الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / العلوم / ابن سینا /

فهرس الموضوعات

ابن سینا

ابن سینا

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/16 ۲۱:۱۱:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

ونحن هنا نقسم النظام الفلسفي عند ابن سینا إلی 4 أقسام: علم الوجود ومعرفة الله، الإلهیات، وعلم الكونیات، وعلم النفس ونظریة المعرفة، والنزعة العرفانیة.

 

علم الوجود ومعرفة الله

مسألة الوجود والموجود والبحث في هذین المفهومین قد شغل الفلاسفة منذ نشأة التفكیر الفلسفي، وأضحت من أهم بحوث ما بعد الطبیعة، وقد تناول كافة الفلاسفة بدءاً بأولئك الذین سبقوا سقراط ومروراً أفلاطون، وانتهاءً بأرسطو ومن تلاه من الفلاسفة مفهوم الوجود والموجود بالبحث والدراسة. وعلی هذا لی عجیباً أن تحظی مسألة علم الوجود بأهمیة خاصة منذ البدایة في الفكر الفلسفي الإسلامي. وتعود هذه الأهمیة الخاصة إلی السنّة الأرسطیة. فیری أرسطو مسألة الوجود أو الموجود حجر الأساس في مواضیع البحث الفلسفي، فهو یقول في كتاب ما بعد الطبیعة: «إنّ ما بحث منذ القدم ولازال یُبحث حتی الیوم، وسیظل مداراً للبحث هو: ما هو الموجود؟» (ص 208، یطابق في الأصل: الكتاب VII، الفصل 1028b2,2). وقال قبل ذلك في موضع آخر حول الموضوع الأصلي للمیتافیزیقا: «علم ینظر في الموجود بما هو موجود ومتعلقاته ولواحقه بذاتها» (ن.م، 87، یطابق في الأصل الكتاب IV، الفصل 1003a20,1). ویحذو ابن سینا حذو أرسطو ویؤكد علی هذه النقطة قائلاً: «فیجب إذن أن یكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود»، ویضیف في موضع آخر: «فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود، مطالبُه الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غیر شروط» (الشفاء، الإلهیات (1)، 13، عیون الحكمة، 47).

وعلی هذا فإن علم الوجود یعد المحور الأساس في النظام الفلسفي عند ابن سینا، ویلعب دوراً حاسماً في میتافیزیقیته بالمعنی الأعم، وفي إلهیاته بالمعنی الأخص، هذا في حین یری أن «الوجود الإلهي» (آنیة الله) ليس موضوع الفلسفة الأولی، بل من مطالبها، حیث یقول: «إنه لایجوز أن یكون ذلك (أي وجود الله) هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مسلّم الوجود في ذلك العلم، وإنما یبحث عن أحواله… ووجود الإله لایجوز أن یكون مسلّماً في هذا العلم كالموضوع، بل هو مطلوب فیه» (الشفاء، الإلهیات (1)، 5، 6). ومع هذا فإنه لایجد فرقاً بین الفلسفة الأولی والحكمة التي یعتبرها أفضل علم بأفضل المعلوم، أي معرفة الله (ن.م، 15). ومن ناحیة أخری نری أن الفلسفة الأولی عنده «علماً كلیاً»، «وذلك لأن الشيء الذي یُبحث عنه فیه هو الموجود الكلي من جهة ما هو موجود كلي ومبادئه التي له من جهة ما هو موجود كلي كالعلة والمعلول والكثرة والوحدة و…» («في الأجرام العلویة»، 27).

ویبدأ ابن سینا مسائل علم الوجود بمفهوم الموجود والوجود. والوجود والموجود من أكثر المفاهیم بدیهیة، كما لایمكن إعطاء أي توضیح حولها عدا اسمیهما «الموجود لایمكن أن یُشرح بغیر الاسم، لأنه مبدأ أول لكل شرح، فلا شرح له، بل صورته تقوم في النفس بلاتوسط شيء» (النجاة، 200). ویشیر إلی هذا المعنی في موضع آخر قائلاً: «الموجود، والشيء، والضروري، معانیها ترسم في النفس ارتساماً أولیاً، لیس ذلك الارتسام مما یُحتاج إلی أن یُجلب بأشیاء أعرف منها» (الشفاء، الإلهیات (1)، 29).

لكن من جهة أخری یعطي ابن سینا لمفهومي الوجود أو الموجود معنی واسعاً جداً، ویشمل نطاق مفهومیهما عنده كل ما تصدق علیه لفظة «موجود» أو مطلق الوجود، ویقول قد یغلب علی أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأنّ ما لایناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال، أو أن ما لایتخصص بمكان أو وضع بذاته كالجسم فلا حظَّ له من الوجود.. هذا قول باطل، لأن المفاهیم الكلیة وإن كانت غیر محسوسة إلا أنها مفاهیم معقولة، ولهذ تصدق علیها لفظة «موجود» بشكل من الأشكال. فمفهوم الإنسان مثلاً من حیث هو واحد الحقیقة، بل من حیث حقیقته الأصلیة التي لاتختلف فیها الكثرة، غیرمحسوس، بل معقول صرف، وكذلك الحال في كل «كلّي» (الإشارات، 3/435-537). وعلی ضوء ذلك فإن الموجود مفردة یمكن استخدامها مع كل شيء محسوساً وغیرمحسوس لأنّ «الموجود طبیعة یصح حملها علی كل شيء، كان ذلك الجوهر أو غیره» (الشفاء، الإلهیات (1)، 54). كما أن صدق مفهوم الوجود علی مصادیقه عند ابن سینا لیس واحداً أو بالتواطؤ، بل مفهوم «مُشَكّك»، أي مفهوم یصدق علی أفراده بالقلة والكثرة والشدة والضعف. ولمسألة «التشكیك» عند ابن سینا دور حاسم في معرفة الوجود سیما في معرفة الله. وقد ورد هذا المفهوم في قول ابن سینا لدی حدیثه عن المقولات الأرسطیة العشر (ظ: دانشنامه، إلهیات، 38). ویقول في موضع آخر: «الوجود معنی یقع علی الأشیاء بتقدم وتأخر، وبعض الوجود حظه من الوجود آكَدُ مثل الجوهر والقائم بنفسه»، و«الوجود في ذوات الوجود لایختلف بالنوع، بل إن كان اختلاف فبالتأكد والضعف» («المباحثات»، 211، «رسائل خاصة»، 241).

والمسألة المهمة الأخری في فلسفة ابن سینا، والتي یمكن أن تعدّ المحور الأساس في رؤیته للوجود ونظام الكون، هي التمایز أو الفرق بین الوجود والماهیة. ورغم أنه لم یبحث هذه المسألة بشكل مستقل – وكأنه كان یعتبرها أمراً بدیهیاً لایحتاج إلی استدلال وبرهان – لكنه كان یصرّح ویصرّ علی أهمیة التمایز بین الوجود والماهیة كلما مرّ بهذه المسألة في بحوثه. وربما كان صحیحاً لو قلنا بأن إصراره وتأكیده علی هذا التمایز نابع من قیام كثیر من مباحث إلهیاته ورؤیته للكون قائمة علی هذا المبدأ. والآن یمكن أن نتساءل أین یجب أن نبحث عن منبع أصل تمایز الوجود والماهیة السینائي؟ وللإجابة یمكن القول إن ذلك یمكن أن نجده عند أرسطو، حیث یقول: «إن ماهیة الإنسان ووجود الإنسان معنیان مختلفان» («التحالیل الثانیة»، الكتاب VII، الفصل 92b, 2)، إلا أن هذا التمایز عند أرسطو تمایز منطقي، في حین أن ابن سینا یوسع نطاق هذا التمایز المنطقي ویحوّله إلی تمایز في علم الوجود.

كما یجب أن نبحث عن المنبع الثاني لهذا المبدأ عند الفارابي أیضاً، حیث كانت أقواله تجول في ذهن ابن سینا. فالفارابي یقول في اختلاف الوجود والماهیة: «الأشیاء لكل منها ماهیة وهویة، ولیست ماهیته هویته ولا داخلة في هویته. ولو كانت ماهیة الإنسان هویته لكان تصورك ماهیة الإنسان تصوراً لهویته، فكنت إذا تصورت ما الإنسان، تصورت هو الإنسان فعلمت وجوده …» و«ولا الهویة داخلة في ماهیة هذه الأشیاء وإلا لكان مقوماً لایستكمل تصور الماهیة هذه الأشیاء وإلا لكان مقوماً لایستكمل تصور الماهیة دونه ویستحیل رفعه عن الماهیة توهماً، فالوجود والهویة في الموجودات لیس من جملة المقومات، فهو من العوارض اللازمة» (الفصوص، 2؛ قا: ما قاله الفارابي في لفظة «الهویة»: استعملوا «هو» في العربیة بدلاً من «هَست» في الفارسیة، وجعلوا المصدر منه «الهویة» … مثل «الإنسانیة» من «الإنسان»… ورأی آخرون أن یستعملوا بدل الـ «هو» لفظة «الموجود» وهي لفظة مشتقة ولها تصاریف، وجعلوا مكان «الهویة» لفظه «الوجود»، ظ: كتاب الحروف، 112-113، القسم 83؛ ویقول الفارابي في موضع آخر: رأی قوم أن یتجنبوها ویستعملوا الموجود مكان «هو» والوجود مكان «الهویة»؛ وأما أنا فأری أن الإنسان له أن یستعمل أیهما شاء، ن.م، 114-115، القسم 86؛ أیضاً ظ: توضیحات ابن رشد حول «هو» و«الهویة»، 2/557-558؛ واستخدم المترجمون العرب لفظة «هو» مقابل اللفظة الیونانیة =to on موجود، والهویة مقابل = einai to وجود؛ ظ: م.ن، فهرس المفردات، 3/97-98).

أما ابن سینا فضمن تأكیده علی الفرق بین الوجود والماهیة، یُلاحق أفكار الفارابي ویقدم توضیحاً لها بأشكالها المختلفة، وینتهز كل فرصة للتأكید علیها. فنراه یقول: «وأما الوجود فلیس بماهیة لشيء، ولا جزء من ماهیة شيء، أعني الأشیاء التي لها ماهیة، لایدخل الوجود في مفهومها، بل هو طارئ علیها» (الإشارات، 3/477). ویقول في موضع آخر لإثبات ذلك: «إعلم أنك قد تتعلم معنی المثلث وتشك هل هو موصوف بالوجود في الأعیان أم لیس بموجود، بعدما تمثل عندك أنه من خط وسطح، ولم یتمثل لك أنه موجود» (م.ن، 3/443). وبذلك فإن الوجود عند ابن سینا لیس مُقَوِّماً للماهیة، لأن «الوجود لایعمّ الأشیاء كلها عموم المقوم لها الداخل في ماهیتها» (منطق المشرقیین، 17). ویكرّر ابن سینا ثلاثة مصطلحات هي: المُقوَّم، واللازم، والعارض. ولهذا نعتقد أن نقل شرحه لهذه المفاهیم لایخلو من فائدة، فهو یقول: «كل محمول علی شيء من الأشیاء لیس مطابقاً لذاته فهو إما مقوّم، وإما لازم، وإما عارض، فالمقوم هو الشيء الذي یدخل في ماهیته فتلتئم ماهیته منه ومن غیره. واللازم هو الذي لابد من أن یوصف الشيء بعد تحقق ذاته لاعلی أنه داخل في حقیقة ذاته. والعارض هو الذي قد وصف به الشيء، إلا أنه لیس یجب أن یوصف به الشيء دائماً؛ ویشترك المقوم واللازم في أن كل واحد منهما لایفارق الشيء، ویشترك اللازم والعارض في أن كل واحد منهما خارج عن حقیقة الشيء لاحق بعدها. مثال المقوم كون المثلث شكلاً، بل الإنسان جسماً؛ ومثال اللازم كون المثلث مساوي الزوایا لقائمتین؛ ومثال العارض شیب الإنسان وشبابه وغیر ذلك من أحوال تعرض له» (ن.م، 13-14).

وفي أعقاب تأكیده علی الاختلاف بین الوجود والماهیة نراه یؤكد أیضاً علی عَرَضیة الوجود، فیقول: «طبیعة الوجود معنی واحد بالحدّ والرسم، وإن سائر الماهیات هي غیر نفس طبیعة الوجود، لأنه أشیاء یعرض لها الوجود ویلزمها كالإنسانیة؛ فإن الإنسانیة ماهیة ولیست نفس الوجود، ولا الوجود جزء لها، بل الوجود خارج عن حدهما… عارض لها» (الشفاء، الطبیعیات، السماع الطبیعي، 27). ولهذا نراه یصرّح قائلاً: «فماهیة الشيء غیر آنیته، فالإنسان كونه إنساناً غیركونه موجوداً» (التعلیقات، 143) وكذلك «كل ذي ماهیة فهو معلول، والآنیة معنی طارئ علیه من خارج» (ن.م، 185)، و«الماهیات كلها وجودها من خارج، والوجود عرض فیها، إذ لاتقوم حقیقة واحدة منها» (ن.م، 186؛ أیضاً ظ: دانشنامه، إلهیات، 38-39، حیث یكرر هذه النقطة بعبارة أخری).

وهنا تجدر الإشارة إلی أن لفظة «إنیّة» أو «آنیة» هي الشكل العربي للكلمة الیونانیة einai أو للتلفظ الیوناني في العهد البیزنطي inai. فإسحاق بن حنین مثلاً یستخدم دائماً هذه اللفظة الیونانیة بشكل «آنیة» (ظ: أرسطو، في النفس، 30، قا: 65، 77؛ أیضاً ظ: ابن رشد، 2/1006؛ وهنا عُرّبت اللفظة الیونانیة to hoti [أي الموجود] التي استخدمها أرسط إلی «إنَّ» ولفظة to einai [أي الوجود] إلی «آنیّة»؛ قا: أرسطو، متا فیزیك، 258، في الأصل یطابق الكتاب VII، الفصل 1041a, 17؛ أیضاً ظ: غواشون، «برهان الوجود…»، سیما 183). ونجد عند ابن سینا اللفظة الیونانیة on أي «الموجود» بنفس الشكل الأصلي، فهو یقول في الشفاء: «وإذا حققت تكون الصفة الأولی لواجب الوجود أنه «اُن وموجود» (الإلهیات (2)/367، قا: النجاة، 251). وقد وردت هذه اللفظة في النصین بشكل «إنّ» وهذا لیس بصحيح. فقد استخدم الفارابي من قبلُ هذه اللفظة الیونانیة وعدّها ذات معنی واحد مع «إنَّ» العربیة (الحروف، 61: ومعنی إنَّ، الثبات والدوام والكمال والوثاقة في الوجود وفي العلم بالشيء… وأظهر من ذلك في الیونانیة «أن» و«أون»، وكلاهما تأكید [!]، إلا أن «أون» الثانیة أشدّ تأكیداً،… فلذلك یسمون الله بـ «أون» بمد الواو، وهم یخصّون به الله، فإذا جعلوه لغیر الله قالوها بـ «أن، مقصورة». ولیس كل ما ذهب إلیه الفارابي صحیحاً، لكنه یمتاز بشيء من الصحة، وربما وجد ابن سینا هذه اللفظة عند الفارابي أو استلّها من مصدر مشترك).

 

مراتب الموجودات

لاینطبق مفهوم «الوجود» بشكل سواء علی كافة الموجودات عند ابن سینا. فبعضها في هذا المعنی أكثر جدارة وألیق من غیرها، أي أن للموجودات مراتب. فیقول: «فأولی الأشیاء بالوجود هي الجواهر، ثم الأعراض. والجواهر التي لیست بأجسام أولی الجواهر بالوجود إلا الهیولی (المادة الأولی)؛ لأن هذه الجواهر ثلاثة: هیولى وصورة ومفارق، لا جسم ولا جزء جسم ولابد من وجوده، لأن الجسم وأجزاءه معلولة وینتهي إلی جوهر هو علة غیر مقارنة بل مفارقة البتة. فأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغیر المجسم، ثم الصورة ثم الجسم، ثم الهیولی، وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها لیست بسبب یعطي الوجود، بل هي محل لنیل الوجود، وللجسم وجودها، وزیادة وجود الصورة فیه التي هي أكمل منها، ثم العَرَض؛ وفي كل طبقة من هذه الطبقات جملة موجودات تتفاوت في الوجود» (النجاة، 208).

 

الجوهر والعرض

ومن جانب آخر، یضع ابن سینا الموجودات في حقلین آخرین، أي الجواهر والأعراض، فالجواهر ما تقوم بنفسها، والأعراض مرتبطة بها. فهو یقول: «إن الوجود للشيء قد یكون بالذات مثل وجود الإنسان إنساناً، وقد یكون بالعرض مثل وجود زید أبیض. والأمور التي بالعرض لاتحدّ. فلنترك الآن ذلك ولنشتغل بالموجود والوجود الذي بالذات، فأقدم أقسام الموجودات بالذات [بالذات تعریب اللفظة الیونانیة = kath hauto ما صار بنفسه، هو الجوهر، وذلك لأن الموجود علی قسمین: أحدهما الموجود في شيء آخر، ذلك الشيء الآخر متحصل القوام والنوع في نفسه، وجوداً لا كوجود جزء منه، من غیر أن تصح مفارقته لذلك الشيء، وهو الموجود في موضوع؛ والثاني الموجود من غیر أن یكون في شيء من الأشیاء بهذه الصفة، فلایكون في موضوع البتة، وهو الجوهر» (الشفاء، الإلهیات (1)، 57). ویقول حول «الموضوع» وفرقه عن «المحل»: «الموضوع یُعنی به ما صار بنفسه ونوعیته قائماً، ثم صار سبباً لأن یقم به شيء فیه لیس كجزء منه» (ن.م، 59).

 

الواجب والممكن

وبعد بحث مفهوم الوجود وأشكاله یورد ابن سینا بحثاً آخر في علم الوجود من وجهة نظره، یحظی بأهمیة كبیرة في فلسفته، سیما وأن هذه المسألة ذات صلة وثیقة بإلهیاته، وربما عدّها أساس إلهیاته. ولهذا فإن إلهیاته في الواقع قائمة على علم الوجود لدیه ومكملة له. فهو یقسم الوجود إلی قسمین أساسیین: ممكن وواجب، ویقول في هذا الشأن: «كل موجود إذا التفتَّ إلیه من حیث ذاته، من غیر التفات إلی غیره: فإما أن یكون یحیث یجب له الوجود في نفسه، أولا یكون. فإن وجب فهو الحق بذاته، الواجب الوجود من ذاته، وهو القیوم؛ وإن لم یجب، لم یجز أن یُقال: إنه ممتنع بذاته بعدما فُرِض موجوداً، بل إن قرن باعتبار ذاته شرط، مثل شرط عدم علته، صار ممتنعاً، أو مثل شرط وجود علته، صار واجباً، وإن لم یقرن بها شرط، لا حصول علة ولا عدمها، بقي له في ذاته الأمر الثالث، وهو «الإمكان»؛ فیكون باعتبار ذاته لشيء الذي لایجب ولایمتنع. فكل موجود: إما واجب الوجود بذاته، أو ممكن الوجود بذاته. ما حقُّه في نفسه الإمكان فلیس یصیر موجوداً من ذاته، فإنه لیس وجوده من ذاته، أولی من عدمه، من حیث هو ممكن. فإن صار أحدهما أولی، فلحضور شيء أو غیبته. فوجود كل ممكن هو من غیره» (الإشارات، 3/447-448). ویوضّح ابن سینا في موضع آخر مفهومي «واجب الوجود» و«ممكن الوجود» قائلاً: «الواجب الوجود هو الموجود الذي متی فُرض غیر موجود عرض منه محال، وإن الممكن الوجود هو الذي متی فرض غیر موجود أو موجوداً لم یعرض منه محال، والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فیه بوجه، أي لا في وجوده ولا في عدمه» (النجاة، 224-225). ثم یضیف قائلاً: «الواجب الوجود قد یكون واجباً بذاته وقد لایكون بذاته. أما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته لالشيء آخر، أي شيء كان یلزم محال من فرض عدمه. أما الوجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وُضع شيء مما لیس هو صار واجب الوجود، مثلاً إن الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند فرض اثنین واثنین، والاحتراق واجب الوجود لابذاته ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع، أعني المحرقة والمحترقة» [أي واجب الوجود بالغیر] (ن.م، 225).

 

معرفة الله

لقد أشرنا إلی أن لمبحث «واجب الوجود» و«ممكن الوجود» صلة وثیقة بمعرفة الله في علم الوجود عند ابن سینا. فمعرفة الله عنده والقائمة علی أساس ما ذهب إلیه في علم الوجود من «واجب وممكن» قد وردت بأشكال مختلفة في الشفاء و النجاة و الإشارات، وكذلك في آثاره الصغیرة فهو یقول في أحد هذه الآثار: «فالموجودات إذن: إما أن تكون واجبة الوجود، وإما ممكنة الوجود؛ والواجب الوجود إما بذاته وإما بغیره، والذي هو بذاته فالإله، والذي هو بغیره فعلّته واجب الوجود بذاته، وهو في ذاته ممكن الوجود وبغیره واجب الوجود. وقد یكون بغیره أیضاً ممكن الوجود إذا لم توجده علته، فإذا أوجدته صار به واجب الوجود وقد زال إمكان وجوده بغیره، إلا أن إمكان وجوده بذاته لم یَزُل عنه إذ ذاك حقیقته وجوهره، والجوهریة لاتبطل البتة» (التعلیقات، 175). ونجد أقوالاً عمیقة ومدهشة عند ابن سینا علی صعید معرفة الله، حیث یقول: «الأول» (أي الله) لایدرك كنهه وحقیقته العقول البشریة، وله حقیقة لا اسم لها عندنا. ووجوب الوجود إما شرح اسم تلك الحقیقة أو لازم من لوازمها، وهو أخص لوازمها وأولها، إذ هو لها بلا واسطة لازم آخر… وكذلك الوحدة هي أخص لوازمها إذ الوحدة الحقیقیة هي لها، وما سواها فإنه لایخلو عن ماهیة وآنیة (ن.م، 185-186). ومع هذا فإن مفهوم «واجب الوجود» عنده هو بمثابة حجر الأساس لمعرفة الله، إذ الوجود في واجب الوجود من لوازم ذاته وهو الموجب له، وذاته هو الواجبیة، فهو علّة الوجود، والوجود في كل ما سواه غیر داخل في ماهیته، بل طارئ علیه من خارج ولایكون من لوازمه. وذاته (واجب الوجود) هو الواجبیة، أو الوجود بالفعل لا الوجود مطلقاً، بل یكون من لوازمه. والحق ما وجوده له من ذاته، فلذلك، البارئ هو الحق وما سواه باطل، كما أن واجب الوجود لابرهان علیه ولایُعرف إلا من ذاته، فهو كما قال «شهد الله أنه لا إله إلا هو» (آل عمران/3/18). فهو لا ماهیة له بل له آنیة، إذ كل ذي ماهیة معلول، لأن وجوده لا لذاته بل من غیره. والوجود المطلق الذي بالذات لایكون معلولاً البتة. فوجوب الوجود إذن لا ماهية له غیر الآنیة (التعلیقات، 70). فابن سینا یؤكد دائماً علی أن واجب الوجود وجود محض ولا ماهية له، وقد ناقش هذا الموضوع بوضوح في دانشنامۀ علائي (ظ: إلهیات، 76-77). ویستنتج ابن سینا في موضع آخر فیقول: «للعالم أول لایشب العالم وأن وجود العالم منه، ووجوده واجب ووجود محض، ووجود الأشیاء منه» (ن.م، 83). وخلاصة القول «فالواجب الوجود وجوده الماهیة» (ن.م، 79).

الصفحة 1 من13

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: