الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / العلوم / ابن سینا /

فهرس الموضوعات

ابن سینا

ابن سینا

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/16 ۲۱:۱۱:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

اِبْنُ سینا، أبو علي الحسین بن عبد الله بن سینا (370-428هـ/980-1037م)، أعظم فیلسوف مشائي والطبیب الإیراني الشهیر في العالم الإسلامي.

 

حیاته وسیرته

لدینا معلومات وافیة عن حیاته، لانمتلكها عن أي فیلسوف مسلم آخر. ویعود الفضل في هذا إلی الترجمة التي كتبها تلمیذه الوفي أبو عبیدة الجوزجاني (تـ 438هـ/1046م) والتي یشكل الجزء الأول منها ما كتبه ابن سینا نفسه عن حیاته، والجزء الثاني ما كتبه الجوزجاني عنه. وقد عُرفت هذه الترجمة فیما بعد بـ «السیرة». وأقدم نص بین أیدینا لهذه السیرة ورد في كتاب تتمة صوان الحكمة لظهير ‌الدین أبي الحسین علي بن زید البیهقي، والذي یحتوي علی معلومات جدیدة حول ابن سینا أیضاً، وإلی جانب هذا هناك تقریران آخران عن حیاة ابن سینا في عیون الأنباء لابن أبي أصیبعة، وتاریخ الحكماء للقفطي وهناك تضارب في تقاریر كل من المصدرین رغم أنهما قد اعتمدا مصدراً واحداً وهو روایات الجوزجاني، سواء تلك المنقولة عن ابن سینا أو التي أوردها الجوزجاني نفسه. ویبدو أن ابن خلكان قد اعتمد في وفیات الأعیان (2/157-162) علی روایة البیهقي وأورد بعض نقاط منها لانجدها عند ابن أبي أصیبعة والقفطي. وقد كشف أحمد فؤاد الأهواني قبل سنوات نصاً عن سیرة ابن سینا في حاشیة مخطوط نزهة الأرواح للشهرزوري، بخط یحیی بن أحمد الكاشاني في 754هـ/1353م، وتصور الأهواني أن تلك السیرة حررها الكاشاني، وقد نشرها باسم «نكت في أحوال الشیخ الرئیس ابن سینا» ضمن مجموعة ذكری ابن سینا التي صدرت عام 1952م بالقاهرة وذلك بمناسبة ألفیة ابن سینا، وفي 1974م قام ویلیام غولمان بكتابة تلك السیرة بأسلوب نقدي اعتماداً علی عدة مخطوطات ونشرها مع ترجمة إنجلیزیة باسم «حیاة ابن سینا». وتعدّ الترجمة الأخیرة أفضل ترجمة لابن سینا، رغم ما فیها من أخطاء وهفوات في قراءة وترجمة بعض العبارات، وقد أشار إلیها أولمان في نقد نشرته مجلة «الإسلام» الألمانیة عام 1978م (ص 151-148).

ونحن نتناول حیاة ابن سینا طبقاً لروایة ابن سینا نفسه، ونكملها بما أورده الجوزجاني.

ولد ابن سینا في بخاری حوالي 370هـ/980م. وكان أبوه من بلخ وانتقل إلی بخاری في عهد الملك الساماني نوح بن منصور (366-387هـ/977-997م)، وتولی العمل في جهاز الإداري بقریة یُقال لها خرمیثن. وتزوج امرأة (اسمها ستاره؟) من قریة قریبة منها تُدعی أفشنة، وأقام فیها، وهي مسقط رأس ابن سینا. ثم ولد أخوه الأصغر محمود بعده بخمس سنین. تعلم ابن سینا في بادئ الأمر القرآن والأدب، فلما بلغ عشر سنین حفظ القرآن بكامله وكثیراً من كتب الأدب حتی نال إعجاب الناس. وفي هذه الأثناء انصاع أبوه لدعوة داعیة إسماعیلي مصري، وأصبح من أتباع الإسماعیلیة، وكان أخوه منهم أیضاً. ودعا الأب ولده ابن سینا إلی المذهب الإسماعیلي أیضاً. ورغم إصغائه لأقوالهم وفهمه لأحادیثهم في العقل والنفس، إلا أنه لم یستطع أن یأخذ بمذهبهم وینضم إلیهم. كان والده یطالع رسائل إخوان الصفا، كما كان ابن سینا یطالعها أحیاناً. ثم وجهه أبوه إلی بقال یعرف الحساب الهندي یقال له محمود المسّاح، فتعلّم علیه هذا الفن. وفي هذه الفترة قدم بخاری حكیم یدعی أبا عبد الله (الحسین بن إبراهیم الطبري) الناتِلي وكان یدعي العلم بالفلسفة، فأنزله والد ابن سینا في منزله وقرأ ابن سینا الفلسفة علیه. وكان ابن سینا قبل مجيء الناتِلي إلی بخاری یختلف في الفقه إلی اسماعیل الزاهد ویتلقف مسائل الخلاف ویناظر ویجادل بأسلوب الفقهاء. ثم ابتدأ یقرأ علی الناتلي «المدخل إلی منطق أرسطو» (إیساغوجي) للفیلسوف الأفلاطوني الحدیث فرفوریوس (234-301 أو 305م)، وقطع شوطاً كبیراً في دراسته حیث إنه اكتشف نقاطاً جدیدة مما أذهل أستاذه، فدعا أباه وأرغمه علی أن یسمح لابنه بالانصراف كلیة إلی العلم. قرأ ابن سینا علي الناتلي أجزاء بسیطة من المنطق، لكنه وجده جاهلاً بدقائق هذا العلم، لهذا انكبّ علی قراءة كتب أرسطو في المنطق والشروح علیها، حتی برع في هذا العلم. كما قرأ شیئاً من كتاب «العناصر، أو أصول الهندسیة» للریاضي الیوناني الشهیر أقلیدس (القرن 4 و3 ق.م)، علی الناتلي، لكنه أكمل قراءة باقي مسائل الكتاب لوحده وحلّها. ثم ابتدأ بقراءة كتاب المجسطي المعروف تألیف بطلیموس الفلكي الیوناني الكبیر (الثلث الثاني من القرن 2 ق.م) علی الناتلي. وبعد قراءة مقدماته والوصول إلی الأشكال الهندسیة، طلب منه الناتلي أن یقرأ الكتاب لوحده ویحلّ مسائله ویسأله عن مشكلاته، غیر أنه لم یفعل ذلك وحلّ المسائل بنفسه، حتی إن الناتلي كان یتوقف عند كثیر من المشاكل لولا توضیحات ابن سینا. وفي هذه الفترة غادر الناتلي بخاری صوب جُرجانج قاصداً بلاط أبي علي المأمون بن محمد خوارزمشاه. فعكف ابن سینا بنفسه علی قراءة متون وشروح كتب في الطبیعیات والإلهیات وتعلمها، حتی فُتحت بوجهه - على حد قوله- أبواب العلم. ثم نزع إلی علم الطب وانبری لقراءة الكتب الطبیة. والطب من وجهة نظره لیس من العلوم الصعبة، وبهذا أصبح فهی خلال فترة قصیرة عدیم المثل والنظیر حسب قوله، حیث اختلف إلیه فضلاء الطب وشرع بالمعالجات القائمة علی التجربة والتي عبر عنها بأنها لاتوصف. وفضلاً عن ذلك فقد كان مستمراً في مطالعاته في الفقه ومناظرة الآخرین علی هذا الصعید، وكان عمره آنذاك 16 عاماً. وأقبل بعد ذلك وخلال سنة ونصف علی العلوم، وأعاد قراءة كتب المنطق وجمیع أجزاء الفلسفة. وفي غضون هذه المدة ما نام لیلة واحدة بطولها ولااشتغل في النهار بشيء سوی المطالعة. وجمع بین یدیه ظهوراً من القراطیس، وكل حجة ینظر فیها یثبت مقدماتها القیاسیة، ویراعي شرائطها. وإذا تحیر في مسألة وما ظفر فیها «بالحد الأوسط» تردد إلی الجامع وصلّی وابتهل إلی الله تعالی كي یفتح له المنغلق منها. وكان یعود كل لیلة إلی داره ویضع السراج ویشتغل بالقراءة والكتابة، فإذا غلبه النوم أو أنذره ضعف مزاج، شرب قدحاً من النبیذ واستحكم وعاود القراءة ویقول «إنه كلما نام رأى تلك المسائل في النوم، ویتضح له الكثیر منها». وأخذ یسیر علی هذا المنوال فعرف الفنون كلها وبرع فیها في حدود الطاقة الإنسانیة، حتی قال إنه لم یتجدد له بعدها شيء، ولم یستكمل 18 سنة من عمره إلا وقد برع في المنطق والطبیعیات والریاضیات. ثم أقبل علی الإلهیات وقرأ كتاب ما بعد الطبیعة لأرسطو، بل أعاد قراءته على حد قوله أربعین مرة وحفظه عن ظهر القلب دون أن يفهمه ولم یعرف المقصود منه، حتى خاب أمله قائلاً «هذا كتاب لاسبیل إلی فهمه». واتفق أنه كان یوماً في سوق الوراقین فعرض علیه رجل كتاباً لأبي نصر الفارابي في أغراض ما بعد الطبیعة فانفتحت له بقراءته أغراض ذلك الكتاب.

وكان علی بخاری في تلك الفترة الأمیر نوح بن منصور الساماني. وقد عرض له مرض أعجز الأطباء. وكان اسم ابن سینا قد اشتهر في التوفّر علی العلم والقراءة، فسأل الأطباءُ الأمیرَ إحضاره، فحضر وشاركهم في معالجته، فأصبح منذ ذلك الیوم من حاشیة الملك والمقرین منه. وسأل ابنُ سینا الملك یوماً الإذن في دخول مكتبته الكبیرة والشهیرة، فنال الإیجاب، فرأی فیها الكثیر من الكتب في مختلف العلوم ما لم یقرع أسماع الناس اسمه ولم یرها هو لا من قبل ولا من بعد. فقرأ تلك الكتب وظفر بفوائدها. فاتفق أن احترقت تلك المكتبة بما فیها من كتب وقال بعض معاندين لابن سینا إنه هو الذي أحرقها لكي لا ینتفع بها الآخرون (عن هذه المكتبة واحتراقها، ظ: وایزوایلر، 63-48، سیما 56، حیث خمن أنّ المكتبة قد احترقت في ذي القعدة 389/تشرین الأول 999). وذكر ابن سینا أن عمره قد بلغ آنذاك 18 عاماً وقد فرغ من العلوم كلها. وقال إنه كان یمتلك حافظة أفضل في العلم خلال تلك الفترة، أما الیوم فقد نضج علمه، وإلا فعلمه نفسه لم یضف إلیه شيء جدید بعد ذلك.

وحینما كان عمره 22 عاماً، توفي والده (البیهقي، علي، 44). وتقلّد ابن سینا بعض الأعمال الحكومیة لدی الأمیر الساماني عبد الملك الثاني. وفي غضون تلك الفترة غزا بخاری رئیس الأسرة القراخانیة إیلك نصر بن علي، وفتحها وألقی في ذي القعدة 389/تشرین الأول 999 القبض علی عبد الملك بن نوح – آخر أمیر ساماني – وبعث به إلی أوزكند. ویبدو من ذلك أن ابن سینا قد أمضی ما یقرب من عامین في بلاط عبد الملك بن نوح، أي منذ وفاة نوح بن منصور (387هـ/997م) وحتی نهایة عهد عبد الملك (ظ: بارتولد، 268-267). وقد حرضت هذه التطورات السیاسیة وانهیار الدولة السامانیة في بخاری ابن سینا علی السفر أو حسب قوله «إن الضرورة قد دعته إلی الخروج من بخاری».

وفي حوالي 392هـ خرج من بخاری قاصداً جرجانج شمالي غربي خوارزم علی زيّ الفقهاء مع الطیلسان وتحت الحنك، واختلف إلی علي ابن مأمون بن محمد خوارزمشاه، من أمراء أسرة آل مأمون (حتی ح 387-399هـ/997-1009م). وكان الوزیر آنذاك هو أبا الحسین السهیلي الذي وصفه ابن سینا بحبه لمثل هذه العلوم. وورد اسم هذا الوزیر في نص ابن سینا وأیضاً في نص علي بن زید البیهقي (ص 45) أبو الحسین، غیر أن الثعالبي في یتیمة الدهر (4/254) قال إن اسمه هو أبو الحسن أحمد بن محمد السهیلي وقال بأنه قدم بغداد في 404هـ/1013م وتوفي فیها عام 418هـ/1027م. وأثبتوا لابن سینا في جرجانج – على حد قوله - «مشاهرة تقوم بكفایة مثله».

وذكر ابن سینا أن الضرورة قد دعت أیضاً إلی مغادرة جرجانج، ولم یُفصح عن هذه الضرورة، غیر أن النظامي العروضي (ص 77) نقل حكایة ذكر فیها أن السلطان محموداً الغزنوي (حكـ 388-421هـ/ 998-1030م) طلب من خوارزمشاه أبي العباس مأمون بن مأمون أن یبعث إلیه عدداً من علماء بلاطه من بینهم ابن سینا. ووافق بعض هؤلاء كأبي ریحان البیروني علی ذلك، فیما رفض ابن سینا وعالم آخر یُدعی أبا سهل المسیحي، مما اضطرهما إلی مغادرة جرجانج. ویمكن أن نلمس شیئاً من الحقیقة في هذه الحكایة، فمحمود الغزنوي سنّي متعصب، في حین أن ابن سینا شیعي المذهب (وقد رأینا كیف كان أبوه قد نزع إلی المذهب الإسماعیلي)، كما أن محمود الغزنوي لم یكن علی علاقة طیبة بالفلسفة والفلاسفة، فنجده في غزوه للري عام 420هـ/1029م «قد جمع 50 حملاً من دفاتر الروافض والباطنیة والفلاسفة من بیوتهم وأمر بإحراقها تحت أشجار المصلوبین (أي أولئك الذین صلبهم علی الأشجار)» (مجمل التواریخ والقصص…، (404). ورغم هذا لایمكن معرفة الدافع الأصلي الذي حمل ابن سینا علی مغادرة جرجانج ومعرفة الحقیقة التاریخیة لهذه «الضرورة». وعلی أي حال فقد توجه ابن سینا في حوالي 402هـ صوب نَسا وأبیورد (أو باوَرد) وطوس وسَمنگان (سمنقان) ثم إلی جاجرم آخر حدّ خراسان، ثم إلی جرجان. وذكر ابن سینا أنه كان یقصد بلاط شمس المعالي قابوس بن وشمگیر (حكـ 367-402هـ/978-1012م) أمیر جرجان الزیاري، فاتفق أن ثار الجند علی قابوس وخلعوه وسجنوه، فتوفي عام 403هـ. وخلف قابوس ولده منوجهر الذي أعلن طاعته لمحمود الغزنوي وتزوج بابنته. وواضح أنه من غیر الممكن لابن سینا أن ینسجم معه، لهذا وجد نفسه مرغماً علی مغادرة جرجان، وفي هذه الأثناء انضم إلیه تلمیذه الوفي أبو عبید الجوزجاني ولازمه حتی آخر حیاته، كما كان أول من كتب سیرة ابن سینا نقلاً عنه.

ومن الآن فصاعداً، ینبري الجوزجاني لإكمال سیرة ابن سینا، ویقول بأنه كان بجرجان رجل یقال له أبو محمد الشیرازي وكان محباً للعلوم واشتری لابن سینا داراً في جواره.

وفي حوالي 404هـ/1014م غادر ابن سینا جرجان منتقلاً إلی الري، فاتصل بخدمة السیدة (شیرین بنت الإسبهبذ شروین)، الملقبة بأم الملوك (تـ 419هـ/1028م)، أرملة فخر الدولة علي بن بویه (387هـ/997م) وأم مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة. فرحّبا به بسبب كتب وصلت معه وتضمنت تعریف قدره. واستولت علی مجد الدولة علّة المالیخولیا، فاشتغل ابن سینا بمداواته. وظل بالري إلی أن هاجمها شمس‌ الدولة أبو طاهر – ابن فخر الدولة الآخر – في 405هـ، وكان شمس الدولة قد ولي همدان وقَرمیسَن (كرمانشاه) بعد وفاة أبیه في 387هـ/997م. وحدث هذا الهجوم بعد اقتتاله مع هلال بن بدر بن حسنویه، وهو من أسرة كردیة كانت تحكم الجبل وقرمسین، وكان محبوساً عند سلطان الدولة (تـ 412هـ/1021م). ببغداد، فأطلقه سلطان الدولة وجهزه وسیره لقتال شمس الدولة الذي استولی علی بعض البلاد الأخری، وقتل هلال في القتال الذي وقع بین الجانبین في ذي القعدة 405، وعادت العساكر التي كانت معه إلی بغداد (ابن الأثیر، حوادث سنة 405هـ).

وفي غضون ذلك، اتفقت أسباب أوجبت بالضرورة خروج ابن سینا من الري حسب قول الجوزجاني، لكنه لم یكشف النقاب عن تلك الأسباب، ویحتمل أن الظروف السیاسیة والاجتماعیة في الري قد أصبحت علی حال لم تسمح لابن سینا بالبقاء أكثر فیها. وربما كانت التهدیدات التي كانت تتلقاها الري من محمود الغزنوي ذات تأثیر علی قراره في الخروج من هذه المدینة، فقد ورد عن خواندمیر (ص 128-129) أنه عندما انطلقت رایات السلطان محمود الغزنوي نحو العراق، اتجه الشیخ (أي ابن سینا) من الري إلی قزوین ومنها إلى همدان. وكان قد أصاب شمس الدولة القولنج آنذاك فأحضروا ابن سینا إلی قصره فعالجه حتی شفائه ونال خلعاً كثیرة ورجع إلی داره بعدما أقام في القصر أربعین یوماً بلیالیها، وصار من ندماء شمس الدولة. ثم اتفق نهوض الأخیر إلی قرمیسن لحرب عَنّاز. وكان حسام ‌الدین أبو الشوك فارس بن محمد بن عَنّاز رئیس قبیلة شاذَ نجان الكردیة یحكم المنطقة الكائنة علی طرفي سلسلة الجبال بین كرمانشاه وقصر شیرین الحالیة. وبعد اندحار هلال بن بدر علی ید شمس الدولة وفقدانه أراضیه، قرر عنّاز – الجار الأبعد – الاستیلاء علی تلك الأراضي. وعندما علم شمس الدولة بنیة خرج لقتاله، وكان ابن سینا معه. وانكسر شمس‌ الدولة في تلك الحرب وعاد إلی همدان، وقد وقعت تلك الحرب في 406هـ/1015م. ثم قلّد شمس الدولة ابن سینا الوزارة، لكن لم یلبث أن نشب نزاع بین ابن سینا وعسكر شمس‌ الدولة المؤلف من مشاة الدیالمة وخیالة الأتراك. وقد ثار العسكر علی ابن سینا لاضطرابه بسبب هزیمته أمام عنّاز وإشفاقهم من ابن سینا علی أنفسهم، ولهذا أغاروا علی داره وأخذوه وحبسوه ثم نهبوا كل ما في الدار. وفضلاً عن ذلك سألوا شمس الدولة قتله فامتنع، لكن نحّاه عن الوزارة في محاولة لتهدئة العسكر. وتواری ابن سینا في دار شخص یدعی أبا سعد (أو أبا سعید) بن دَخدول (أو دَخدوك) أربعین یوماً. وعاود الأمیر شمس الدولة مرض القولنج، فأحضر ابن سینا واعتذر منه، فاشتغل بمعالجته حتی شفاه، فأعاد شمس الدولة الوزارة إلیه. وطبقاً لما أورده الجوزجاني فإن شمس‌ الدولة قد سأل ابن سینا أن یكتب شرحاً لكتاب أرسطو. فقال له: إنه لا فراغ لي ولكن إن رضیتَ مني بتصنیف كتاب أورد فیه ما صحّ عندي من العلوم الفلسفیة، بلامناظرة مع الخصوم والاشتغال بالرد علیهم، فعلتُ. فابتدأ بالطبیعیات من كتاب الشفاء. وكان قد صنّف قبل ذلك الكتاب الأول من القانون في الطب. ویبدو أن حیاته كانت هادئة آنذك، فطبقاً لما أورده الجوزجاني كان یقضي النهار بأعمال الوزارة، بینما كان یجتمع إلی الطلبة في اللیل فیقرأ علیهم من كتابي الشفاء والقانون، فإذا فرغوا حضر المغنون والعازفون واشتغلوا بالشرب.

ومضت سنوات علی هذا المنوال، حیث هبّ شمس‌ الدولة لحرب أمیر طارم. وطارم منطقة في الجبال بین قزوین وجیلان، وكان أمیرها أثناء خروج شمس الدولة في 412هـ/1021م إبراهیم بن المرزبان بن إسماعیل بن وَهسودان. وكان قد استولی علی مدن في طارم بعد وفاة فخر الدولة (387هـ/997م) واحتفظ بها حتی 420هـ/1029م عندما هاجم محمود الغزنوي تلك المنطقة الجبلیة (ابن الأثیر، حوادث سنة 420هـ). وینتمي هذا الأمیر إلی أسرة وهسودان وإلی سلالة تعرف بآل أفراسیاب (أو السالاریون أو الكنكریون). لكن القولنج عاود الأمیر شمس‌ الدولة قرب طارم واشتدت علته وانضاف إلیها أمراض أخری، فخاف العسكر وفاته فعادوا به في محفة إلی همدان، فتوفي في الطریق (412هـ).

وبعد وفاة شمس‌ الدولة بویع ابنه سماء الدولة أبو الحسن، فعرض علی ابن سینا الوزارة فأبي. وحكم سماء الدولة منذ 412هـ ولمدة عامین بشكل مستقل، ثم خضع في حكمه لعلاء الدولة، ولایُعرف عنه شيء منذ عام 421هـ حینما عَیَّن علاء الدولة والیاً علی همدان (م.ن، حوادث سنة 421هـ). وفي هذه الأثناء أشرف عهد البویهیین علی نهایته وظهرت علامات انحطاط دولتهم وانهیارها. ووجد ابن سینا صلاحه في الاعتزال. یقول الجوزجاني «وضرب الدهر ضرباته، واختُرِم ذلك الملك، وآثرهو (ابن سینا) أن لایقیم في تلك الدولة، ولایعاود تلك الخدمة، وركن إلی أن الاحتیاط له فیما استحبه من ذلك أن یستتر مرتقباً فرصة الانفصال عن تلك الدیار» (ظ: الجوزجاني، 2).

وبهذا أقام في دار أبي غالب العطار متواریاً، وشرع في إتمام كتاب الشفاء، فانتهی من جمیع أجزاء الطبیعیات (عدا كتاب «الحیوان») والإلهیات، ثم بدأ بالمنطق وكتب منه جزءاً. ویبدو أن ابن سینا قد كاتب سرّاً علاء الدولة أبا جعفر محمد، المعروف بابن كاكویه أمیر إصفهان. وكانت السیّدة قد ولّت علاء الدولة علی إصفهان في 398هـ/1008م، وهو یتصل من بعید بالبویهیین، وأبوه خال (كاكوي) السیدة والدة مجد الدولة وشمس الدولة. وظل یحكم إصفهان حتی وفاته في 431هـ/1041م، عدا فترة قصیرة طرده فیها جنود السلطان مسعود الغزنوي كما سنشیر إلی ذلك. من جهة أخری وحسبما ذكر علي بن زید البیهقي (ص 50) فإن علاء الدولة هو الذي ابتدأ بمكاتبة ابن سینا وسأله المسیر إلیه. وقد اتهمه تاج الملك (أبو نصر إبراهیم بن بهرام) بمكاتبة علاء الدولة، وحسبما أورده ابن الأثیر (في حوادث 411هـ) فإن تاج الملك قد ولي وزارة شمس الدولة بعد رفض ابن سینا لها في المرة الثانیة. وأخذ شمس الدولة یبحث عن ابن سینا حتی أرشده خصماؤه إلی محل اختفائه (دار أبي غالب العطار)، فألقي القبض علیه وحبسه في قلعة فَردَجان. وتقع هذه القلعة التي تسمی أیضاً بَرَهان أو براهان (فراهان) – حسب قول یاقوت – في ناحیة جَرّا علی بعد 15 فرسخاً من همدان وتدعی الیوم بَردَكان وتبعد 110كم عن همدان علی الطریق بین همدان وإصفهان (ظ: ابن الأثیر، حوادث سنة 421هـ). وأمضی ابن سینا 4 أشهر في هذه القلعة. وذكر ابن الأثیر أن تاج الدولة كان علی رأس الأكراد في حرب عام 411هـ/1020م التي دارت في همدان بین الأكراد والأتراك في عسكر شمس الدولة (حوادث سنة 411هـ)، وقد طلب من علاء الدولة النجدة في قمع عسكر الأتراك. وبعد ثلاث سنوات أي في 414هـ حاصر سماء الدولة ابن شمس الدولة بروجرد، فطلب والیها فرهاد بن مرداویج النصرة من علاء الدولة، فحاصر الإثنان همدان، غیر أن قلة المؤونة قد اضطرتهما إلی الانسحاب. وفي الحرب مع تاج الملك، انسحب علاء الدولة أول الأمر إلی جُرقاذقان، ثم هاجم همدان ثانیة. فهُزم سماء الدولة واستسلم، فرحب به علاء الدولة، في حین احتمي تاج الملك بقلعة فَردَجان (ابن الأثیر، حوادث سنة 414هـ)، ثم قصد علاء الدولة ومعه سماء الدولة تلك القلعة فاستسلم تاج الملك، ثم عاد الجمیع إلی همدان ومعهم ابن سینا، فنزل في دار رجلٍ علوي واشتغل بكتابة باقي المنطق من كتاب الشفاء. ولانعرف اسم هذا الشخص العلوي، لكن نعرف أن ابن سینا قد أهدی في همدان رسالة الأدویة القلبیة التي ألّفها، إلی رجل یُدعی الشریف السعید أبا الحسین علي بن الحسین الحسني، وهو رجل علوي، ویحتمل أن یكون هو ذلك العلوي الذي نزل عنده (ظ: مهدوي، 335).

الصفحة 1 من13

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: