الصفحة الرئیسیة / المقالات / الاصلاح /

فهرس الموضوعات

الإصلاح في غربي العالم الإسلامي

إثر ظهور الأفكار والمساعي الإصلاحية في شرقي العالم الإسلامي، بدأت منذ النصف الثاني من القرن 13ه‍ / 19م في البلدان الغربية من رقعة حكم الإسلام أيضاً نهضات وأفكار تجديدية وإصلاحية لتحرير المجتمعات الإسلامية من حالة الجمود وخلق أرضيات الإصلاحات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأدت إلى ظهور تطورات ملحوظة. وخصص هناك أيضاً قسم مهم من الأفكار الإصلاحية، للإصلاح الديني وتجديد الفكر بشأن بعض الأفكار والتقاليد والمعتقدات الدينية (ظ: روندو، I / 231,234).
وأهم عامل محفز لفكرة الإصلاح فـي غربي العالم الإسلامي ــ شأنه شأن شرقيه ــ كان وعي مفكري هذه المنطقة وشعورهم العميق بالوضع المزري لمجتمعهم مقارنة بالعالم الأوروبي الحديث. و في الحقيقة، فإن هذه المقارنة نبهتهم إلى وجود هوة واسعة بين المجتمعين (لارويي، 15-16). و إن دور أوروبا في حركة الإصلاح في غربي العالم الإسلامي في مجالين ومرحلتين غير متزامنتين جدير بالاهتمام والبحث. ففي المرحلة الأولى، أدى التواجد المتزايد للدول الأوروبية وتدخلها في دول المغرب إلى أن يشعر المسلمون بأن سيادتهم في خطر (ظ: حوراني، 103: فقد حدث نفس الأمر في شرقي العالم الإسلامي). وبدأت المرحلة الثانية عندما وجد مسلمو المنطقة و هم يبحثون عن طريق للخلاص من الخطر والحصول على وضع أفضل، أنفسهم مضطرين للاقتباس من بعض الأساليب والوسائل الثقافية والسياسية والاقتصادية الغربية الحديثة (عبدالملك، 13). وبعبارة أخرى، فقد كانت حركة الإصلاح ردة فعل في مواجهة التعامل القاسي والمرتبط بالعالم الأجنبي (روندو، I / 231)، وتأججت من اصطدام الفكرين الغربي والإسلامي شعلة فكرة جديدة هي فكرة الإصلاح (ابن عاشور، 29). وربما لايستطيع أي بيان أن يوضح عمق تأثير أوروبا في بعث هذه الإصلاحات وسيرها كعبارة المنظِّر والمفكر الإصلاحي الجزائري، مالك بن نبي الذي يقول إن وصول أوروبا حال دون انقراض المسلمين (ظ: حوراني، 372). 
ولإيضاح الخلفية التاريخية للقضية يجدر التذكير بأنه خلال الفترة الواقعة بين 1246ه‍ / 1830م وإلى قُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، سقطت بلدان غربي العالم الإسلامي ــ التي كانت وبتقلص نفوذ الإمبراطورية العثمانية قد نالت تدريجياً شكلاً من أشكال الاستقـلال (حتي، 2 / 894) ــ تحت سلطـة الاستعمـار الفرنسي لأسباب وذرائع سياسية وعسكرية واقتصادية. لقد احتلت فرنسا الجزائر في 1246ه‍ ، وعقب قمع ثورة الأمير عبدالقادر، بادرت إلى فرض سياسة استعمارية شاملة فيها، بحيث هدّدت وجود الجزائر بشكل جاد. و قد حدا استشعار هذا الخطر بالمثقفين والنخب المحلية إلى البحث عن طرق مناسبة للمواجهة (ظ: ن.د، الجزائر). وبموجب معاهدة باردو في جمادى الآخرة 1298 / أيار1881 فرضت فرنسا انتدابها على تونس، وبعد سنتين ثبتته باتفاقية مرسى (كورنفن، 253-254)، وبعد 10 سنوات من هذا التاريخ تقريباً، مهدت لإقامة نظام استعماري شامل في هذه البلاد. و قد حدا استعمار فرنسا لتونس ببعض المثقفين التونسيين إلى إظهار ردود أفعال تجاه ذلك وإلى التفكير والعمل (م.ن، 315-316). و في مراكش كانت الأمور تسير بشكل مختلف عما هي عليه في الجزائر وتونس وكانت علاقات المجتمع من حيث التبادل الثقافي مع الخارج محدودة جداً (م.ن، 254-255). وأخيراً انتهت منافسات ومساومات القوى الأوروبية حول شمال أفريقيا في ختام مؤتمر آلخِثيراس (الجزيرة الخضراء، و هي ميناء إسباني في مضيق جبل طارق) سنة 1324ه‍ / 1906م باستقلال نسبي لمراكش و هيمنة فرنسا على مقاليد الأمور. و في 1330ه‍ / 1912م أصبحت مراكش مع بقاء الملكية تحت حماية فرنسا رسمياً وتحت إشراف وزير فرنسي (م.ن، 329). وعلى طريق مقاومتها للأجنبي وضمان الاستقلال الوطني، اتخذت حركة النخبة المراكشية الإصلاحية طابعاً سياسياً و ظل دور علماء الدين باهتاً في هذه الحركة (بوركه، 93). 
وإذا كانت الإجراءات والضغوط السياسية الأوروبية وبشكل خاص الفرنسية بوصفها عاملاً سلبياً قد جوبهت بردود فعل في دول المغرب وأدت إلى ظهور حركة الإصلاح و تناميها، فإن مغريات أوروبا الإيجابية أيضاً أثّرت بشكل آخر في الإصلاحيين بتقديمها النموذج والمبادئ والأساليب. وكان كثير من رجال الإصلاح وزعمائه، أو أنصاره في المغرب خلال سفرهم إلى أوروبا ودراستهم فيها، أو في المدارس الأوروبية بالمغرب ودراستهم لتاريخ الدول الأوروبية وبنيتها الاجتماعية قد تأثروا بما تعلموه وشاهدوه (مثلاً حوراني، 67-88؛ ابن عاشور، 13-14). 
وكان من العوامل المهمة والمؤثرة الأخرى في الحركة الإصلاحية بالمغرب، وجود وظهور أمثال هذه الحركات في بلدان شرقي العالم الإسلامي وخاصة تواجد عدد من الشخصيات الشهيرة لهذه الحركة في الشرق. و في الحقيقة، فإن تاريخ غربي العالم الإسلامي لم‌يكن دوماً خالياً من الارتباط بشرقيه، أو بعيداً عن تأثيراته. وكانت أقوى وسائل ارتباط هاتين النقطتين الإسلاميتين هو أداء مناسك الحج و ما يتم فيه من تبادل للمعلومات والتجارب (ظ: م.ن، 13: إشارة إلى سفره أكثر من مرة للحرمين الشريفين). 
والعلاقات السياسية ــ برغم كونها باهتة ــ لقسم من غربي العالم الإسلامي بالإمبراطورية العثمانية كانت تعكس التطورات السياسية والحركات التجديدية والإصلاحية في الدولة العثمانية في هذه البلدان أيضاً بشكل من الأشكال. وكانت تأثيرات هذه الحركات الإصلاحية ملموسة في تونس أكثر من أي مكان آخر في المغرب (ظ: م.ن، 29-42). 
وينبغي أن يُعدّ ارتباط بلدان المغرب بمصر وارتباط علماء المغرب بروّاد الإصلاح فيها و خاصة الشيخ محمد عبده، من العوامل المحفزة الكبيرة لحركة الإصلاح في المغرب. واستناداً إلى ابن عاشور، فإن نجاح دعوة عبده في تونس كان أكبر من نجاحها في مصر (ص 74-75). وكان لحضور عبده في المغرب مرتين خلال سنتي 1302و1321ه‍ / 1884و1903م (م.ن، 59، 75) أثر في شهرته هذه. 
وبسبب الأوضاع السياسية الخاصة التي ابتُلي بها مغرب العالم الإسلامي إثر الاحتلال، أو الانتداب الفرنسي، فقد تواكب هدف حركة الإصلاح في تلك البلدان مع نهضة النزعة الوطنية وتحول نيل الاستقلال الوطني لـدى المصلحين إلى هدف رئيس. و في هذا المسير، لم‌يكن في الاستقلال ما يتناقض والدخول إلى العالم الجديد ومجتمعه الثقافي (ظ: حوراني، 364-365,368-369,371-372؛ روندو، I / 246). 
و مع كل ذلك، فإن الهدف الرئيس كان إصلاح الدين وجميع الأمور الخاصة بهذه الدنيا (م.ن، I / 248). واستناداً إلى علّال الفاسي، فإن الحياة الوطنية لمسلمي شمال أفريقيا لم تكن بإمكانها أن تكون بمعزل عن التعاليم الإسلامية، وكان الفصل بين الدين والدنيا في رأيهم نتاج المسيحية وتجربة بلاد الغرب (ظ: حوراني، 372). وكان ابن باديس يُظهر امتزاج الدين والدنيا في هذا الشعار: الإسلام ديني، العربية لغتي، الجزائر بلدي (روندو، ن.ص). و كان المصلحون المغاربة يرون أنه يمكن الحصول على النمو والتطور عن طريق إحياء الأفكار الإسلامية. وكان الإسلام الحقيقي بالنسبة لهم سامياً و عاملاً للتطور (لارويي، 44) وكان رقيّ المجتمع الإسلامي وتحديثه يُعدّ الهدف الرئيس (عبد الملك، 148-150). 
وبعبـارة أخرى، فـإن فريقـاً كبيـراً من المصلحين في المغرب ــ شأنهم شأن مَن في المشرق ــ كانوا يفكرون بإصلاح الوضع القائم وتجديد حياة الدين النقي لصدر الإسلام؛ ذلك أنهم كانوا يعتقدون استناداً إلى حديث للنبي (ص): «لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» (مالك بن نبي، 4، 135؛ «دائرة المعارف...»، IV / 150,152). ولما لم‌يكن بالإمكان تحقق هذا الاعتقاد الديني، إلا بالعودة إلى الكتاب والسنة النبوية (المصدرين الرئيسين للاعتقاد الديني)، فقد قام أساس دعوة المصلحين على الدعوة إلى الأنس بالقرآن والسنة وترك الخزعبلات والخرافات والسيئات والضلالات التي كانت قد عُلّمت للناس بمرور الزمان بوصفها ضرورات العقيدة الدينية (سعد، 69 و ما بعدها). واستناداً إلى مالك بن نبي، فإنه ينبغي تحسين تعليم القرآن بشكل يسطع معه نور الحقيقة القرآنية على ضمير المسلمين مرة أخرى (ن.ص). وكان هدف هؤلاء المصلحين من التأكيد على تعليم القرآن والحديث قبل تعميق مفهوم الإسلام هو الاهتمام بالتوحيد، 
وبساطة الاعتقاد وعدم تعارض الإسلام مع مقتضيات العصر الجديد (سعد، 74-75). وكان هؤلاء المصلحون يرون التأمل في حياة السلف الصالح إلى جانب القرآن والسنة أمراً ضرورياً لمعرفة الإسلام الأصيل («دائرة المعارف»، IV / 156-157، نقلاً عن ابن باديس). 
وبوصفه أهم وسيلة لتمييز الطريق السليم كان العقل أيضاً مما يؤكد عليه المصلحون كثيراً، وتتجلى نتائج استخدامه بشكل تحليل نقدي لتراث الماضي وتشذيبه من العناصر الأسطورية والتأكيد على الاجتهاد ورفض التقليد والتوجه إلى العلم. وبحسب رأي المصلحين المغاربة، فإن نجاة المسلمين كان يمكن لها أن تتيسر إذا ما تصالحوا مع العقل والعلم بشكل يتحول معه العلم إلى ثقافة لهم. و من وجهة نظرهم، فإنه في اليوم الذي أُغلقت فيه أبواب الاجتهاد و حلّ التقليد محلّه، بدأ انحطاط العالم الإسلامي؛ واليـوم، فـإن نجاته رهن فـي العمل بالاجتهـاد (عبـد الملك، 197-200). وبتأكيدهم على هذه المبادئ، كان المصلحون يعارضون بشدة المعتقدات الصوفية والطرق المنتشرة في المغرب ويعدونها مشحونة بالبدع والخرافات. وبإزاء ذلك، كان أهل الطرق الصوفية وغلاة المالكية بدورهم يعدّون عقلانية المصلحين وسيلة للضلال (سعد، 70-76). وكان التأكيد على الأخوة الإسلامية ونبذ الخلافات العقائدية بين المسلمين من أتباع المذهبين السني والشيعي وانتهاج سياسة التقارب بين الدول الإسلامية والتعاون في سبيل الوصول إلى وحدة الأمة من المبادئ الأخرى التي كانت نصب أعين المصلحين («دائرة المعارف»، IV / 165). 
ونظراً للأهمية التي كانت العقلانية تتمتع بها في المبادئ المقبولة لدى الإصلاحيين، فقد كان العلم أيضاً وبوصفه نتيجة لها، يحظى بالاحترام (عبد الملك، 198). ولتعزيز دور هذا العامل الفاعل، كانت الأنشطة الثقافية مثل الاقتباس من العلوم والفنون الغربية مع المحافظة على قيم الماضي المفيدة (ن.ص؛ روندو، I / 239)، ونشر الفكر بواسطة الصحف وتأسيس الجمعيات والمؤسسات الثقافية، واقتراح وتنفيذ برامج تعليمية تتناسب وأهداف الإصلاح ومبادئه (م.ن، I / 249؛ سعد، 39)، تصبح أمراً ضرورياً ومهماً. 
وبرغم وجود علاقة و تماثل وتزامن نسبي للحركات الإصلاحية في مختلف بلدان المغرب الإسلامي، فإنه وبسبب تأثير الأوضاع التاريخية والاجتماعية المتباينة، تلاحظ اختلافات في مسيرة هذه الحركات ونتائجها العملية في شتى بلدان المغرب. ونظراً للمواقف والمبادئ والأساليب والتطابق الملحوظ بين الإصلاح والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقة الوسطى من سكان المدن في المجتمع، ونظراً لأوضاع مختلف بلدان المغرب، يبدو من المعقول أن تكون هذه الحركة قد بدأت من تونس، وبتأثيرها في الجزائر تجلت في المغرب في مرحلة أكثر تأخراً: 

ألف ـ في تونس

أدى ارتباط تونس سياسياً بالإمبراطورية العثمانية وضغوط القوى الأوروبية من جهة وعلاقتها الوثيقة بمصر وشرقي العالم الإسلامي من جهة أخرى، إلى أن تنعكس حركات التجديد السياسية والثقافية في الحكم العثماني و المشرق، في تونس بشكل أسرع مما هي عليه في بقية مناطق المغرب. وكان إنشاء مطبعة ومدرسة عسكرية لتخريج ضباط فنيين ومهندسين وتدريس العلوم الأوروبية الحديثة فيها منذ عهد أحمد باشـا (1252-1270ه‍ / 1837-1855م)، وصـدور «عهــد الأمــان» ــ كنسخـة ناقصـة مـن التنظيمـات العثمانيـة ــ بـواسطـة محمد بـاي فـي 1273ه‍ / 1857م، وتدوين الدستور في 1276ه‍ / 1860م بواسطة محمد صادق باي، إيذاناً ببدء عهد جديد. و قد أدى وجود معلمين أوروبيين وعلاقة أساتذة و علماء جامع الزيتونة (المركز التقليدي للعلوم الإسلامية) بهم إلى ظهور أسئلة في أذهان ذوي الفكر والنظر في تونس تدريجياً (ابن عاشور، 21-22). 
تسنم خريجو الزيتونة والمدرسة العسكرية فيما بعد مناصب عسكرية و مدنية مهمة (حوراني، 64-65)؛ و من بينهم يمكن أن نذكر الشيخ محمود قبادو، أحد علماء الزيتونة الكبار الذي ساهم في إدارة المدرسة العسكرية؛ و قد أصبح مؤسس فكرة حركة الإصلاح الإسلامية في تونس، وكان يعتقد أن عدم اهتمام المسلمين في علوم مثل الفلسفة والرياضيات هو السبب الرئيس في انحطاطهم؛ إذن فالتوجه نحو هذه العلوم مرة أخرى، يعدّ الطريق الوحيد لبلوغ التقدم والسعادة، وهذا بدوره لايتحقق، إلا باقتباس هذه العلوم من أوروبا عن طريق الترجمة والتعليم (ابن عاشور، 29-31). و قد وجدت مواقف الشيخ قبادو في أجواء الزيتونة التقليدية و في المدرسة العسكرية أنصاراً مثل الوزيرين اللاحقين حسين ورستم ومثل الشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد بيرم (م.ن، 32؛ حوراني، 38). 
وكان من الشخصيات البارزة التي كان لها دور خطير في نهضة التجديد والفكر الإصلاحي في تونس، خير الدين المملوك القفقازي الأصل الذي درس في إستانبول والذي التحق بخدمة أحمد باي في تونس وأصبح رئيساً لوزرائه، وأخيراً غدا صدراً أعظماً للدولة العثمانية (حوراني، 25,86). وكان قد أمضى فترة في باريس بوصفه مفوّضاً سياسياً، فتعرف إلى الثقافة والمجتمع الأوروبيين. وفضلاً عن الإصلاحات الإدارية التي قام بها في تونس خلال فترة رئاسته للوزارة، أسس خير الدين مطبعة حكومية ومكتبة عامة وخاصة المدرسة الصادقية (ابن عاشور، 39-40) التي كانت العلوم الأوروبية والإسلامية تُدرس فيها إلى جانب بعضها البعض(حوراني، 85). وبوصفه شخصاً عارفاً بالعلوم الإسلامية والأوروبية وعالماً وناشطاً سياسياً عرض حصيلة فكره في كتاب بعنوان أقوم المسالك في معرفة الممالك (ظ: ابن عاشور، 38-39؛ حوراني، 87-88). وبحسب رأيه، فإنه ولأجل تحسن أوضاع الأمة الإسلامية ينبغي مراعات وتوفر عدة شروط: 1. نشر العلوم والتعليم بين الناس. 2. إقامة حكومة عادلة تكون سلطتها قد عُرِّفت وحددت بواسطة «الشريعة والقانون العقلي» تراعى فيها حريـات الأشخـاص و الصحافـة ومبـدأ المشاركـة فـي الحكم. 3. ضرورة اقتباس الجوانب المقبولة من الثقافة والحضارة الأوروبية بشكل لايتعارض مع روح الشريعة الإسلامية. 4. مراعاة خير المجتمع و مصلحته بما ينسجم وقانون الشريعة مما يمكن تحقيقه بالمشاركة الفكرية والعملية بين علماء الدين ورجال الدولة (م.ن، 83-93؛ أيضاً ظ: ابن عاشور، 34-39). 
وعقب عزل خير الدين عن الحكم وابتعاده عن تونس، و في فترة احتلال البلاد من قبل فرنسا وتشدّد الحكومة الفرنسية وتغلغل اللغة الفرنسية وثقافتها في تونس أكثر من ذي قبل، عُدّ أشخاص مثل الشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد بيرم والشيخ محمد السنوسي أكبر حاملي لواء الإصلاح. كان الشيخ محمد السنوسي يتعاون مع السيد جمال الدين الأسد آبادي وصحيفة العروة الوثقى. وعندما سافر الشيخ محمد عبده إلى تونس في صفر 1302 / كانون الأول 1884، استضافه السنوسي وبقية المصلحين، ثم استمرت بعد ذلك العلاقة بينهم وبينه أيضاً. وكان السنوسي يتولى رئاسة تحرير صحيفة الرائد الأسبوعية، و قد عُزل من منصبه هذا بعد الاحتلال الفرنسي لتونس، حيث غادر بعدها إلى أوروبا الشرقية. وكان بوحاجب بوصفه عالماً إسلامياً يمزج الخطب الدينية بالقضايا والبحوث الإصلاحية (م.ن، 46-53). أما محمد بيرم فقد ألف عدة آثار حول إصلاح القوانين وكتاباً مهماً في التاريخ المعاصر (حوراني، 222) وأخيراً انتقل مع أسرته إلى مصر (ابن عاشور، 47). 
و في 1314ه‍ / 1896م، شكل لفيف من خريجي الزيتونة والصادقية وتلامذة بوحاجب، مثل البشير صفر، فريقاً باسم الجمعية الخلدونية لنشر العلم والتربية وفقاً للأسلوب الحديث (م.ن، 70). وكان البشير صفر يدرّس فيها التاريخ والجغرافية، كما تولى لفترة إدارة الجمعية أيضاً. وكان الطلاب الجامعيين يقصدونها حتى من الجزائر والمغرب الأقصى. وكانت الجمعية الخلدونية تولي كل الاهتمام والإقبال على صحيفة المنار التي كان يصدرها الشخصية الإصلاحية الشهيرة محمد رشيد رضا (م.ن، 71، 73). أدى تحرك الجمعية الخلدونية إلى توجيه نقد لبرامج جامع الزيتونة التقليدية وأخيراً إلى إصلاح الأسلوب التعليمي فيه. كما انتشرت فكرة الإصلاح في أوساط شبان الزيتونة؛ لكن من جهة أخرى، أدى اتساع نطاق الحركة الإصلاحية للجمعية الخلدونية إلى سوء ظن الشيوخ المعارضين للتجديد وذمهم للجمعية ومعارضتهم لها (م.ن، 72). 
وفي محرم 1319 / أيار 1901، أصدر الشيخ عبد العزيز الثعالبي مجلة سبيل الرشاد في تونس، فأصبحت مبشرة بأفكار السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده. وبرغم أن الحركة الفكرية الإصلاحية في تونس قد طُرحت بشكل دعوة للإصلاح الديني، غير أن اشتداد معارضة الفريق المعارض للتجديد أدى إلى سجن الثعالبي. وخلال الرحلة الثانية التي قام بها محمد عبده إلى تونس في رجب 1321 / آب 1903 والحفاوة التي قابلته بها الأوساط العلمية والفكرية، اتضح إلى أي حدّ تقدمت فكرة الإصلاح هناك (م.ن، 74-75). و اشتهر بعض المدرسين الشباب في الخلدونية والزيتونة آنذاك كالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور والشيخ محمد الخضر حسين بكتاباتهم الجريئة دفاعاً عن الإصلاح. و قد وجدت المنار انتشاراً واسعاً لها في صفوف المثقفين التونسيين وكانت تعكس بشكل يفوق ما لدى بقية الصحف التونسية آراءهم وتعرض الضغوط التي كان يمارسها عليهم معارضوهم (م.ن، 70-80). و في الجيل التالي، حيث كانت فترة نمو الحركات الوطنية والسياسية، يجدر ذكر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، نجل الشيخ محمد الطاهر بوصفه أهم ممثلي تيار الإصلاح الديني («دائرة المعارف»، IV / 166). 

ب ـ في الجزائر

برغم أن الجزائر سبقت غيرها من بلدان مغرب العالم الإسلامي في مواجهة أوروبا، لكن يبدو أن شدة وقسوة التعامل العسكري الفرنسي مع الجزائر وضرورة مجابهة الجزائريين لها، لم تتح الفرصة لزعماء حركة المقاومة الجزائرية وإلى فترة طويلة للخوض في القضايا النظرية البحتة. وعندها أصبح ضعف التقاليد الإسلامية في الجزائر وانعدام مراكز ثقافية ـ دينية كبيرة مثل جامع الزيتونة التونسي فيها وتدمير المستعمرين الفرنسيين للمراكز المحلية القائمة وكثرة الطرق الصوفية المرموزة واستغلال الاستعمار لها لإبقاء الناس في الجهل، من العوامل التي تعيق تطور فكرة الرقي والإصلاح في المجتمع الجزائري (ظ: حوراني، 370-371). ولذا، فإنه في المرحلة الأولى من نهضة الإصلاح لم يظهر ناطق شهير باسمها في الجزائر؛ لكن في المرحلة الثانية و في فترة ما بين الحربين العالميتين ــ عندما كانت حركة التجديد في تونس وبظهور حزب «الدستور» و من بعده «الدستور الجديـد» قد اتخذت لنفسها طابعـاً سياسياً ووطنياً بشكل كامل ــ توهج مشعل النهضة في الجزائر بيد أشهر وجوهها الإصلاحية، الشيخ عبد الحميد ابن باديس، حيث غادرها ــ و هو الذي درس العلوم التقليدية في المدارس المحلية وذهب بعدها إلى المدرسة الفرنسية ــ إلى تونس و هو في التاسعة عشرة للدراسة المتوسطة، فانبرى لتلقي الدراسات العليا في جامع الزيتونة وتأثر كثيراً بالشيخ حمدان الونيسي والشيخ محمد النخلي. وعقب عودته إلى وطنه مارس التدريس في الجامع الأخضر بقسنطينة و في فترة ما بين الحربين العالميتين تبلورت لديه فكرة الإصلاح الديني. و في 1344ه‍ / 1925م وبالتعاون مع الشبان الجزائريين وبغية مناهضة الطرق الصوفية أصدر مجلة المنتقد التي ما لبثت أن تعرضت للمصادرة و إلغاء الامتياز. فأصدر بعد سنة مجلة الشهاب التي عرض فيها آراءه الإصلاحية (سعد، 47-51). وكان طليعة الشهاب تعلن عن برنامجها بهذه العبارة: «هدفنا إصلاح الدين وكذلك جميع الشؤون ذات العلاقة بهذه الدنيا» (روندو، I / 248). 
و في 1350ه‍ / 1931م أسس ابن باديس «جمعية العلماء المسلمين في الجزائر» وأصبح أول رئيس لها؛ وكان من مؤسسي الأوساط العلمية والأدبية وجمعيات التربية والتعليم. و قد بلغ عدد تلاميذ مداس جمعية العلماء في 1353-1354ه‍ / 1934-1935م حوالي 30 ألف طالب وطالبة. و قد أَولى ابن باديس اهتماماً لإحياء الثقافة الوطنية والعربية للجزائر، وكان يرى التعليم الديني للنساء أمراً ضرورياً (سعد، 52، 100، 106). و قد عدّ بعض الكتّاب حركة ابن باديس قائمة على حركة الإصلاح في المشرق ووصفوه بأنه خليفة السيد جمال الدين في الجزائر (م.ن، 59). وفي الحقيقـة، فإن ابن باديس قـدم فـي الشهاب أكبـر تفصيـل بعد محمد عبده، بشأن مبادئ وأفكار الحركة الإصلاحية (ظ: ن.د، ابن باديس). 
وخلال هذه الفترة يُعدّ مصلحون مثل محمد البشير الإبراهيمي ومبارك الميلي وأحمد توفيق المدني ومحمد العيد والشيخ الطيب العقبي وأحمد بوشمال، أشهر زملاء ابن باديس (سعد، 55). وكانت جمعية العلماء تضم سنة 1374ه‍ / 1955م ما يقارب من 200 مدرسة، عدا الصفوف المسائية، يـدرس فيها حوالي 40 ألف طالب. و قد عُدّ النشاط الإصلاحي لهذه الجمعية من العوامل الفاعلة جداً في اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954م (روندو، I / 249-250). وكان مالك بن نبي أحد المنظرين الكبار للإصلاح في فترة ما بعد استقلال الجزائر، من تلامذة ابن باديس (م.ن، I / 266). 

ج ـ في المغرب

أدت التركيبة الخاصة للمجتمع الديني في المغرب إلى ظهور حركة الإصلاح فيه بشكل متأخر («دائرة المعارف»، IV / 166). وكانت الأوضاع الاجتماعية الخاصة في المغرب الناجمة عن حوادث أزمات السنوات 906-1061ه‍ / 1500-1650م، وكذلك التركيبة القَبَلية للمجتمع، ووجود الفكر الشريفي (العلوي) السني الذي كان قد انعكس في حكم الشرفاء هناك، وأخيراً تقديس بعض الأشخاص (من الصوفية)، قد قطع الطريق على الظهور الاجتماعي ـ السياسي لعلماء الدين بشكل بارز، وكذلك على ظهور تنظيمات عُلمائية، بل ويمكن القول إنه لم‌يكن يوجد في مراكش فريق وفئة متشاكلة باسم علماء الدين و في أواخر القرن 13ه‍ / 19م، كانت جماعة «العلماء الكبار» تنحصر في 20 شخصاً على أقصى تقدير من أساتذة جامع القرويين (ظ: بوركه، 101). 
و إثر التطورات السياسية لسنوات العقد الأول من القرن 20م التي كانت قد نجمت عن ضغوط فرنسا وتدخلها المتزايد في شؤون المغرب والانتشار المتزايد للآثار السيئة للثقافة الغربية هناك، بادر علماء مراكش الذين لم يكونوا حتى ذلك الحين قد أبدوا رغبة في التدخل بالسياسة، لاتخاذ موقف وأعلنوا عن قوتهم بطلبهم عزل السلطان عبد العزيز وإحلال شقيقه عبد الحافظ محله وذلك في رجب 1325 / آب 1907، ودخلوا الميدان بوصفهم متحدثين باسم الشعب المطالب بالاستقلال. وكان أشهر زعماء هذه الحركة الشريف محمد بن عبد الكبير الكتّاني. وبرغم أن هذا الإجراء كان يُعدّ خروجاً واضحاً على التقاليد القديمة وذروة الجرأة السياسية، لكن جماعة العلماء تلاشت تدريجياً إلى الحد الذي لم‌يرتفع معه صوت احتجاج من جماعة العلماء عند وضع مراكش تحت حماية فرنسا في 1330ه‍ / 1912م (م.ن، 102-123).
وكما هو الحال في الجزائر، فقد ظهرت حركة الإصلاح في المغرب بين الحربين العالميتين وبالتحديد منذ 1349ه‍ / 1930م وكان زعيمها المعروف، علّال الفاسي (1328-1394ه‍ / 1910-1974م). وبـرغـم أن اسمـي أبـي شعيـب الـدُّكّـالـي (تـ 1356ه‍ / 1937م) وابـن الموقّـت (تـ 1368ه‍ / 1949م) يأتيـان قبل علال الفاسي في هذا الميدان، لكن لم‌يكن التأكيد على تجديد حياة الإسلام ملحوظاً في فكرهما وعملهما («دائرة المعارف»، ن.ص). وتدل آثار علال الفاسي على أنه كان متأثراً في أفكاره بمحمد عبده وكان يطرح آراءه في المغرب (لارويي، 43). وكان علال الفاسي أكثر من كونه منظِّراً، ناشطاً سياسياً يفكر في العمل وللعمل؛ فهو الذي كان قد بدأ نضاله من أجل وحدة المغرب منذ 1349ه‍ / 1930م، أسس فـي 1365ه‍ / 1946م حزب الاستقـلال وتولى زعامته؛ وعندما كان يقيم في القاهرة نظّم حركة المقاومة المغربية. و في 1375ه‍ / 1956م ولدى استقلال المغرب عاد إلى الوطن وتسنم مناصب في الحكومة والمجلس، كما كان مديراً لمجلة البينة. وطُبع كتابه النقد الذاتي سنة 1952م في القاهرة. وكانت نظرية الفاسي في الفكر الإصلاحي، القائمة على محور التجديد الفكري والاجتماعي في إطار التقاليد الوطنية تقف بإزاء التحديث المتغرب (عبدالملك، 147-148). و مع كل الفوارق بين مراكش القرن 20م ومصر أواخر القرن 19م وبين محمد عبده والفاسي، فإن الرؤية الأساسية و ما يشغل بال الفاسي بشكل رئيس، هي نفس رؤية عبده و ما يشغل باله. فالإسلام الأصيل في رأيه هو سامٍ ويمنح السموّ ويجب تخليصه من الأوهام و الزيادات التاريخية. و إن هذا الإسلام لن يمنع على الإطلاق أتباعه من التطور. و هو يعارض بشدة «المسخ السلبي» الذي لايجعل المسلم غربياً، بل يحوله إلى مخلوق غريب لاهو «ذاته» و لاهو «الآخر» (لارويي، 43-46). وكان يؤكد بشدة على استقلال المغرب وكذلك على الحضارة العربية وثقافتها الإسلامية، ويعدّ المغرب عضواً في عالم إنساني واحد (عبدالملك، 150-152)؛ ويرى أن الحياة الوطنية للمغرب لايمكنها أن تستمر بمعزل عن تعاليم الإسلام (حوراني، 372). و قد عدّ بعض الباحثين رأي الفاسي «وضعياً» سطحياً يقدّم التحليل الاجتماعي على التحليل التاريخي. وهؤلاء يقيّمون بشكل عام المطالبين بالحرية المغاربة من أي طيف، أوفريق كانوا بأنهم سطحيون، مقارنة بأمثالهم المشارقة (لارويي، 45-46). 

المصادر

ابن عاشور، محمد الفاضل، الحركة الأدبية والفكرية في تونس، تونس، 1972م؛ حتي، فيليب، تاريخ عرب، تج‍ : أبو القاسم پاينده، تبريز، 1344ش؛ سعد، فهمي، حركة عبد الحميد بن باديس ودورها في يقظة الجزائر، بيروت، 1983م؛ مالك بن نبي، شبكۀ روابط اجتماعي، تج‍ ‍‌: جواد صالحي، طهران، 1359ش؛ وأيضاً:

Abdel-Malek, A., La Pensée politique arabe contemporaine, Paris, Edition du Seuil; Burke, E., «The Moroccan Ulama 1860-1910: An Introduction», Scholars, Saints, and Sufis, ed. N. R. Keddie, Berkeley etc., 1972; Cornevin, R. and M., Histoire de l’Afrique, Paris, 1964; Encyclopédie de l’Islam, Leiden, 1978; Hourani, A., Arabic Thought in the Liberal Age, 1798-1939, Oxford, 1961; Laroui, A., L’Idéologie arabe contemporaine, Paris, 1967; Rondot, P., L’Islam et les musulmans d’aujourdhui, Paris, 1958.

يوسف رحيم لو / ه‍.

 

الصفحة 1 من12

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: