الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / العلوم / ابن سینا /

فهرس الموضوعات

ابن سینا

ابن سینا

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/16 ۲۱:۱۱:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

ویعتمد ابن سینا استدلالاً مهماً جداً قائماً علی «الشعور الذاتي» لإثبات وجود النفس في الإنسان، یذكرنا بالاستدلال الشهیر للفیلسوف الفرنسي دیكارت في القرن 17م القائل: «أنا أفكر، فأنا موجود»، حیث أورد استدلال ابن سینا بشكل أوجز (ظ: الفصل 4). وكان ابن سینا قد قال: «شعورنا بذاتنا هو نفس وجودنا» (التعلیقات، 161). وأثبت ابن سینا وجود النفس عبر «الشعور بالذات» مرتین وعلی شكلین في الشفاء، ومرة واحدة في الإشارات. فهو یقول: «لو خُلق إنسان دفعة واحدة، وخُلق متباین الأطراف، ولم یبصر أطرافه، واتفق أنه لم یمسّها، ولاتماسّت، ولم یسمع صوتاً، جهل وجود جمیع أعضائه، وعلم وجود إنّیّته شیئاً واحداً مع جهل جمیع ذلك. ولیس المجهول بعینه هو المعلوم، ولیست هذه الأعضاء لنا في الحقیقة إلا كالثیاب التي صارت لدوام لزومها إیّانا كأجزاء منّا عندنا، وإذا تخیلنا أنفسنا لم نتخیلها عراة، بل تخیلناها ذوات أجسام كاسیة، والسبب فیه دوام الملازمة. إلا أنا قد اعتدنا في الثیاب من التجرید والطرح ما لم نعتد في الأعضاء؛ فكان ظننا الأعضاء أجزاء منا آكد من ظننا الثیاب أجزاء منا. وأما إن لم یكن ذلك (أي الجسم) جملة البدن، بل كان عضواً مخصوصاً، فیكون ذلك العضو هو الشيء الذي أعتقده أنه لذاته «أنا»، أو یكون معنی ما أعتقده أنه «أنا» لیس هو ذلك العضو، وإن كان لابدّ له من العضو. فإن كان [ذلك الذي أعتقده أنه «أنا»] ذات ذلك العضو وهو كونه قلباً أو دماغاً أو شیئاً آخر أو عدة أعضاء بهذه الصفة هویتها أو هویة مجموعها هو الشيء الذي أشعر به أنه «أنا»، فیجب أن یكون شعوري بأنا هو شعوري بذلك الشيء. فإن الشيء لایجوز من جهة واحدة أن یكون مشعوراً به وغیر مشعور به، ولیس الأمر كذلك، فإني إنما أَعرِف أن لي قلباً ودماغاً بالإحساس والسماع والتجارب، لا لأني أعرف أني أنا، فیكون إذن لیس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعر به أنه «أنا» بالذات، بل یكون بالعرض «أنا». ویكون المقصود بما أعرفه مني أني «أنا» الذي أعینیه في قولي: أنا أحسست وعقلت وفعلت وجمعت هذه الأوصاف شيئاً آخر هو الذي أسمیه «أنا». فإن قال هذا القائل: إنك أیضاً لاتعرفه أنه «نَفس»، فأقول: إني دائماً أعرفه علی المعنی الذي أسمیه «النفس»، وربما لاأعرف تسمیته باسم «النفس»، فإذا فهمت ما أعني بـ «النفس»، فهمت أنه ذلك الشيء، وأنه المستعمل للآلات من المحركة والدراكة، وإنما لا أعرف مادمت لا أفهم معنی النفس، وليس كذلك حال قلب ولا دماغ، فإني أفهم معنی القلب والدماغ ولا أعلم ذلك [معنی النفس]. فإني إذا عنیت بالنفس أنه الشيء الذي هو مبدأ هذه الحركات والإدراكات التي لي ومنتهاها في هذه الجملة، عرفت أنه [ذلك الشيء] إما أن یكون بالحقیقة «أنا» أو یكون هو «أنا» مستعملاً لهذا البدن. فكأني الآن لا أقدر أن أمیز الشعور بـ «أنا» مفرداً عن مخالطة الشعور بأنه مستعمل للبدن ومقارن للبدن. وأما أنه [أي النفس] جسم أو لیس بجسم، فلیس یجب عندي أن یكون جسماً، ولایتخیل هو لي جسماً من الأجسام البتة، بل یتخیل لي وجوده فقط من غیر جسمیة» (الشفاء، الطبیعیات، النفس، 225-226).

فابن سینا یبرهن علی وجود النفس من خلال الشعور بالذات لدی الإنسان، فنراه یقول موضحاً في موضع آخر بإیجاز وصراحة: وأنت إذا تأملت حق التأمل وجدت أیضاً إشارتك إلی ذاتك بقولك «أنا» مفهومة غیر مفهوم قولك «هو»، وأنت عند قولك «أنا»، تشیر إلی ذاتك، فإذا أشرت إلی كل واحد من أعضائك وأجزاء بدنك بذلك فإنما تقول «هو» وهذه الإشارة منفصلة خارجة عما هو «أنا»، فلیست «أنا» ولا جزء «أنا»، إذ لیس «أنا» عبارة عن مجموع الهویات لجواز أن تكون حقیقة الأجزاء غیرحقیقة الجملة. فإذن إشارتك بـ «أنا» تقتضي أن یكون شیئاً غیر جسدك، وغیركل واحد من أجزائه وتوابعه، فذلك الغیر یُسمی «نفساً»، وحققة كل إنسان هي هذا الجوهر الذي نشیر الیه بـ «أنا» أو یشیر إلیه غیره بـ «أنت» («النكت والفوائد»، 158-160).

ثم یؤكد ابن سینا علی أن النفس لیست بجسم ویقول: فإن ثبت أن نفساً ما یصح لها الانفراد بقوام ذاتها، لم یقع شك في أنها جوهرة، لأن وجود النفس في الجسم لیس كوجود العرض في الموضوع، فالنفس إذن جوهر لأنها صورة لا في موضوع (الشفاء، الطبیعیات، النفس، 22، 23). ثم یؤكد علی وحدة النفس ویقول: إن هذا الجوهر واحد فیك، بل في تحقیقك، وذو فروع من القوی المتفرقة في أعضائك (الإشارات، 2/332، قا: النجاة، 189-191: النفس ذات واحدة ولها قوی كثیرة…).

ومن جانب آخر یری ابن سینا أن النفس قد ظهرت في نفس وقت ظهور البدن، ویستدل لإثبات حدوث ذلك. فالأنفس الإنسانیة متفقة في النوع والمعنی، فإن وُجدت قبل البدون فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة، ومحال أن تكون ذوات متكثرة وإن تكون ذاتاً واحدة، ومحال أیضاً أن تكون قد وُجدت قبل البدن، فنبدأ ببیان استحالة تكثرها بالعد، فنقول: إن مغایرة الأنفس قبل الأبدان بعضها لبعض، إما أن یكون من جهة الماهیة والصورة وإما أن یكون من جهة النسبة إلی العنصر والمادة متكثرة بالأمكنة التي تشتمل كل مادة علی جهة منها والأزمنة التي تختص كل نفس بواحد منها في حدوثها في مادتها، أي بحسب البدن، وأما قبل البدن، فالنفس مجرد ماهیة فقط، فلیس یمكن أن تغایر نفس نفساً بالعدد والماهیة لاتقبل اختلافاً ذاتیاً، لأن الأشیاء التي ذواتها معان فقط تكثر نوعیاتها إنما بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما إلیها وإلی أزمنتها فقط. لذا فقد بطل أن تكون الأنفس قبل دخولها الأبدان متكثرة الذات بالعدد؛ كما لایمكن أن تكون النفس واحدة الذات بالعدد لأنه إذا حصل بدنان، حصل في البدنین نفسان، فإما أن یكونا قسمي تلك النفس الواحدة، فیكون الشيء الواحد الذي لیس له عظم وحجم منقسماً بالقوة، وهذا ظاهر البطلان. وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنین، وهذا لایحتاج أیضاً إلی كثیر تكلف في إبطاله. فقد صح إذاً أن النفس تحدث كلما یحدث البدن الصالح لاستعمالها ویكون البدن الحادث مملكتها وآلتها (النجاة، 183-184، قا: الشفاء، الطبیعیات، النفس، 198-199). والنقطة الأخری التي یسعی ابن سینا لإثباتها روحانیة النفس الناطقة أو بقول آخر، استقلالها عن المادة الجسمانیة. فهو یقول إن مما لاشك فیه أن الإنسان فیه شيء وجوهر ما یتلقی المعقولات بالقبول. وهذا الجوهر الذي هو محل المعقولات لیس جسماً ولا قائماً بالجسم، بل هو قوة فیه أو صورة له. فالنفس لیست منطبعة في البدن ولا قائمة به (ن.م، 187 فما بعدها، قا: النجاة، 174-177).

والنفس من وجهة نظر ابن سینا لاتقبل الفساد، أي لاتموت بموت البدن، فهي باقیة وخالدة. وله فصل في الشفاء و النجاة لإثبات بقاء وخلود النفس بعد الموت. وخلاصة استدلالاته: النفس لاتموت بموت البدن ولاتقبل الفساد أصلاً؛ أما أنها لاتموت بموت البدن فلأن كل شيء یفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق، وكل متعلق بشيء نوعاً من التعلق، فإما أن یكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود، وإما أن یكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود. فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ في الوجود وذلك أمر ذاتي له لا عارض، فكل واحد منهما مضاف الذات إلی صاحبه، فلیس لا النفس ولا البدن بجوهر، لكنهما جوهران. وإن كان ذلك أمراً عرضیاً لا ذاتیاً، فإذا فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الإضافة ولم تفسد الذات بفساده، وإن كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، فالبدن علة للنفس في الوجود حینئذ، والعلل أربع: فإما أن یكون البدن علة فاعلیة للنفس معطیة لها الوجود؛ وأما أن یكون علة قابلیة لها ومادیة بسبیل التركیب كالعناصر للأبدان أو بسبیل البساطة كالنحاس للصنم؛ وإما أن یكون علة صورته؛ وإما أن یكون علة كمالیة. ومحال أن یكون علة فاعلیة فإن الجسم بما هو جسم لایفعل شیئاً وإنما یفعل بقواه. ولو كان یفعل بذاته لا بقواه لكان كل جسم یفعل ذلك الفعل؛ ثم القوی الجسمانیة، كلها، إما أعراض وإما صور مادیة، ومحال أن تفید الأعراض أو الصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ووجود جوهر مطلق؛ ومحال أیضاً أن یكون علة قابلیة، فقد برهنا أن النفس لیست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه فلا یكون إذاً البدن متصوراً بصورة النفس، لابحسب البساطة ولا علی سبیل التركیب بأن یكون أجزاء من أجزاء البدن تتركب وتمتزج تركیباً ما ومزاجاً ما فتنطبع فیها النفس؛ ومحال أن یكون علة صوریة للنفس أو كمالیة، فإن الأولی أن یكون الأمر بالعكس. فإذاً لیس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتیة، نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فإنه إذا حدثت مادة بدن یصلح أن یكون آلة النفس ومملكة لها، أحدثت العللُ المفارقةُ النفسَ الجزئیة، لأن إحداثها بلا سبب مخصّص إحداث واحدة دون واحدة محال. ومع ذلك یمتنع وقوع الكثرة فیها بالعدد لما قد بیّناه. ولابد لكل كائن بعد مالم یكن من أن تتقدمه مادة یكون فیها تهیؤ قبوله أن تهیؤ لنسبته إلیه؛ ومن جانب آخر، لیس إذا وجب حدوث شيء مع حدوث شيء یجب أن یبطل مع بطلانه، إنما یكون ذلك إذا كانت ذات الشيء قائمة بذلك الشيء وفیه. وقد تحدث أمور عن أمور وتبطل هذه الأمور وتبقی تلك الأمور إذا كانت ذواتها غیر قائمة فیها وخصوصاً إذا كان مفید الوجود لها شیئاً آخر غیر الذي إنما تهیأ إفادة وجودها مع وجوده [أي تركیب وطبیعة البدن المستعد لقبول وجود النفس] ومفید وجود النفس شيء غیر جسم كما بیّنا، ولا قوة في جسم بل هو لامحالة جوهر آخر غیر جسم. فإذا كان وجوده من ذلك الشيء ومن البدن یحصل وقت استحقاقه للوجود فقط، فلیس له تعلق في نفس الوجود بالبدن ولا البدن علة له إلا بالعرض. وأما القسم الثالث مما كنا ذكرنا في الابتداء وهو أن یكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم في الوجود، فإما أن یكون التقدم مع ذلك زمانیاً، فیستحیل أن یتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان، وإما أن یكون التقدم في الذات لا في الزمان لأنه في الزمان لایفارقه، وهذا النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة كلما توجد یلزم أن یُستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود. وحینئذ لایوجد هذا المتقدم في الوجود إذا فُرضَ المتأخر قد عُدِم، لا أنّ فرضَ عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم، ولكن لأن المتأخر لایجوز أن یكون عُدم إلا وقد عرض أولاً بالطبع للمتقدم ما أعدمه فحینئذ عُدم المتأخر، وإذا كان كذلك فیجب أن یكون السبب المعدم یعرض في جوهر النفس فیفسد معه البدن، وأن لایكون البتة البدن یفسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن یكون بسبب یخصه من تغیر المزاج أو التراكیب. فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات؛ إذن لاتعلّق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقه في الوجود بالمبادئ الآخر التي لاتستحیل ولاتبطل (النجاة، 185-187، قا: الشفاء، الطبیعیات، النفس، 202-210، حیث وردت هذه النقاط أكثر تفصیلاً).

وعبرت عن نظریة ابن سینا في بقاء الروح وخلودها هذه العبارات القصیرة: إن النفس الإنسانیة التي هي محل المعقولات جوهر لیس بجسم ولا في جسم ولایحتاج في قوام ذاته إلی جسم ولا في استحفاظ الصور العقلیة ولا في أفعالها المختصة، بل تعلقها به لیكون آلة لها في تحصیل ما ترومه من الكمال؛ فإذا حصل لها هذا الكمال لم تحتج إلی الجسم واستغنت عنه، وخاصة إذا صار لها قوة وملكة مستقرة علی بلوغ كمالات من تعقلات لایقع لها فیها حاجة إلی شيء جسماني ولا التفات إلی عالم الأجسام البتة. وقد ثبت أیضاً أن علة وجودها باقیة، فإذا فسد البدن فقد فسد ما لیس لها إلیه حاجة في وجودها ولاموجب لفساد ذاتها ولامنع أفعالها وتعقلاتها. ومع ذلك فعلّة وجودها باقیة وذلك موجب لبقاء النفس بعد فساد البدن («النكت والفوائد»، 177-178).

 

الحواس الباطنیة

تجد في النفس الحیوانیة حواس باطنیة فضلاً عن الحواس الخارجیة (الخمس). ویقول ابن سینا علی هذا الصعید: القوی المدركة من باطن، فبعضها قوی تدرك صور المحسوسات، وبعضها قوی تدرك معاني المحسوسات. ومن المدركات ما یدرك ویفعل معاً، ومنها مایدرك ولایفعل، ومنها مایدرك إدراكاً أولیاً، ومنها مایدرك إدراكاً ثانیاً. والفرق بین إدراك الصورة وإدراك المعنی أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً، لكن الحس الظاهر یدركه أولاً ویؤدیه إلی النفس مثل إدراك الشاه لصورة الذئب، أي شكله وهیئته ولونه، فإن نفس الشاة الباطنة تدركها ویدركها أولاً حسها الظاهر. وأما «المعنی» فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غیر أن یدركه الحس الظاهر أولاً مثل إدراك الشاه معنی المضادّ في الذئب هو المعنی الموجب لخوفها إیاه وهربها عنه من غیر أن یكون الحس یدرك ذلك البتة. فالذي یُدرك من الذئب أولاً بالحس ثم القوی الباطنة هو «الصورة». والذي تدركه القوی الباطنة دون الحس فهو «المعنی» (النجاة، 162).

فمن وجهة نظر ابن سینا أنّ أهم القوی الباطنة هي «الحس المشترك» أو «فَنطاسیا» أو «بَنطاسیا» [نفس لفظة «فانتاسیا» الیونانیة وهي عند أرسطو تعني الخیال أو المتصورة، بینما لفظة «الحس المشترك» العربیة فهي تقابل اللفظة الیونانیة «كویِنه آیسشیس» التي كان أرسطو یستخدمها سیما في أثره القصیر «في النوم والیقظة» (الفصل 1، 455a)، لكن لاندري لماذا اختار ابن سینا لفظة «فَنطاسیا» للتعبیر عن «الحس المشترك»؟]. ومن جانب آخر نراه یورد في كتابه الطبي الشهیر القانون، الحس المشترك مرادفاً للخیال (فنطاسیا) ویقول إن الأطباء یعتقدون أن الحس المشترك والخیال واحد، فیما یعدّهما الحكماء اثنین (ظ: القانون، 1/71). فنحن نجد فینا قوة تجتمع فیها إدراكات الحواس الظاهرة إما ثلاثة أو أربعة أو أقل أو أكثر، كاللون والرائحة والطعم والشم، ولیس في الظاهرة شيء تجمع بین شيء من ذلك، وربما لقینا جسماً لونه إلی الصفرة فأدركنا أنه عسل وله حلاوة وطیب رائحة وهو سیّال فلم نذقه ولاشممناه ولالمسناه. بتلك القوة [أي الحس المشترك] نعرف التمییز بین البیاض والحلاوة. فَبَیِّنَ أن فینا قوة تجتمع ذلك فیها وتصیر صورة أحدیة، وهي هذه القوة المتصورة التي تُسمّی حساً مشتركاً («النكت والفوائد»، 154، قا: الشفاء، الطبیعیات، النفس، 35-36).

ومن القوی الباطنة الأخری هي الخیال والمصورة وهي تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئیة الخمس وتبقی فیه بعد غیبة المحسوسات. ثم القوة التي تسمی «المتخیلة» بالقیاس إلی النفس الحیوانیة، و«المفكرة» بالقیاس إلی النفس الإنسانیة، ومن شأنها أن تركب بعض ما في الخیال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختیار. ثم القوة «الوهمیة» وتدرك المعاني غیر المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئیة كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب منه، وأن الولد معطوف علیه. ثم القوة «الحافظة الذاكرة» وهي قوة تحفظ ما تدركه القوة الوهمیة من المعاني غیر المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئیة. ونسبة القوة الحافظة إلی القوة الوهمیة كنسبة قوة الخیال إلی الحس، ونسبة تلك القوة إلی المعاني كنسبة هذه القوة [الحس] إلی الصور المحسوسة (النجاة، 163).

 

المعاد

وتقوم آراء ابن سینا في المعاد والحیاة في العالم الآخر علی مبادئه في علم النفس. وقد بحث هذا الموضوع خلال فصل خاص في كتاب الشفاء، كما بحثه في كتاباته الأخری مثل رسالة أَضحَویَّة في أمر المعاد وكتاب المبدأ والمعاد. ویجب أن نبحث عن أهم آرائه علی هذا الصعید في الشفاء ورسالة أضحویة. وسنورد هنا مجملاً لآرائه. فهو ینظر إلی المعاد من زاویتین: الشرع والبرهان، ویقولك إن المعاد، منه ما هو منقول من الشرع ولا سبیل إلی إثباته إلا من طریق الشریعة وتصدیق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخیرات البدن وشروره… وقد بسطت الشریعة المحمدیة الحقة حال السعادة والشقاء التي بحسب البدن. ومن المعاد ما هو مدرك بالعقل والقیاس البرهاني، وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقیاس اللتان للأنفس، وإن كانت الأوهام تقصر عن تصورهما. ورغبة الحكماء الإلهیین في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنیة، بل كأنهم لایلتفتون إلی تلك وإن أعطوها في مقابل السعادة التي هي مقاربة «الحق الأول»، فلنعرف حال هذه السعادة والشقاوة المضادة لها، فإن البدنیة مفروغ منها في الشرع. فلكل قوة نفسانیة لذة وخیر یخصها، وأذی وشر یخصها. مثاله أن لذة الشهوة وخیرها أن یتأدی إلیها كیفیة محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذة الغضب الفر، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحفظ تذكر الأمور الموافقة الماضیة. وأذی كل واحد منها ما یضاده. ویشترك كلها نوعاً من الشركة في أن الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخیر واللذة الخاصة بها، وموافق كل واحد منها بالذات والحقیقة هو حصول الكمال الذي هو بالقیاس إلیه كمال بالفعل. أما حول النفس الناطقة فیجب أن نقول إن كمالها الخاص بها أن تصیر عالماً عقلیاً مرتسماً فیها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخیر الفائض في الكل مبتدئة من مبدأ الكل سالكة إلی الجواهر الشریفة الروحانیة المطلقة، ثم الروحانیة المتعلقة نوعاً ما بالأبدان، ثم الأجسام العلویة بهیئاتها وقواها، ثم كذلك حتی تستوفي في نفسها هیئة الوجود كله، فتنقلب عالماً معقولاً موازیاً للعالم الموجود كله مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخیر المطلق والجمال الحق المطلق، ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهیئته ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره، فإذا قیس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوی الأخری وجد في المرتبة التي بحیث یقبح معها أن یقال: إنه أفضل وأتم منها، بل لا نسبة لها إلیه بوجه من الوجوه فضیلة وتماماً وكثرة وسائر ما یتم به التذاذ المدركات. وتماماٌ الدوام فكیف یقاس الدوام الأبدي بدوام المتغیر الفاسد. وأما شدة الوصول فكیف یكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقیاس إلی ما هو سار في جوهر قابله حتی یكون كأنه هو هو بلا انفصال، إذ العقل والعاقل والمعقول واحد، أو قریب من الواحد (الشفاء، الإلهیات (2)، 423-424، 425 وبقیة الفصل).

ومن جانب آخر، نری ابن سینا في رسالة أضحویة ینظر إلی قضیة بعث الأبدان من زاویة أخری حتی یبدو أنه لا یأخذ بالمعاد الجسماني، وأن ما ورد في الشریعة حول لذة الأبدان وآلامها في عالم الآخرة إنما كان علی سبیل الاستعارة والمجاز ولحث الناس علی العمل الصالح وتحذیرهم من العمل القبیح، فهو یقول: «إن الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما یفهمون، مقرباً ما لایفهمون إلی أفهامهم بالتشبیه والتمثیل» (ص 50 فما بعدها إلی آخر الفصل). وبالتالي یری ابن سینا السعادة الآخرویة عند تخلص النفس عن البدن وآثار الطبیعة وتجرده، كامل الذات، ناظراً نظراً عقلیاً إلی ذات من له الملك الأعظم، وإلی الروحانیین الذین یعبدونه، وإلی العالم الأعلی، وإلی وصول كماله إلیه، واللذة الجلیلة عند ذلك، والشقاوة الأخرویة عند ضد ذلك (ن.م، 118-119).

الصفحة 1 من13

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: