفادته الممكنات، فما ثَمّ إلا وجود عین الحق لاغیره، والتغییرات الظاهرة في هذه العین أحكام أعیان الممكنات، فلولا العین ماظهر الحكم، ولولا الممكن ما ظهر التغییر (ن.م، 3/211).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode