الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / ابن عربی /

فهرس الموضوعات

ابن عربی

ابن عربی

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

ویبحث ابن عربي حول هذه النظریة في أحد المواضع بشكل آخر فیقول: فما في الكون إلا أسماؤه ونعوته. وتلك الأسماء حكم آثار استعداد أعیان الممكنات فیه، وهو سر خفي لایعرفه إلا من عرف أن الله هو عین الوجود. «لیس كمثله شيء»، أي لیس في الوجود شيء یماثل الحق أو هو مثلّ للحق، إذ الوجود لیس غیر عین الحق، فما في الوجود شيء سواه یكون مثلاً له أو خلافاً، هذا ما لایتصور، فإن قلت: فهذه الكثرة المشهودة، قلنا: هي نسب أحكام استعدادات الممكنات في عین الوجود الحق، والنسب لیست أعیاناً ولا أشیاء، وإنما هي أمور عدمیة بالنظر إلی حقائق النسب. فإذا لم یكن في الوجود شيء سواه، فلیس مثله شيء، فافهم وتحقق ما أشرنا إلیه، فإن أعیان الممكنات ما استفادت إلا الوجود، والوجود لیس غیر عین الحق لأنه یستحیل أن یكون أمراً زائداً، لیس الحق لما یعطیه الدلیل الواضح، فما ظهر في الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق، وهو واحد، فلیس ثَمّ شيء هو له مثل، لأنه لایصح أن یكون ثَمّ وجودان مختلفان أو متماثلان. فالجمع علی الحقیقة كما قررناه أن تجمع الوجود علیه، فیكون هو عین الوجود، وتجمع حكم ما ظهر من العدد والتفرقة علی أعیان الممكنات أنها عین استعداداتها (ن.م، 2/516-517).

ویورد ابن عربي نظریة حول ذلك تشبه إلی حد بعید المفهوم المصطلحي للاكونیة عند هیغل، یستعمله في فلسفة إسبینوزا، أي نفي الواقعیة الحقیقیة للعالم مقابل الحق. فیقول ابن عربي بصراحة: والعالم علی أصله في العدم، والحكم له فیما ظهر من وجود الحق، فما ثَمّ إلا الحق مجملاً وتفصیلاً (ن.م، 4/92). ویبسط هذه النظریة في الفصوص فیقول: إن المقول علیه «سوی الحق» أو مسمی العالم هو بالنسبة إلی الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله، وهو عین نسبة الوجود إلی العالم لأن الظل موجود بلاشك في الحس، فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمی بالعالم إنما هو أعیان الممكنات، علیها امتد هذا الظل، فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعیان الممكنات، فمن حیث هویة الحق هو وجوده ومن حیث اختلاف الصور فیه هو أعیان الممكنات، فمن حیث أحدیة كونه ظلاً هو الحق، لأنه الواحد الأحد، ومن حیث كثرة الصور هو العالم، فالعالم متوهَّم، ماله وجود حقیقي، وهذا معنی الخیال، أي خیّل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق، ولیس كذلك في نفس الأمر (ص 101-103).

ومایلفت النظر في هذا المجال أن ابن عربي یتحدث عن صلة الأشیاء بالله، والله بالأشیاء، وحینما یتطرق إلی الحدیث عن «الفتوح» یعتبر أن فتوح المكاشفة هو سبب معرفة الله ویقول: إن الحق أجل وأعلی من أن یعرف في نفسه، لكن یعرف في الأشیاء، والأشیاء علی الحق كالستور، فإذا رفعت وقع الكشف لما وراءها، فكانت المكاشفة، فیری المكاشف الحق في الأشیاء كشفاً. فلایعرف الحق في الأشیاء إلا مع ظهوورالأشیاء وارتفاع حكمها، والذین لهم فتوح المكاشفة لاتقع أعینهم في الأشیاء إلا علی الحق، فمنهم من یری الحق في الأشیاء، ومنهم من یری الأشیاء والحق فیها، وبینهما فرقان: الأول ماتقع عینه عند الفتح إلا علی الحق، فیراه في الأشیاء، والثاني تقع عینه علی الأشیاء، فیری الحق فیها (الفتوحات، 2/507-508). فنحن نری في هذه الأقوال نماذج بارزة واضحة عن نظریة وحدة الوجود عند ابن عربي، «إذن لابد أن یكنون الحق عین كل شيء، أي عین كل ما یفتقر إلیه، وأما وصفه بالغناء عن العالم إنما هو لم یتوهَّم أن الله تعالی لیس عین العالم» (ن.م، 4/102)؛ وكذلك ما تتضمنه هذه الأبیات من معان دقیقة وعمیقه:

أین الفرار وما في الكون إلا هو وهل یجوز علیه هل هو أو ماهو

إن قلت هل فشهود العین ینكره أو قلت ما هو فما هو لیس إلا هو

فـلا تـفرّ ولاتركــن إلی طلــب فـكل شــيء تراه ذلك الـلـــه

(ن.م، 2/156). وقول ابن عربي الفصل هو «سبحان من أظهر الأشیاء وهو عینها» (ن.م، 2/459).

لنظرة «وحدة الوجود» العالمیة ماض طویل في تاریخ الفكر الفلسفي والعرفاني. وقد أطلق فیما بعد علی مثل هذه النظرة اسم «الكل إله» أو «الكل في الإله» ویعني المصطلح الأول وحدة الله والعالم والثاني أن العالم منظوٍ في الله، والله أكثر من اعلام. وقد وضع المصطلح الأول العالم الدیني الإنجلیزي جان تولاند (تـ 1722م) والمصطلح الثاني الفیلسوف الألماني كارل كریستیان فریدریش كراوزه (تـ 1832م). ونجد نظریة وحدة الوجود هذه قبل ابن عربي – مع شبه كبیر – عند الفیلسوف الإیرلندي یوهانس سكوتوس إریوجنا خاصة (تـ 877م). ونری أبرز نموذج لها في الفترات الحدیثة عند الفیلسوف الهولندي الشهیر باروخ إسبینوزا (تـ 1677م) حیث یقول بصراحة: كل ما هو موجود في الله ولایوجد أو یُدرك بدونه (الكتاب I، القضیة 15). ویمكن اعتبار ابن عربي من القائلین بوحدة الوجود بالنظر للمصطلحین.

التوحید: ترد آراء ابن عربي حول التوحید في مصنفاته متفرقة بأشكال مختلفة وتتعلق بمسائل متباینة. ولكل من هذه النظریات فما یتعلق بمسائلها الخاصة جوانب یتطلب البحث فیها وشرح كل منها دراسة خاصة. وتبدو مسألة التوحید عند ابن عربي معقدة وصعبة فیما یتصل بنظریته الأساسیة وحدة الوجود. ذلك أن ابن عربي كما سبقت الإشارة إلیه یتحدث في كتبه عن مسألة التوحید من جوانب مختلفة، ولایمكننا هنا أن نتطرق بالحدیث عنها جمیعاً، فلابد أن نطلع القارئ علی بعض خصائصها. یبدأ ابن عربي أولاً بتعریف التوحید ثم یشرحه قائلاً: التوحید التعمل في حصول العلم في نفس الإنسان أو الطالب بأن الله الذي أوجده واحد لاشریك له في ألوهیته، والوحدة صفة الحق، والاسم منه الأحد والواحد، أما الوحدانیة فقیام الوحدة بالواحد، من حیث إنها لاتعقل إلا بقیامها بالواحد، وإن كانت نسبة، وهي نسبة تنزیه، فهذا معنی التوحید، كالتجرید والتفرید، وهو التعمل في حصول الانفراد الذي إذا نسب إلی الموصوف به سمي الموصوف به فرداً أو منفرداً أو متفرداً إذا سمي به فالتوحید نسبة فعل من الموحد یحصل في نفس العالم به أن الله واحد. قال تعالی: «لوكان فیهما آلهة إلا الله لفسدتا» (الأنبیاء/21/22)، وقد وجد الصلاح وهو بقاء العالم ووجوده، فدل علی أن الموجد له لو لم یكن واحداً ما صح وجود العالم. هذا دلیل الحق فیه علی أحدیته، وطابق الدلیل العقلي في ذلك، ولو كان غیر هذا من الأدلة أدل منه علیه لعدل إلیه، وجاء منه ولكنه لم یفعل (الفتوحات، 2/288-289).

ثم یضیف ابن عربي: أن الكلام في توحید الله من كونه إلهاً فرع عن إثبات وجوده، إما إثبات وجوده فمدرك بضرورة العقل لوجود ترجیح الممكن بأحد الحكمین. ویقصد ابن عربي أنه لابد أن یكون هناك من یرجح الوجود العیني الممكن علی إمكانه المحض ویخرجه من حالة الإمكان المحض، وعلی حد تعبیره أن یلبسه رداء الوجود المعین، فیقول: ولنا في توحید الله طریقان: الطریق الواحدة أن یقال للمشرك قد اجتمعنا في العلم بأن ثَمّ مخصصاً، وقد ثبت عینه، وأقل مایكون واحداً، فمن زاد علی الواحد فلیدل علیه، فعلیك بالدلیل علی ثبوت الزائد الذي جعلته شریكاً. والطریقة الثانیة قوله: «لوكان فیهما آلهة إلا الله لفسدتا»، هذه مقدمة، والمقدمة الأخری السماء والأرض، وأعني بهما كل ما سوی الله مافسدتا، وهذه هي المقدمة الأخری، والجامع بین المقدمتین – وهو الرابط – الفساد، فانتجنا أحدیة المخصِّص وهي المطلوب. وذلك لأنه لوكان ثَمّ إله زائد علی الواحد، لم یخل هذا الزائد، إما أن یتقافي الإرادة أو یختلفا، ولو اتفقا فلیس بمحال أن یفرض الخلاف لننظر من تنفذ إرادته منهما؛ أما إذا اختلفا حقیقة أو فرضاً في الإرادة، فلایخلو إما أن ینفذ في الممكن حكم إرادتهما معاً، وهو محال لأن الممكن لایقبل الضدین، وإما أن لاینفذ وإما أن ینفذ حكم إرادة أحدهما دون الآخر، فإن لم ینفذ حكم إرادتهما فلیس واحد منهما بإله، وقد وقع الترجیح، فلابد أن یكون أحدهما نافذ الإرادة، وقصر الآخر عن تنفیذ إرادته فحصل العجز، والإله لیس بعاجز، فالإله من نفت إرادته، وهو الله الواحد لاشریك له. وهذه الأدلة وأمثالها إنما المطلوب بها توحید الله، أي ما ثَمّ إله آخر زائد علی هذا الواحد، وأما أحدیة الذات في نفسها فلاتعرف لها ماهیة حتی یحكم علیها لأنها لاتشبه شیئاً من العالم ولایشبهها شيء. ثم یقول ابن عربي: وأما الموحد بنور الإیمان الزائد وعلی نور العقل، وهو نور لایحصل عن دلیل أصلاً، وإنما یكون عن عنایة إلهیة بمن وجد عنده، ومتعلقه صدق المخبر فیما أخبر عن نفسه خاصة لیس متعلق الإیمان أكثر من هذا، فإن كشف متعلق الخبر بنور آخر لیس نور الإیمان، لكن لایفارقه نور الإیمان وذلك النور هو الذي یكشف له عن أحدیة نفسه، وأحدیة كل موجود التي بها یتمیز عن غیره، سواء كانت ثم صفة یقع فیها الاشتراك، أو لا یكون لابد من أحدیة تخصه یقع بها الامتیاز له عن غیره، ففلما كشف للعبد هذا النور «أحدیة الموجودات» علم قطعاً بهذا النور أن الله تعالی له أحدیة تخصه، فإما أن تكون عینه فیكون أحدي الذات، أحدي المرتبة وهي عینها، وإما أن یكون أحدیة المرتبة فیوافق الكشف الدلیل النظري، ویعلم قطعاً أن الذات علی أحدیة تخصّها هي عینها، وهذا معنی قول أبي العتاهیة:

وفي كل شيء له آیة تدل علی أنه واحد وتلك الآیة أحدیة كل معلوم سواء كان كثیراً أو غیر كثیر، فإن للكثرة أحدیة الكثرة لاتكون لغیرها البتة، والأحدیة صفة تنزیه علی الحقیقة فلاتكون بجعل جاعل. وهنا یشیر ابن عربي إلی نقطة مثیرة فیقول: فأهل طریق الله رأوا أن التوحید إذا ثبت أنه عین الشرك، فإن الواحد لنفسه لایكون واحداً بإثباتك إیّاه واحداً، فما أنت أثبتّه، بل هو ثابت لنفسه وأنت علمت أنه واحد لا أنك أثبتّ أنه واحد. فلهذا قال أحد أصحابنا: إذ كل من وحّده جاحد، لأن الواحد لایوحّد، لأنه لایقبل ذلك، فلو قبل ذلك لكان اثنین: وحدة في نفسه، ووحدة الموحد التي أثبتها له. فیكون واحداً بنفسه، وواحداً بإثبات الوحدة له من غیره، فیكون ذا وحدتین، فینتفي كونه واحداً، وكل أمر لایصح إثباته إلا بنفسه فلا یكون له ثبوت أصلاً (ن.م، 2/289-290).

ثم یستنتج ابن عربي قائلاً: فالتوحید علی الحقیقة منا له سكوت، خاصة ظاهراً وباطناً. فمهما تكلم (أي قال الله «كن») أوجد، وإذا أوجد أشرك (جعل لنفسه شریكاً)، والسكوت صفة عدمیة، فیبقی توحید الوجد له، وما دخل الشرك في توحیده إلا بإیجاد الخلق، لأن الخلق استدعی بحقائقه نسباً مختلفة تطلب الكثرة في الحكم، وإن كانت العین واحدة فما طرأت الآفة في التوحید إلا من الإیجاد، فالتوحید جنی علی نفسه، لم تجن علیه الموجودات، ثم یستنتج ابن عربي قائلاً: إن هذا هو علم التوحید الوهبي الذي لایدرك بالنظر الفكري، وكل توحید یعطیه النظر الفكري، هو كسبي، عند العارفین (ن.ص).

ونجد في موضع آخر بیاناً أوضح لهذه الأفكار العرفانیة الجریئة عند ابن عربي في حدیثه عن معیة الحق مع العالم: لما كان الدوام لمعیة الحق مع العالم لم یزل حكم الجمع في الوجود وفي العدم، فإنه مع الممكن في حال عدمه كما هو معه في حال وجوده، فأینما كن فالله معنا، فالتوحید معقول غیر موجود، والجمع موجود ومعقول ولو أراد الحق التوحید، ما أوجد العالم، وهو یعلم أنه إذا أوجده أشرك به ثم أمره بتوحیده، فما عاد علیه إلا فعله. فقد كان ولاشيء معه یتصف بالوجود، فهو أول من سنّ الشرك، لأنه أشرك معه العالم في الوجود، فما فتح العالم عینه ولا أبصر نفسه إلا شریكاً في الوجود، فلیس له في التوحید ذوق، فمن أین یعرفه، فلما قیل له وحّد خالقك، لم یفهم هذا الخطاب، فكرّر علیه وأكد، وقیل له عن الواحد صدرت، فقال العالم ما أدري ماتقول، لا عقل إلا الاشتراك فإن صدوري عن ذات واحدة لانسبة بیني وبینها لایصح، فلابد أن یكون مع نسبة علمیة أو نسبة قادریة، وإن كان قادراً فلابد من الاشتراك الثاني، وهو أن یكون لي من ذاتي القبول لاقتداره وتأثیره في وجودي، فما صدرت عن واحد وإنما صدرت عن ذات قادرة في شيء قابل لأثر اقتداره، أو في مذهب أصحاب العلل، عن حكم علة وقبول المعلول، فلم أدر للوحدة طعماً في الوجود (ن.م، 4/307).

ویؤكد ابن عربي ثانیة علی عجز العقل والنظر الفكري وخطئهما، ویصل في موضع آخر إلی هذه النتیجة العرفانیة فیقول فلا علم إلا العلم المأخوذ عن الله، فهو العالم وحده، والمعلم الذي لایدخل علی المتعلم منه فیما یأخذه عنه شبهة، ونحن المقلدون له، والذي عنده حق، فنحن في تقلیدنا إیاه فیما أعلمنا به أولی باسم العلماء من أصحاب النظر الفكري الذین قلدوه فیما أعطاهم. لاجرم أنهم لایزالون مختلفین في العلم بالله. ونحن لانقلد في علمنا بالله وبغیر الله إلا الله، فنحن بحسب ما یلقي إلینا في حق نفسه قلنا بها حیث خاطبنا، لانتعدی ذلك الموضع. وهذا طریق العلم والنجاة في الدنیا والآخرة، وهي طریق النبیین والقائلین بالفیض الإلهي، فإذا جاءك من الله علم، فلاتدخله في میزان الفكر ولاتجعل لعقلك سبیلاً إلی ذلك، فتهلك من ساعتك، فإن العلم الإلهي لایدخل في المیزان، لأنه الواضع له، فكیف یدخل واضعه تحت حكمه (ن.م، 2/290-291). ویشیر ابن عربي في التجلیات الإلهیة (ص 353-354) إلی ثلاثة أنواع من التوحید فیقول: التوحید علم ثم حال ثم علم، فالعلم الأول توحید الدلیل، وهو توحید العامة، أي توحید علماء الرسوم؛ وتوحید الحال أن یكون الحق نعتك فیكون هو، لا أنت في أنت: «وما رمیت إذ رمیت ولكن الله رمی» (الأنفال/8/17)؛ والعلم الثاني بعد الحال توحید المشاهدة (قا: الفتوحات، 2/444، حیث یفسر هذه الآیة بقوله: ما أنت إذ أنت لكن الله أنت).

ویبیّن ابن سودكین تلمیذ ابن عربي ما سمعه منه في تجلي التوحید قائلاً: إن التوحید الأول هو الذي یثبت بالدلیل، وهو إسناد الموجودات إلی الله تعالی، وكونه أحديّ الذات ولیس بجسم و«لیس كمثهل شيء» كل هذا یعطیه الدلیل. فهذا القدر من التوحید یشارك فیه المستدل من طریق استدلاله للمكاشف. وأما حال التوحید فهو أن یتحلی العالم بما علمه، فتكون علومه وصفاً له لازماً، لكن بحیث أن لایقال: إن أوصافي تناسب أوصاف الحق، بحیث یستدل بالمشاهدة علی الغائب. والعلم الثاني، هو أن یدرك المكاشف بكشفه جمیع ما أدركه صاحب الدلیل بدلیله وزیادة، والزیادة هنا هي المناسبة التي منعها الدلیل أولاً، ویثبت صاحب هذا المقام الثالث جمیع ما أثبته صاحب الدلیل، وینفي جمیع ما أثبته صاحب الدلیل، أي یثبت وجوده وإمكانه ثم ینفي وجوده وإمكانه، ویعرف بأي وجه ینسب إذا نسب، وبأي وجه یرفع النسب إذا رفعها، وصاحب الدلیل إما أن یثبتها مطلقاً، أو أن یرفعها مطلقاً. وصاحب هذا المقام، أي المحقق، هو الذي یعرف استواء الحق علی العرش ونزوله إلی سماء الدنیا وتلبسه بكل شيء وتنزیهه عن كل شيء، وهذا منتهی علم العارفین، وعلامة المتحقق به أن لاینكر شیئاً أبداً، إلا ما أنكره الشرع بلسان الشرع لابلسان الحقیقة (ظ: یحیی، الهامش، 353).

وهنا نلاحظ نقطتین مهمتین في آراء ابن عربي تعكسان صراحته وجرأته في تفكیره وتجربته العرفانیتین، حیث یقول: والتوحید الذي وصفه لنا الشارع، ولیس التوحید الذي أدركه العقل… فوالله لولا الشریعة التي جاء بالإخبار الإلهي، ما عرف الله أحد، ولو بقینا مع الأدلة العقلیة التي دلت فيزعم العقلاء علی العلم بذاته بأنه لیس كذا ولیس كذا، ما أحبه مخلوق، فلما جاء الخبر الإلهي بألسنة الشرائع بأنه كذا، من أمور تناقض ظواهرها الأدلة العقلیة أحببناه لهذه الصفات الثبوتیة (الفتوحات، 2/326).

ثم إن ابن عربي یری في لحظة تأجج تجربته العرفانیة وبحثه عن الحق، أن الله بیت الموجودات كلها، ویسمی قلب العبد بیت الحق. ولایری في العالم شیئاً غیر الواقع وحقیقة الحق، فلایری العارف شیئاً إلا فیه، فهو ظرف إحاطة لكل شيء، وكیف لایكون، وقد نبه علی ذلك باسمه الدهر، فدخل فیه كل ما سوی الله، فمن رأی شیئاً فما رآه إلا فیه، ولذلك فالحق بیت الموجودات كلها، لأنه الوجود، وقلب العبد بیت الحق لأنه وسعه، ولكن قلب المؤمن لاغیر:

فمن كان بیت الحق فالحق بیته فعین وجود الحق عین الكوائن (ن.م، 4/7). ویتعهد ابن عربي تنمیة بذرة هذه النظریة بشكل آخر فتبدو صراحته وجرأته الفكریة في ثمرة أخری بقوله: فالحق عین الوجود، والخلق قیده بالإطلاق، فالخلق قید مقید، فلاحكم إلا له وبه، والحق الحاكم، ولایحكم إلا بالحق، فحق الحق عین الخلق، وما سمي خلقاً إلا بما خلق منه، فالخلق جدید، وفیه حقیقة اختلاق، لأنك تنظر إلیه من وجه فتقول هو حق، وتنظر إلیه من وجه فتقول هو خلق، وهو في نفسه لاحق ولاغیر حق، فإطلاق الحق علیه والخلق كأنه اختلاق، فغلب علیه هذا الحكم فسمي خلقاً، وانفرد الحق باسم الحق إذ كان له وجوب الوجود بنفسه، وكان للخلق وجوب الوجود به، لا أقول بغیره، لأن الغیر ماله عین، وإن كان له حكم كالنسب لاعین لها، ولها الحكم (ن.م، 4/279). وآخر حدیث مثیر في هذا الخصوص عند ابن عربي ینبع كما یبدو من تجربته العرفانیة الشخصیة الخاصي وهو قوله: وقد رأینا ذلك وتحققناه رؤیة عین، فهو الأول والآخر من عین واحدة، وهو في التجلي، الأول لاغیره، وهو في التجلي، الآخر لاغیره، فقل إله، وقل عالم وقل أنا، وقل أنت، وقل هو، یقول عنك أنت، وأنت تقول عنك أنا، فأنا عین أنت، وعین هو وما هو أنا عین أینت، وأنت تقول عنك أنا، فأنا عین أنت، وعین هو وما هو أن عین أنت، ولا عین هو، فاختلفت النسب، وهنا بحور طامیة لاقعرلها، ولاساحل، وعزة ربي لو عرفتم ما فهتُ به في هذه الشذور لطربتم طب الأبد، ولخفتم الخوف الذي لایكون معه أمن لأحد (ن.م، 2/278).

ویعرّف ابن عربي وحدة الحق المطلقة فیما یتعلق بهذه النظریات، بجامع الأضداد، وهذه النظریة تذكرنا بنظریة مماثلة للفیلسوف المسیحي الكبیر في نهایة القرون الوسطی نیكولاوس كوسانوس (تـ 1464م/868هـ) وقد عاش بعد ابن عربي بـ 200 سنة. وأورد نظریة «تزامن الأضداد» في الله (عنه ظ: شرف، جهان وإنسان در فلسفه، 1/162 وما بعدها)، حیث یشاهد بضورة عامة تشابه كبیر بین آراء نیكولاوس وابن عربي. فابن عربي یتحدث عن جمع الأضداد أثناء بحثه المهم في «الخیال» و«قوة الخیال» فالجمع بین الضدین أو الأضداد في عین واحدة ومن جهة واحدة لیس صحیحاً في حكم العقل، إلا أن ابن عربي یقول: إن في الإنسان قوة إدراك أخری غیر العقل وأحكامه هو الجمع بین الأضداد في عین واحدة ووجه واحد، وهو لایقبلها فحسب، بل یعتبرها ضروریة. ومیدان نشاط هذه القوة ساحة الخیال التي لا طریق لحكم العقل إلیها، ونجد هذه النقطة عند ابن عربي في الفصل المتعلق بإیضاح «حضرة حضرات جامع الأسماء الحسنی» عن الاسم الإلهي «القوي المتین»، فیقول هناك: إن الله ذو القوة لما في بعض الممكنات أو فیها مطلقاً من العزة هي عدم القبول للأضداد، فكان من القوة خلق «عالم الخیال» لیظهر فیه الجمع بین الأضداد، لأن الحس والعقل یمتنع عندهما الجمع بین الضدین، والخیال لایمتنع عنده ذلك. فما ظهر سلطان القوی ولاقوته إلا في خلق القوة المتخیلة وعالم الخیال، فإنه أقرب في الدلالة علی الحق، فإن الحق هو الأول والآخر والظاهر والباطن، قیل لأبي سعید الخراز: بم عرفت الله؟ قال: بجمعه بین الضدین، ثم تلی هذه الآیة: «هو الأول والآخر والظاهر والباطن» وإن لم تكن من عین واحدة، وإلا فما فیها فائدة، فإن النسب لاتنكر، فإن الشخص الواحد قد تكثر نسبه فیكون أباً وابناً وعماً وخالاً وأمثال ذلك وهو هو لاغیره (ابن عربي، ن.م، 4/325). وقد استشهد ابن عربي مراراً بكلام أبي سعید الخراز في طیات كتبه، فقال في موضع: قال الخراز - هو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ینطق عن نفسه – بأن الله لایعرف إلا بجمعه بین الأضداد في الحكم علیه بها، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، فهو عین ما ظهر وهو عین ما بطن في حال ظهوره، وهو المسمی أبا سعید الخراز وغیر ذلك من أسماء المحدثات، فیقول الباطن: لا، إذا قال الظاهر: أنا، ویقول الظاهر: لا، إذا قال الباطن: أنا (فصوص، 77، الفتوحات، 2/40-41).

الصفحة 1 من15

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: