الصفحة الرئیسیة / المقالات / الاصلاح /

فهرس الموضوعات

فترة الانتقال إلى العصر الحديث

من الصعوبة بمكان في تاريخ العالم تحديد نقطة توقف معينة لنهاية العصر الوسيط ودخول العصر الحديث؛ خاصة مع الأخذ بنظر الاعتبار أن السمات التاريخية لأوروبا وتقسيم تاريخها إلى العصر القديم والقرون الوسطى والقرون الحديثة، لايمكن تطبيقه بهذا الشكل في العالم الإسلامي، والنقطة الوحيدة من تاريخ الغرب التي يمكن الركون إليها هي عصر النهضة الذي حَدّد بحوالي سنة 1500م تشكيل أوروبا الحديثة. و مع الأخذ بنظر الاعتبار ضيق نطاق العلاقات بين ثقافة العالم الإسلامي وحضارته وبين أوروبا في القرون الوسطى، فإن الاستفادة من نموذج تقسيم تاريخ أوروبا لعالم قليل الصلة به، لن يكون مقبولاً بطبيعة الحال، لكن حدوث عدة وقائع تاريخية مصيرية بشكل مشترك في العالم الإسلامي وأوروبا حوالي سنة 1500م (بداية القرن 10ه‍‍ ( حوّل هذه العلاقة المحدودة إلى تعامل وثيق؛ تعامل برغم كونه حيناً ودياً وحيناً عدائياً، إلا أن التطورات التاريخية ربطت قسماً كبيراً من العالم ببعضه. 
 وعلى رأس تلك الوقائع تجدر الإشارة إلى ثورة الأطلس واكتشاف الطريق البحري بين أوروبا والمحيط الهندي في 903ه‍ / 1498م، وتأسيس الدولة الصفوية في إيران سنة 907ه‍ / 1502م والتوسع المفاجئ للدولة العثمانية وتحويلها إلى خلافة في الفترة الواقعة بين 918-926ه‍ / 1512-1520م. و قد فتحت ثورة الأطلس الطريق أمام الأوروبيين إلى شتى بقاع العالم الإسلامي وأثبتت القوات البحرية الأوروبية وجودها في المنطقة من سواحل سبتة في المغرب إلى شرق أفريقيا، وبحر عمان والهند وجنوب شرقي آسيا. وهذا التواجد الذي كان له في البدء دافع تجاري، سرعان ما اتخذ له أرضية أعمق ووجد له أبعاداً جديدة بأهداف سياسية واقتصادية وكذلك ثقافية. وكانت الدولة العثمانية بوصفها جاراً قوياً تُعدّ منافساً قوياً حقيقياً للدول الأوروبية، وفضلاً عن تضارب المصالح في مناطق مثل البلقان، فإن الخطر الذي يتهدد وحدة أراضي دول مثل النمسا كان يستشعر على الدوام. وخلال ذلك، كانت الدولة الصفوية في إيران بوصفها المنافس القوي للدولة العثمانية، حليفاً مهماً للدول الأوروبية بالقوة، حيث كان يمكن من خلال الحصول على مساعدتها توريط الدولة العثمانية بالحرب على جبهتين على الدوام. 
ولدى العودة إلى تاريخ العالم في العصر الحديث، تجدر الإشارة إلى أنه وحتى أواخر القرن 18م لم تكن أوروبا تُعدّ بعد قوة متفوقة صناعياً وعسكرياً مقارنة بالعالم الإسلامي وكان جانب تفوقها بشكل رئيس هو العقلانية والإصلاحات الثقافية و التنامي العلمي الناجم عن عصر النهضة وبشكل خاص في عصر التنوير الذي كان قد دخل منذ القرن 17م، مرحلة جديدة من مسيرته. وكان التفوق الآخر هو وجود روح الحيوية والشبابية التي كانت قد دبت بعد عصر النهضة في جسد المجتمعات الأوروبية. وبإزاء ذلك، كان العالم الإسلامي وعلى أثر الجمود العلمي والثقافي والاختلافات الدموية الداخلية وغلبة روح الملل والعجز، في وضع غير متعادل بالقياس إلى أوروبا المسيحية، وبرغم أن قولاً كهذا لم‌‌يكن ينطبق على العالم الإسلامي برمته، فقد كان على الأقل منطبقاً على القوى الرئيسة في هذا الجزء من العالم. أدى قيام الثورة الفرنسية في 1789م و من بعده تطور المجتمعات الصناعية إلى تحول في أوروبا مرة أخرى، و ها هي أوروبا جديدة كانت قد وقفت في مواجهة القوى الإسلامية، و قد حظيت بتفوق حتمي، سواء من حيث التقنية العسكرية، أم من حيث الاقتدار الاقتصادي والسياسي والعلمي. وبإزاء ذلك و في بداية القرن 12ه‍ / 18م، فقدت الخلافة العثمانية قدرتها السياسية والعسكرية إلى حد كبير وكان جزء مهم من ممتلكاتها في أفريقيا وأوروبا قد خرج عملياً من تحت سلطة الخليفة. 
وكانت الثورة الفرنسية و ما ترتب عليها عاملاً سرّع من الاندفاع إلى التطور في أوروبا، لكن كان لها تأثير مزدوج في العالم الإسلامي والبلدان التي تشاركه المصير. فقد كانت العلاقة الثقافية للعالم الإسلامي بأوروبا قد تطورت، بحيث يطلع العلماء المسلمون على المنجزات العلمية والثقافية، و بتقييمهم لهذه المنجزات يتقبلون بعض الأفكار البنّاءة من الثقافة الغربية، وبتنميتها في بيئتهم الثقافية يمهدون الأرضية للإصلاحات المهمة و الجذرية في العالم الإسلامي؛ لكن من جهة أخرى، كان تطور الدول الغربية في هذه الفترة قد أدى إلى أن يدخل تيار الاستعمار الأوروبي مرحلة جديدة، وتصبح المجتمعات الإسلامية التي كانت بلدانها مبتلاة بالعمليات الاستعمارية بشكل مباشر، أو غير مباشر في مأزق أكثر من ذي قبل. وعندما وجد الإصلاح بمفهومه الجديد مجالاً للظهور في العالم الإسلامي وذلك بعد مضي جيلين من الثورة الفرنسية، أي منذ أواسط القرن 19م، كان لهذا التأثير المزدوج لتطورات الغرب في العالم الاسلامي ظهور واضح، وكان الإصلاحيون ــ ممن يعدّون بعض المفاهيم موضع التأكيد في العالـم الغربي مثـل الحرية والكرامة الإنسانية من صلـب شعاراتهم ــ دعاة إلى الجهاد ومقارعة الاستعمار أيضاً. 
و في الدراسات الخاصة بالإصلاح في العالم الإسلامي جرى التأكيد بشكل أكبر على التيار الإصلاحي في القرن و نصف القرن الأخير، و لم يول كثير اهتمام إلى أرضيات هذا التطور الفكري والاجتماعي في القرون 10-12ه‍ / 16- 18م. و لاشك في أن دراسة هذه الخلفية وفّرت الإمكانية لإدراك أعمق للتيار الإصلاحي المعاصر وجذوره الثقافية و ستثبِّت التواصل التاريخي لهذا التيار مع التيارات الماضية في العالم الإسلامي. ويمكن دراسة التيارات الإصلاحية خلال القرون 10-12ه‍ في عدة بحوث عامة مثل الإصلاحات الدينية و محورية الإسلام والاتحاد الديني والكرامة الإنسانية والعدالة والالتزام بالقانون مما يشترك مع الأرضيات المعروفة للإصلاحات الاجتماعية الغربية بشكل لاينكر. و إن دراسة هذه التيارات ومقارنتها بتيار الإصلاح الديني وصلح وستفاليا والمساواة بين الأديان في الحقوق وفكرة محورية الإنسان وسيادة القانون، يمكنها أن توضح أية أفكار كانت مشتركة بين العالمين الشرقي والغربي، و أي نهج سلكه كل من هذين الاثنين في تبيان الأفكار العامة المشتركة. 

العودة الدينية، أو التجديد الفكري

على مدى قرون متمادية وتجارياً مع تاريخ التجديد الفكري الديني في الأوساط الإسلامية، يمكن على الدوام مصادفة مجاميع من المفكرين الذين عدّوا الشكل الأوّلي للإسلام، أو بتعبير آخر إسلام السلف، أرقى نوع من أنواع الاستنباط من الإسلام، وكانوا يرون أن كل ضعف في المجتمعات الإسلامية ناجم عن التحريف والزيادة و النقصان في الاستنباط من الشكل الأصيل للدين. وبرغم أن فكرة كهذه لاتعني بالضرورة أن صاحبها كان يبحث عن تطورات في التركيبة الاجتماعية والتوازنات السياسية، إلا أن الاستناد إلى عناصر مثل الجهاد والأمر بالمعروف وتوسيع نطاق استخدام هذه العناصر، يمكن أن يجعل فكرة ذات نزعة سلفية ما تتمتع بطابع اجتماعي وسياسي كهذا. وعملياً، فإن هذه الخصوصية هي التي تلاحظ بشكل مشترك في أغلب التيارات السلفية في العالم الإسلامي، وبشكل مبدئي، فإن وجود هذه الخصوصية والحاجة إلى تحرك كهذا، هو ما جعل تيارات كهذه تلقى ترحيباً في أوساط بعض المجتمعات المسلمة في شتى البقاع. 
و في الفترة الواقعة بين القرنين 11و12ه‍ ، تلاحظ الدعوة السلفية ومقارعة البدع بشكل ملموس وواسع في شتى أوساط العالم الإسلامي. وبرغم أنه يمكن أن نجد أنصار هذه الفكرة منتشرين على رقعة جغرافية واسعة، إلا أن الأنموذج الذي حظي بالاهتمام بشكل أكبر والذي خلّف تأثيرات سياسية واجتماعية، هو حركة محمـد بن عبـد الوهـاب (تـ 1206ه‍ / 1792م) و دعوته بنجد في الجزيرة العربية. فقد اتخذ و هو الذي كان قد تربّى في بيئة 
حنبلية، من العمل بسيرة السلف شعاراً له وطالب بتنقية التعاليم الدينية من الإضافات التي أدخلتها المذاهب الإسلامية المختلفة. وقد ارتبطت دعوته الدينية بالحركة المناوئة للعثمانيين في الجزيرة العربية، وسرعان ما تحولت نجد إلى أهم قاعدة لتبليغ دعوة محمد ‌بن عبد الوهاب السلفية، حيث كان مروّجوها ينشرون هذه الفكرة الدينية في أقصى نقاط العالم الإسلامي. و في تقييم شامل، فإن دعوة ابن عبد الوهاب في التعامل مع البحوث النظرية الدينية، هي أصولية للغاية، إلا أن بعض السمات كالاهتمام بالجهاد والأمر بالمعروف والتنظيم وإيجاد التنظيمات الاجتماعية أضفى على هذا التيار طابعاً نشطاً (ظ: محمد بن عبد الوهاب، كافة أرجاء الكتاب). 
وبطبيعة الحال، فإنه ضمن أوساط السلفيين المتأخرين، يمكن أن نذكـر أيضاً أشخاصاً مثـل الشوكاني (تـ 1250ه‍ / 1834م) ممن كان لهم ــ برغم وجود أوجه شبه ــ فكرة مستقلة عن ابن عبد الوهاب. و إن موضوعات مثل رفض البدعة والاستناد إلى أسلوب السلف ومحاربة التقليد والدعوة للرجوع المباشر إلى الكتاب والسنة، كانت من السمات المشتركة بين أفكار الشوكاني و ابن عبد الوهاب، لكن وبدراسة آثار الشوكاني يمكن التمييز بوضوح أنه كان له استنتاجات معتدلة من هذه الشعارات (ظ: الشوكاني، كافة أرجاء الكتاب). و إن ما يمكن ملاحظته كسمة مشتركة في رؤى السلفيين، سواء في مسلك ابن عبد الوهاب، أو لدى فقهاء مستقلين مثل الشوكاني، هو تأكيدهم على كون باب الاجتهاد مفتوحاً و هو ما ظهر جلياً في الأفكار الدينية لمصلحي العصر التالي. 
و إن طريقة بهاء الدين النقشبندي الصوفية التي كانت قد تجذّرت منذ القرن 8ه‍ / 14م في ماوراء النهر، وبالقدر الذي أدت فيه إلى التحرك الاجتماعي في البقاع النائية، قلّما كان لها ذلك الأثر في الموضع الذي نشأت فيه وإلى فترة طويلة. و من النماذج البارزة لتحركات النقشبندية الدينية والاجتماعية، التيار الذي أسسه أحمد السرهندي (تـ1034ه‍ / 1625م) الذي قوبل بترحاب في بعض بقاع العالم الإسلامي فضلاً عن الهند. وكان أحمد السرهندي الذي عدّ نفسه ــ بالتلميح ــ مجدد الألف الثانية للإسلام قريباً جداً من محمد بن عبد الوهاب في محاربة البدع والزيادة والنقصان وكذلك التشدد في تعريف التدين، إلا أن علاقته بالصوفية ووجود اتجاه رمزي وباطني في فكره الديني، كان يميز منهجه عن منهج محمد بن عبد الوهاب تماماً (ظ: ن.د، أحمد السرهندي).
والأنموذج المهم لتحركات النقشبندية الاجتماعية هو تأسيس الحركة المعروفة بالمريدية في القفقاز الشمالية التي كانت تهدف إلى إقامة حكومة إسلامية ومحاربة الهيمنة الروسية. و مصدر هذه الحركة هو التيار الصوفي الذي بدأ في شروان أواخر القرن 12ه‍ / 18م وجرى التأكيد فيه على أهمية الشريعة أيضاً بالأسلوب المعهود لدى النقشبندية. و في العشرينات من القرن 19م شاعت هذه الأفكار في داغستان، وشرع أتباع هذه الدعوة بجهاد شامل لتطهير أرضهم من الأجانب. وآلت هذه الحركة إلى تأسيس حكومة دينية في داغستان باسم الإمامة أصبح القاضي محمد على رأسها بادئ الأمر في سنة 1830م وكان حمزت بك (1832-1834م) والشيخ شامل (1834-1859م) خلفاء له في إمامة داغستان (ظ: آكينر، 125؛ محمدي، 23 و ما بعدها).
والمظهر الآخر لتحرك النقشبندية اجتماعياً أيضاً في القرن 12ه‍ / 18م، يشاهد في الجزء الذي يقطنه المسلمون من الصين وكان البادئ به عالماً من أهل كانسو يدعى مامينغ هسين؛ وكان قد عاد إلى كانسو سنة 1175ه‍ / 1761م بفكر جديد بعد أن أنهى دراسته الدينية في البلاد العربية وكذلك في آسيا الوسطى، حيث قدّم اتجاهاً دينياً مستنداً إلى التصوف النقشبندي عرف في المنطقة باسم «الطائفة الجديدة» وكان الملهم لكثير من الحركات الجهادية للمسلمين على مدى القرنين 12و13ه‍ فـي المناطق الغربية للصين (لمزيد من التفـاصيل، ظ: تشو، 309 ff.؛ تسومـر، 8 ff. ؛ إيزرائيلي، 295 و ما بعدها).
و في العالم الشيعي أيضاً وكرمز للإصلاح الأصولي تجدر الإشـارة إلى المولى محمد أميـن الإسترابادي (تـ 1036ه‍ / 1627م) الذي انتقد بشدة الأساليب السائدة في الأوساط الدينية لدى الإمامية في القرون الإسلامية الوسطى، واقترح أسلوباً جديداً للتعامل مع المصادر الدينية قائماً على أساس العودة إلى أسلوب السلف من الإمامية والابتعاد عن الزيادة والنقصان (ظ: أمين الإسترابادي، كافة أرجاء الكتاب). و قد تمت متابعة هذه الفكرة من قِبل فريق من العلماء ومُهدت الأرضية لظهور اتجاه الأخباريين. وكان هذا المنهج يتمتع بازدهار في الأوساط العلمية وإلى حدّ ما على المستوى الاجتماعي خلال القرن 12ه‍ ، لكن ومنذ أواخر ذلك القرن غلب الاتجاه الأصولي على أوساط الإمامية، واتجه النهج الأخباري إلى الضعف برغم بقائه على نطاق ضيق (ظ: سكارتشا، 211 ff.).
و من التيارات الإصلاحية المهمة في الأوساط الشيعية والتي وجدت لها مجالاً للظهور في أوساط الأصوليين، لا الأخباريين، تجدر الإشارة إلى ظهور بعض الأفكار الاجتماعية والسياسية التي كان لظهور الصفوية وتمتع المذهب الشيعي بموقع القوة دور مهم في انبعاثها. وعلى رأس قائمة هذه الأفكار الإصلاحية ينبغي ذكر التخلي عن الاعتقاد القديـم القائل بـ «السكون حتى ظهور الإمام المهدي (ع)» من قبل فريق من علماء الإمامية والذي تجلى في قوالب نظريات سياسية مختلفة. وكمنعطف مهم في تاريخ هذه النظريات السياسية المتنوعة يمكن أن نذكر نظرية الملا أحمد النراقي (تـ 1245ه‍ / 1829م) بشأن الحكومة في كتابه عوائد الأيام (ص 185 و ما بعدها). كذلك ينبغي الإشارة إلى تأليف رسائل في بابي الجهاد والأمر بالمعروف بوصفها رمزاً لظهور هذه الروحية بين علماء الشيعة والتي تدل على الاهتمام المتزايد بالظروف الاجتماعية والتخلي عن العزلة القديمة (ظ: سبزواري، 75 و ما بعدها؛ أيضاً مدرسي طباطبائي، 167-170). 

محورية الإسلام والاتحاد الديني

إن إحدى الحركات الدينية ـ الاجتماعية التي حازت بين حين وآخر أهمية طوال 1500سنة من التاريخ الإسلامي هي التخلي عن الخلافات القومية و الفرقوية والتمسك بالمبدأ المشترك، أي الدين الإسلامي. وفضلاً عن الألفية الأولى للإسلام، فإن خلفية هذه الحركات وحتى في القرنين 11و12ه‍ أيضاً لم يتم تناولها بالبحث كما ينبغي؛ لكن الشواهد التاريخية تدل على أن اتجاهاً كهذا كان له في هذه الفترة تواجد بأشكال مختلفة وعلى نطاق ضيق بطبيعة الحال. 
غيّـر السلطان العثمانـي سليـم (سلـ‍ 918-926ه‍ / 1512-1520م) في فترة حكمه القصيرة، الجغرافيا السياسية للمنطقة بشكل كامل، واتبع في هذا المضمار سياسة مختلفة تماماً عن أسلافه من السلاطين. فهو ــ وخلافاً لاتجاه الفتوحات الماضية في أوروبا المسيحية ــ جعل من آسيا وأفريقيا اللتين يقطنهما المسلمون هدفاً لتوسعه الجغرافي وحقق جزءاً مهماً من هدفه هذا باحتلاله الشام في 922ه‍ / 1516م ومصر في 923ه‍ ؛ واستطاع في مصر أن ينال حق الخلافة من المتوكل آخر الرموز الباقية من الخلفاء العباسيين الذين كانوا قد واصلوا تقليد الخلافة بشكل صوري، ومنذ ذلك الحين، أضفى على حكومته شرعية بوصفه خليفة المسلمين، أو أعدّ الأرضية بذلك على الأقل لتأسيس الخلافة. و قد رأى بعض الباحثين أن هدف سليم من تلك التحركات السياسية هو تحقق اتحاد المسلمين وجمعهم تحت راية دولة واحدة، حتى قيل إنه كان ينوي جعل اللغة العربية بوصفها رمزاً للتقارب الإسلامي، اللغة الرسمية للدولة العثمانية (ظ: فوسينيتش، 15-16). ومهما يكن، فإن جعل الخلافة محوراً لتحقق الاتحاد الإسلامي، وكذلك التعامل القمعي لسليم بحق شيعة الأناضول وشمال غربي إيران (ن.ص) كان بالنتيجة يستطيع توحيد العالم السني فحسب. 
إن المواجهة بين القوتين السياسيتين المهمتين في العالم الإسلامي، أي الخلافة العثمانية والدولة الصفوية التي كانت قد تزيت بزي التخاصم المذهبي وكانت تعدّ مظهر المجابهة بين الاتجاهين المذهبيين الشيعي والسني، ألحقت الضرر الفادح بالاتحاد الإسلامي وهيّأت الأرضية للصراعات المذهبية. و إن وضعاً كهذا كان يجعل ــ بطبيعـة الحال ــ التحركات الوحـدوية تواجه عقبة كأداء. و إن بعض الفرص التاريخية هي الوحيدة التي كانت توفر ظروفاً خاصة لظهور مثل هذه الاتجاهات؛ و من بين النماذج التي يمكن الاهتمام بها بوصفها محاولة للتصالح بين الشيعة والسنة هي رسالة المولى محمد الرستمداري الموجهة إلى خان بخارى عبد الله خان (التأليف: ح995ه‍ ) (للاطلاع على نصها، ظ: الشوشتري، 1 / 105-113). 
وكانت فترة حكم نادرشاه الأفشاري القصيرة (1148-1160ه‍ / 1735-1747م) تُعدّ حقاً منعطفاً مهماً في هذا المضمار، بحيث يمكن اعتبار نادر شاه أحد الشخصيات الصانعة للتطورات فـي العلاقات بين الشيعة والسنة. فنادرشاه الذي انبـرى ــ فضلاً عن تأمينه وحدة إيران ــ للفتوحات في الشرق والشمال واستولى على أجزاء واسعة من آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، وجعل الخلافة العثمانية في وضع متوتر، كان ينمي لديه فكرة التمكن من إيجاد نوع من التضامن في أرجاء العالم الإسلامي. و إن حقيقة كونه ــ برغم وجود القدرة الكاملة لديه على مهاجمة البلاد الخاضعة للدولة العثمانية ــ لم يلحق الأذى بمبدأ الخلافة، وحتى لدى هجومه على آسيا الوسطى لم يسقط حكم الأسر الأوزبكية في بخارى وخيوه (ظ: محمد كاظم، 2 / 786 و ما بعدها)، تدل على أن نادرشاه كان يروم إيجاد نوع من التقارب بين البلدان الإسلامية و لم ‌يكن يريد الاستيلاء على الأراضي فحسب. 
و لم يكن نادر شاه يريد باستمراره على النهج الصفوي، الاستفادة من التناقض المذهبي بين إيران والدولة العثمانية في سبيل ترسيخ حكمه. وكان يبحث بشكل أكبر عن أسلوب يستطيع من خلاله إقامة ألفة مرة أخرى بين إيران والبلدان التي يسكنها السنة في العالم الإسلامي. وكان اقتراحه بهذا الشأن هو الاعتراف بالمذهب الجعفري كأحد المذاهب الرسمية في العالم الإسلامي ووضعه إلى جانب المذاهب الأربعة (ظ: م.ن، 3 / 978- 988)، مما لايبدو أنه قد تعومل معه بشكل جاد في الأوساط السنية. وربما كان مقتل نادر شاه وتضيق نطاق قدرة إيران ونفوذها في العالم الإسلامي مؤثراً في قلة الاهتمام هذا؛ لكن فكرة التقريب هذه لم‌تودع زوايا النسيان في الأوساط الشيعية (للاطلاع على نماذج من ذلك، ظ: مدرسي طباطبائي، 290، 292). 
و من الخطوات المهمة، لكن البطيئة لتحقيق التعايش السلمي، جهـود الوحيـد البهبهانـي (تـ 1205ه‍ / 1791م)، العالم الشيعي ذي النفوذ الواسع الذي كان يبحث في مؤلفاته عن طرق للتقريب بين المذاهب وبشكل خاص في رسالته التي كتبها في إثبات هذا المبدأ القائل إنه بالاعتراف بأصول الدين يثبت إسلام المرء و إن إنكار أصول المذهب لايؤدي إلى الكفر (ظ: م.ن، 304)، في الحقيقة، أدخل العلاقة بين الشيعة والسنة مرحلة جديدة، واستمر نهجه في الفترات اللاحقة على يد علماء الإمامية الآخرين وخاصة علماء علم الأصول. 

 

الصفحة 1 من12

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: