الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / العلوم / ابن سینا /

فهرس الموضوعات

ابن سینا

ابن سینا

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/16 ۲۱:۱۱:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

ولایمكن اعتبار هذا الأمر منفصلاً عما قاله العارفون عن أسرار وأصوار القلب البشري وعبروا عنه بعبارات: «المرآة الإلهیة» و«جام جم» و«جام جهان نما» (الكأس التي یری العالم من خلالها) وأمثال ذلك. وإن الحدیث الذي أورده ابن سینا عن المجاهدة والریاضة وتنائجهما والذي شبهه بجلاء مرآة القلب وظهور وتجلّي الحق فیها («الإشارات…»، 2/119). هو من المباحث الخاصة بالصوفیة، وهو نفس الموضوع المذكور في مثنوي المولوي خلال قصة «الرسامون الصینیون والرومیون» وفي آثار العارفین الآخرین بشكل تفصیلي. وإن أمثال آرائه هذه خاصة تصوره عن ذات واجب الوجود وفیض الوجود عنه، تبدو فیها الخصائص العرفانیة بشكل واضح؛ ولیس عبثاً أن ابن تیمیة وهو ینتقد رأي ابن سینا – الذي قال فیه إن ذات البارئ تعالی هي وجود مطلق بشرط الإطلاق – اعتبره إمام العارفین القائلین بوحدة الوجود في العصور اللاحقة (ظ: ماسینیون، «مجموعة…»، 229، 187، «الآثار الصغیرة»، II/468)؛ ولكن حتی لو كان هناك مجال للطعن بهذا الرأي، فإنه لاشك في أن بعض آثار ابن سینا لها أهمیة خاصة في بیان معاني وموضوعات العرفان النظري ولها موقعها المتمیز في أدبنا العرفاني. وإن الأنماط الثلاثة الواردة في آخر كتابه الإشارات والتنبیهات تحت العناوین: «في البهجة والسعادة» و«في مقامات العارفین» و«في أسرار الآیات»، وكذلك «رسالة العشق»، والشروح والتعلیقات التي كتبها علی المختارات من فصول أثولوجیا (ویبدو أنها قسم من كتابه المفقود الإنصاف)، كانت جمیعها جهوداً قیمة في تدوین وإیضاح بعض القضایا الرئیسة للتصوف، وتطبیق أسس الفلسفة علی درجات السیر والسلوك وأسس المعرفة الشهودیة والإشراقیة، وتوزید علم التصوف بالبیان الفلسفي، وبعبارة أخری إضفاء الصبغة الفلسفیة علی العرفان. ویبدو مستبعداً أن لایكون نطاق تأثیر هذه الآثار قد شمل الأدب العرفاني في الفترات اللاحقة، وأن یكون أمثال أحمد ومحمد الغزالیین والسهروردي المقتول وابن عربي وأتباع وشراح مدرسته لم ینتفعوا منها بنحو من الأنحاء في شرح وتفسیر الجوانب النظریة وتفسیر وتعلیل القضایا العرفانیة والإشراقیة، خاصة وقد قُدمت في الآثار التي ورد ذكرها تسویغات وتوضیحات ذات طابع فلسفي لأهم المواضیع والقضایا التي كانت مطروحة في آثار العارفین كمراتب ومقامات السلوك والسیر التكاملي ولزوم التجرد وترك ماسوی الله، وأهمیة الریاضة وتزكیة النفس وتلطیف «سر» السالك في تحصیل المعرفة، وكیفیة الكرامات واكتساب الملكات والقوی النفسیة السامیة بشكل أثار اهتمام أهل العلم والمعرفة الذین جاؤوا بعده، حتی إن عالماً مثل فخرالدین الرازي الذي شرح الإشارات والتنبیهات شرحاً نقدیاً قال في وصف النمط التاسع منه: «هذا الباب أجلّ ما في هذا الكتاب، فإنه رتب علوم الصوفیة ترتیباً ما سبقه إلیه من قبله ولالحقه من بعده» (2/100؛ وعن الموضوعات العرفانیة الواردة في الأنماط الثلاثة الأخیرة من الإشارات، ظ: فروزانفر، 2/190-195).

إن واحداً من هذا النوع من آثار ابن سینا كما أشرنا إلی ذلك هو رسالة العشق في بیان أحوال وأطوار العشق التي تتفق وتقترب كثیراً من نظریات العارفین في هذا الباب. فالعشق في هذه الرسالة هو الطاقة التي تسري في جمیع أجزاء ومراتب عالم الوجود – بدءاً من الجماد والنبات والحیوان وانتهاءً بالأجرام السماویة والنفوس الملكیة والإلهیة – وتربط ذرات العالم ببعضها. وهي التي تدفع كل جزء نحو الكمال، وبها یرتبط قوام الوجود ودوامه، بل إنه بذاتها هي الوجود. والعشق في حقیقته هو الشوق والانجذاب الطبیعي نحو الخیر والجمال؛ ولما كانت ذات الحق هي الجمال المطلق والخیر المحض، فهي معشوقة الجمیع. ولما كانت موجودات عالم الوجود بأسرها هي تجلیات للذات الإلهیة فإن تلك الذات المقدسة وبمشاهدتها جمالها وخیریتها في مرآة أعیان الممكنات تعشق مظاهر ذاتها ، طبقاً لرأي ابن سینا في هذه الرسالة «الخیر یعشق الخیر»، إذن فالعاشق والمعشوق والطالب والمطلوب كلاهما واحد (ظ: ابن سینا، الشفاء، الإلهیات، 363، 369). وفي الفصل الخامس من هذه الرسالة وتحت عنوان «في عشق الظرفاء والفتیان للأوجه الحسان»، طرح ابن سینا موضوع أنواع العشق المجازي والتعلق بالوجوه الحسان، وعلل ذلك بأنه تشبّه بالعقول المفارقة والنفوس الفلكیة ووسیلة لتلطیف الروح والاقتراب من المحبوب الحقیقي.

وكما یلاحظ فإن ما قیل في أدبنا العرفاني في العصور اللاحقة عن العشق وأطواره وأشكاله، إنما هو في الحقیقة شرح وتفصیل لنفس هذه الموضوعات بألفاظ وعبارات عرفانیة وشاعریة. وبطبیعة الحال فإن هذا الرأي لایعني أن أقوال شخصیات كأحمد الغزالي وعین القضاة والسنائي والنظامي والعطار والمولوي والعراقي وروزبهان والآخرین كانت متأثرة بالضرورة بآرائه في العشق والموضوعات المرتبطة به، بل المقصود بالدرجة الأولی هو إشهار وجود انسجام وتناغم بین آرائه وبین آراء الصوفیة والعرفان النظري وكیفیة الامتزاج والتوفیق بین الفكر الاستدلالي المشائي وبین الرؤیة الذوقیة والشهودیة العرفانیة والإشراقیة وبوادر هذا التیار الذي بلغ درجة الكمال في الحكمة المتعالیة لمدرسة صدر المتألهین بشكل یلفت الانتباه؛ رغم أنه لایمكن أن نستبعد تماماً التأثیرات المباشرة أو غیر المباشرة لآرائه علی أفكار أهل الحال والعرفان في هذه الموضوعات.

إن كلام ابن عربي عن المحبة وتقسیمها إلی ذاتیة وطبیعیة وعنصریة وروحانیة وإلهیة (ظ: الفتوحات…، 2/320 وما بعدها)، تذكر قبل كل شيء بآراء ابن سینا في هذا المضمار وتقسیمه للعشق الوارد في رسالة العشق، رغم أن آراء هذین الاثنین تعود لعالمین مختلفین كما توجد اختلافات بینهما في استخدام الألفاظ والمصطلحات، حیث استخدم ابن سینا لهذا المعنی بشكل عام كلمة «العشق»، بینما استخدم ابن عربي كلمتي «الحب» و«المحبة». وآثر ابن سینا مصطلاح «العشق الطبیعي» علی مصطلح «العشق الاختیاري»، بینما اعتبره ابن عربي بمعنی الحب الغریزي الحیواني (ظ: ابن سینا، «رسالة العشق»، 381؛ ابن عربي، ن.م، 2/335-335). وفي الحقیقة فإن ابن سینا وابن عربي قریبان جداً من بعضهما في الرؤیة، فكلا الاثنین یعتبران ذات واجب الوجود هي الجمال المطلق ومُحبة الجمال، وأن الجمال هو العلّة ومبدأ الحب، وأن الحب (العشق) هو أصل الوجود ومبدؤه ومبقیه (ظ: ابن سینا، الشفاء، الإلهیات، 368-369، «رسالة العشق»، 378-379؛ ابن عربي، ن.م، 2/323، 326، فصوص…، 214). وكما اعتبر ابن سینا السیر التكاملي لأجزاء العالم حركة شوقیة نابعة عن العشق الطبیعي الداخل فیها (ظ: ابن سینا، ن.م، 378-383، 393، 395)، فإن ابن عربي أیضاً كان یری في حركة العالم من العدم نحو الوجود حركة «حبیة»، وأنه لاتوجد في العالم سوی «الحركة الحبیة» (ابن عربي، ن.م، 203-204).

وفي باب العشق المجازي وعشق الجمال وعلاقته بالخیر المحض والجمال المطلق ودوره في حدوث العشق الحقیقي أیضاً، الذي یعتبر في كلا المدرستین الشهودیة والوجودیة الصوفیة من الموضوعات المهمة، فإن كلام ابن سینا في هذا الباب الوارد في رسالة العشق قد برّر كل ذلك شرعیاً وأخلاقیاً، إضافة إلی إسناده لأسس علمیة وفلسفیة. ولم یقتصر ذكره للأمور العرفانیة وتبریرها وشرحها بشكل أخلاقي وفلسفي في آثاره علی ما في رسالة العشق و تعلیقات أثولوجیا و الأنماط الأخیرة من كتاب الإشارات والتنبیهات، بل یمكن العثور بكثرة علی أمثال هذه الإشارات والنقاط في بعض رسائله الأخری أیضاً. ونكتفي هنا بذكر نماذج علی ذلك:

ففي رسالة «الكشف عن ماهیة الصلاة»، ضمن شرحه للكمالات التي أودعت في جبلة الإنسان، قسم الصلاة إلی ظاهریة وباطنیة، وعبر عن الصلاة الباطنیة بالمشاهدة الربانیة وإدراك الحقیقة الإلهیة التي هي نتیجة لتزكیة النفس من العلائق الدنیویة وللرؤیة الروحانیة، وفي هذه الحال تتحول الصلاة إلی مناجاة القلب والروح، والعبادة إلی المعرفة (ص 298-310). وفي المقدمة الثانیة من رسالة «سر القدر» فسّر مسألة الثواب والعقاب – خلافاً لآراء علماء الكلام وأهل الظاهر – بالقرب من مقام القدس الإلهي أو البعد عنه (ص 239). وتحدث في الرسالة «النیروزیة» عن المعاني الرمزیة لحروف الهجاء التي حظیت باهتمام أهل العرفان ممن سبقوه أو جاؤوا بعده (ظ: الشیبي، 190-199)، ومن هذا الطریق شرع في شرح الحروف المقطعة الواردة في أوائل بعض سور القرآن الكریم (ابن سینا، «النیروزیة»، 134-141). كما أن ابن أبي أصیبعة قد ذكر هو الآخر من بین آثار ابن سینا رسالة في بیان ماهیة الحروف (ص 29).

كان استخدام القصص التمثیلیة والحكایات الرمزیة والقائمه علی استخدام الكنایة اعتماداً علی إعطاء شخصیت للأشیاء والحیوانات والمعاني الذهنیة والانتزاعیة مألوفاً في آداب الشعوب الإسلامیة قبل عهد ابن سینا. ونری نماذج منه الیوم في مؤلفات مثل كلیلة ودمنة ورسائل إخوان الصفا، إلا أن ظهور قصص كهذه بصورة «نوع أدبي» قائم بذاته لتبیان المعاني العرفانیة وببناء منظم متكامل وانطباق أجزاء وعناصر الموضوع علی المشبّه به، إن لم یكن قد بدأ في العالم الإسلامي مع ابن سینا، فلاشك في أنه قد ازدهر بواسطته. وإن أشخاصاً كالسنائي والغزالي والنظامي والعطار والمولوي والجامي وخاصة السهروردي ممن استخدموا هذا الأسلوب في بعض آثارهم في العصور اللاحقة كانوا قد استلهموه من كتاباته أو تأثروابها.

إن قصة «حي بن یقظان» التمثیلیة هي واحدة من أفضل وأهم نماذج هذا النوع الأدبي، وكانت منذ البدایة مثاراً لاهتمام أهل العلم والمعرفة. ویربط بعض المحققین المعاصرین بینها وبین قصة «پویمندرس» الهرمسي (ظ: كربن، 26-25؛ عفیفي، 845). ففي هذه الرسالة صوّرت النفس الإنسانیة علی هیئة سالك یتوصل إلی معرفة الحقیقة بقیادة العقل الفعال، وینتقل من خلال السیر والسلوك في العوالم المختلفة من مرتبة العقل الهیولاني إلی مرتبة الكمال والاتصال بالعقل الكلي. وقد كتب ابن زیلة أحد طلاب ابن سینا تعلیقاً علی هذه القصة ترجم في نفس الفترة إلی اللغة الفارسیة ثم نظمه ابن الهباریة بالعربیة شعراً (ظ: مهدوي، 94-96). وقد ألف ابن طفیل (ن.ع) قصة رمزیة وفلسفیة أخری باسم حي بن یقظان ممتزجة بإشارات الحكمة والعرفان بنفس هذا الأسلوب، وإن كانت بشكل آخر؛ ونظم كل من السنائي والغزنوي سیر العباد إلی المعاد وشمس ‌الدین البردسیري مصباح الأرواح، في نفس هذا الموضوع وعلی نفس المنوال آخذین بنظر الاعتبار الموضوعات الواردة في مؤلفات ابن سینا؛ كما أخذ شهاب ‌الدین السهروردي في قصته الرمزیة عقل سرخ [العقل الأحمر] وفي قصة الغربة الغربیة وبعض رسائله وقصصه الرمزیة الأخری بنظر الاعتبار كتابات ابن سینا هذه. كما أن «رسالة الطیر» التي ربما كانت نفس التصنیف الوارد في فهرست آثاره باسم «الشبكة والطیر» هي أیضاً قصة من هذا النوع الذي یتحدث عن تعلق النفس بالبدن وطریقة انعتاقها من قفص القالب العنصري وكیفیة التحاقها بالأصل العلوي والموطن الأول (ص 400-405). ولابن سینا أیضاً في نفس هذا الموضوع قصیدة باسم «العینیة» (أو النفسیة أو الورقائیة) تتحدث عن هبوط طائر اروح من عالم العقول المجردة إلی سجن البدن، وأخیراً أملها في العودة إلی وطنها الأول. ولاشك في أن «رسالة الطیر» التي كتبها ابن سینا قد أثّرت تأثیراً تاماً في قصة الطیور – التي تجدُّ في الحصول علی العنقاء – التي كتبها محمد الغزالي باللغة العربیة، ثم قام أحمد الغزالي بكتابتها بالفارسیة، وهذه القصة كانت ملهمة لفرید ‌الدین العطار في إبداع منظومته المعروفة منطق الطیر التي تعد أكبر نماذج أدب التمثیل العرفاني في العالم الإسلامي، وأكبر آثار العالم العرفانیة الیوم. وفي أیدینا عدة ترجمات وشروح لـ «رسالة الطیر» منها ترجمة السهروردي وترجمة وشرح عمر بن سهلان الساوي التي تم طبعها (مهدوي، 178). وإن تشبیه النفس البشریة بالطائر الذي هبط من العالم العلوي وابتلائه بمصیدة البدن والقفص الجسماني من الموضوعات القدیمة جداً في الأدب الدیني والعرفاني في العالم، وقد ورد الحدیث عنه في العقائد الأورفیوسیة ببلاد الیونان القدیمة بالعبارة الشهیرة «الجسد سجن [الروح]». كما یشاهد هذا الموضوع وبشكل متكرر وبتعابیر مختلفة في رسائل أفلاطون وفي آثار الغنوصیین وحكماء الأفلاطونیة الحدیثة وفي أدبنا العرفاني.

تنتهي القصیدة العینیة بأبیات وكأن ابن سینا كان في حیرة من أمر هبوط النفس والسبب في ذلك والغایة التي كانت تسیر إلیها. وبطبیعة الحال فإن القضیة التي طرحها قد أجیب عنها في أغلب المدارس العرفانیة الغربیة أي الأورفیوسیة والأفلاطونیة والأفلاطونیة الحدیثة والغنوصیة بواسطة نظریة التناسخ وسیر الأرواح في الأبدان وتصفیتها التدریجیة في النشآت المتتابعة، لكن ابن سینا قد اختار في إلهیات الشفاء وفي النمط الثامن من الإشارات وكذلك في «تفسیر كتاب أثولوجیا»، طریقاً آخر لإیضاح الموضوع ینسجم مع مبادئه العقائدیة. فللنفس – حسب رأیه – قوی یجب أن تظهر في العمل إلی الفعلیة، وإن كمال النفس إنما هو في تحقق هذه القوی وظهورها إلی حالة الفعلیة، وإن البدن وقواه هي وسائل بلوغ هذا الهدف، فإذا لم تلتصق النفس بالبدن ظلت قواها الكامنة باطلاً وعبثاً ولم تنل معرفة حقیقتها ولم تصل إلی كمالها. فالقوة العملیة للنفس تستطیع أن تظهر وتتحقق عن طریق البدن فحسب، وهي لهذه الأسباب محتاجة للبدن، ولن یصیبها الضرر بالتصاقها بالبدن، بل وتنتفع من ذلك (ظ: ابن سینا، «تفسیر كتاب أثولوجیا»، 41-42، 56، 66، 67). كما أن حدیثه الوارد ضمن ردّه علی نظریة تناسخ الأرواح في إلهیات الشفاء (2/431) وفي النمط الثامن من الإشارات (2/94-95) وفي نفس النمط (2/97) الذي اعتقد فیه بشكل من أشكال السعادة الأخرویة للناس الجاهلین وللنفوس التي لم تكتمل، قد أجاب فیه من جهة أخری علی القضیة الواردة في نهایة القصیدة العینیة.

كانت هذه القصیدة في العصور اللاحقة مثار اهتمام المتخصصین الشدید، الذین كتبوا علیها شروحاً كثیرة من بینها شروح محیي ‌الدین ابن عربي وعفیف ‌الدین التلمساني وداود الأنطاكي من القدماء، وشرح الملا هادي السبزواري من المتأخرین (عن مخطوطات هذه الشروح وترجماتها، ظ: مهدوي، 195-197). وتوجد علاقة وثیقة بین الموضوع الذي بحث في «رسالة الطیر» وفي القصیدة العینیة، أي انفصال الروح عن موطنها الأول وهبوطها إلی عالم التراب وسجنها في البدن المادي وشوقها للعودة إلی ماكانت علیه وبین الموضوعات الأخری كتقدم خلق الروح علی الجسم والعهد والمیثاق الأزلیین، وبیان لوعة العشق والشكوی من الفراق، والنوح والأنین علی أمل الوصال وأمثال هذه الأمور. كما أن كثیراً من أشد النظریات أهمیة وأجمل المضامین ذات العلاقة بهذه المعاني قدجری بحثها في الأدب العرفاني مع مطابقتها بما ورد في الإشارات القرآنیة.

وخلال الحدیث عن آثار ابن سینا لابد من الحدیث عن قصة «سلامان وأبسال» التي أشار إلیها نفسه في بدایة النمط التاسع من الإشارات وفي رسالة «القضاء والقدر» (ص 354). ولاتوجد الیوم نسخة من هذه القصة، إلا أن السهروردي قد عدها في بدایة «قصة الغربة الغربیة» بشكل صریح من مؤلفات ابن سینا وذلك عند ذكره لآثاره (2/275)، كما نقلها ملخصة نصیر الدین الطوسي في شرحه لكتاب الإشارات وبیّن رموزها وشرح موضوعاتها العرفانیة (2/101-104). وهذه القصة أیضاً من الأدب التمثیلي الرمزي والعرفاني من نمط قصة ابن سینا الأخری «حي بن یقظان»، وهي في ابتلاء الروح في العوالم الجسمانیة ووعیها واتجاها نحو الانعتاق ومجاهداتها وسیرها نحو الكمال، وأخیراً خلاصها النهائي بحصول المعرفة والوصول إلی الغایة. وإن قصة ابن سینا «سلامان وأبسال» لاعلاقة لها إطلاقاً بقصة أخری بهذا الاسم كان حنین بن إسحاق قد ترجمها من الیونانیة إلی العربیة (ظ: ابن سینا، «قصة سلامان وأبسال»، 158 وما بعدها)، التي نظمها الجامي بإسهاب (ظ: «مثنوي سلامان»)، ولابقصة سلامان وأبسال الواردة في حي بن یقظان التي كتبها ابن طفیل. ورغم أن للقصص الثلاث جانباً رمزیاً وتمثیلیاً، إلا أنه وباستثناء هذا الجانب العنوان، لایوجد وجه آخر للاشتراك بینها.

رغم أن القصص التمثیلیة والمرمزیة للمؤلفین المسلمین في الموضوعات الفلسفیة والعرفانیة كان مستلهماً من الفنون الأدبیة الشائعة بین الأمم الماضیة والنماذج الیونانیة والإیرانیة والهندیة ومتأثراً بها، لكنه شق طریقه في الفترات اللاحقة باتجاه الغرب فأثر في أمثال هذا الفن من آثار المؤلفین المسیحیین والیهود. وإن الشاعر الإیطالي دانته كان قد أخذ بنظر الاعتبار أمثال هذه الآثار للمؤلفین المسلمین عند تألیفه «الكومیدیا الإلهیة» (ظ: آسین پلاثیوس، «الإسلام والكومیدیا الإلهیة»؛ نیكلسون، 50-57). وإن نماذج الأدب التمثیلي المدون باللغة العبریة خلال القرون الوسطی قد تأثرت بالقصص التمثیلیة المدونة بالعربیة (ظ: جودائیكا، II/644)، كما أن إبراهیم بن عزرا (الفیلسوف الیهودي الذي عاش في القرن الثاني عشر المیلادي) قد ترجم قصة حي بن یقظان لابن سینا إلی اللغة العبریة (ن.م، VIII/1166).

 

ب- اللغة وعلم اللغة

غطت شهرة ابن سینا في الفلسفة والطب علی جوانب شخصیته الأخری، وأدت إلی أن تظل بعض آثاره وآرائه ونظریاته في موضوعات الأدب واللغة بعیدة عن الأنظار، ثم ضاعت بمرور الزمن. ذكر أبو عبید الجوزجاني تلمیذ ابن سینا الوفي في رسالة سرگذشت ابن سینا [قصة حیاة ابن سینا] أنه جری في مجلس علاء الدولة بین ابن سینا واللغوي المعروف أبي منصور الجبّان بحث مسألة في اللغة، فتكلم ابن سینا فیها بما حضر في ذهنه آنذاك، فالتفت إلیه أبو منصور وقال له: أنت فیلسوف وحكیم ولكن لم تقرأ في اللغة ما یرضي كلامك فیها. فثقل علی الشیخ هذا الكلام وتوفر علی درس كتب اللغة والأدب ثلاث سنین حتی بلغ مرتبة عالیة في ذلك؛ ثم كتب ثلاثة كتب، أحدها علی طریقة ابن العمید والآخر علی طریقة أبي إسحاق الصابئ والثالث علی طریقة الصاحب، وأمر بتجلیدها وإخلاق جلدها؛ ثم أوعز إلی الأمیر علاء الدولة أن یعرضها علی أبي منصور الجبان باعتبارها كتباً قدیمة ویطلب إلیه إیضاح ما یغمض من ألفاظها. فنظر أبو منصور فیها وصعب علیه فهم كثیر مما فیها من لغات نادرة ومعاني صعبة، فقال له ابن سینا: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الكتاب الفلاني في الموضع الفلاني من كتب اللغة، وذكر له كتباً معروفة في اللغة كان قد حفظ تلك الألفاظ منها (ص 10-11). وذكر أبو عبید الجوزجاني في هذه الرسالة أیضاً أن ابن سینا قد ألف في نفس تلك الفترة كتاباً في اللغة سماه لسان العرب ولم یُبیِّضه ثم توفي وبقي الكتاب علی مسودته (ن.ص). وقد ذكر ابن أبي أصیبعة أنه رأی قسماً من هذا الكتاب (3(1)/27).

الصفحة 1 من13

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: