الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / ابن عربی /

فهرس الموضوعات

ابن عربی

ابن عربی

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

وهكذا نری أن الخیال عند ابن عربي لیس ذا أهمیة خاصة في نظریة ظهور العالم ومعرفته فحسب، بل ومن ناحیة نظریة المعرفة أیضاً، وفیما یلي نماذج من نظریاته في ذلك: الخیال یقبل ما له صورة، ویصور ما لیست له صورة، فكان أوسع من الأرواح في التنوع في الصور (ن.م، 1/285). ویؤكد ابن عربي دائماً علی أن نشاط الخیال لایتم إلا بالارتباط مع الصور المحسوسة، فهو لایمسك إلا ماله صورة محسوسة، أو مركب من إجزاء محسوسة تركبها القوة المصورة، فتعطي صورة لم یكن لها في الحس وجود أصلاً، لكن أجزاء ماتركبت منه محسوسة لهذا الرائي بلا شك (ن.م، 1/163). والخیال فقیر إلی الحواس الخمس، فلایتخیل أصلاً إلا ما تعطیه هذه القوی، ثم إن القوة الحافة إن لم تمسك علی الخیال ما حصل عنده من هذه القوی، لایبقی في الخیال منها شيء فهو فقیر إلی الحواس، وإلی القوة الحافظة، ثم إن القوة الحافظة قد تطرأ علیها موانع تحول بینها وبین الخیال، فیفوت الخیال أمور كثیرة لوجود المانع، فافتقر إلی القوة المذكرة فتذكره ما غاب عنه فهي معینة للقوة الحافظة علی ذلك (ن.م، 1/289).

ویورد ابن عربي مثالاً مثیراً للتعریف بخصائص الخیال: فالخیال من موالي النفس الناطقة، فهي بمنزلة المولی من السید، وللمولی في السید نوع من أنواع التحكم من أجل الملكیة، فإنه به وبأمثاله من الموالي یصح كون السید مالكاً وملكاً فلما لم یصح للسید هذه المنزلة إلا بالمولی، كان له بذلك ید هي التي تعطیه بعض التحكم في السید، وكذلك الخیال، فقوة الخیال أنه یصور النفس علی حسب ما یریده من الصور، ولیس للخیال قوة تخرجه عن درجة المحسوسات، لأنه ما تولد ولا ظهر عینه إلا من الحس. فكل تصرف یتصرفه الخیال في المعدومات والموجودات ومما له عین في الوجود ولا عین له، فإنه یصوره بصورة محسوسة له عین في الوجود، أو یصور صورة ما لها بالمجموع عین في الوجود، ولكن أجزاء تلك الصورة كلها أجزاء وجودیة محسوسة، لایمكن له أن یصورها إلا علی هذا الحد، فقد جمع الخیال بین الإطلاق العام الذي لا إطلاق یشبهه، إذ أن له التصرف العام في الواجب والمحال والجائز، وما ثم من له حكم هذا الإطلاق، وهذا هو تصرف الحق في المعلومات بوساطة هذه القوة، كما أن له التقیید الخاص المنحصر، فلا یقدر أن یصور أمراً من الأمور إلا في صورة حسیة، كانت موجودة تلك الصورة المحسوسة أو لم تكن، لكن لابد من أجزاء الصورة المتخیلة أن تكون كلها كما ذكرنا موجودة في المحسوسات، أي قد أخذها من الحس حین أدركها متفرقة، لكن المجموع قد لایكون في الوجود (ن.م، 3/470). ویری ابن عربي أن أهم خصائص الخیال هو الجمع بین الأضداد. لما في بعض الممكنات أو فیها مطلقاً من العزة، وهي عدم القبول للأضداد، فكان من القوة خلق عالم الخیال لیظهر فیه الجمع بین الأضداد لأن الحس والعقل یمتنع عندهما الجمع بین الضدین، والخیال لایمتنع عنده ذلك، فما ظهر سلطان القوی ولاقوته إلا في خلق القوة المتخیلة، وعالم الخیال، فإنه أقرب في الدلالة علی الحق (ن.م، 4/325).

وكما أشرنا فابن عربي یعتبر الحلم والرؤيا أوسع مجالات عمل الخیال وإبداعه، فهو یری أن للرؤیا مكاناً ومحلاً وحالاً. فحالها النوم، وهو الغیبة عن المحسوسات الظاهرة الموجبة للراحة لأجل التعب الذي كانت علیه هذه النشأة في حال الیقظة من الحركة. والنوم علی قسمین، قسم انتقال، وفیه بعض راحة أو نیل غرض أو زیادة تعب. والقسم الآخر قسم راحة خاصة، وهو النوم الخالص الصحیح. فأما قسم الانتقال فهو النوم الذي یكون معه الرؤیا فتنتقل هذه الآلات من ظاهر الحس إلی باطنه لیری ما تقرر في خزانة الخیال الذي رفعت إلیه الحواس ما أخذته من المحسوسات، وما صورته القوة المصورة التي هي من بعض خدم هذه الخزانة لتری هذه النفس الناطقة، ولله تجل في هذه الخزانة في صورة طبیعیة بصفات طبیعیة، مثل قوله‌(ص) «رأیت ربي في صورة شاب» وهو ما یراه النائم من المعاني في صور المحسوسات، لأن الخیال هذه حقیقته أن یجسد ما لیس من شأنه أن یكون جسداً، وذلك لأن حضرته تعطي ذلك، وما ثم في طبقات العالم، من یعطي الأمر علی ما هو علیه سوی هذه الحضرة الخیالیة، فإنها تجمع بین النقیضین، وفیها تظهر الحقائق علی ما هي علیه (ن.م، 2/378-379).

 

علم الكون والخلق

إن أول سبب خلق الله العالم من أجله – كما رأینا – أن الله أحب أن یعرف فخلق الخلق لیعرفوه، والآن یمكن السؤال: كیف حدث الخلق وكیف ظهر كل ما سوی الله، أي العالم في رأي ابن عربي؟ وهنا لابد من الإشارة قبل كل شيء إلی نقطة مهمة وهي أن مفهوم الخلق في رأي ابن عربي بعید عن مفهومه المتداول ومعناه، فهو لایقبل الخلق من العدم المطلق، لأنه یری كما أشرنا أن العدم هو الشر المحض. ولم یعقل بعض الناس حقیقة هذا الكلام لغموضه، والخیر في الوجود والشر في العدم، وأن الحق تعالی له إطلاق الوجود من غیر تقیید، وهو الخیر المحض الذي لا شر فیه، فیقابله إطلاق العدم الذي هو الشر المحض الذي لاخیر فیه (ن.م، 1/46-47).

ثم یری ابن عربي – كما أشیر مراراً – أن أعیان الممكنات تثبت في علم الله بشكل أعیان ثابتة دائماً وأزلاً، وقبل أن تلبس رداء الوجود العیني. ولذلك لیس عجیباً أن ینفي ابن عربي خلق العالم من قبل الله بمعنی الاختراع لأنه لیس في العدم المحض ثبوت عین (ن.م، 2/402). ویقول في إطلاق الاختراع علی الله: الحق بنفسه عین علمه بالعالم، إذ لم یزل العالم مشهوداً له تعالی، وإن اتصف بالعدم، ولم یكن العالم مشهوداً لنفسه إذ لم یكن موجوداً – أي لم یكن له شیئیة الوجود – وهذا بحر هلك فیه الناظرون الذین عدموا الكشف، والحق نفسه موجود دائماً وأبداً، فعلمه لم یزل موجوداً، وعلمه بنفسه علمه بالعالم، فعلمه بالعالم لم یزل موجوداً، فعلم العالم في حال عدمه، وأوجده على صورته في علمه، وعلی هذا لایصح في العالم الاختراع. ولكن یطلق علیه الاختراع بوجه ما، لا من جهة ما تعطیه حقیقة الاختراع، فإن ذلك یؤدي إلی نقص في الجناب الإلهي، فالاختراع لایصح إلا في حق العبد، وذلك أن المخترع علی الحقیقة لایكون مخترعاً إلا حتی یخترع مثال ما یرید إبرازه في الوجود في نفسه أولاً ثم بعد ذلك تبرزه القوة العملیة إلی الوجود الحسي علی شكل ما یعلم له مثل، ومتی لم یخترع الشيء في نفسه أولاً، وإلا فلیس بمخترع حقیقة. فإن الله ما دبر العالم تدبیر من یحصل ما لیس عنده ولا فكر فیه، ولایجوز علیه ذلك، ولا اخترع في نفسه شیئاً لم یكن علیه، ولا قال في نفسه هل تعمله كذا وكذا، هذا كله ما لایجوز علیه، فإن المخترع للشيء یأخذ أجزاء موجودة متفرقة في الموجودات، فیؤلفها في ذهنه ووهمه تألیفاً لم یسبق إلیه في علمه، كما تفعل الشعراء والكتّاب الفصحاء في اختراع المعاني المبتكرة، فقد صحت حقیقة الاختراع لمن استخرج بالفكر ما لم یكن یعلم قبل ذلك، ولاعلمه غیره بالقوة أو بالقوة والفعل إن كان من العلوم التي غایتها العمل، والبارئ سبحانه لم یزل عالماً بالعلم أزلاً، ولم یكن علی حالة لم یكن فیها بالعالم غیر عالم، فلم یخترع في نفسه شیئاً لم یكن یعلمه، فإذ وقد ثبت بالله قدم علمه، فقد ثبت كونه مخترعاً لنا بالفعل لا أنه اخترع مثالنا في نفسه الذي هو صورة علمه بنا. إذ كان وجودنا علی حدما كما كنا فيعلمه، ولو لم یكن كذلك لخرجنا إلی الوجود علی حد ما لم یعلمه، وما لایعلمه لایریده، وما لایریده ولایعلمه لایوجده، فنكون إذن موجودین بأنفسنا أو بالاتفاق، وإذا كان هذا، فلایصح وجودنا عن عدم، وقد دل البرهان علی وجودنا عن عدم، وعلی أنه علمنا وأراد وجودنا، وأوجدنا علی الصورة الثابتة في علمه بنا، ونحن معدومون في أعیاننا، فلا اختراع في المثال؛ فلم یبق إلا الاختراع في الفعل، وهو صحیح لعدم المثال الموجود في العین (ن.م، 1/90-91).

وقال ابن عربي في موضع آخر: إن أرید بالاختراع حدوث المعنی المخترَع في نفس المخترع، وهو حقیقة الاختراع، فذلك علی الله محال، وإن أرید بالاختراع حدوث المخترع علی غیر مثال سبقه في الوجود الذي ظهر فیه، فقد یوصف الحق علی هذا بالاختراع (ن.م، 1/45). كما لایری ابن عربي أن الله علة شيء، ویقول: لا فاعل في الوجود إلا الله، فالفعل لله، وینفي فعل الحق بمشاركة السبب («عقلة»، 69، 80). كما ینفي ابن عربي صدور الموجودات عن الله كما یری الفلاسفة من الأفلاطونیة الحدیثة وأتباعهم المسلمون، ویروي عنه الشعراني أنه لایمكن القول عن الله إن العالم صادر عنه، ما لم یكن بحكم المجاز لا الحقیقة، وذلك لأن لفظ «الصدور» لم یرد في الشرع. فالحق أسمی من أن یكون مصدر الأشیاء. فلیس من مناسبة بین الممكن والوجب، وبین من یقبل الأولیة ومن لایقبلها، وبین من یكون فقیراً، ومن لایقبل الفقر، بل لابد من القول عن الله إنه یوجد الأشیاء من سبق علمه بها، والتي لاوجود في أعیانها (1/39).

ولذلك لیس من العجب أن یبطل ابن عربي النظریة المعروفة «الواحد لایصدر عنه إلا واحد» وینفیها في موضع باختصار ویقول: إن الشيء الواحد العین إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة، فإن ذلك من حیث القوابل لامن حیث عینه، ومن هنا إذا حققت هذه المسألة یبطل قول الحكیم لایصدر عن الواحد إلا واحد (الفتوحات، 2/458). ویحتج ابن عربي في موضع آخر في إبطال هذه النظریة بقول: إذا قلنا لایصدر عن الواحد في كل وجه إلا واحد، فهل ثَمّ من هو علی هذا لاوصف أم لا؟ في ذلك نظر، فالأشاعرة ما جعلوا الإیجاد للحق إلا من كونه قادراً، والاختصاص من كونه مریداً، والإحكام من كونه عالماً، وكون الشيء مریداً ما هو عین كونه قادراً. فلیس قولهم بعد هذا إنه واحد من كل وجه صحیحاً في التعلق العام، وكیف وهم مثبتو الصفات زائدة علی الذات قائمة به تعالی؟ وهكذا القائلون بالنسب والإضافات، وكل فرقة من الفرق ما تخلصت لهم الوحدة من جمیع الوجوه إلا أنهم بین ملزم من مذهبه القول بعدم الوحدة وبین قائل بها، فإثبات الوحدانیة إنما ذلك في الألوهیة، أي لا إله إلا هو، وذلك صحیح (ن.م، 1/42).

ثم نجد ابن عربي یحتج بأن الوحدي في الإیجاد والوجود والموجود، لایعقل ولاینقل إلا في لا إله إلا هو، فهذه أحدیة المرتبة وهي أحدیة الكثرة، فإذا أطلقت الأحدیة، فلا تطلق عقلاً ونقلاً إلا بإزاء أحدیة المجموع، أي مجموع نسب أو صفات. ولكل نسبة وصفة أحدیة تمتاز بها عن غیرها في نفس الأمر. ثم یضیف ابن عربي، فلا أدري في العالم أجهل ممن قال لایصدر عن الواحد إلا واحد، مع قول صاحب هذا القول بالعلیة، ومعقولیة كون الشيء علة لشيء خلاف معقولیة شیئیته، والنسب من جملة وجوه الجمع، فما أبعد صاحب هذا القول من الحقائق، ومن معرفة من له الأسماء الحسنی، ألا تری أهل الشرائع وهم أهل الحق یقولون بنسبة الألوهة لهذا الموجد للممكن المألوه ومعقول الألوهة ما هو معقول الذات، فالأحدیة معقولة لاتتمكن العبارة عنها إلا بمجموع مع كون العقل یعقلها، وهي أحدیة المجموع وآحاده، ألا تری أن التجلي الإلهي لایصح في الأحدیة أصلاً، وما ثمّ غیر الأحدیة، وما یتعقل أثر عن واحد لاجمعیة له، كیف جهلت العقول ما هو أظهر من الشمس، فیقول ما صدر عن الواحد إلا واحد، ویقول: إن الحق واحد من جمیع الوجه، وهو یعلم أن النسب من بعض الوجوه، وأن الصفات في مذهب الآخر من بعض الوجوه، فأین الواحد من جمیع الوجوه، فلا أعلم من الله بالله حیث لم یفرض الوحدة إلا أحدیة المجموع، وهي أحدیة الألوهة، فقال: «هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغیب والشهادة … له الأسماء الحسنی …» (الحشر/59/22/24) وهي 99 اسماً وكل اسم واحد مدلوله لیس مدلول عین الاسم الآخر، وإن كان المسمی بالكل واحداً (الفتوحات، 1/715).

وسبق القول إن ابن عربي أكد علی أهمیة التجلي أو التجلي الإلهي، وهنا لابد من التأكید ثانیة علی أن الخلق منذ البدء وبعده لدی ابن عربي وحكمته الإلهیة العرفانیة وكذلك لدی جمیع المنتسبین إلی مدرسته هو سلسلة من التجلیات الإلهیة، وبعبارة أخری، الخلق من قبل الله وسببه كان هو التجلي ولایزال وسیكون فالخلق كما سنری هو في رأي ابن عربي عمل لاینقطع دائماً من قبل الله یدعوه بـ «الخلق المستمر»، فلیس عالم الوجود بشيء سوی ظهور الحق بالتجلي في صور الموجودات، ویؤكد ابن عربي علی أنه لولا تجلي الله لكل شيء ما ظهرت شیئیة ذلك الشيء، قال تعالی: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن…»، فقوله إذا أردناه هو التوجه الإلهي لإیجاد ذلك الشيء،وبتجلیه یكون العالم باقیاً، ویضیف ابن عربي وعلی هذه الطریقة أصحابنا، وهي طریقة النبوة (ن.م، 1/188).

ونری في موضع آخر أنه بالتجلي تغیر الحال علی الأعیان الثابتة من الثبوت إلی الوجود، وبه الانتقال من حال إلی حال بالموجودات، وهو خشوع تحت سلطان التجلي، فالله متجل علی الدوام، لأن التغیرات مشهودة علی الدوام في الظواهر والبواطن، والغیب والشهادة والمحسوس والمعقول، فشأنه التجلي وشأن الموجودات التغییر بالانتقال من حال إلی حال (ن.م، 2/304). وأخیراً یؤكد ابن عربي بذلك علی أنه ما من موجود خلقه الله عند سبب إلا بتجل إلهي خاص لذلك الموجود لایعرفه السبب فیتكون هذا الموجود من ذلك التجلي الإلهي، والتوجه الرباني عند توجه السبب لا عن السبب، ولولا ذلك لم یكن ذلك الموجود (ن.م، 2/675).

وكما رأینا فإن ابن عربي یربط نظریته عن خلق العالم والخلق بكلامه الأساسي عن العالم أي الحب. وهنا ترتبط أیضاً بمسألة التجلي، وتظهر في هذا الارتباط آراء كبیرة الأهمیة، ومبتكرة عن خلق الله الدائم وخلق الموجودات المستمر، وتوجهها وحركتها الدائمة نحو الحق. وتوسع ابن عربي في هذا في موضع بعد الإشارة إلی خلق الأرض، وأنها لاتزال الآن في حال نزول ویقول: العالم كله بأسره نازل أبداً في طلب المركز، وهذا الطلب طلب معرفة ومركزه هو الذي یستقر علیه أمره. فلایكون له بعد ذلك طلب، وهذا غیر كائن فنزوله للطلب دائم مستمر وهو المعبر عنه بطلب الحق، فالحق هو مطلوبه وأثر فیه هذا الطلب التجلي الذي حصل له تعشق به، فهو یطلب الحق بحركة عشقیة وهكذا سائر المتحركات، إنما حركتها المحبة والعشق، لایصح إلا هذا. ومن لایعشق ذلك التجلي، وهو المنعوت بالجمال، والجمال معشوق لذاته، ولولا ما تجلی سبحانه في صورة الجمال لما ظهر العالم. فكان خروج العالم إلی الوجود بذلك العشق، فأصل حركة العالم عشقیة واستمر الحال، فحركة العالم دائمة لانهایة لها، ولو كان ثم أمر ینتهي إلیه یسمی المركز یكون إلیه النهایة، لسكن العالم بعضه علی بعض بالضرورة، وبطلت الحركة فبطل الإمداد، فأدب ذلك إلی فناء العالم وذهاب عینه، والأمر علی خلاف هذا، وإنما الناس وأكثر الخلق لایشعرون بحركة العالم، ولأنه بكله متحرك. فلا عدم یلحقه أبداً من حیث جوهره، ولایبقی صورة أبداً زمانین، فالخلق لایزال، والأعیان قابلة للخلع عنها وعلیها. فالعالم في كل نفس من حیث الصورة في خلق جدید لاتكرار فیه (ن.م، 2/677).

وتجدر الإشارة هنا إلی نظریة أخری مهمة جداً عند ابن عربي یری فیها أن العالم في تغیر وتحول مستمرین، وهذا التغیر من جهة أخری دلیل علی التحول الإلهي في الصور، لأنه كما یقول: وقع التبدل وفي العالم، لم یكمل العالم، فلم تبق حقیقة إلهیة إلا وللعالم استناد إلیها. علی أن تحقیق الأمر عند أهل الكشف أن عین تبدل العالم هو عین التحول الإلهي في الصور (ن.م، 3/457). ویقول ابن عربي في بیان أن الحق یكون خلاقاً علی الدوام: إن العدم في الممكن أقوی من الوجود، لأن الممكن أقرب نسبة إلی العدم منه إلی الوجود، ولذلك سبق بالترجیح علی الوجود في الممكن فالعدم حضرته لأنه الأسبق، والوجود عارض له، ولهذا یكون الحق خلاقاً علی الدوام، لأن العدم یحكم علی صور الممكنات بالذهاب، والرجوع إلیه رجوع ذاتي، فحكم العدم یتوجه علی ما وجد من الصور، وحكم الإیجاد من واجب الوجود یعطي الوجود دائماً عین صورة بعد عین صورة، فالممكنات بین إعدام للعدم، وبین إیجاد لواجب الوجود (ن.م، 3/460). لیس في العالم شيء لیتكرر، وإنما هي أمثال تحدث وهي الخلق الجدید وأعیان توجد (ن.م، 4/325).

ثم قال الله في حق العالم وتبدله مع الأنفاس في «خلق جدید» في عین واحدة، وكذلك في حق أكثر العالم: «بل هم في لبس من خلق جدید» (ق/50/15)؛ وأما أهل الكشف فإنهم یرون أن الله یتجلی في كل نَفَس ولایكرر التجلي، ویرون أیضاً شهوداً أن كل تجل یعطي خلقاً جدیداً، ویذهب بخلق، فذهابه هو عین الفناء عند التجلي والبقاء لما یعطیه التجلي الآخر (فصوص، 125-126).

ویتابع ابن عربي، حدیثه عن هذه النقطة الدقیقة إلی أن یقول: بل الإنسان لایشعر به من نفسه أنه في كل نَفَس لایكون ثم یكون (ن.م، 155). ثم یستنبط من نظریته هذه نتیجة مهمة: فالعالم في تجدید أبداً، فالآخرة لانهایة لها. ولولا تجدید الخلق مع الأنفاس لوقع الملل في الأعیان لأن الطبیعة تقتضي الملل، وهذا الاقتضاء هو الذي حكم بتجدید الأعیان، ولایمل من العالم إلا من لاكشف له ولایشهد تجدید العالم مع الأنفاس علی الدوام، ولایشهد الله خلاقاً علی الدوام (الفتوحات، 3/506).

ویری ابن عربي أن للعالم خلقین، روحانیاً وطبیعیاً، ورؤیته لطبیعة الكون تقوم علی نظریات بطلمیوس، وعلم الهیئة التقلیدي في عصره وإن كان یضفي دائماً علی معرفته الطبیعیة للعالم لوناً عرفانیاً. ویمكن القول إنه یعتقد بنوع من المنطق الجدلي للخلق فلم یكن الله وحده یحب أن یعرف، بل إن الأسماء الإلهیة كما أشیر أیضاً تشتاق إلی الظهور وبیان آثارها وأحكامها. ومن هذا المنطلق یتحدث ابن عربي أولاً عن «الدافع لبدء العالم»، و«الدافع بظهور العالم»، ویسمی كما رأینا أسماء الله السبعة «أئمة الأسماء». فیقول عن بدء العالم ونشأته: إن الذات الإلهیة منزهة عن أن یكون لها بعالم الكون والخلق والأمر مناسبة أو تعلق، فلننظر ما الحاكم المؤثر في هذا العالم؟ والجواب: إن الأسماء الحسنی ظهرت في العالم، ولكن الأسماء الإلهیة كثیرة، والكثرة جمع أیضاً ولابد من أئمة متقدمة في هذه الكثرة، فلتكن الأئمة هي المسلطة علی العالمین، وما بقي من عدد الأسماء، ثم إن الإمام المقدم الجامع اسمه الله، فهو الجامع لمعاني الأسماء كلها، وهو دليل الذات الإلهیة (إنشاء الدوائر، 32-33). ثم یتحدث ابن عربي عن لجوء أئمة الأسماء الإلهیة أو بعبارة أخری «السدنة» إلی الله، ویورد خلال ذلك قصة نشء العالم. وقد وردت قصة ذهاب أئمة الأسماء الإلهیة إلی الله، بروایات عدیدة في مصنفات ابن عربي: أولها بلغة شاعریة في كتاب عنقاء مغرب (ص 33-39) وهو من أول تصانیفه، ثم في كتاب إنشاء الدوائر (ص 36-38)، ثم بشكل أوضح وأكمل في الفتوحات. ونحن نشیر هنا إلی الروایتین الأخیرتین، والثانیة أكثر أهمیة وأوسع مضموناً. فقد ورد في الروایة الأولی الحدیث عن محاضرة أزلیة، وذلك أن السدنة من بین الأسماء الإلهیة، لما كانت بأیدیهم مقالید السموات والأرض، ولاسموات ولا أرض، بقي كل سادن بمقلاده لایجد ما یفتح، فقالوا یاللعجب خزان بمفاتیح مخازن لاتعرف مخزناً موجوداً، فما صنع بهذه المقالید؟ فأجمعوا أمرهم للذهاب إلی الأئمة السبعة الذین أعطوهم هذه المقالید، فقاموا علی أبواب الأئمة المخصِّص والمِنعم والمُقسط وأخبروهم الأمر، وذهبوا وبقیة الأئمة إلی باب حضرة الإمام الإلهي إمام الأئمة واجتمعوا حوله، فقال لهم: ما الذي جاء بكم؟ فقالوا: إنا طالبون وجود السموات والأرض، لنضع كل مقلاد علی بابه. فسأل الإمام الإلهي عن الإمام المخصص، فبادر إلیه المرید، فقال له: ألیس الخبر عندك وعند العلیم، فقال له: نعم، قال: فإن كان، فأرح هؤلاء مماهم فیه من تعلق الخاطر، وشغل البال، فقال العلیم والمرید: أیها الإمام الأكمل، قل للإمام القادر یساعدنا والقائل، فإنه لانقوم به بأنفسنا إلا أربعتنا. فنادی الله تعالی القادرَ والقائلَ لیعینا أخویهما فیما هما بسبیله، فقالا: نعم. فدخلا حضرة الجواد، فقالا له: عزمن علی إیجاد الأكوان وعالم الحدثان وإخراجهم من العدم إلی الوجود، وهذا من حضرتك حضرة الجواد، فادفع لنا من الجواد ما نبرزهم به، فدفع لهم الجودَ المطلق، فأبرزوا العالم به علی غایة الإحكام والإتقان، فلم یبق في الإمكان أدبع منه، فإنه صدر عن الجود المطلق ولو بقي أبدع منه لكان الجواد قد بخل بما لم یعط، ولم یصح علیه إطلاق اسم الجواد. وهذا أصل نشء العالم وسببه. وما ظهر الإمام المقسط إلا بعد نزول الشرائع فتأهبت الأسماء بمقالیدها، وعلمت حقیقة ما كان عندها، وما هي علیه بوجود الأكوان (إنشاء الدوائر، ن.ص).

الصفحة 1 من15

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: