ابن عربی
cgietitle
1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵
https://cgie.org.ir/ar/article/234032
1446/11/15 ۱۳:۳۴:۲۸
نشرت
3
فإن قیل أیضاً كیف یصح أن یكون الشيء معدوماً في عینه، یتصف بالوجود في عالم ما أو بنسبة ما، فیكون موجوداً في عینه معدوماً بنسبة ما؟ فنقول: نعم لكل شيء في الوجود أربع مراتب (إلا الله فإن له في الوجود المضاف ثلاث مراتب): المرتبة الأولی. وجود الشيء فيعینه وهي المرتبة الثانیة بالنظر إلی علم الحق بالمحدث؛ والمرتبة الثانیة، وجوده في العلم، وهي المرتبة الأولی بالنظر إلی علم الله بنا؛ والمرتبة الثالثة، وجوده في الألفاظ؛ والمرتبة الرابعة، وجوده في المرقوم (إنشاء الدوائر، 6-8). ثم یقول ابن عربي في بیان هذه الطبقات الأربع: فمثلاً نقول زید باللسان، فنعقل معناه أو نرقمه في الورق فنعقل معناه أو یظهر في عینه فنعقل معناه أو نتخیله في أنفسنا وهو غیر حاضر فنعقل معناه، وهذا هو الوجود في العلم [أي الوجود الذهني أو الظلي]، فكل واحدة من هذه المراتب متحدة المعنی لم یزد باختلافها معنی في زید فكل شيء قدیم أو محدث لایخلو من أن یكون في بعض هذه المراتب أو في كلها، فإذا تقرر هذا فنقول إن الإنسان قدیم ومحدث، وموجود ومعدوم، أما قولنا قدیم فلأنه موجود في العلم القدیم، متصور فیه أزلاً، وهذا العلم من بعض مراتب الوجود المذكورة، وأما قولنا محدث فإن شكله وعینه لم یكن ثم كان، فیخرج من هذا أن زیداً موجود في العلم [علم الله]، موجود في الكلام، معدوم في العین أزلاً، فقد تصور اتصافه بالوجود والعدم أزلاً، فصح من هذا أن نقول إن الوجود لیس بصفة للموجود (ن.م، 9).
ثم یتحدث ابن عربي عن «أن الوجود لیس بصفة للموجود»، وبماذا یتعلق العلم، هل بالموجود أو بالمعدوم؟ فیقول: لانعلم ذلك مالم نعلم ما هو العلم وإلی ماذا تنقسم المعدومات. العلم عبارة عن حقیقة في النفس تتعلق بالمعدوم والموجود علی حقیقته التي هو علیها أو یكون. والمعدومات تنقسم أربعة أقسام: 1. معدوم مفروض لایجوز وجوده البتة كالشریك والولد للإله والصاحبة له، ودخول الجمل في سم الخیاط؛ 2. معدوم یجب وجوده وجوباً ترجیحیاً اختیاریاً لا اضطراریاً كشخص من الجنس الواحد، وكنعیم الجنة للمؤمنین؛ 3. معدوم یجوز وجوده كعذوبة ماء البحر في البحر، ومرارة الحلو وأشباه ذلك؛ 4. ومعدوم لایصح وجوده قطعاً اختیاریاً، لكن یصح وجود شخص من جنسه. وهنا یقول ابن عربي: ما في الوجود ممكن أصلاً وإنه منحصر في الوجوب والاستحالة. ثم إن العلم لایتعلق من أقسام المعدومات إلا بثلاثة، وأما المعدوم الذي لایصح وجوده البتة فلایتعلق به علم أصلاً لأنه لیس شیئاً یكون، فالعلم إذن لایتعلق إلا بموجود، ولایتعلق بمعدوم رأساً، إذ العدم المحض لایتصور تعلق العلم به لأنه لیس علی صورة، ولا مقید بصفة، ولا له حقیقة تنضبط إلا النفي المحض. والنفي المحض لایحصل منه في النفس شيء، إذ لوحصل لكان وجوداً، والعدم من جمیع الجهات لایكون وجوداً أبداً، فإن الحقائق لا سبیل إلی قلبها. والآن مهما تُصور لك العلم بعدم ما، فلیس عندك إلا العلم بوجود ضده، أو بوجود الشرط المصحِّح لنفیه، أو بأجزاء موجودة في العالم نفیت نسبتها وإضافتها لموجود ما، لحقیقة ذاتیة موجودة لذلك الموجود هو علیها، علمتها أنت فنفیت عنه ما منعت تلك الحقیقة قبول ما اتصف بها لذلك وأصبتّها لآخر لحقیقة أیضاً موجودة یتصف هذا الموجود الذي أثبتّها له بها. ثم إنما یتعلق العلم بالمعدوم لتعلقه بمَثَله الموجود، أما تعلق العلم بمعدوم معلوم یجوز وجوده، فیكون بقولنا: لیس من شرط تعلق العلم بالمعلوم عند الإدراك أن تكون أشخاص ذلك الجنس موجودة في أعیانها، لكن من شرطها أن یكون منها موجود واحد أو أجزاء في موجودات متفرقة بجمعها یظهر موجود آخر فنعلمه، وما بقي معدوماً فهو مَثَل له (إنشاء الدوائر، 10-14). ثم یعرف ابن عربي العلم فیقول: فإن قیل لك: فما هو العلم؟ فقل درك المدرَك علی ما هو علیه في نفسه إذ كان دركه غیر ممتنع، وأما ما یمتنع دركه فالعلم به هو لادركه (الفتوحات، 1/91-92).
ونظریة ابن عربي المهمة الأخری عن معرفة الوجود هي ترتیب الأشیاء التي تتصل اتصالاً وثیقاً بمعرفة العالم عنده. فیری أن الأشیاء علی ثلاث مراتب، والعلم لا یتعلق بسواها، وما عداها فعدم محض لایعلم ولایجهل. ومن هذه الأشیاء الثلاثة: منها مایتصف بالوجود لذاته فهو موجود بذاته في عینه. لایصح أن یكون وجوده عن عدم، بل هو مطلق الوجود، لا عن شيء فكان یتقدم علیه ذلك الشيء بل هو الموجِد لجمیع الأشیاء وخالقها ومقدّرها ومفصِّلها ومدبِّرها، وهو الوجود المطلق الذي لایتقید، وهو الله. والثانیة موجود بالله، وهو الوجود المقید المعبر عنه بالعالم العرش والكرسي والسموات العلی، وما فیها من العالم والجو، والأرض وما فیها، وهذا الشيء لم یكن موجوداً في عینه، ثم كان من غیر أن یكون بینه وبین موجده زمان یتقدم به علیه فیتأخر هذا عنه، فیقال فیه: بعد أو قبل. وإنما هو متقدم بالوجود، كتقدم أمس علی الیوم، فإنه من غیر زمان لأنه نفس الزمان. فعدم العالم لم یكن في وقت، لكن الوهم یتخیل أن بین وجود الحق ووجود الخلق امتداداً زمانیاً، وذلك راجع لما عهده في الحس من التقدم الزماني بین المحدثات وتأخره. أما الشيء الثالث فما لایتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم، وهو مقارن للأزلي الحق أزلاً، فیستحیل علیه أیضاً التقدم الزماني علی العالم والتأخر، كما استحال علی الحق. وهذا الثالث له زیادة لأنه لیس بموجود، فإن الحدوث والقدم أمر إضافي یوصل إلی العقل حقیقة ما، وذلك أنه لزوال العالم لم نطلق علی الواجب الوجود قدیماً، وإن كان الشرع لم یجئ بهذا الاسم أعني القدیم، وإنما جاء باسمه: الأول والآخر، فمثلاً إذا زلت أنت لم یقل أولاً ولا آخراً، إذ الوسط العاقد للأولیة والآخریة لیس ثَمّ، فلا أول ولاآخر، وهكذا الظاهر والباطن وأسماء الإضافات كلها فیكون موجوداً مطلقاً من غیر تقیید بأولیة أو آخریة. وهذا الشيء الثالث الذي لایتصف بالوجود ولا بالعدم مثله في نفي الأولیة والآخریة بانتفاء العالم، كما قیل عن الواجب الوجود. وكذلك لایتصف هذا الثالث بالكل ولا بالبعض ولایقبل الزیادة والنقص. وهذا الشيء الثالث لا موجوداً ولامعدوماً فلایقال فیه أول وآخر وكذلك إن هذا الشيء الثالث لیس العالم یتأخر عنه ولایحاذبه بالمكان، إذ المكان من العالم، وهذا أصل العالم وأصل الجوهر الفرد وفلك الحیاة والحق المخلوق به. وكل ما هو عالَم من الموجود المطلق، وعن هذا الشيء الثالث ظهر العالم، فهذا الشيء هو حقیقة حقائق العالم الكلیة المعقولة في الذهن الذي یظهر في القدیم قدیماً وفي الحادث حادثاً. فإن قلت: هذا الشيء هو العالم صدقت وإن قلت: إنه الحق القدیم صدقت، وإن قلت: إنه لیس العالم ولا الحق، وإنه معنی زائد صدقت، كل هذا یصح علیه، وهو الكلي الأعم الجامع للحدوث والقدم، وهو یتعدد یتعدد الموجودات، ولاینقسم بانقسام الموجودات، وینقسم بانقسام المعلومات، وهو لا موجود ولامعدوم، ولا هو العالَم وهو العالَم. وهو غیر ولا هو غیر (إنشاء الدوائر، 15-17). والآن فإن نسبة هذا الشيء الذي لایحد ولایتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم إلی العالم كنسبة الخشبة إلی الكرسي والتابوت والمنبر والمحمل أو الفضة إلی الأواني والآلات التي تصاغ منها، كالمكحلة والقرط والخاتم فبهذا تعرف تلك الحقیقة. وهذا الشيء الثالث هو هذه الحقائق كلها بكمالها، فسمّه إن شئت حقیقة الحقائق، أو المادة الأولی أو جنس الأجناس، وسمّ الحقائق التي یتضمنها هذا الشيء الثالث الحقائق الأولی أو الأجناس العالیة، فهذا الشيء الثالث أزلاً لایفارق الواجب الوجود محاذیاً له عن غیر وجود عیني (ن.م، 19).
وبعد أن یتحدث ابن عربي من أقسام المعدومات وما رتبها، یعود فیتحدث عن الموجودات وأصنافها، ویبین أنواعها: الأول وجود مطلق لایُعقل ماهیته ولایجوز علیه الماهیة كما لایجوز علیه الكیفیة ولایعلم له صفة نفسیة من باب الإثبات، وهو الله تعالی وغایة المعرفة به الحاصلة بأیدینا الیوم من صفات السلب مثل «لیس كمثله شيء» (الشوری/42/11)؛ فعلی ما قدمنا من أن العلم لایتعلق إلا بموجود فهنا متعلق العلم نفي ما لایجوز علیه الله، ونفي ما لایجوز علیه ثابت عندنا موجود فینا منسوب إلینا. ومن الموجودات أیضاً موجود مجرد عن المادة وهي العقول المفارقة الروحانیة، القابلة للتشكیل والتصویر، ذوات الرقائق النوریة، وهي المعبر عنها بالملائكة، وهي لاتتحیز ولا تختص بمكان دون مكان لذاتها. ومنها موجود یقبل التحیز والمكان وهي الأجرام والأجسام والجواهر الأفراد عند الأشاعرة. ومنها موجود لایقبل التحیز بذاته ولكن یقبله بالتبعیة، ولایقوم بنفسه، لكن یحل في غیره، وهي الأعراض كالسواد والبیاض وأشباه ذلك. ومنها موجودات النِّسَب وهي ما یحدث بین هذه الذوات التي ذكرناها، وبین الأعراض كالأين والكیف والزمان والعدد والمقدار والإضافة والوضع، وأن یفعل وأن ینفعل (إنشاء الدوائر، 20-21).
وللمقولة المعروفة بالأعیان الثابتة (أو الأعیان الموجودة في علم الله أزلاً وأبداً) أهمیة خاصة في الأنطولوجیة العرفانیة عند ابن عربي، حیث یمكن اعتباره من أهم ما تفتق عنه فكره.
وقد تحدث أصحاب ابن عربي وشراح تصانیفه كثیراً عن الأعیان الثابتة، وعبروا عنها بتعابیر مختلفة، كما أن ابن عربي أورد هذا البحث في طیات كتبه ولاسیما الفتوحات في مناسبات مختلفة بعبارات متفاوتة. وتعریف الأعیان الثابتة البسیط هو: شیئیة كل الممكنات قبل أن تكتسي حلة الوجود بأمر من الله في علمه. ولهذا وبالنظر إلی معنی الأعیان الثابتة فإننا نواجه مسألة جدیدة وهي مفهوم شیئیة المعدوم. وتعود هذه المسألة إلی نظریتین مختلفتین عند الأشاعرة والمعتزلة وهما: هل المعدوم شيء؟ وما الفرق بین الثبوت والوجود؟ یعتقد الأشاعرة بأنه لا فرق بین الوجود والثبوت والشیئیة والذات والعین، إلا أن بعض المعتزلة كیوسف بن إسحاق الشحام (تـ 233هـ/847م) یقول: إن المعدوم شيء وذات وعین. ویثبت لها خصائص تتعلق بالوجود، مثل قیام العرض بالجوهر، وعَرَضه وسواده وبیاضه، وتبعه في ذلك أكثر المعتزلة، لكن بعضهم ینكرون هذه الخصائص ویطلقون علیه اسم الشیئیة فقط.
ونجد أصل نظریة «المعدوم شيء» عند أفلاطون، وینسبها إلی السوفسطائیین، فیقولون «غیر الموجودات موجودة» (أفلاطون، 258D5). ولهذه المسألة معنی في رأي أفلاطون إذا اعتبرنا أن المعدوم لیس مطلقاً بل نسبیاً أو إضافیاً، والمعدوم هنا لایقابل الموجود، بل هو غیره فقط (م.ن، 257B3).
وقد أشرنا إلی أن ابن عربي یقول: إن الأعیان الثابتة صور معقولة في علم الله تتعلق به أزلاً وأبداً، وثابتة في العدم، ویقول في أحد المواضع: إن في مقابلة وجود الله أعیاناً ثابتة لا وجود لها إلا بطریق الاستفادة من وجود الحق، فتكون مظاهره في ذلك الاتصاف بالوجود، وهي أعیان لذاته وما هي أعیان لموجب أو لعلة. كما أن وجود الحق لذاته لا لعلة، وكما هو الغني علی الإطلاق، فالفقر لهذه الأعیان علی الإطلاق إلی هذا الغني الواجب الغنی بذاته لذاته. ولهذا لانجعل الله علة لشيء لأن العلة تطلب معلولها، كم یطلب المعلول علته، والغنی لایتصف بالطلب (الفتوحات، 2/57). ویبین ابن عربي الأعیان الثابتة في موضع آخر بقوله: إن الممكنات في حال عدمها بین یدي الحق ینظر إلیها، ویمیز بعضها عن بعض بما هي علیه من الحقائق في شیئیة ثبوتها، وینظر إلیها الله بعین أسمائه الحسنی، كالعلیم والحفیظ الذي یحفظ علیها بنور وجوده شیئیة ثبوتها، لئلا یسلبها المحال تلك الشیئیة، ولهذا بسط الله الرحمة علیها التي فتح بها الوجود. فإن ترتیب إیجاد الممكنات یقضي تقدم بعضها علی بعض، وهذا ما لایقدر علی إنكاره فإن الواقع، فالدخول في شیئیة الوجود إنما وقع مرتباً بخلاف ما هي علیه في شیئیة الثبوت، فإنها كلها غیر مرتبة لأن ثبوتها منعوت بالأزل ولها، والأزل لاترتیب فیه ولاقتدم ولاتأخر، ولما كان في الأسماء الإلهیة عام وأعم وخاص وأخص صح في هذه الأسماء التقدم والتأخر والترتیب. فبهذا قبلت شیئیات الوجود الترتیب، فما من وقت یمر علیك هنا لایظهر فیه ممكن معین، ثم یظهر في الوقت الثاني إلا وبقاؤه في شیئیة ثبوته مرجح – في الوقت الذي لم تقم به شیئیة وجوده – إذ لو لم یكن مرجحاً لوجد في الوقت الذي قلنا إنه مر علیه فلم یوجد فیه، فصار بقاء كل ممكن مرجحاً في حال عدمه، وإن كان العدم له أزلاً، كما أن قبوله لشیئیة وجوده مرجح، وهذا من أعجب دقائق المسائل إن فكرنا فیه. ومن ناحیة أخری فإن توقف حكم إرادة الله علی حكم علمه، ولهذا قال: «إذا أردنا..» فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعلیق الإرادة، والإرادة واحدة العین، فانتقل حكمها من ترجیح بقاء الممكن في شیئیة ثبوته إلی حكمها بترجیح ظهوره فة شیئیة وجوده، فهذه حركة إلهیة قدسیة منزهة أعطتها حقیقة الإمكان التي هي حقیقة الممكن (الفتوحات، 3/280-281).
وینظر ابن عربي في موضع آخر من زاویة أخری إلی «الأعیان الثابتة» فيحدیثه عن مسألة الخلق ویشیر إلی نقاط دقیقة ومهمة فیقول: الخلق خلقان: خلق تقدیر وهو الذي یتقدم الأمر الإلهي، كما یقول الله تعالی: «ألاله الخلق والأمر» (الأعراف/7/54)، والخلق الآخر بمعنی الإیجاد، وهو الذي یساوق الأمر الإلهي، وإن تقدمه الأمر الإلهي بالرتبة، فالأمر الإلهي بالتكوین بین خلقین: خلق تقدیر وخلق إیجاد، فمتعلق الأمر خلق الإیجاد، ومتعلق خلق التقدیر تعیین الوقت لإظهار عین الممكن، فیتوقف الأمر علیه؛ لكن الوقت أمر عدمي لأنه نسبة، والنسب لا أعیان لها في الوجود، وإنما الأعیان الممكنات الثابتة في حال العدم مرتبة كما وقعت، وتقع في الوجود ترتیباً زمانیاً. وكل عین تقبل تغییرات الأحوال والكیفیات والأعراض وأمثال ذلك علیها. فإن الأمر الذي تتغیر إلیه إلی جانبها متلبسة به، فلهذه العین القابلة لهذا الاختلاف في الثبوت أعیان متعددة لكل أمر تتغیر إلیه عین ثبوتیة، وهذه العین تتمیز في أحوالها وتتعدد بتعدد أحوالها سواء تناهی الأمر فیها أولا یتناهی، وهكذا تعلق بها علم الباري أزلاً، فلایجدها إلا بصورة ما علمه في ثبوتها في حال عدمها حالاً بعد حال وحالاً في أحوال، في الأحوال التي لاتتقابل، فإن نسبتها إلی حال ما من الأحوال المتقابلة غیر نسبتها إلی الحال التي تقابلها. فلابد أن تثبت لها عین في كل حال، وإذا لم تتقابل الأحوال یكون لها عین واحدة في أحوال مختلفة، وكذا توجد. فالأمر الإلهي یساوق الخلق الإیجادي في الوجود – وهنا یشیر ابن عربي إلی الآیة: «إنما أمره إذا أراد شیئاً أن یقول له كن فیكون» (یس/36/82)- فعین قول «كن» عین قبول الكائن للتكوین فیكون، فالفاء في قوله «فیكون» جواب أمره «كن» وهي فاء التعقیب ولیس الجواب والتعقیب إلا في الرتبة، كما یتوهم في الحق أنه لایقول للشيء: كن، إلا إذا أراده، ونحن نری الموجودات یتأخر وجود بعضها عن بعض، وكل موجود منها لابد أن یكون مراداً بالوجود، ولایتكون إلا بالقول الإلهي علی جهة الأمر (الفتوحات، 4/210).
وهنا یتبادر هذا السؤال: هل الأعیان الثابتة علی ترتیبها الواقع عندنا في الإدراك هي علی ما هي علیه في العدم؟ أو یكون الحق الوجودي ظاهراً في تلك الأعیان وهي له مظاهر فیدرك بعضها بعضاً عند ظهور الحق فیها، فیقال: قد استفادت الوجود، ولیس إلا ظهور الحق؟ وهو أقرب إلی ما هو الأمر علیه من وجه، والآخر أقرب من وجه آخر، وهو أن یكون الحق محل ظهور أحكام المكنات غیر أنها في الحكمین معدومة العین الثابتة في حضرة الثبوت، ویكشف المكاشف، أي العارف صاحب الشهود العرفانیة، هذین الوجهین، وهو الكشف الكامل. وبعضهم لایكشف من ذلك إلا الوجه الواحد كان ماكان. ونَطقَ صاحب كل كشف بحسب ما كشف. ولیس هذا الحكم إلا لأهل هذا الطریق، أي طریق ابن عربي العرفانیة، وأما غیرهم فإنهم علی قسمین: الأشاعرة، ویقولون: لا عین لممكن في حال العدم، وإنما یكون له عین إذا أوجده الحق، والمعتزلة، ویقولون: إن للممكنات أعیاناً ثبوتیة هي التي توجد بعد أن لم تكن، وما یمكن وجوده كالمحال، فلاعین له ثابتة. والمحققون من أهل الله یثبتون بثبوت الأشیاء أعیاناً ثابتة، ولها أحكام ثبوتیة أیضاً بها یظهر كل واحد منها في الوجود علی حد ما قلناه من أن تكون مظهراً أو یكون له الحكم في عین الوجود الحق (ن.م، 4/211).
ثم یؤكد ابن عربي علی أن الأعیان التي لها العدم الثابتة فیه ما شمّت رائحة من الوجود وهي علی حالها (أي العدم) مع تعدد الصور في الموجودات (فصوص…، 76). ویقول في موضع آخر: لیست أعیان الممكنات نیرة، لأنها معدومة، وإن اتصفت بالثبوت، لكن لم تتصف بالوجود، إذ الوجود نور (ن.م، 102). ویبین هذه المسألة في موضع آخر بقوله: وأعیان المسموعات منا والمبصرات معدومة غیر موجودة، وهو یراها أزلاً كما یعلمها أزلاً ویمیزها ویفصلها أزلاً، ولا عین لها في الوجود النفسي العیني، بل هي أعیان ثابتة في رتبة الإمكان، فالإمكانیة لها أزلاً كما هي لها حالاً وأبداً، لم تكن قط واجبة لنفسها، ثم عادت ممكنة، ولا محالاً، ثم عادت ممكنة، بل كان الوجوب الوجودي الذاتي لله تعالی أزلاً، كذلك وجوب الإمكان للعالم أزلاً. فإن الممكن مرتبط بواجب الوجود في وجوده وعدمه ارتباط افتقار إلیه في وجوده، فإن أوجده الله لم یزل في إمكانه، وإن عدم لم یزل عن إمكانه؛ فكما لم یدخل علی الممكن في وجود عینه بعد أن كان معدوماً صفة تزیله عن إمكانه، كذلك لم یدخل علی الخالق الواجب الوجود في إیجاده العالم وصف یزیله عن وجوب وجوده لنفسه، فلایعقل الحق إلا هكذا، ولایعقل الممكن إلا هكذا (الفتوحات، 1/189). وبهذا یری ابن عربي أن شیئیة الثبوت شرط سابق لتحقق الممكنات العیني، بطریق إیجادها، وكما یقول: أن یكسوها الله حلة الوجود. ویقول ابن عربي في موضع آخر في تفسیره الآیة «إن الله علی كل شيء قدیر» (البقرة/2/106): قدیر لا علی ما لیس بشيء فإن لا شيء لایقبل الشیئیة، إذ لو قبلها ماكانت حقیقته لاشيء، ولایحرج معلوم عن حقیقته، فلاشيء محكوم علیه بأنه لاشيء أبداً، وما هو شيء فمحكوم علیه بأنه شيء أدباً (الفتوحات، 2/171).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode