الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / ابن عربی /

فهرس الموضوعات

ابن عربی

ابن عربی

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/23 ۲۱:۱۳:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

ثم یستنتج ابن عربي من تحلیله هذا أن الصفات نسب وإضافات، والنسب أمور عدمیة أیضاً، ولایوجد غیر ذات واحدة من كل الوجوه، ذلك أن «الأسماء الإلهیة نسب وإضافات ترجع إلی عین واحدة، إذ لایصح هناك كثرة بوجود أعیان في الله كما زعم من لا علم له بالله من بعض النظار، ولو كانت الصفات أعیاناً زائدة، وما هو إله إلا بها لكانت الألوهیة معلولة بها، فلایخلو أن تكون عین الإله، فالشيء لایكون علة لنفسه، أولا تكون؛ فالله لایكون معلولاً لعلة لیست عینه، فإن العلة متقدمة علی المعلول بالرتبة، فيلزم من ذلك افتقار الإله من كونه معلولاً لهذه الأعیان الزائدة التي هي علة له، وهو محال. ثم إن الشيء المعلول لایكون له علتان، وهذه كثیرة، ولایكون إلهاً إلا بها، فبطل أن تكون الأسماء والصفات أعیاناً زائدة علی ذاته». ثم یصل ابن عربي إلی هذه النتیجة وهي أنه «لیس للحق صفة نفسیة ثبوتیة إلا واحدة، لایجوز أن یكون له اثنتان فصاعداً، إذ لو كان لكانت ذاته مركبة منهما أو منهن. والتركیب في حقه محال، فإثبات صفة زائدة ثبوتیة علی واحدة محال» (ن.م، 1/163).

ثم یؤكد ابن عربي اعتماداً علی هذه النظریة علی الارتباط بنی الأسماء الإلهیة في عین تمایزها واستقلالها، وأن كل اسم إلهي یتضمن جمیع الأسماء الأخری ویقول: «إن كل اسم ینعت بجمیع الأسماء في أفقه، فكل اسم فهو حي قادر سمیع بصیر متكلم في أفقه وفي علمه. غیر أن ثم لطیفه لایشعر بها، وذلك أنك تعلم قطعاً في حبوب البُر وأمثاله أن كل برة فیها من الحقائق ما في أختها، كما تعلم أیضاً أن هذه الحبة لیست عین هذه الحبة الأخری، وإن كانتا تحویان علی حقائق متماثلة، وكذلك الأسماء الإلهیة، فكل اسم یجمع جمیع حقائق الأسماء ویحتوي علیها، مع أن هذا الاسم لیس هو الآخر (ن.م، 1/101، أیضاً ظ: 1/78-79).

والآن وقبل أن نتحدث عن نظریات ابن عربي وإیضاحاته الأخری عن الأسماء الإلهیة و«الأسماء الحسنی» وعددها، لابد من الإشارة إلی كیفیة الارتباط الذي یعقده ابن عربي بین بعض الأسماء الإلهیة ومعرفته للعالم، یقول في ذلك: «إن أسماء الله الحسنی نسب وإضافات، وفیها أئمة وسدنة، ومنها ما یحتاج إلیها الممكنات احتیاجاً ضروریاً، ومنها ما لایحتاج إلیها الممكنات ذلك الاحتیاج الضروري، وقوة نسبته إلی الحق أوجه من طلبها للخلق، فالذي لابد للمكن منها الحي والعالم والمرید والقائل كشفاً، وهو في النظر العقلي القادر، فهذه أربعة یطلبها الخلق بذاته، وإلی هذه الأربعة تستند الطبیعة، كما تستند الأركان إلی الطبیعة كما تستند الأخلاط إلی الأركان، وإلی الأربعة تستند في ظهورها أمهات المقولات وهي الجوهر والعرض والزمان والمكان، ومابقي من الأسماء فكالسدنة لهذه الأسماء، ثم یلي هذه الأسماء اسمان المدبر والمفصل ثم الجواد والمقسط، فعن هذین الاسمین كان عالم الغیب والشهادة والدار الدنیا والآخرة» (ن.م، 3/441).

ویورد ابن عربي هذه المسألة فیما یتعلق برؤیته العرفانیة في خلق العالم ومعرفته، وهذا یدل علی أن لمسألة الأسماء الإلهیة أهمیة أساسیة عنده، فیشیر إلی عدد من النقاط المهمة ثم یقول: إن أكثر العلماء بالله من أهل الكشف والحقائق، لیس عندهم علم بسبب بدء العالم إلا تعلق العلم القدیم بإیجاده، فكوّن ما علم أنه سیكوّنه، وهنا ینتهي أكثر الناس. أما نحن ومن أطلعه الله علی ما أطلعنا علیه فقد وقفنا علی أمور أخر غیر هذا، وذلك أنك إذا نظرت العالم مفصلاً بحقائقه ونسبه وجدته محصور الحقائق والنسب، معلوم المنازل والرتب، متناهي الأجناس بین متماثل ومختلف، فإذا وقفت علی هذا الأمر علمت أن لهذا سراً لطیفاً وأمراً عجیباً لاتدرك حقیقته بدقیق فكر ولانظر، بل بعلم موهوب من علوم الكشف ونتائج المجاهدات المصاحبة للهمم. وأن الأسماء الحسنی التي تبلغ فوق أسماء الإحصاء عدداً وهي المؤثرة في هذا العالم وهي المفاتح الأُوَل التي لایعلمها إلا هو. وأن لكل حقیقة اسماً ما یخصها من الأسماء الإلهیة، وأعني بالحقیقة حقیقة تجمع جنساً من الحقائق، رب تلك الحقیقة ذلك الاسم. وتلك الحقیقة عابدته وتحت تكلیفه لیس غیر ذلك. ثم إن كل شيء یجمع أشیاء كثیرة، له من الوجوه مایقابل تلك الأسماء التي تدل علیها وهي الحقائق التي ذكرناها، والآن نعلم وجود موجود باسم الجوهر الفرد الجزء الذي لاینقسم فإن فیه حقائق متعددة تطلب أسماء إلهیة علی عددها فحقیقة إیجاده یطلب الاسم القادر، ووجه إحكامه یطلب الاسم العالم، ووجه اختصاصه یطلب الاسم المرید، ووجه ظهوره یطلب الاسم البصیر والرائي، إلی غیر ذلك. فهذا وإن كان فرداً، فله هذه الوجوه وغیرها، ولكل وجه وجوه متعددة تطلب من الأسماء بحسبها، وتلك الوجوه هي الحقائق عندنا الثواني، والوقوف علیها عسیر وتحصیلها من طریق الكشف أعسر، والأسماء التي الأمهات موقوفة علیها هي أیضاً أمهات الأسماء، فإذا نظرنا الأشیاء كلها المعلومة في العالم العلوي والسفلي نجد الأسماء السبعة المعبر عنها بالصفات عند أصحاب علم الكلام تتضمنها (ن.م، 1/99-100، أیضاً ظ: إنشاء الدوائر، 33 وما بعدها).

أما الغرض هنا فلیس الأمهات السبع المعبر عنها بالصفات، ولكن المقصود الأمهات التي لابد لإیجاد العالم منها. فالذي نحتاج إلیه من معرفة الأسماء لوجود العالم وهي أرباب الأسماء، وما عداها فسدنة لها، كما أن بعض هذه الأرباب سدنة لبعضها، فأمهات الأسماء الحي العالم المرید القادر القائل الجواد المقسط، وهذه الأسماء بنات الاسمین المدبّر والمفصِّل، فالحي یثبت فهمك بعد وجودك وقبله، والعالم یثبت إحكامك في وجودك، وقبل وجودك یثبت تقدیرك، والمرید یثبت اختصاصك، والقادر یثبت عدمك، والقائل یثبت قدمك، والجواد یثبت إیجادك، والمقسط یثبت مرتبتك، والمرتبة آخر منازل الوجود، فهذه حقائق لابد من وجودها، فلابد من أسمائها التي هي أربابها، فالحي رب أرباب الأسماء الإلهیة والمقسط آخرها (الفتوحات، 1/100). وكما رأینا فإن ابن عربي یعبر عن الأسماء الحسنی بالمفاتح الأُول، والمفاتح الأُول تعني معاني أصول الأسماء أو مواطن أصول أئمة الأسماء التي هي عین التجلي الأول، تجلي الحق لنفسه بنفسه في نفسه وراء عالم المعاني والصور، وسمیت هذه المفاتح بالأول باعتبار كینونتها في وحدانیة الحق، ونظیر ذلك التصور النفساني قبل تعینات صور ما یعلمه الإنسان (ظ: یحیی، الهامش، 387).

وهنا لابد من الإشارة إلی مفهومي «التجلي الأول» و«التجلي الثاني» اللذین لهما أهمیة كبیرة في معرفة الله العرفانیة عند ابن عربي ومدرسته. فلله في هذه النظرة تجلیان، التجلي الأول هو التجلي الذاتي، وهو تجلي ذات الحق وحدها لذاتها، وهي الحضرة الأحدیة التي لانعت فیها ولا رسم. إذ الذات التي هي الوجود الحق المحض، وحدته عینه، لأن ماسوی الوجود من حیث هو وجود لیس إلا العدم المطلق، وهو لاشيء محض، ولایحتاج في أحدیته إلی وحدة وتعین یمتاز به عن شيء إذ لاشيء غیره، فوحدته عین ذاته، وهذه الوحدة منشأ الأحدیة والواحدیة لأنها عین الذات من حیث هي، أعني لابشرط شيء، أي المطلق الذي یشمل كونه بشرط أن لاشيء معه، وهو الأحدیثة، وكونه بشرط أن یكون معه شيء وهو الواحدیة، والحقائق في الذات الأحدیة كالشجرة في النواة، وهي غیب الغیوب. والتجلي الثاني هو الذي یظهر به أعیان الممكنات الثابتة التي هي شؤون الذات لذاته، وهو التعین الأول بصفة العالمیة والقابلیة، لأن الأعیان الثابتة معلوماته الأول والذاتیة والقابلیة للتجلي الشهودي للحق، وبهذا التجلي تنزّل من الحضرة الأحدیة إلی الحضرة الواحدیة بالنسب الأسمائیة. والتجلي الشهودي هو ظهور الوجود المسمی باسم النور، وهو ظهور الحق بصور أسمائه في الأكوان التي هي مظاهرها، وذلك الظهور هو نَفَس الرحمن الذي یوجد به الكل (ظ: الكاشاني، «اصطلاحات»، 174-175).

ثم إن للظاهر والباطن أهمیة خاصة في نظریة ابن عربي عن الأسماء الإلهیة وسلسلة مراتبها، وهو یشرح هذه المسألة بقوله: والله من حیث یعلم نفسه ومن هویته وغناه فهو علی ما هو علیه، وإنما هذا الذي وردت به الأخبار وأعطاه الكشف، إنما ذلك أحوال تظهر ومقامات تشخص ومعان تجسد، لیعلم الحق عباده معنی الاسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كله، والاسم الإلهي الباطن وهو هویته، وقد تسمی لنا بهما، فكل ما هو العالم فیه من تصریف وانقلاب وتحول في صور في حق وخلق فذلك من حكم الاسم الظاهر، وهو منتهی علم العالم والعلماء بالله، وأما الاسم الباطن فهو إلیه لا إلينا، وما بأیدینا منه سوی «لیس كمثله شيء» علی بعض وجوه محتملاته، إلا أن أوصاف التنزیه لها تعلق بالاسم الباطن، وإن كان فیه تحدید، ولكن لیس في الإمكان أكثر من هذا فإنه غایة الفهم عندنا الذي یعطیه استعدادنا (الفتوحات، 3/440).

والآن إذا سألنا ما أول أسماء الحق؟ یجیب ابن عربي: إن أول الأسماء، الواحد الأحد، وهو اسم واحد مركب تركیب بعلبك ورامهرمز والرحمن الرحیم، لانرید بذلك اسمین، وإنما كان الواحد الأحد أول الأسماء لأن الاسم موضوع للدلالة، وهي العلمیة الدالة علی عین الذات، ولیس أخص في العلمیة من الواحد الأحد لأنه اسم ذاتي له یعطیه هذا اللفظ بحكم المطابقة (ن.م، 2/57).

والنقطة المثیرة الأخری التي یشیر إلیها ابن عربي فیما یتعلق بأسماء الله وصفاته مسألة الحیرة التي تعرض للعقول والأفكار جمیعها، فیقول: إن الاسم «الله» یدل علی الذات بحكم المطابقة، كالأسماء الأعلام علی مسمیاتها، وثم أسماء تدل علی تنزیه، وثم أسماء تدل علی إثبات أعیان صفات، وإن لم تقبل ذات الحق قیام الأعداد، وهي الأسماء التي تعطي أعیان الصفات الثبوتیة الذاتیة كالعالم والقادر والمرید والسمیع والبصیر والحي والمجیب والشكور وأمثال ذلك. وأسماء تعطي النعوت، فلایفهم منها في الإطلاق إلا النسب والإضافات، كالأول والآخر والظاهر والباطن وأمثال ذلك. وأسماء تعطي الأفعال، كالخالق والرازق والبارئ والمصور، وأمثال ذلك من الأسماء وانحصر الأمر. وجمیع الأسماء الإلهیة بلغت مابلغت، لابد أن ترجع إلی واحد من هذه الأقسام، أو إلی أكثر من واحد مع ثبوت دلالة كل اسم منها علی الذات، وهذه الحضرة – أي الحضرة الإلهیة التي هي الله – وإن كانت جامعة للحقائق كلها فأخص مایختص بها من الأحوال الحیرة والعبادة والتنزیه. فأما التنزیه وهو رفعته عن التشبه بخلقه وكذلك العبادة، فأعطانا الله قوة الفكر لننظر بها فیما یعرفنا بأنفسنا وبه، فاقتضی حكم هذه القوة أن لامماثلة بیننا وبینه من وجه من الوجوه إلا استنادنا إلیه في إیجاد أعیاننا خاصة، وغایة ما أعطی التنزیه إثبات النِّسب له بنا لما نطلبه من لوازم وجود أعیاننا وهي المسمی بالصفات. فإن قلنا إن تلك النسب أمور زائدة علی ذاته وإنها وجودیة ولاكمال للحق إلا بها، وإن لم تكن كان ناقصاً بالذات كاملاً بالزائد الوجودي، وإن قلنا إن هذه الصفات ما هي هو ولا هي غیره كان خلفاً من الكلام وقولاً لاروح فیه یدل علی نقص عقل قائله وقصوره في نظره أكثر من دلالته علی تنزیه الحق، وإن قلنا إن تلك الصفات لیست هو، ولاوجود لها وإنما هي نسب، والنسب أمور عدمیة، جعلنا العدم له أثر في الوجود، وتكثرت النسب لتكثر الأحكام التي أعطتها أعیان الممكنات، وإن لم نقل شیئاً من هذا كله عطلنا حكم هذه القوة النظریة. وإن قلنا إن الأمور كلها لاحقیقة لها، وإنما هي أوهام وسفسطة لاتحوي علی طائل، ولا ثقة لأحد بشيء منها، لا من طریق حسي ولا فكري عقلي؛ فإن كان هذا القول صحیحاً فقد علم، فما هذا الدلیل الذي أوصلنا إلیه، وإن لم یكن صحیحاً فبأي شيء علمنا أنه لیس بصحیح، فإذا عجز العقل عن الوصول إلی العلم بشيء من هذه الفصول، رجعنا إلی الشرع، ولانقبله إلا بالعقل، والشرع فرع عن أصل علمنا بالشارع، وبأي صفة وصل إلینا وجود هذا الشرع، وقد عجزنا عن معرفة الأصل، فنحن عن الفرع وثبوته أعجز. فتنزیهنا إلهنا أدی بنا إلی الحیرة، والطرق كلها قدتشوشت والنظر العقلي والشرعي یؤدي إلی الحیرة وكذلك التجلي، فما ثَمّ إلا الحیرة وما ثَمّ إلا الله (ن.م، 4/197-198، للاطلاع علی عدد الأسماء الإلهیة، أي أسماء الذات وأسماء الصفات وأسماء الأفعال، ظ: 2/303).

 

2. معرفة العالم والنظریة العرفانیة لظهور العالم

لهذین البحثین أهمیة خاصة في مراتب النظم العرفاني عند ابن عربي، فنحن لانجد عند أي عارف وصوفي آخر في تاریخ العرفان كله تلك النظریات الدقیقة والجامعة عن الخلق ووجد العلام ومعرفة نظام الكون من الناحیة العرفانیة وأول ما یتبادر إلی الذهن هذا السؤال: في رأي ابن عربي لماذا خلق الله العالم والموجودات؟ ویسعی للإجابة عن هذا السؤال مستنداً إلی حدیث قدسي معروف بین العارفین والمتصوفة وهو: «كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتَعرفت إلیهم فعرفوني». وبناء علی هذا یقول ابن عربي: «ورد في الحدیث الصحیح كشفاً، غیر الثابت نقلاً عن رسول الله‌(ص) عن ربه «كنت كنزاً…»، لما ذكر الله المحبة علمنا من حقیقة الحب ولوازمه مما یجده المحب في نفسه، وقد بینا أن الحب لایتعلق إلا بمعدوم یصح وجوده، وهو غیر موجود في الحال، والعالم محدث، والله كان ولاشيء معه، وعلم العالم من علمه بنفسه، فما أظهر في الكون إلا ما هو علیه في نفسه وكأنه كان باطناً فصار بالعالم ظاهراً، وأظهر العالم نَفَس الرحمن، لإزالة حكم الحب، وتنفس مایجد المحب فعرف نفسه شهوداً بالظاهر، وذكر نفسه بما أظهره ذكر معرفة وعلم وهو ذكر العماء المنسوب إلی الرب قبل خلق الخلق، وهو ذكر العام المجمل، وإن كلمات العالم بجملتها مجملة في هذا النَفَس الرحماني وتفاصیله غیرمتناهیة» (الفتوحات، 2/399).

ویتضح من ذلك أن أول سبب للخلق في رأي ابن عربي أن الله أراد وأحب أن یعرف، غیر أن هذه المحبة لها طرفان، حب من ناحیة الخالق وحب من ناحیة الخلق، ویشرح ابن عربي هذه النقطة المهمة جداً بعبارات وأشكال مختلفة فیقول في أحد المواضع: الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكناً فیه إلی الوجود، ولذلك یقال إن الأمر حركة عن سكون: فكانت الحركة التي هي وجد العالم حركة حب، وقد نبه الرسول‌(ص) علی ذلك بقوله «كنت كنزاً…»، فلولا هذه المحبة ماظهر العالم في عینه، فحركته من العدم إلی الوجود حركة حب الموجد لذلك. ولأن العالم أیضاً یحب شهود نفسه وجوداً كما شهدها ثبوتاً، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلی الوجود حركة حب من جانب الحق وجانبه، فإن الكمال محبوب لذاته (فصوص، 203-204). ویهدف ابن عربي إلی أن علم الله بنفسه من حیث هو غني عن العالمین هو له، وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي یكون من هذه الأعیان، أعیان العالم، إذا وجدت. فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقدیم، فتكمل مرتبة العلم بالوجهین، وكذلك تكمل مراتب الوجود: فإن الوجود منه أزلي، وغیر أزلي وهو الحادث. فالأزلي وجود الحق لنفسه، وغیر الأزلي وجود الحق بصورة العالم الثابت، فما ثَمّ حركة في الكون إلا وهي حبیة (ن.م، 204).

ونشاهد في معرفة الوجود ومعرفة العالم عند ابن عربي مقولتین أساستین «النَفَس الرحماني» و«العماء» وهما عنده مرتبطان ارتباطاً وثیقاً. ویجعل ابن عربي «نفس الرحمن» مقابل «نَفَس الإنسان» ویقارن بینهما، ولكن لابد من القول أولاً إنه اقتبس عبارة «النفس الرحماني» من حدیث للرسول‌(ص) استند إلیه مراراً، فقد قال‌(ص) لما اشتد علیه كرب ما یلاقي من الأضداد: «إني لأجد نَفَس الرحمن من قبل الیمن» وهو ما مشی إلی الیمن، لكن النفس أدركه من قبل الیمن، وما أدركه حتی أتاه، فجاء بالتنفیس من الشدة والضیق الذي كان فیه بالأنصار (الفتوحات، 1/267، 2/390).

ثم یقول ابن عربي: إن الموجودات هي كلمات الله التي لاتنفد والكلمات المعلومة في العرف إنما تتشكل عن نظم الحروف من النفس الخارج من المتنفس المتقطع في المخارج فیظهر في ذلك التقاطع أعیان الحروف علی نسب مخصوصة فتكون الكلمات. ثم یشرح ابن عربي كیف جعل الله النطق في الإنسان علی أتم الوجود، فجعل له 28 مقطعاً للنفس یظهر في كل مقطع حرفاً معیناً ما هو عین الآخر، میزه المقطع، مع كونه لیس غیر النفس، فالعین واحدة من حیث أنها نَفَس وكثیرة من حیث المقاطع، ولما عرّفنا الله أنه باطن وظاهر وأن له كلاماً وكلمات یقول: إن له نفساً من اسم الرحمن، استوی به علی العرش. ویضیف ابن عربي: إن الله أبرز في هذا النَفَس الإلهي افتتاح الوجود بالكون، إذ كان ولا شيء معه، ثم لما أوجد العالم، وفتح صورته في العماء، وهو النفس الذي هو الحق المخلوق به مراتب العالم وأعیانه. وكل ذلك كلمات العالم، فتسمی في الإنسان حروفاً من حیث آحادها وكلمات من حیث تركیبها، كذلك أعیان الموجودات حروف من حیث آحادها وكلمات من حیث امتزاجاتها. وجعل في النَفَس الإلهي علة الإیجاد من جانب الرحمة بالخلق لیخرجهم من شر العدم إلی خیر الوجود (ن.م، 2/390-392).

ومما یجدر ذكره أنه أكد مراراً علی أن الوجود خیر والعدم شر. وبیّن ذلك بعبارات مختلفة وربطها بالنفس الرحماني. ویورد بناء علی ذلك نقطة مهمة وهي أن الموجودات تشعر بالشدة في شیئیتها الثبوتیة، وتتمنی أن تلبس رداء الوجود العیني وأن یمنحها نفس الرحمن الوجود العیني، ویقول: لولا وجود النفس واستعدادات المخارج في المتنفس ما ظهر للحروف عین، ولولا التألیف ما ظهر للكلمات عین، فالوجود مرتبط بعضه ببعض، فلولا الحرج والضیق ماكان للنفس الرحماني حكم، فإن التنفیس هو إزالة عین الحرج والضیق، فإنه یمكن أن یوجد هذا المعدوم، فإذا علم الممكن إمكانه، وهو في حال العدم كان في كرب الشوق إلی الوجود الذي تعطیه حققته لیأخذ بنصیبه من الخیر، فنفس الرحمن بنفسه هذا الحرج فأجده، فكان تنفیسه عنه إزالة حكم العدم فیه، وكل موجود سوی الله فهو ممكن، فله هذه الصفي، فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود كما أعطی النفس وجود الحروف، فالعالم كلمات الله من حیث هذا النفس (ن.م، 2/458-459، قا: فصوص، 112).

ویبحث ابن عربي في مواضع مختلفة من كتبه حول صلة نَفَس الرحمن بظهور الموجودات، ویبین ذلك بعبارات مختلفة، فنقرأ في موضع أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني، ولابد لكل موصوف بصفة أن یتبع الصفة جمیع ماتستلزمه تلك الصفة، فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم، فهو لها كالجوهر الهیولاني، ولیس إلا عین الطبیعة لتلك الصور (ن.م، 143-144). ویضیف ابن عربي في موضع آخر: فمن أراد أن یعرف النفس الإلهي فلیعرف العالم، فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فیه، أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفّس الله بن عن الأسماء الإلهیة، ما تجده من عدم ظهور آثارها، فامتنّ علی نَفسه بما أوجده في نَفَسه (ن.م، 145). ویقول في موضع آخر: فهكذا تحدث الكائنات في النفس الرحماني، فتظهر أعیان الكلمات، وهو المعبر عنها بالعالم، فالكلمة ظهورها في النفس الرحماني والكون ظهورها في العماء فبما هو للنفس یسمی كلمة وأمراً، وبما هو في العماء یسمی كوناً وخلقاً وظهور عین. فجاء بلفظة «كن» لأنها لفظة وجودیة فنابت مناب جمیع الأوامر الإلهیة، كما نابت الفاء والعین واللام – الذي هو فعل في الأوزان – مناب جمیع الأوزان (الفتوحات، 2/423). ثم یستنتج ابن عربي أن جوهر العالم هو النفس الرحماني الذي ظهرت فیه صور العالم، فالعالم كله من حیث جوهره شریف، لاتفاضل فیه، وإن الدودة والعقل الأول علی السواء في فضل الجوهر، وما ظهرت المفاضلة إلا في الصور، وهي أحكام المراتب، ولیست الصور بشيء غیر أعیان الممكنات (ن.م، 3/452-453).

الصفحة 1 من15

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: