ابن سینا
cgietitle
1442/11/16 ۲۱:۱۱:۴۹
https://cgie.org.ir/ar/article/233684
1446/11/16 ۰۲:۰۱:۱۰
نشرت
3
ونظریة المعرفة عند ابن سینا أرسطیة في أساسها، ویمكن أن تعدّ متممة لنظریة المعرفة الأرسطیة في التفاصیل والجزئیات، وبدیهي أن عناصر الرؤیة الأفلاطونیة الحدیثة ممتزجة علی هذا الصعید مع الرؤیة الأرسطیة. وقد أقام ابن سینا نظریته في المعرفة علی أساس مبادئه في علم النفس. فمثلما رأینا فإنه یری النفس الإنسانیة جوهراً مجرداً عن المادة یتخذ من البدن وقواه وسائل لا غیر. والنفس ذات قوی حیوانیة خارجیة وداخلیة من جهة وتمتلك قوی خاصة بالنفس الإنسانیة (النفس الناطقة أو النُطقیة) من جهة أخری، فهو یقول: «وأخص الخواص بالإنسان تصور المعاني الكلیة العقلیة المجردة عن المادة كل التجرید» (الشفاء، الطبیعیات، النفس، 184). ویطلق ابن سینا علی هذه الخصوصیة للإنسان «القوة النظریة»، و«هي القوة التي لأجل العلاقة إلی الجنبة التي فوقه لینفعل ویستفید منها ویقبل عنها. فكأن للنفس منا وجهین: وجه إلی البدن… ووجه إلی المبادئ العالیة…، فمن الجهة السفلیة تتولد الأخلاق، ومن الجهة الفوقانیة تتولد العلوم…، أما القوة النظریة فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلیة المجردة عن المادة. فإن كانت مجردة بذاتها فأخذها لصورتها في نفسها أسهل، وإن لم تكن فإنها تصیر مجردة بتجریدها إیاها، حتی لایبقی فیها من علائق المادة شيء» (ن.م، 38-39). ومن جانب ثان نراه یقسّم قوی النفس الناطقة إلی قسمین: (عاملة) و(عالمة)، وكل واحدة منهما تسمی عقلاً باشتراك الاسم أو تشابهه (ن.م، 37).
تشبه نظریة العقل ومراتبه عند ابن سینا إلی حد كبیر نظریة الفارابي في هذا المضمار، التي أخذها بدوره عن أرسطو، في حین أنّ أصلها یعود إلی الإسكندر الأفرودیسي: العقل بالقوة (أو الهیولاني)، والعقل بالفعل، والعقل المُستفاد، والعقل الفعال (قا: الفارابي، رسالة في العقل، 12 فما بعدها؛ أیضاً الإسكندر الأفرودیسي، 31-42). ویوجز ابن سینا نظریته كالتالي: القوة النظریة، فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلیة المجردة عن المادة، وذلك لأن الشيء الذي من شأنه أن یقبل شیئاً قد یكون بالقوة قابلاً له، وقد یكون بالفعل، والقوة النظریة تارة تكون نسبتها إلی الصورة المجردة نسبة ما بالقوة المطلقة وحینئذ تسمی عقلاً هیولانیاً، تشبیهاً بالهیولی الأولی التي لیست هي بذاتها صورة من الصور، وهي موضوعة لكل صورة. وتارة نسبة ما بالقوة الممكنة، وهي أن تكون القوة الهیولانیة قد حصل فیها من الكمالات المعقولات الأولی التي یتوصل منها وبها إلی المعقولات الثانیة. ویُراد بالمعقولات الأولی المقدمات التي یقع بها التصدیق لاباكتساب ولا بأن یشعر المصدق بها أنه كان یجوز له أن یخلو عن التصدیق بها وقتاً البتة، مثل اعتقادنا بأنّ الكل أعظم من الجزء وأن الأشیاء المساویة لشيء واحد متساویة. فما دام أنه یحصل فیه من العقل هذا القدر بعد، فإنه یسمی «عقلاً بالملكة». ویجوز أن یسمی «عقلاً بالفعل» بالقیاس إلی الأولی، لأن تلك لیس لها أن تعقل شیئاً بالفعل، وأما هذه فإنها تعقل إذا أخذت تقیس بالفعل. وتارة تكون له نسبة ما بالقوة الكمالیة. وهذا أن یكون حصل فیها أیضاً الصورة المعقولة الأولیة، إلا أنه لیس یطالعها ویرجع إلیها بالفعل، بل كأنها عنده مخزونة، فمتی شاء طالع تلك الصورة بالفعل وعقل أنه عقلها ویسمی «عقلاً بالفعل»، لأنه عقلها، ویعقل متی شاء بلاتكلف واكتساب. وإن كان یجوز أن تسمی عقلاً بالقوة بالقیاس إلی ما بعده. وتارة تكون لها نسبة ما بالفعل المطلق وهو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فیه وهو یطالعها ویعقلها بالفعل ویعقل أنه یعقلها بالفعل فیكون حینئذٍ «عقلاً مُستفاداً» لأنه سیتضح لنا أن العقل بالقوة إنما یخرج إلی الفعل بسبب عقل هو دائماً بالفعل [إشارة إلی العقل الفعال]. وأنه إذا اتصل به العقل بالقوة نوعاً من الاتصال انطبع منه بالفعل فیه نوع من الصور تكون مستفادة من خارج. وهذه مراتب العقول النظریة. وعند العقل المستفاد یتم الجنس الحیواني والنوع الإنساني منه (النجاة، 165-166، قا: الشفاء، الطبیعیات، النفس، 39-40).
وكما رأینا فإن ابن سینا یری أن كل ما بالقوة یتحول بسبب من الأسباب إلی ما بالفعل. وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال العقل، أي أن هناك شیئاً ما یحوّل المعقولات من القوة إلی الفعل، وهذا الشيء إذاً بذاته عقل – عقل بالفعل – ولو كان بالقوة لامتدّ الأمر إلی غیر نهایة. ویطلق ابن سینا علی هذا العقل بالقیاس إلی العقول التي بالقوة وتخرج منها إلی الفعل «عقلاً فعالاً»، كما یسمی «العقل الهیولاني» بالقیاس إلیه «عقلاً منفعلاً»، ویسمی العقل الكائن فیما بینهما «عقلاً مستفاداً». ونسبة هذا الشيء إلی أنفسنا التي هي بالقوة عقل وإلی المعقولات التي هي بالقوة معقولات، نسبة الشمس إلی أبصارنا التي هي بالقوة رائیة وإلی الألوان التي هي بالقوة مرئیة، فإنها إذا اتصل بالمرئیات بالقوة منه ذلك الأثر وهو الشعاع عادت مرئیات بالفعل وعاد البصر رائیاً بالفعل. فكذلك هذا العقل الفعال یفیض منه قوة تسیح إلی الأشیاء المتخیلة التي هي بالقوة معقولة لتجعلها معقولة بالفعل وتجعل العقل بالقوة عقلاً بالفعل. وكما أن الشمس بذاتها مبصرة وسبب لأن تجعل المبصر بالقوة مبصراً بالفعل، فكذلك هذا الجوهر [أي العقل الفعال] هو بذاته معقول وسبب لأن یجعل سائر المعقولات التي هي بالقوة معقولة بالفعل، لكن الشيء الذي هو بذاته معقول هو بذاته عقل، فإن الشيء الذي هو بذاته معقول هو الصورة المجردة عن المادة وخصوصاً إذا كانت مجردة بذاته لابغیرها. وهذا الشيء هو العقل بالفعل أیضاً، فإذاً هذا الشيء معقول بذاته أبداً بالفعل وعقل بالفعل (النجاة، 192-193). ویُسمي ابن سینا هذا العقل الفعال «واهبُ الصُّوَر»، وبهذا یكون انضمام العقل الإنساني إلی العقل الفعال أعلی مراتب المعرفة العقلیة، حیث یقول: «الاستكمال التام بالعلم إنما یكون بالاتصال [اتصال العقل الإنساني] بالعقل الفعال. ونحن إذا حصّلنا الملكة ولم یكن عائق، كان لنا أن نتصل به متی شئنا، فإنّ العقل الفعال لیس مما یغیب ویحضر، بل هو حاضر بنفسه، إنما نغیب نحن عنه بالإقبال علی الأمور الأخری، فمتی شئنا حضرناه» («التعلیقات علی حواشي…»، 95).
ویُسمي ابن سینا أعلی المراتب الخاصة بالمعرفة النظریة «الحدس»، ویقول في هذا الشأن: «إن الأمور المعقولة التي یُتوصل إلی اكتسابها، إنما تُكتسب بحصول الحد الأوسط في القیاس. وهذا الحد الأوسط قد یحصل من ضربین من الحصول، فتارة یحصل بالحدس، والحدس هو فعل الذهن یُستنبط به بذاته الحد الأوسط… وتارة یحصل بالتعلیم، ومبادئ التعلیم الحدس، فإن الأشیاء تنتهي لا محالة إلی حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس ثم أدوها إلی المتعلمین» (الشفاء، الطبیعیات، النفس، 219-220). ویقدم ابن سینا في موضع آخر توضیحاً أوفی لـ «الحدس» فیقول: «التعلم سواء حصل من غیر المتعلم أو حصل من نفس المتعلم متفاوت، فإن من المتعلمین من یكون أقرب إلی التصور لأنّ استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوی، فإن كان ذلك الإنسان مستعداً للاستكمال فیما بینه وبین نفسه، سُمي هذا الاستعداد القوي «حدساً». وهذا الاستعداد قد یشتد في بعض الناس حتی لایحتاج في أن یتصل بالعقل الفعال إلی كبیر شيء وإلی تخریج وتعلیم، بل یكون شدید الاستعداد لذلك. كأنه یعرف كل شيء من نفس. وهذه الدرجة أعلی درجات هذا الاستعداد. ویجب أن تسمی هذه الحال من العقل الهیولاني «عقلاً قدسیاً»، وهو من جنس العقل بالملكة، إلا أنه رفیع جداً لیس مما یشترك فیه جمیع الناس كلهم. فجائز أن یقع للإنسان نفسه الحدس وأن ینعقد في ذهنه القیاس بلا معلم وهذا مما یتفاوت بالكم والكیف. أما في الكم فلأنّ بعض الناس یكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطی، وأما في الكیف فلأنّ بعض الناس أسرع زمان حدس… فیمكن أن یكون شخص من الناس مؤید النفس بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلیة إلی أن یشتعل حدساً، أي قبول إلهام العقل الفعال في كل شيء، فترتسم فیه الصور التي في العقل الفعال من كل شيء، إما دفعة وإما قریباً من دفعة، ارتساماً لا تقلیدیاً، بل بترتیب یشتمل علی الحدود الوسطی… وهذا ضرب من النبوة، بل أعلی قوی النبوة والأولی أن تسمی هذه القوة قوة قدسیة، وهي أعلی مراتب القوی الإنسانیة» (النجاة، 166-168).
وجدیر بالذكر أن هناك احتمالاً كبیراً في أن یكون ابن سينا قد استلم دافعه في نظریته حول «الحدس» من أرسطو. فقد أشار أرسطو في أثر له یدعی «التحالیل الأخیرة أو الثانیة» (كتاب البرهان) بشكل مقتضب إلی هذه النقطة قائلاً: «وأما الذكاء فهو حُسن إصابة الهدف أو الحدس الصائب للحد الأوسط في أقل زمن. مثل الشخص الذي یری أن ما یلي الشمس من القمر هو دائماً مضيء، فیفهم بسرعة لأي شيء ذلك، لأنه یأخذ نوره من الشمس» (الكتاب I، الفصل 89b, 34، قا: منطق، 2/426، «التحلیلات الثانیة»: وأما الذكاء فهو حسن حدس ما یكون في وقت لایؤاتي للبحث عن الأوساط…».
وتصطبغ مراحل المعرفة عند ابن سینا وقبل أي شيء بصبغة أرسطیة. فالمعرفة تُستحصل عن طریق الإدراك الحسي أو الإدراك العقلي. كما أنه یؤكد علی أهمیة الإدراك الحسي في عملیة المعرفة. والإدراك شكل عام عبارة عن «حصول صورة المدرَك في ذات المدرِك» وفي الإدراك بالحواس «یكون هناك فعل وانفعال لامحالة» (التعلیقات، 69). فإنّ من فقد حسّاًما یجب أن یفقد علماً ما، أي العلم الذي یحرك النفس إلیه (الشفاء، المنطق، البرهان، 220). ومن جانب آخر فإن الإدراك الحسي لیس كافیاً وحده لإثبات الحقیقة الخارجیة، لأنه «لیس للحواس إلا الإحساس فقط، وهو حصول صورة المحسوس فیها، فأما أن نعلم بأن للمحسوس وجوداً من خارج فهو للعقل أو الوهم» (التعلیقات، 68).
فابن سینا وعلی العكس من مثالیي العصور المتأخرة، لاینكر أبداً الحقیقة الكائنة خارج الذهن، ویعدّها أمراً مسلّماً به، ویضع دائماً «الأعیان»، أي الحقائق الخارجیة في قبال «الأذهان»، أي الحقائق الذهنیة. والموجودات إما محسوسة أو معقولة، والإدراك إنما هو للنفس، ولیس إلا الإحساس بالشيء المحسوس والانفعال عنه. فالحاسة قد تنفعل عن المحسوس وتكون النفس لاهیة، فیكون الشيء غیر محسوس ولا مُدرَك. فالنفس تدرك الصور المحسوسة بالحواس وتدرك صورها المعقولة بتوسط صورها المحسوسة، إذ تستفید معقولیة تلك الصور من محسوسیتها، ویكون معقول تلك الصور لها مطابقاً لمحسوسها وإلا لم یكن معقولها. ولیس للإنسان أن یدرك معقولیة الأشیاء من دون وساطة محسوسیتها، وذلك لنقصان نفسه واحتیاجه في إدراك الصورة المعقولة إلی توسط الصور المحسوسة. وحصول المعارف للإنسان یكون من جهة الحواس. والحواس هي الطرق التي تستفید منها النفس الإنسانیة المعارف (ن.م، 23). والوجود الذهني للأشیاء هو الذي یشكل محتوی معرفتنا بالأشیاء. فمسألة الوجود الذهني التي قیل فیها الكثیر في العصور المتأخرة كانت عند ابن سینا من البدیهیات وأمراً مسلّماً به، فهو یقول: «كل صورة أدركها فإنما أدركها إذا وجد مثالها فيّ، فإنه لوكان لوجوده في ذاته في الأعیان لكنت أدرك كل شيء موجود وكنت لا أدرك المعدومات إذ فرضنا أنّ إدراكي له لوجوده في ذاته. وهذان محالان لأنّا ندرك المعدومات في الأعیان، وقد لاندرك الموجودات في الأعیان. فإذن الشرط في الإدراك أن یكون وجوده في ذهني» (ن.م، 79).
ویقول في موضع آخر حول الانتزاع العقلي: «قولهم إن العقل ینتزع صور الموجودات ویستثبتها في ذاته، فلیس معناه أن ینتزع تلك الصور والذوات كما هي، بل یعقل معناها ویستثبت ذلك المعنی في ذاته. وتلك الموجودات – جواهر كانت أو أعراضاً – فإنّ المعقول منها في النفس عَرَض، إذ هي في النفس لا كجزء منها، ولاتصیر تلك الذوات صوراً للنفس أو العقل، كما ذهب إلیه قوم، بل معانیها تكون صوراً لها» (ن.م، 73)، لأن «حقیقة الشيء ووجود تلك الحقیقة، غیر معقولیة تلك الحقیقة، ففرق بین الوجود والمعقولیة» (ن.م، 146). والإدراك الحقیقي من وجهة نظر ابن سینا إدراك عقلي لأن «إدراك العقل للمعول أقوی من إدراك الحس للمحسوس، لأن العقل یعقل ویدرك الأمر الباقي الكلي ویتّحد به ویصیر هو هو علی وجه ما ویدركه بكنهه لابظاهره، ولیس كذلك الحس للمحسوس» (النجاة، 246).
وخلال عملیة إدراك المعقولات نواجه نوعین من المعرفة: المعرفة التصوریة والمعرفة التصدیقیة. ویوضح ابن سینا ذلك بقوله: تصور المعقولات بتوسط الحس علی وجه واحد، وهو أن الحس یأخذ صور المحسوسات ویسلّمها إلی القوة الخیالیة فتصیر تلك الصور موضوعات لفعل العقل النظري الذي لنا. فتكون هناك صور كثیرة مأخوذة من الناس المحسوسین فیجدها العقل متخالفة بعوارض، مثل ما تجد زیداً مختصاً بلون وسحنة وهیئة أعضاء وتجد عمراً مختصاً بأخری غیر ذلك. فیقبل [العقل] علی هذه العوارض فینتزعها فیكون كأنه یقشّر هذه العوارض منها ویطرحها من جانب حتی یتوصل إلی المعنی الذي یشترك فیه ولایختلف به فیحصلها ویتصورها… ومن جانب آخر فإنّ تصدیق المعقولات یُكتسب بالحس علی وجوه أربعة: أحدها بالعرض، والثاني بالقیاس الجزئي، والثالث بالاستقراء، والرابع بالتجربة. أما الكائن بالعرض فهو أن یكتسب من الحس المعاني المفردة المعقولة مجردة عن الاختلاط الحسي والخیالي، ثم یقبل العقل علی تفصیل بعضها عن بعض وتركیب بعضها مع بعض. ویتبع ذلك أحكام العقل بالفطرة في بعضها ویتوقف في بعضها إلی البرهان. أما القسم الأول من هذین فیكون باتصال من العقل بنور من الصانع مُفاض علی الأنفس والطبیعة یسمی العقل الفعّال، وهو المخرج للعقل بالقوة إلی الفعل. ولكنه وإن كان كذلك، فإن الحس مبدأ ما له بالعرض لا بالذات. وأما القسم الثاني منهما فیفزع عیه [العقل] إلی الحد الأوسط، فإذا حصل الحد الأوسط اكتسب المعقول المصدق به اكتساب الأولیات بعینها وبقوة ذلك المبدأ… وأما الكائن بالقیاس الجزئي فأن یكون عند العقل حكم ما كلي علی الجنس، فیتصور عنه الصورة النوعیة، ویحمل ذلك الحكم علی النوع فیكتسب معقولاً لم یكن. وأما الكائن بالاستقراء فإن كثیراً من الأولیات لاتكون قدتبیّنت للعقل بالطریق المذكور أولاً. فإذا استقرأ [العقل] جزئیاته تنبّه علی اعتقاد الكلي من غیر أن یكون الاستقراء الحسي الجزئي موجباً لاعتقاد كلي البتة، بل منبّهاً علیه، مثل إنّ المماسین لشيء واحد وهما غیر متماسین یوجبان قسمة لذلك الشيء. فهذا ربما لایكون ثابتاً مكوراً في النفس، فكما یحسّ بجزئیاته یتنبه له العقل ویعتقده؛ وأما الكائن بالتجربة فكانه مخلوط من قیاس واستقراء، وهو آكد من الاستقراء. ولیس إفادته في الأولیات الصرفة، بل بمكتسبات الحس. ولیس التجربة كالاستقراء، فإن الاستقراء لایوقع من جهة التقاط الجزئیات علماً كلیاً یقینیاً وإن كان قد یكون منبّهاً. وأما التجربة فتوقع، بل التجربة مثل أن یری الرائي ویحس الحاس أشیاء من نوع واحد یتبعها حدوث فعل أو انفعال. فإذا تكرر ذلك كثیراً جداً، حكم العقل أن هذا ذاتي لهذا الشيء ولیس اتفقیاً عنه، فإنّ الاتفاق لایدوم. وهذا مثل حكمنا أنّ حجر المغناطیس یجذب الحدید… فهذه الأنواع تفیدنا بالحس علوماً كبیرة. ومبادئ العلوم كثیرة، والتجربة منها. فإنّ فیها اختلاط استقراء حسي بقیاس عقلي مبني علی اختلاف ما بالذات وما بالعرض… فهذه هي الأنحاء التي لاستفادة العقل علماً تصدیقیاً بسبب من الحس (الشفاء، المنطق، البرهان، 222-224).
ویجدر أن نشیر هنا إلی نظریة ابن سینا في «الكلیات» [المفاهیم الكلیة]. وهذه القضیة علی صلة بعلم الوجود من وجهة نظره، وكذلك بنظریته في المعرفة. وموقفه علی هذا الصعید من وجهة نظر فلاسفة مدرسة القرون الوسطی لیس «الاسمیة» المحضة، ولا «الواقعیة» المحضة، بل ینزع نحو الاثنین، وإن غلب الجانب الاسمیة. فهو یقول بصراحة: «المعنی الكلي لا وجود له إلا في الذهن، ولایجوز أن یتخصص شخصاً واحداً، ویكون موجوداً عاماً. فإنه حینئذٍ لایكون عاماً… كالحیوان فإنه معنی عام [كلي] ولایكون موجوداً عیناً واحداً فیكون حیواناً مطلقاً، بل إذا صار موجوداً فإنما یكون إذا تخصص وجوده بأحد الأنواع التي تحته، ویكون إما إنساناً، وإما فرساً أو غیرهما. والتخصص لامحالة یكون بفصل مقوّم للنوع كالنطق أو الصهال» (التعلیقات، 64).
ویقول ابن سینا بوضوح: «فواضح أنّ المعنی الكلي بما هو كلي غیر موجود إلا في الذهن، وأما حقیقته [ماهیته] فهي موجودة في الذهن وخارج الذهن، لأنّ الحقیقة الإنسانیة والقتامیة موجودة في الذهن وخارج الذهن في الأشیاء، وأما أن تكون الإنسانیة أو القتامیة بعینها موجودة حتی أن تكون كلیة، فهذا لیس وجوداً البتة» (دانشنامۀ علائي، إلهیات، 41). ویقول أیضاً «لقد علمت بأن المعنی العام [الكلي] یصبح خاصاً [جزئیاً] إما بالفصل أو بالعَرَض. واعلم أن الفصل والعرض یظهران في الانفراد والتحقق العیني للمعنی العام، لكنهما لایظهران في ماهیته [حقیقته]» (ن.م، 42).
ومن جهة أخری تناول في النجاة مسألة «الكلي» بشكل آخر حیث قال: «المعني الكلي بما هو طبیعة ومعنی كالإنسان بما هو إنسان شيء، وبما هو عام أو خاص أو واحد أو كثیر – وذلك له بالقوة أو بالفعل – شيء آخر، فإنه بما هو إنسان فقط بلاشرط آخر البتة شيء، ثم العموم شرط زائد علی أنه إنسان والخصوص كذلك، وأنه واحد كذلك وأنه كثیر كذلك… فإلانسانیة بما هي إنسانیة (لا بالقوة ولا بالفعل) لاعامة ولاخاصة… فقد یقال «كلي» للإنسانیة بلاشرط، ویقال «كلي» للإنسانیة بشرط أنها مقولة بوجه ما من الوجوه المعلومة علی كثیرین. والكلي بالاعتبار الأول موجود بالفعل في الأشیاء وهو المحمول علی كل واحد لاعلی أنه واحد بالذات ولاعلی أنه كثیر فإن ذلك لیس بما هو إنسانیة. وأما الاعتبار الثاني فله وجهان: أحدهما اعتبار القوة في الوجود، والثاني اعتبار القوة إذا صار مضافاً إلی الصورة المعقولة عنها. أما اعتبار القوة في الوجود حتی یكون إنسانیة في الوجود وهي بالقوة بعینها محمولة علی كل واحد فتنتقل من واحد إلی واحد فتكون لم تفسد ذات الأول، بل الخاصة، وتكون هي بعینها بالفعل شيء واحد في الوجود محمولاً علی كل واحد وقتاً ما فهذا غیر موجود. أما اعتبار القوة بالوجه الأخیر فموجود، فإن الإنسانیة التي في زید إذا قیست إلی الصورة المعقولة عنها لم تكن ما یعقل منها أولی بالحمل علی زید منه بالحمل علی عمرو… بل هي مطابقة للجمیع، فلا كلي عامي في الوجود [الخارج]، بل وجود الكلي عاماً بالفعل إنما هو في العقل، وهي الصورة التي في العقل التي نسبتها بالفعل أو بالقوة إلی كل واحد واحدة. والكلي الذي یوجد في القضایا والمقدمات هو القسم الأول [أي الكلي بلاشرط]» (النجاة، 220-221، قا: الشفاء، المنطق، المدخل، 65: الكلي الطبیعي، المنطقي والعقلي، وما قبل الكثرة، وفي الكثرة، وبعد الكثرة).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode