الصفحة الرئیسیة / المقالات / الله /

فهرس الموضوعات


III. الإله فی الأدیان

1. وجود الإله: 

إن الخطاب المتعلق بالإله یعد من أوسع التأملات البشریة نطاقاً وقد عالجه الباحثون والمنظرّون في الأدیان المختلفة من منظور «الوجود والکون» ومن ثم البحث حول «الماهیة والکیفیة» للإله إلاّ بعض الأدیان مثل الدیانة الجاینیة (التي لایجري الحدیث فیها عن أمر مطلق أو إله محدد ویرکّز في علمه الوجودي علی قضیتین بدائیتین هما مبدأ جمیع الکائنات في العالم وأساسها) ومثل الدیانة البوذیة (التي کان بوذا في شکلها الأوّلي یعتبر أي تنظیر حول الإله وکیفیته وسائر القضایا المیتافزیقیة غیر ضروري وغیر مفید في قضیة النجاة) (ظ: یاکوبي، 468-470؛ غیدن، 269-270 ، «کتاب ...»، 250-251,272). إن سائر الرّؤی من منطلق علم الوجود في الأدیان تؤدي إلی تصنیفات تهتم في الغالب بنسبة الإله مع سائر صور الموجودات ومن هذا المنظور یؤمن البعض بنوع من «النزعة الوحدویة»، حیث یرون فیها أن حقیقة الوجود محصورة علی الإله ویعتبرون بقیة صور الوجود (سواء في ذلک الآلهة والبشر وسائر المخلوقات) اعتباریة (أووهمیة) وتجلیات عن حقیقة الألوهیة. ومن منطلق آخر یمکن النظر إلی هذه الرّؤیة علی أنها «وحدة الوجود» أو «اعتبار الجمیع آلهة» حیث إن کل شيء فیها یعتبر إلهاً ولاشيء سوی الإله ولکن التأکید علی التعالي والإطلاق والبعد عن أي إدراک بشري للإله قد جعل لسائر الکائنات رغم کونها لاتعدّ شیئاً إلاّ إیاه، ماهیة ثنائیة بمعنی أنها تمثله وفي نفس الوقت تغطّیه. إن هذه الرؤیة الصوفیة یمکن مشاهدتها في رؤیة إکهارت في المسیحیة وشنکره في الهندوسیة وابن عربي في التصوف الإسلامي. إن شنکره یعتبر برهمن الحقیقة السامیة التي یمکن تصوره في صورتین وجودیتین هما «المنزه عن الصفات» و«صاحب الصفات». أما في الصور العامیة الهندوسیة مثل التقالید الویشنوئیة فإن الآلهة والمقدسین في الأدیان الأخری (مثل بوذا شاکیاموني) یعتبرون من تجلیات   إله ویشنو (ایبرهمز، 655 ؛ گاروي، 609؛ کالینز، 179؛ بیلینغتن، 26؛ أیضاً ER,VI / 59,X / 57-58,XI / 439).
إن الشکل الآخر لهذه النظریة مطروح تحت عنوان «الجمیع في تصور الإله»، حیث إن جمیع الصور الوجودیة لیست متساویة مع الإله غیر أنها موجودة جمیعاً في الإله. من الواضح في هذا الإطار، أن بالإمکان إطلاق صفات الأمر المقدس علی سائر الصور الوجودیة أیضاً. مثل البوذیة المهایانا الصینیة التي تعتبر العالم أزلیاً استناداً إلي أزلیة بوذا. إن هناک أدیاناً أخری تقر بالفصل الواضح بین الإله وسائر الصور الوجودیة وتری أن المخلوقات خارجة عنه وتٌعتبر غیره. إن النموذج الأبرز لهذه الرّؤیة الخاصة بمعرفة الوجود نحو الله هو المواقف الرسمیة للأدیان الثلاثة الإبراهیمیة أي الیهودیة والمسیحیة والإسلام (علی زماني، 263؛ ER,XI / 165,168,170).
2. صفات الله وأفعاله:  إن بعض الأدیان التي ظهرت في بیئات منکرة للخالق تقدم براهین لإثبات وجوده (مثل براهین المتکلمین والفلاسفة الیهود والمسیحیین والمسلمین)؛ ففي کثیر من النصوص الدینیة (مثل الکتاب العبري المقدس) فإن مفهوم الألوهیة لم یتم طرحه کقضیة مجهولة حتی یتم طرح أدلة علی إثبات وجوده. بل إن المطلوب هو معرفة کیفیات هذا الوجود وماهیته حیث یتم طرحها في قالب مباحث الصفات والأفعال الألوهیة کما أن صفات من مثل الحیاة والتعالي والقدرة والعلم والإرادة والخلود والحضور من بین صفات اللّه تحظی باهتمام أکثر (بیلینغتن، 27؛ کالینز، 180؛ ایبرهمز، 652-653).
إن التعالي لدی الله یعنی أنه أسمی وأعلی من هذا العالم ولایتناسب بأي وجه من الوجوه مع اقتضاءات هذا العالم وتحدیداته. إن کثرة اهتمام التقالید الدینیة بفکرة تعالي الله والتأکید علیه قد أدّت إلی أن یکون تعریفها عن تشخص الله متفاوتاً أیضاً. إذ کلما تم التأکید علی تعالي اللّه أکثر فإن التصور التنزیهي عنه یزداد قوة. إن غایة هذه العقلیة تنتهي إلی إلهیات سلبیة تجیز فقط إطلاق صفة «الوجود» علی الله وتشکک في کفاءة اللغة الدینیة وقابلیاتها لتقدیم أي وصف من اللّه. إن استخدام ألفاظ من مثل «نِتی نِتی » في الهندوسیة و«إن سوف» في الیهودیة و«ویانغتیوا» في المسیحیة للإشارة إلی الله تأتي تأکیداً علی هذا الوجه التنزیهي وابتعاده عن أي تصور أو إدراک بشري وبالمقابل کلما یتم التأکید علی الصفات الإیجابیة في الله فإن التصور التشبیهي عنه یزداد قوة، حیث یمکن مشاهدة نماذج من ذلک في الإلهیات الإیجابیة والانطباعات الإنسانیة عن الله.
إن تصنیع التماثیل عن الله یدل علی العقلیة التشخیصیة لأناس یحاولون تسهیل العلاقة معه بهذه الطریقة. إن تعالي الأمر المقدس یتعارض دوماً مع حضوره الشامل في هذا العالم. غیر أن الأدیان   المختلفة وبخاصة التقالید السامیة کانت ترغب في اعتبار وجود الله جامعاً للأضداد وأن تقیم توازناً مابین التعالي وکون الله حالّا في العالم («فرهنگ نامه...»، 378، غاتنسن، 218؛ زیمـل، 129؛ علی زماني، 261).
إن قدرة الله من میزاته المهمة وهي تتضمن قدسیته وتصاحبها مجموعة من الصفات الأخری کالخالقیة والإرادة والقدرة علی استجابة الدعاء وخلق المعجزات والمحبة والوثوق، وجدارته للعبادة وأهلیته لها. فمن الرؤی البدائیة المؤسسة علی السحر وحتی المناسک العبادیة في الأدیان الجدیدة فإن الإنسان کان یسعی دوماً إلی الاقتراب من مصدر القدسیة وبالتالي المشارکة في القوة الألوهیة التي تعني الحقیقة والخلود الفاعلیة. إن مواجهة الأمور الشریرة تجد معناها في ظل قدرة اللّه ولکن السؤال المطروح دوماً هو إلی أي مدی تتناسق القدرة الإلهیة مع المنطق الإنساني أوتنافي قدرة المخلوقات واختیارها. وقد شهدت فلسفة الدین المعاصرة أیضاً نقاشاً حول موضوع قدرة الله الذي أصبح محوراً للنزاع بین المؤمنین بالله الذین یعتبرون قدرة إلهیة خارجة عن العالم سبب بقاء الحیاة وبین من لایؤمنون للحیاة بأي خالق بل یعتبرونه غیر محتاج إلی قدرة للبقاء (تیلیخ، 1 / 287- 288؛ تالیافرو، 119-120؛ غاتنسن، 218-219؛ بیلینغتن، ن.ص).
1.           2.           3.           4.           5.          6.            7.  
إن علم الله یعد أیضاً من صفاته الأصلیة، حیث کانت حدوده وموضوعه موضع نقاش في التقالید الدینیة المختلفة سواء في تلک الأدیان السامیة وبعض الطقوس في الأدیان الهندوسیة والبوذیة، حیث یتم فیها التأکید علی الحقیقة المتعالیة، ولکننا نلاحظ هنا أیضاً وجود الرّؤی المختلفة حول علاقة علم الله بالمستقبل من ناحیة والعلم واختیار الإنسان من ناحیة أخری وبالتالي موضوع الجزاء والعقاب للبشر. لقد اعتبر بعض المتکلمین من مثل توماس آکونیاس عند الرد علی هذه الهواجس، العلم الإلهي تابعاً لوجوده الأزلي والأبدي الذي یتجاوز التقدم الزمني أو التأخر الزمني (ن.ص، 28؛ زاکزبسکي، 40 ؛ تالیافرو، 191-192، 206 وما بعدها). کما أن هناک من حاولوا التوفیق بین المفهومین عبر إطلاق النظریات المختلفة. لاشک في أن صفات الله تظهر عبر أفعاله وعبر علاقة عملیة مع الإنسان والکون؛ فمن هذا المنطلق فإن أهم فعل إلهی إنما هو الخلق. ففي أي تقلید دیني فإن وصف عملیة الخلق یتضح علی أساس مکانة الله في أرضیة ذلک التقلید في علم الوجود. إنّ أدیاناً کالزرادشتیة والودائیة والأدیان السامیة التي تمیز تمییزاً وجودیاً بین الله والعالم فإن الخلق مطروح فیها علی أساس نموذج «الخلق من العدم». وإن أساطیرها مبنیة علی «خلق الأکوان» أما المدارس التي تؤمن بوحدة   الوجود فإنها تعتبر الخلق نتیجة «إظهار الذات» أو «التجلي» حیث تظهر الحیاة خلال ذلک بالتدرج وعبر مراحل من النزول وتعین ذات الله غیر المتعینة. ومن الممکن أن تتم عملیة الخلق ذاتها في الأدیان المختلفة بشکل مباشر بید الله أو أن تکون بواسطة مخلوق أو مخلوقات أخری. ففي أساطیر ومعتقدات بعض الأدیان فإن الأمر المقدس یتخلی عن المخلوقات ویعود إلی مکانه بعد خلقها وخلق إدارة نظامها. في مثل هذه الحالة فإن الأمر القدسي أسمی من أن یتمکن الإنسان من إقامة علاقة معه؛ لذا فإن إنسان یستعین في شؤونه الصغیرة الیومیة بالآلهة التي هي أقل شأناً من الإله المتعالی ویرتبط بها في الغالب (شوان، 108؛ لإلیاذة، «مقدس...»، 121-125؛ تشیتیک، 91,216).
3. الله والآلهه والبشر:  إن الأنظمة المؤسسة علی التوحید تعتبر الله القدرة التي لاتقهر ولاتوجد قوة بموازاتها. إن الصورة القدیمة والموثقة من هذا النوع من التوحید موجودة في وجـود یهوه ــ رب الیهود ــ حیث إنه یمتلک تدبیر الخلق وبقاء أمور العالم وفنائها، فهو حاضر في الحیاة وینفذ مشیئته علیها باستخدام شبکة معقدة ومنسجمة من القوی الهادیة والمعنویة فحتیّ الشیطان (کممثل لقوی الشر والخبث) یعدّ خادماً للأهداف الإلهیة. إن مدی نفوذ هذا الممثل الشریر في نطاق العمل الإلهي موضوع نلاحظ فیه اختلافاً في الأدیان المختلفة. ولابد من العنایة بأن بعض الأدیان علی الرغم من أن نظامها المطروح في نصوصها أو مدارسها المهمة تصطبغ بصبغة توحیدیة إلاّ أن الدیانة العامة لدی الناس مؤسسة علی تجلیات الإله الواحد أکثر من تأسیسها علی الإله الواحد نفسه (مثل التقلید الشیوایي في الطقوس الهندوسیة، حیث إن عبارة شکتیات شیوا أکثر رواجاً من عبادة شیوا نفسها) (دنیلي برنیس، 250؛ ایبرهمز، 653؛ هینلز، 276-277؛ بیلنغتن، 26؛ أیضاً، ER,XI / 439).
إن هناک نموذجاً آخر من العلاقة بین الله والکون في الثنویة حیث إنها تبتني علی أن وراء ظواهر العالم أصلین أساسیین الأول هو البدایة الملیئة بالخیر والآخر ثانوي وهو في الغالب متأخر وخبیث وشریر وخالق للسیئات. بناء علی ماتقدم فإن الأنظمة المبنیة علی الثنویة مثل النظریات الغنوسیة قد قسمت في معرض ردّها علی قضیة الشرور نطاق شؤون العالم إلی الخیر والشر معتمدة علی إله الخیر وقد نسبت السیئات والشرور إلی عامل غیر الله محاولة الحصول علی تبریر منطقي لکیفیة وجود الشرور في العالم. إن الثنویة الدینیة في أغلب الأحیان لاتعني عبادة قوی الشر والخبث غیر أن تکریم الجانب السیيء وتقدیسه قد یظهران في حالات نادرة منها من مثل عبادة الشیطان (بیانکي، 1070؛   کالینز، 183؛ غیو، 41).
إن الوجه الآخر من وصف الأمر الإلهي هو الأنظمة الدینیة المؤسسة علی تعدد الآلهة أو علی شکل الآلهة الثلاثیة (التثلیث في بابل القدیمة الذي یشمل انو وانلیل وإ آ ) کما نلاحظه علی شکل مجتمع الآلهة أو پانتئون الذي یخضع لسیادة إله واحد (مثل الیونان وروما القدیمتین) أو نراه علی شکل مجموعة من الآلهة المترابطة فیما بینها بشکل دائم أو مؤقت بحیث توجّه أمور العالم وتدفعها إلی الأمام. إن وجود الآلهة الإناث في هذه المجموعات أمر شائع، حیث یتولّی أعضاؤها ممن قد یسکنون في الطبقات المختلفة من السماوات والأرض إدارة شؤون مختلفة. إن لکل واحد من هذه الآلهة أبعاداً محدودة شبیهة بالإنسان وإن نشاطها في هذه الشبکة من توزیع الأدوار أسطوري أکثر من أن یکون تاریخیاً وعلی الرغم من روایة الأساطیر بلغة بعیدة عن المنطق البشري المعاصر إلاّ أن غالبیتها تروي تقاریر عن الآلهة وهي تبدأ قبل بدء الخلیقة وقد تستمر إلی المستقبل ونلاحظ الاعتقاد ببانتیون الآلهة في المجتمعات المتحضرة التي کان لکل مدینة کبیرة فیها حارسها الخاص من الآلهة (دینلی برنیس، ن.م؛ أوتو، 17-18؛ تیلیخ، 1 / 286؛ ER,VI / 60,XI / 437).
وبغض النظر عن النظام الدیني الذي یعد أرضیة للألوهیة فإن مفهوم الألوهیة قد ینسب إلی أمور أخری، مثل أرباب الأنواع في الطبیعة (مثل بوسئیدون إله البحار في الیونان القدیمة) والعمالقة البارزین من البشر (مثل الاعتقاد بألوهیة الإمبراطور في دیانة شینتو) أو أعضاء الأسرة المتوفین (مثل طقوس عبادة الأجداد في شرق آسیا) والقضایا المعنویة المجردة (مثل بهرام إله النصر في إیران القدیمة)، والمصنوعات بید البشر (مثل وِستا إله موقد النار في المنزل في روما القدیمة) وماشابه ذلک. وقد تتغیر المفاهیم المتعلقة بالألوهیة سبب تبدّل الأنظمة الدینیة مع ظهور الدین الجدید. ففي مثل هذه الحالة قد تندمج خصوصیات وأعمال الإله في البیئة المستضیفة في میزات الإله الضیف. وقد یتم التعبیر عن التعایش بین الدینین أو هزیمة واحد منهما أمام الآخر بلغة أسطوریة ورمزیة مثل زواج الاله المضیف مع الآلهة الإناث الوافدات. کمثال علی ذلک یمکن الاشارة إلی إلهة الشمس عند أقوام المایا وتحولها إلی عیسی (ع) والذي حصل بعد دخول المسیحیین إلی أمریکا الوسطی، کما یمکن الإشارة إلی علم الأساطیر في الیونان القدیمة حیث یعد زواج زیوس من الآلهات في المناطق المختلفة دلیلاً علی هذا الأمر (العقاد، 30؛ کندري، 24؛ لإلیاذة، «تاریخ... »، I / 251 ؛ أیضاً ER,I / 263).
إن علماء الإنسان والباحثین في الشؤون الدینیة في القرن   التاسع عشر وبدایات القرن العشرین حاولوا حسب زعمهم تبیین خلفیات تصور الإنسان عن الله وبالتالي عوامل ظهور الدین عبر طرح نظریات مختلفة وذلک بناء علی الإدراک الإنساني عن وجود الأمر الإلهي وماهیته. إن هؤلاء الذین کانوا متأثرین بشدة بالتیار التطوري في القرن التاسع عشر ذکروا في نظریاتهم ــ التي کانت جمیعاً تتبع النموذج التطوري ــ حاولوا بناء علی الدراسات التي أجروها علی المجتمعات البدائیة الموجودة آنذاک، أن یقدموا فکرة عامة عن کیفیة نشؤء مفهوم الألوهیة وتطوره وبالتالي کیفیة ظهور الدین في المجتمعات البشریة علی افتراض أن جمیع البشر وفي جمیع أنحاء العالم وفي جمیع الأدوار التاریخیة کانوا یتمتعون بأنموذج نفسي وعقلي مشترک. وعلی هذا الأساس فقد أکد هربرت سپنسر  أن البشر قد مرّ من مرحلة وجود الروح الفردیة إلی عبادة أرواح الأجداد وعبادة الآلهة المتعددة إلی عبادة الواحد (التوحید). وفي الوقت الراهن الذي یعد عصر التطورات العلمیة فإنهم ینهجون منهج اللاّ أدریة. ثم تلاه ادوارد بیرنت تیلور الذي طرح نظریته التي اشتهرت بالإحیائیة، حیث ذکر أن البشر البدائیین قد آمنوا بالروح لجمیع الکائنات ومن ثم آمنوا بالروح الکلیة لکل مجموعة من الکائنات ومن ثم آمنوا بالآلهة للظواهر المختلفة وأخیراً بإله واحد فوق جمیع الآلهة الأخری.
أما آندریه لانغ فقد رفض نظریة تیلور زاعماً أن الشواهد تشیر إلی أن الإیمان بإله کبیر ومتعالٍ موجود بین کثیر من الشعوب البدائیة حسب الظاهر، الأمر الذي کان مخالفاً لآراء غالبیة علماء الإنسان في ذلک العصر حیث کانوا یعتقدون أن البشر البدائیین کانوا أبسط من أن یکون لدیهم تصور عن الإله القادر والعالم والخالق. وقد توصل الکاتب الشهیر جیمز جورج فریزر في هذه الأثناء في کتابه الغصن الذهبي استناداً إلی دراساته إلی أن الإنسان قد لجأ لسد حاجاته بدایة إلی السحر والسحرة ومن ثم إلی الدین ورجاله وفي العصر الحدیث الذي یسمی عصر العلم بدأ یسدّ حاجاته بالعلم والعلماء ولم یعد بحاجة إلی الدین. وأخیراً لابد من الإشارة إلی ویلهم اشمیت الذي استنتج من خلال نظریته «الحلقات الثقافیة» وعبر تقسیم الثقافات الأولیة إلی حلقات ثقافیة مختلفة أن دین الناس من أصحاب ثقافة الصید‌ الذین کانوا یجمعون الطعام والذین قام هو بدراستهم کان یتضمن الاعتقاد بإله کبیر ومتعالٍ وبالتالي نوعاً من التوحید حین یعد هذا الإله المتعالي خالق الکون ومنظّم الأخلاقیات وموضوع العبادة والدین. ولکون هؤلاء البشر یمثلّون أقدم شکل ثقافي بشری لذا فإن التوحید هو أقدم صور العبادة والدین بین البشر   ولأن مثل هذا التصور عن الإله المتعالي کان أعمق وأکثر تعقیداً من أن یتمکن هؤلاء البشر من بلوغه؛ لذا فإن هذا التوحید لابد أن یکون نتیجة وحي أوّلي. علی کل حال فإن اشمیت یعتقد أن هذا التوحید الأولي قد أصابه التغییر طوال التاریخ البشري من خلال إقبال البشر علی السحر وعبادة الآلهة التي تمثل الطبیعة وکذلک عبادة آلهة الخصوبة والإنجاب وتحوَّل إلی أشکال أخری من العبادة (إلیاذة، «البحث ... »، 14,23-24؛ شارب، 183-184؛ اونس بریتشارد، 24,25,27-28؛ بووي، 7-8؛ أیضاً، ER,V / 215-217,XIII / 113).
لقد کانت ماهیة علاقة الله والإنسان مطروحة في الأدیان أیضاً ومن هذا المنطلق فإن من الممکن اعتبار الدین نتیجة علاقة الإنسان بالله. إن التقالید الدینیة المختلفة توکد علی الطرق المتعددة للوصول إلی حد من معرفة الله والأسالیب المختلفة للتقرب إلیه من مثل الوحي والإلهام والمکاشفة الصوفیة والاستدلال العقلاني والأخلاقي وحتی التجربة الحسیة والأرضیة الفطریة وکان مستوی المعرفة التي یمکن بلوغه ومدی قابلیة الطرق المذکورة موضع النقاش دوماً وإن هذه المباحث هي التي تشکل جانباً من المواضیع المهمة في الإلهیات (بخاصة في الأدیان السامیة). لاتوجد قاعدة ثابتة في تاریخ تقلید دیني معین في مجال استخدام الطرق المختلفة لإدراک الله ووصفه وقد یتم تفضیل أسلوب علی أسلوب آخر بسبب دیني داخلي أو خارجي في فترة من الفترات أو یتم التأکید علی واحد دون الآخر لکي یتغلب منهج استدلالي وعقلاني علی سائر المناهج (کشیوع الاتجاه العقلي الاعتزالي في الإسلام بشکل مؤقت) أو تحدث تغییرات في داخل أرضیة کلامیة (مثلما أحدثه النظام التومیستي في تغییر اتجاه الفکر المسیحي من الفکر الأفلاطوني إلی الفکر الأرسطي) (اتو، 15؛ غاتنسن، 203 ؛ شین، 835,837 ؛ کازلوفسکي، 10).
بالإضافة إلی مامرّ فإن نوعیة العلاقة مع الله (بغض النظر عن کونها مباشرة أو غیر مباشرة) تلعب دوراً في تنظیم النظام الدیني المنبثق عن تلک العلاقة. إن نتیجة علاقة الله والإنسان توضع تحت تصرف الآخرین علی شکل رسائل ونصوص مقدسة وموثقة في الأدیان وهي مصدر تکوین إدراکات جدیدة عن الله. إن الحدود الکمیة (خاصة اللغة کنموذج في المناقشة الجاریة حول کون الأمر المقدس ذکراً أم أنثی أو تساوي الوحي مع التاریخ) التي ظهرت في التعبیر عن حالات عن الله ومعرفته قد أدت بدورها إلی ظهور اختلافات جدیدة وفرق حدیثة في الأدیان المختلفة.
   
إن فکرة «خلق الإنسان الأول علی شکل الله» المطروحة في الأدیان السامیة قد فتحت الطریق أمام مسلک جدید من الإدراک عن الألوهیة یمکن من خلاله مع الحفاظ علی الفرق بین الله والإنسان، بلوغ معرفة الله عبر معرفة الإنسان. لقد کانت هذه التعالیم أرضیة للأفکار الخاصة بالإله الشبیه بالإنسان التي رفضتها الدیانة الرسمیة (مثل التقلید الرباني الیهودي) غیر  أنها ارتبطت ارتباطاً وثیقاً بمقولة «الفیض» الإلهي في المسیحیة بشکل خاص حیث اعتبرت الهدف الوحید لعلاقة الإنسان مع الله حب الله المنقذ له ذلک الحب الذي لم ینله الإنسان عن جدارة بل ناله لاقتضاء خیریة الذات الإلهیة. إن انعکاس هذا الحب في الإنسان یتجلی علی شکل التقالید الصوفیة في عبادة الله المفعمة بالحب والعشق ومحاولات الإنسان للتقرب إلیه أکثر فأکثر. إن الرغبة في إعطاء البعد الرسمي لعلاقة الإنسان بالأمر القدسي أدّت إلی ظهور المناسک والعبادات في الأدیان المختلفة حیث یتم العمل بها في أطر محددة وفي أزمنة خاصة (کازلوفسکي، ن.ص؛ تیلیخ، 1 / 285؛ غاتنسن، 225؛ سوفرین، 295؛ علی زماني، 265؛ هینلز، 276).

الصفحة 1 من10

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: