الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الجغرافیا / أفریقیا /

فهرس الموضوعات

مذاهب المحكمة

لم تكن مصـر ــ بسبب خصائصها الثقافية والاجتماعية ــ على الإطلاق بيئة مناسبة لنشوء مذهب المحكمة. وإن ما يوجد في التاريخ من ميول المصريين إلى مذاهب المحكمة، مقتصر على جهود متناثرة. وبهذا الصدد، تجدر الإشارة أولاً إلى فريق من الشراة (المحكمة) في 91ه‍ / 710م بمدينة الإسكندرية بزعامة مهاجر بن أبي المثنى التجيبي الذي لم يحقق نجاحاً (الكندي، 64). وفي الفترة الواقعة بين السنوات 128-130ه‍ / 746- 748م أرسل الإمام الإباضي في حضرموت طالب الحق إلى مصر داعية لنشر المذهب الإباضي وأخذ البيعة، فاستطاع أخذ البيعة من نفر وبشكل خاص من قبيلة تجيب (م.ن، 92، أيضاً 362: إشارة إلى دعوة إباضية مركزها طرابلس). وفي النصف الثاني من القرن 2ه‍ ‍، لدينا معلومات عن تواجد مجموعة إباضية صغيرة في مصر كان بينهم علماء ذوو أثر في تاريخ الإباضية مثل شعيب بن معروف وعيسى بن علقمة ومحمد بن عباد (الدرجيني، 1 / 49، 66؛ الشماخي، 1 / 112). 
وفي إفريقية المغرب ومع بدء القرن 2ه‍ و استناداً إلى بعض الروايات، فقد بدأت الفرقتان الصفرية والإباضية بحركة تبليغ مركزها القيروان كان دعاتها عكرمة مولى ابن عباس وسلامة بن سعيد البصري (الدرجيني، 1 / 11). وتثبت الوثائق التاريخية أيضاً بوضوح أن التاريخ المذكور لبداية الدعوة الصفرية والإباضية في المغرب ليس بعيداً عن الحقيقة. 
وفي حوالي سنة 117ه‍ / 735م، نعلم بتواجد تجمع صفري في إفريقية وطنجة ومناطق فيما بينهما كان أفراده قد نجحوا في تأسيس خلافة قاعدتها طنجة ومن ثم تلمسان. وإن هذه الخلافة التي كانت تحكم قسماً واسعاً من المغرب استمرت من 117 إلى ما بعد 154ه‍ / 771م. وعلى الرغم من أن تعيين حدود دقيقة لنطاق الخلافة الصفرية والولاية الأموية في إفريقية أمر عسير إلى حدما، لكنه يمكن اعتبار حدودها، الجزائر الغربية. وكانت هذه الخلافة في البداية معتمدة على دعم بربر زناتة، إلا أنه على أثر الأنشطة التبليغية، انتشر المذهب الصفري بين قبائل شعب صنهاجة الكبير أيضاً. وفي جانب الجنوب الشرقي، فإن مذهب الصفرية الذي كان قد شق طريقه بين بربر مكناسة، أصبح في 140ه‍ / 757م الحجر الأساس لتأسيس خلافة أخرى قاعدتها سجلماسة في بوابة الصحراء التي سرعان ما تحولت إلى الحكومة الصفرية القوية الوحيدة في المغرب وظلت قائمة حتى 347ه‍ / 958م، أي بعد فترة من هزيمتهم الموقتة أمام الفاطميين (عن معلومات متناثرة، ظ: ابن الأثير، 5 / 190-194، 311، مخ‍(. 
وفي النصف الأول للقرن 2ه‍ ومن بين التحركات السياسية المتفرقة التي قام بها البربر الإباضية مثل ثورة الحارث وعبد الجبار في الفترة الواقعة بين السنوات 126-131ه‍ / 744-749م في منطقة طرابلس، وثورة إسماعيل بن زياد النفوسي بقابس في 131ه‍ (ابن خلدون، 6(2) / 223؛ أيضاً ابن الأثير، 5 / 313)، كانت قد بدأت في المغرب أيضاً حركة هادئة في سبيل تشكل ثقافي إباضي. فقد سافر عدد من بربر إفريقية، أو المهاجرين إليها نحو البصرة قبل 140ه‍ / 757م وانبروا لدراسة تعاليم الإباضية على أبي عبيدة، إمام الإباضية. ومن بين الذين عادوا إلى إفريقية لنشر المذهب الإباضي يمكن أن نذكر أبا الخطاب المعافري وعبد الرحمان بن رستم اللذين استطاعا تأسيس إمامة في طرابلس وإفريقية (الدرجيني، 1 / 19-21). 
وعلى أثر عزم الخليفة المنصور بفرض السيادة على إفريقية، انتقلت الإمامة الإباضية بزعامة ابن رستم إلى تاهرت، واستمرت هذه الإمامة الرستمية حتى 296ه‍ / 909م، حيث زالت على يد أبي عبد الله الشيعي (م.ن، 1 / 26-34). ولم يكن استقرار الحكومة الإباضية في المغرب الأوسط ليعني نهاية نفوذ الإباضية في طرابلس وإفريقية، فعلى مدى قرون وحتى اليوم كانت هاتان المنطقتان منطقة نفوذ محدود للمذهب الإباضي. وفي المغرب الأوسط، فإن الإباضيين الذين كان تنظيمهم السياسي قد انحل إثر الحروب الداخلية والخارجية العديدة، بدأوا بالهجرة التدريجية إلى العمق الأفريقي عقب زوال الإمامة الرستمية؛ ومنذ القرن 6ه‍ / 12م وما تلاه آثر إباضية أفريقيا الشمالية العزلة في عدة مناطق نائية وظلوا فيها حتى اليوم. وانضم الإباضية الذين غادروا المغرب الأوسط إلى مجاميع الإباضية في واحتي ورقلة و ريغ بادئ الأمر، وبعدها أسسوا مراكز للهجرة في مزاب التي استقطب فيما بعد إباضية ورقلة وريغ أيضاً (ظ: EI2,III / 656). 
إن دراسات قام بها أمثال شاخت ولفيتسكي تظهر أن الإباضية كان لهم دور رئيس في التبليغات الإسلامية الأولى في السودان المركزي وفي نطاق بلدان موريتانيا والسنغال ومالي وغانا ونيجريا وتشاد الحالية (ظ: ن.م، III / 656-657؛ لفيتسكي، 1-27). ويوجد ما يدعم هذا الأمر من الشواهد في المصادر الإباضية القديمة (مثلاً ظ: الدرجيني، 2 / 517). 
وفضلاً عن القسم المذكور، فقد كان في الحافات الشرقية من أفريقيا، أو «بلاد الزنج» أيضاً عدد من أوائل المبلغين المسلمين إباضية من عُمان. وإن هذه الحركة التبليغية التي عُدّت بدايتها من القرن 3ه‍ / 9م (مثلاً ظ: EI2,III / 653؛ بدوي، 115)، كانت قد أدت إلى ظهور بيئة ثقافية إباضية في القرن 6ه‍ / 12م. ففي هذا القرن، كان فقيه إباضي من أهل مدينة كِلوة (أفريقيا الشرقية)، يدعى الوليد بن بارك الكلوي، معروفاً للمصادر العمانية (ظ: سليل بن رزيق، 92,205) ويبدو أنه كان لهيمنة عمان على الشطر الرئيس من الساحل الشرقي لأفريقيا في القرنين 11و12ه‍ / 17و18م أثر كبير في زيادة تغلغل المذهب الإباضي في تلك الديار. وعلى الرغم من أن المذهب الإباضي كان آنذاك يعم السواحل والجزر الشرقية من تنزانيا وجنوب شرقي من كينيا الحالية، إلا أن أغلب إباضية أفريقيا الشرقية اليوم يتركزون في زنجبار (ظ: الباروني، 32، 61؛ EI2 ، ن.ص). 

المدارس الكلامية

فيما يتعلق بتأثر البيئة الكلامية في العصر الأول بتعاليم الأديان الأخرى، فإن وجود إشارات في الروايات الباقية، يطرح التصور التالي: من الممكن أن يكون طرح قسم من البحوث الكلامية العامة في مجالي التوحيد والعدل خلال عصر الصحابة، ثمرةَ مناظرات أهل الكتاب مع العلماء المسلمين ولما كانت مصر وإفريقية، كلاهما من الدوائر الثقافية المسيحية وتضم أيضاً أقلية يهودية، فمن المتوقع أن تكون هاتان المنطقتان محلاً مناسباً لتطور البحوث الكلامية وتأسيس مدارس المتكلمين؛ لكن من الناحية العملية، كان تواجد مصر في ميدان النقاشات الكلامية محدوداً، وكانت المعلومات عن دور المعتزلة في تلك الديار، تقتصر على معلومات متناثرة ومنها عن وجود جماعة معتزلة محدودة في مصر أواخر القرن 4ه‍ / 10م (ظ: المقدسي، 172). و بإزاء ذلك، أصبحت إفريقية منذ القرن 2ه‍ مسرحاً لصراعات شتى المذاهب الكلامية، بحيث إن ابن فروخ، عالم إفريقيـة وصف بـلاده في رسالة إلى مالك ــ قبـل 179ه‍ بطبيعـة الحال ــ بأنها كثيرة البدع (ظ: السراج، 1(2) / 729). 
وتدل بعض الروايات التاريخية على أن واصل بن عطاء كان قد أرسل إلى إفريقية والمغرب في النصف الأول من القرن 2ه‍ دعاة لتعريف الناس بمذهب المعتزلة، وفي نفس الوقت لمتابعة الأهداف السياسية لهذه الفرقة (ظ: أبو القاسم البلخي، 66-67؛ القاضي عبد الجبار، 237، 251). وقد انتشرت هذه الدعوة في أواخـر ذلك القـرن انتشـاراً لائقـاً (ظ: أبـو العـرب، 107، 129، مخ‍ ؛ الخشني، 222)، وكان من ثمار ذلك ظهور حكومات معتزلية في المغرب تحت عنوان الحكومة الواصلية دامت حتى القرن 3ه‍ (ظ: ابن الفقيه، 80، 84). وإذا عُدّ كلام الشهرستاني في الحقيقة خاصاً بعصره، فينبغي تصور أن فريق الواصلية في المغرب كان مايزال محافظاً على تشكله حتى النصف الأول من القرن 6ه‍ / 11م (ظ: الشهرستاني، 1 / 50). وكان للواصلية من النفوذ في تلك المنطقة، بحيث جعلوا كلام الإباضية متأثراً بشدة بنظامهم الكلامي؛ وكان هذا التأثير قد أدى إلى أن تدعى هذه الفرقة أحياناً باسم «الواصلية الإباضية» (ظ: أبو عبيد، 72). 
وكان لبعض الفرق الكلامية التي كانت تختلف مع المعتزلة في باب صفات البارئ، أو في باب منزلة الفاسق والتي سُميت في المصادر بأسماء المشبهة والمرجئة، أيضاً تواجد محدود في أوساط إفريقية. وقد ذكر في كتب التراجم عدد من شخصيات المرجئة المعروفين في إفريقية (ظ: أبو العرب، 73، 200، 201). كما ينبغي أن نذكر أشخاصاً مثل أبي إبراهيم بن أبي مسلم القيرواني الذين كانوا ــ شأنهم شأن بعض المتكلمين المتقدمين فـي المشرق ــ يدافعون عن نظرية «جسم لا كالأجسام» (ظ: الخشني، 219)، ويعرفون أحياناً باسم المشبهة (ظ: أبو العرب، 200). 
وكان نفوذ المذهب الأشعري في مصر يواجه عقبة كأداء تتمثل في الحكم الفاطمي، وقد تحولت مصر فور سقوط هذه الخلافة إلى مركز لنموّ هذا المذهب؛ و في 575ه‍ / 1179م، أسست في مصر بدعم من صلاح الدين الأيوبي مدرسة لنشر التعاليم الأشعرية (ظ: «تقرير»، IX / 95). وبطبيعة الحال، فإنه استناداً إلى تحليل الكوثري، فإن صلاح الدين خلال المنافسة بين الكرامية والحنابلة مع الأشاعرة، لم يبادر إلى دعم الأشاعرة، بل إن جهود العلماء الأشاعرة هي التي أدت إلى إحياء هذا المذهب في مصر (ص 16). 
وفي إفريقية، يمكن أن نجد أول معرفة شاملة بالكلام الأشعري في المجالس التي نظمها في القيروان أحد تلامذة أبي الحسن الأشعري غير المشهورين ويدعى ابن عبد المؤمن، واستُقطب إلى هذا المذهب في هذه المجالس أشخاص مثل ابن أبـي زيـد القيـرواني (تـ 386ه‍ / 996م) (ظ: ن.د، 2 / 319)؛ ويظهر دفاع ابن أبي زيد وكذلك العالم الإفريقي الآخر أبي الحسن ابن القابسي (تـ‍ 403ه‍ / 1012م) في ردهما على هجمات المعتزلة إلى أي مدىً كان هؤلاء متمسكين بالمذهب الأشعري (ظ: ابن عساكر، 122-123). وإن آثار ابن أبي زيد التي أُلفت بعد فترة قصيرة من وفاة أبي الحسن الأشعري، عُرفت بأنها أقدم المؤلفات في الكلام الأشعري بعد مؤلفات مؤسس ذلك المذهب، على الرغم من أنه تلاحظ أحياناً فوارق دقيقة في الاستنتاجات بينها وبين آثار الأشعري (ظ: ن.د، ن.ص). 
وفي موجة أخرى من التبليغ للمذهب الأشعري في المغرب، ظل أحد تلامذة القاضي أبي بكر الباقلاني، المدعو أبو عبد الله الأزدي يعلّم المذهب الأشعري في القيروان حتى نهاية عمره، وأعانه على ذلك أبو عبد الله البغدادي الذي كان هو الآخر أحد تلامذة الباقلاني (ظ: ابن عساكر، 330). وبرغم وجود الضغوط المذهبية للفاطميين في إفريقية وسياسة اتّباع السنّة لدى السلالات التي أعقبت الفاطميين في المنطقة، فإن علم الكلام والمجادلات الكلامية إلى القرن 5ه‍ / 11م وعلى الأقل شطر من القرن 6ه‍ / 12م، لم يكن قد فقد بعد أهميته في المغرب ويوجد ما يؤيد هذا الادعاء ــ فضلاً عن روايات في مصادر أهل السنة (مثلاً ظ: الونشريسي، 11 / 230) ــ في المصادر الإباضية لتلك القرون. وكان ذروة ما وصل إليه علم الكلام من ضعف، في عصر سلالة المرابطين المقتدرة (448-542ه‍ / 1056-1147م)، الذين كانوا يعدّون علم الكلام بدعة من أصله ولم يكونوا يتورعون عن إظهارهم العداء للبحوث والآثار الكلامية، بل حتى عن إحراق إحياء علوم الدين للغزالي (ظ: عبد الواحد، 173؛ أيضاً ابن خلدون، 6(2) / 466). وفي عصر الموحدين، اعتدلت الظروف إلى حد ما، ومنذ خلافة عبد المؤمن (حك‍ 528- 558ه‍ / 1134-1163م)، حظي المذهب الأشعري بدعم الموحدين (ظ: الدميري، 1 / 279). 
وجدير بالذكر أن مذهب الكرامية كان له في القرن 4ه‍ / 10م أتباع قلائل في مصر أيضاً، وكان كرامية مصر متجمعين بشكل أكبر في محلة بالعاصمة (ظ: المقدسي، 172)، لكن فيما يتعلق بالمغرب، فيجدر القول إن المقدسي اعترض على ادعاءات كرامية المشرق بشأن كثرة أتباعهم في تلك الديار (ص 197)، وإن وجود جماعة كرامية محدودة في المغرب الإسلامي في القرن 4ه‍ بوصفه حصيلة كلامه، ربما كان أمراً مقبولاً. 

المذاهب الفقهية

كان البادئ بترويج الفقه الحنفي في مصر هو إسماعيل بن اليسع، قاضي تلك الديار منذ 164ه‍ / 781م والذي كان يقضي بموجب هذا المذهب. وعلى الرغم من أن عدداً من طلبة إفريقية الذين كانوا يحضرون مجالس درس تلامذة أبي حنيفة لم يكونوا ثابتين على أصول مذهبه، لكنهم أدوا دوراً فاعلاً في إيصال تعاليم أبي حنيفة إلى المغرب الإسلامي؛ ومن بينهم يجدر ذكر أسد بن الفرات (ن.ع) بشكل خاص (أيضاً ظ: م ن، 195-196؛ عن عدد من علماء الحنفية القدماء في إفريقية، ظ: الخشني، 187، 190، مخ‍ (. ومنذ أوائل القرن 3ه‍ / 9م، حاول بعض علماء المالكية المتنفذين منع الفتوى بغير مذهب مالك (ظ: حجي، 321)، لكن تلك الجهود لم تؤتِ أكلها سريعاً .
وخلافاً للمذهب الحنفي الذي كان قد أمضى مراحل تكوّنه خارج القارة، فإن الشطر المهم من مراحل تكون المذهب المالكي طُويت بجهود علماء في مصر وإفريقية. وقد نقل أوائل مروجي الفقه المالكي في مصر وكذلك أهم تلامذة مجلس مالك، أي ابن القاسم العتقي (تـ 191ه‍ / 807 م) وأشهـب بن عبـدالعزيز (تـ 204ه‍ / 819 م) في الجيل التالي لمالك قاعدته الفقهيةَ إلى مصر، وانبروا في تلك الديار لتوسيع نطاق هذا المذهب. ويرى ابن القاسم أن أكبر أهميته في تاريخ المذهب المالكي، مدينة للدور الذي أخذه علـى عاتقه بإعداد المجموعـة الضخمة المدوَّنـة التي تُعـدّ ــ بعد الموطأ لمالك ــ أهم مصدر في الفقه المالكي. وإن تأليف المدونة هو ثمرة تيار متدرِّج بدأ بتعاليم أبي القاسم ومحاضراته ودوِّن في مرحلة ما على يد أسد بن الفرات، تلميذ ابن القاسم، ثم دوِّن وأُكمل بشكل نهائي على يد سحنون بن سعيد، تلميذ ابن القاسم وأشهب (ظ: ابن خلكان، 3 / 181؛ أيضاً ن.د، 3 / 672-673). 
وفي انتشاره نحو الغرب، تجدر الإشارة إلى فريق من تلامذة مالك الذين نشروا مذهبه في بقاع تجاوزت مصر إلى المغرب ويجب أن نذكر من بينهم علي بن زياد وابن أشوس من إفريقية (ظ: أبو إسحاق، 156-157). وفي إفريقية كان أسد بن الفرات (ن.ع) المروّجَ للمذهب المالكي ومن بعده انتشر المذهب تدريجياً في تلك البلاد وتجاوزها إلى المغرب. 
وفيما يتعلق بالمذهب الشافعي، يجدر أولاً التذكير بأن الشافعي، إمام هذا المذهب أمضى السنوات الأربع الأخيرة من عمره في مصر؛ وكانت تلك السنوات هي فترة التدوين النهائي لتعاليمه الفقهية والأصولية، ويعرف فقهه المصري في مؤلفات الفقه المقارن بعنوان الفقه الشافعي الجديد. ومن بين تلامذة الشافعي وناشري فقهه أدى أشخاص مصريون مثل إسماعيل بن يحيى المزني والربيع بن سليمان المرادي ويوسف بن يحيى البويطي وحرملة بن يحيى التجيبي دوراً أساسياً في توسيع المذهب الشافعي (ظ: م.ن، 109-112). وعقب وفاة الشافعي بفترة قصيرة، غطى مذهبه على المذهب المالكي هناك وأصبح تدريجياً المذهب السائد في مصر، لكنه لم يحقق على الإطلاق نجاحاً في الأجزاء الواقعة إلى الغرب منها في إفريقية والمغرب (ظ: المقدسي، 195). 
وبإلقاء نظرة على خريطة توزيع هذه المذاهب الثلاثة في القرن 4ه‍ / 10م، يجدر القول إن المذهب المالكي أصبح أكثر محدودية في مصر مقارنة بالماضي، و وصل نفوذ المذهب الحنفي إلى أدنى درجاته، وكان للمذهب الشافعي ازدهار متزايد (ظ: م.ن، 172؛ ابن حزم، 1 / 192). بينما كانت المنافسة ماتزال قائمة بين المذهبين الحنفي والمالكي في إفريقية والمغرب (المقدسي، 195) وفي تلك الفترة كانت ماتزال أقلية حنبيلة صغيرة تشاهد في مصر (م.ن، 172). وقد اختل هذا التوازن بشكل أقل في الفترات التالية، وأحدثت بعضُ التحولات التاريخية فحسب تغييرات محدودة فيه. ومنها أن المعز بن باديس (تـ‍ 454ه‍ / 1062م) من الأمراء الزيريين في إفريقية والمغرب مارس ضغوطاً على الحنفية لترك مذهبهم، واتخذ من تعميم المذهب المالكي سياسة له (ظ: ابن خلكان، 5 / 234؛ عبد القادر القرشي، 1 / 5). وبإزاء ذلك، ومنذ عصر استيلاء المماليك الأتراك على مصر (المقريزي، الخطط، 2 / 272)، وفي الشطر الأخير، خلال حكم الدولة العثمانية في مصر وشمال أفريقيا، زاد دعم هذه الدول للمذهب الحنفي وتأسيس مدارس لترويجه، من أهمية هذا المذهب في المنطقة إلى حد ما. ومهما يكن، فخلال الألف الأخيرة لعب المذهب المالكي على الدوام دوراً بوصفه المذهب السائد في شمال أفريقيا؛ وإن العلاقة الوثيقة بين حوزات المالكية في شمال أفريقيا وحوزات الأندلسية لدى دراسة تاريخ المذهب المالكي في هذه المنطقة، تجعل من البحث المتصل بالأندلس أمراً لايمكن تجنبه. 
وفضلاً عن ذلك، فإن المذهب الحنفي إثر التحولات الاجتماعية والدينية في القرن 7ه‍ / 13م وفي عهد المماليك البحرية (حك‍ 651-784ه‍ / 1253-1382م)، وربما كان بدعم منهم في مصر، وجد له أهميـة كبيرة وبشكل خـاص ، فـإن أنشطـة ابـن تيميـة (تـ 728ه‍ / 1328م) كانت مؤثرة في هذا المضمار (ظ: لاؤوست، 1-71). كما أنه مع ظهور ابن حزم في الأندلس، تجذر المذهب الظاهري بشكل عام في المغرب الإسلامي ولفترة من تاريخ المغرب وعلى عهد أبي يوسف يعقوب المنصور من الموحدين (حك‍ 580-595ه‍( كان المذهب الظاهري في رقعة حكمه هو المذهب الرسمي (ظ: عبد الواحد، 336 وما بعدها)، وواصل وجوده في الفترات التالية أيضاً بمستوى مذهب محدود وغير متمركز. 

المصادر

ابـن الأثيـر، الكامل؛ ابـن تومـرت، محمـد، أعز ما يطلب، تق‍ : عمـار الطالبـي، الجزائر،1985م؛ ابـن حجـر العسقلانـي، أحمد، تقريب التهذيب، تق‍ : محمد عوامة، حلب، 1408ه‍ / 1988م؛ م.ن، لسان الميزان، حيدر آباد الدكن، 1329-1331ه‍؛ ابن حزم، علي، الإحكام، بيروت، 1405ه‍ / 1985م؛ ابن حماد، محمد، أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم، الجزائر، 1346ه‍ / 1927م؛ ابن حمزة، عبد الله، الشافي، صنعاء / بيروت، 1406ه‍ / 1986م؛ ابن خلدون، العبر؛ ابن خلكان، وفيات؛ ابن عساكر، علي، تبيين كذب المفتري، بيروت، 1404ه‍ / 1984م؛ ابن الفقيه، أحمد، مختصر كتاب البلدان، تق‍ : دي خويه، ليدن، 1302ه‍ / 1885م؛ أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم، طبقات الفقهاء، تق‍ : خليـل الميس، بيروت، دار القلم؛ أبو عبيد البكري، عبد الله، المغرب، تق‍ : دوسـلان، الجزائر، 1857م؛ أبو العرب، محمد، طبقات علماء إفريقيـة وتونس، تق‍ : علي الشابي ونعيم حسن اليافي، تونس، 1985م؛ أبو القاسم البلخي، عبد الله، «بـاب ذكر المعتزلة»، فضل الاعـتزال وطبقات المعتزلـة، تق‍ : فؤاد سيد، تونس، 1393ه‍ / 1974م؛ الأردبيلي، محمد، جامع الرواة، بيروت، 1403ه‍ / 1983م؛ الأشعري، علي، مقالات الإسلاميين، تق‍ : ريتر، فيسبادن، 1400ه‍ / 1980م؛ الباروني، سليمان، مختصر تاريخ الإباضية، تونس، 1357ه‍ / 1938م؛ البخاري، سهل، سر السلسلة العلوية، قم، 1413ه‍ ؛ البخاري، محمد، التاريخ الكبير، حيدرآباد الدكن، 1398ه‍ / 1978م؛ بدوي، عبده، مع حركة الإسلام في إفريقية، القاهرة، 1970م؛ البرقي، أحمد، المحاسن، تق‍ : جلال الدين المحدث الأرموي، طهران، 1331ش؛ حجي، محمد وآخرون، فهارس المعيار المعرب (ظ: هم‍ ،الونشريسي)؛ الخشني، محمد، «طبقات علمـاء إفريقية»، مع طبقات أبي العـرب، تق‍ : محمد بن أبي شنب، الجزائـر، 1332ه‍ / 1914م؛ الدرجيني، أحمد، طبقات المشايخ بالمغرب، تق‍ : إبراهيم طلاي، قسنطينة، 1394ه‍ / 1974م؛ دلائل الإمامة، المنسوب لابن رستم الطبري، النجف، 1383ه‍ / 1962م؛ الدميري، محمد، حياة الحيوان الكبرى، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي؛ الذهبي، محمد، الأمصار ذوات الآثار، تق‍ : محمود الأرناؤوط، بيروت، 1405ه‍ / 1985م؛ م.ن، ميزان الاعتدال، تق‍ : علي محمد البجاوي، القاهرة، 1382ه‍ / 1963م؛ السراج الأندلسي، محمد، الحلل السندسية، تق‍ : محمد حبيب الهيلة، تونس، 1970م؛ الشماخي، أحمد، السير، تق‍ : أحمد بن سعود السيابي، مسقط، 1407ه‍ / 1987م؛ الشهرستاني، محمد، الملل والنحل، تق‍ : محمد بدران، القاهرة، 1375ه‍ / 1956م؛ الصفار، محمد، بصائر الدرجات، طهران، 1404ه‍ ؛ الطبري، تاريخ؛ الطوسي، محمد، أمالي، بغداد / النجف،1384ه‍ / 1964م؛ م.ن، رجال، تق‍ : محمد صادق آل بحر العلوم، النجف، 1381ه‍ / 1961م؛ م.ن، الفهرست، تق‍ : محمد صادق آل بحر العلوم، النجف، 1380ه‍ / 1960م؛ عبد القادر القرشي، الجواهر المضيئة، حيدرآباد الدكن، 1332ه‍ / 1914م؛ عبد الواحد المراكشي، المعجب، تق‍ : محمد سعيد العريان، القاهرة، 1368ه‍ / 1949م؛ فرات الكوفي، تفسير، النجف، 1354ه‍ ؛ القاضي عبد الجبار، «فضل الاعتزال»، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تق‍ : فؤاد سيد، تونس، 1393ه‍ / 1974م؛ القاضي النعمان، افتتاح الدعوة، تق‍ : وداد القاضي، بيروت، 1970م؛ القزويني الرازي، عبد الجليل، النقض، تق‍ : جلال الدين المحدث الأرموي، طهران، 1331ش؛ الكشي، محمد، معرفة الرجال، اختيار الطوسي، تق‍ : حسن مصطفوي، مشهد، 1348ش؛ الكندي، محمد، الولاة والقضاة، تق‍ : رفن كست، بيروت، 1326ه‍ / 1908م؛ الكوثري، محمد زاهد، مقدمة تبيين كذب المفتري، (ظ: هم‍ ، ابن عساكر)؛ الليث بن سعد، «رسالة إلى مالك بن أنس»، مع ج3 من إعلام الموقعين لابن القيم، تق‍ : طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة، 1968م؛ مالك بن أنس، «رسالة إلى الليث بن سعد»، مع ج1 من ترتيب المدارك للقاضي عياض، بيروت / طرابلس، 1387ه‍ / 1967م؛ المرشد بالله، يحيى، أمالي، بيروت، 1403ه‍ / 1984م؛ المفيد، محمد، «أجوبة المسائل السروية»، مع عدة رسائل، قم، مكتبة المفيد؛ المقدسي، محمد، أحسن التقاسيم، بيروت، 1408ه‍ / 1987م؛ المقريزي، أحمد، اتعاظ الحنفاء، تق‍ : جمال الدين الشيال ومحمد حلمي محمد أحمد، القاهرة، 1393ه‍ / 1973م؛ م.ن، الخطط، القاهرة، 1270ه‍ ؛ منتجب الدين الرازي، علي، فهرست، تق‍ : عبد العزيز الطباطبائي، قم، 1404ه‍‌ ؛ المنصور بالله، القاسم، الاعتصام، صنعاء، 1408ه‍ / 1987م؛ النجاشي، أحمد، الرجال، تق‍ : موسى الشبيري الزنجاني، قم، 1407ه‍ ؛ النووي، يحيى، تهذيب الأسماء واللغات، القاهرة، 1927م؛ الواسعي، عبد الواسع، الدر الفريد، القاهرة، 1357ه‍ ؛ الونشريسي، أحمد، المعيار المعرب، تق‍ : محمد حجي، بيروت، 1401ه‍ / 1981م؛ اليعقوبـي، أحمـد، «البلـدان»، مـع الأعـلاق النفيسة لابـن رستـه، تق‍ : دي‌ خويه، ليدن، 1892م؛ م.ن، تاريخ، بيروت، 1379ه‍ / 1960م؛ وأيضاً:

Arnold, T. W., The Preaching of Islam, Lahore, 1979; EI2; GAS; Laoust, H., «Le Ḥanbalisme sous les Mamlūks baħrides», Revue des études islamiques, 1960; Lewicki, T., «Quelques extraits inédits relatifs aux voyages des commerçants et des missionnaires ibāḍites nord- afri- cains au pays du Soudan occidental et central au moyen âge», Folia Orientalia, 1960-1961, vol II; Madelung, W., Religious Schools and Sects in Medieval Islam, London, 1985; Répertoire chronologique d’épigraphie arabe, ed. E. Combe et al., Cairo, 1943-1944; Salîl-ibn-Razîk, History of the Imâms and Seyyids of ’Omân, tr. G.P. Badger, London, 1986.
أحمد پاكتچي / ه‍

 

 

الصفحة 1 من10

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: