الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / إخوان الصفا /

فهرس الموضوعات

إخوان الصفا

إخوان الصفا

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/23 ۱۳:۵۹:۲۸ تاریخ تألیف المقالة

الإخوان والعلوم

یمکن اعتبار أکثر من ثلثي رسائل الإخوان «موسوعة»، وإن تعلق الإخوان بالعلوم التي کانت قد وصلتهم آنهذاک عن طریق ترجمة الآثار الیونانیة إلی العربیة، أمر مثیر للدهشة حقاً، فقد أکد الإخوان في الرسائل بأسرها مراراً علی تعلم العلوم و تعلیمها و شجعوا الآخرین علی ذلک، فقد قالوا في موضع: لیس من فریضة أوجب ولاأفضل ولاأجل ولاأشرف ولاأنفع لعبدٍ، و لاأقرب له إلی ریه بعد الإقرار به و التصدیق لأنبیائه و رسله فیما جاؤوا به من العلم و طلبه و تعلیمه. ثم أوردوا لتدعیم ذلک حدیثاً وافیاً عن النبي (ص) ثم ذکروا خصال العلماء الصادقین و عدوا الآفات الناتجة عن انعدام الأخلاق العلمیة (1/ 346 ومابعدها).

فکل نفس جزئیة تکون أکثر معلومات فهي أقرب إلی النفس (الروح) الکلیة، کما قیل في تعریف الفلسفة إنها التشبه بالإله (1/ 399). کما یقولون إن الأنفس الجزئیة تتصور بالعلوم جواهره (الحکمة السقراطیة و التصوف والتزهد علی المنهج المسیحي و التعلق بالدین الحنیفي الإسلامي) و هو التشبّة بجوهرها الکلي والتوصل إلی علتها الأولی بالاتحاد بأبناء جنسها في عالمها الروحاني و محلها النوراني في دار الحیاة الحقیقیة (3/ 8).

ومن ناحیة أخری، یؤکد الإخوان علی أنهم في رسائلهم تناولا بشکل أکبر البحث في الکتب السماویة و معاني و أسرار الوحي النازل علی النبي (ص) و کشفوا عن أکثر رموز و إشارات و موضوعات الشریعة، ذلک أن خطابهم لایکون، إلا مع أقوام علماء فضلاء ساروا علی خطی إخوان الصفاء و رسخوا في العلم و ارتاضوا بالریاضیات الحکمیة المقرونة بأسرار الکتب الإلهیة و إشارات الأنبیاء (3/ 78). وأخیراً یدعو الإخوان أصحابهم إلی تعلم العلم، أيّ علم کان فلسفیاً، أو شرعیاً، أو ریاضیاً، أو طبیعیاً، أو إلهیاً، و إلی قراءة الرسائل التي کتبت بأسلوب بسیط قابل للفهم (3/ 538).

انبری الإخوان في عدة مواضع من الرسائل لتبویب علوم زمانهم و نشیر هنا باختار إلی نموذجین من ذلک:

ألف- تقسیم العلوم الفلسفیة: العلوم الفلسفیة أربعة أنواع: 1. الریاضیات، 2. المنطقیات، 3. الطبیعیات، 4. الإلهیات. والریاضیات بدورها أربعة أنواع: 1. علم الحساب (الأرثماطیقي)، 2. الهندسة (الجومطریا)، 3. الفلک (أسرونومیا)، 4. الموسیقی (1/ 48-49، خاصة 266-272). والأمر الملفت للنظر أن الإخوان یوردون العلوم الفلسفیة بأسمائها الیونانیة غالباً.

 ولیس للإخوان إبداع، أو أمور لم تُذکر من قبل في أي من مجالات العلوم، فإبداعهم، إنما کان في إیدیولوجیتهم العامة. و ما یمتاز به الإخوان یمکن في أنهم جمعوا خلاصة علوم عصرهم مما کان قد وقع في أیدیهم من مصادر مترجمة عن الیونانیة و السریانیة، أو لغات أخری، لأول مرة في نطاق الثقافة الإسلامیة و عرضوها بلغة واضحة من غیرتزویق، و هذا إنجاز عظیم. و قد استفاد الآخرون فیما بعد من هذه الرسائل کثیراً، لکنهم لم‌یذکروا مصدرهم الذي استقوا منه، و کان الإخوان یقولون في بدایة کل رسالة عن کل واحد من العلوم إن کتابتهم شبه مدخلٍ و مقدمات لیسهلو طيَّ الطریق علی الباحثین عن الحکمة (الفلسفة) و یعینوا المبتدئین علی نیلها (1/ 408، 3/ 303، مخـ).

وهنا ینبغي التذکیر بأن الإخوان کانوا یؤکدون دائماً علی أن الهدف من تعلم العلوم هو تزکیة النفس و تهذیب الأخلاق و الاستعداد للحیاة في العالم الآخر. و من جهة أخری، فإن بعض العلوم أکرم و أفضل من غیرها. فأشرف العلوم و أجل المعارف التي ینالها العقلاء المکلفون، معرفة الله، ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس، ثم کیفیة تعلقها بالأجسام و تدبیرها للأجساد و استعمالها الأبدان مدة، ثم کیفیة ترکهالها و مفارقتها إیاها و تفردها بذاتها و لحوقها بعالمها و عنصرها و جوهرها الکلي، ثم معرفة البعث و القیامة و دخول الجنان و مجاورة الرحمان. و إن هذا الفن من العلوم هو لب الألباب و هو خاص بذوي العقول الراجحة و الحکمة الفلسفیة دون غیرهم من الناس؛ لأن هذا الفن من العلم و المعارف آخر مرتبة بنتهي إلیها الإنسان في المعارف ممایلي رتبي الملائکة. و علماء هذه الأسرارهم إخواننا الکرام الفضلاء (3/ 301-302).

ب- تقسیم العلوم الإلهیة: یقسم الإخوان العلوم الإلهیة علی النحو التالي:

أولها، معرفة البارئ (یعدّد الإخوان صفاته).

الثاني، علم الروحانیات و هو معرفة الجواهر البسیطة العقلیة العلّامة الفعالة التي هي ملائکة الله و هي الصور المجردة من المادة، المستعمِلة للأجسام المدبَّرة بها لها و منها أفعالها و معرفة کیفیة ارتباط بعضها ببعض و فیض بعضها علی بعض، و هي أفلاک روحانیة محیطات بالأفلاک الجسمانیة.

الثالث، علم النفسانیات، أي معرفة النفوس و الأرواح الساریة في الأجسام الفلکیة و الطبیعیة من لدن الفلک المحیط إلی منتهی مرکز الأرض. و معرفة کیفیة إدارتها للأفلاک و تحریکها للکواکبو تربیتها للحیوان و النبات و حلولها في جثث الحیوانات و کیفیة انبعاثها بعد الممات.

الرابع، علم السیاسة و هي خمسة أنواع: 2. السیاسة النبویة، 2. السیاسة الملوکیة، 3. السیاسة العامیة، 4. السیاسة الخاصیة، 5. السیاسة الذاتیة.

الخامس، علم المعاد، و هو معرفة ماهیة النشأة الأخری و کیفیة انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد و انتباه النفوس من طول ارقاد و حشرها یوم المعاد (2/ 272-274).

ولما کان الهدف من هذه المقالة هو تقدیم صورة عن الإیدیولوجیة العامة للإخوان، سنکتفي بالإشارة إلی أهمیة فرعین من العلوم من وجهة نظر الإخوان غاضین النظر عن الخوض في مضامین الرسائل.

علم الأعداد لدی الإخوان علم واسع بحیث یتضمن معرفة الله و معرفة العالم و کذلک معرفة الإنسان. و هي بأسرها عامل مهم جداً في الإیدیولوجیة العامة للإخوان: فکما رأینا فإن الإخوان یولون اهتماماً کبیراً لفیثاغورس و الفیثاغوریین المحدثین، رغم أن معلوماتهم في هذا المجال لم‌تکن معتمدة علی المصادر الأولیة، و یحتمل جداً أن تکون مستقاة من محافل صابئة حران. والإخوان شأنهم شأن فیثاغورس وأتباع مدرسته یعتبرون الأصل الأول هو العدد، و طبیعة الموجودات هي بحسب طبیعة العدد و یقولون إن من عرف العدد و أحکامه و طبیعته و أجناسه و أنواعه و خواصه، أمکنه أن یعرف کمیة أجناس الموجودات (3/ 178-179). ولهذا یعتبر الإخوان علم العدد کالملک لسائر العلوم و هو السابق لجمیعها (4/ 410). و بذلک یقیم الإخوان نظام الوجود والعالم بأسره علی أساس الأعداد (عن فیثاغورس و فلسفته، ظ: شرف، 173-225؛ عن آراء الفیثاغوریین، ظ: پاولي، XXIV/ 242-302).

والعلم الآخر الذي أولاه الإخوان أهمیة کبیرة اتباعاً منهم لسنّة صابئة حران، أحکام النجوم. فهذا العلم یتحدث عن تأثیر الأفلاک و النجوم و بشکل عام الأجرام السماویة في الموجودات التي تحت فلک القمر، و من ذک تأثیرها في حیاة الناس و مصائرهم. و کان لهذا العلم وجود في نطاق جمیع ثقافات العالم الدیمة، فوصل من الکلدانیین والمصریین إلی الیونانیین ووجد طریقه أخیراً إلی داخل الثقافة الإسلامیة و کانت المدارس الهرمسیة و الغنوصیة و الصابئیة من أنصاره، و للإخوان أیضاً توجههم الخاص بهم في أحکام النجوم. و هم یعتبرون منکري هذا العلم طائفة من أهل الجدل ممن ترکوا النظر في هذا العلم و أعرضوا عن اعتبار أحوال الفلک و أشخاصه و حرکاته و دورانه و أغفلوا البحث عنها و التأمل لتصاریف أمورها، و عادوا أهلها وناصبوهم العداوة البغضاء. و أما الذین ذکروا أن لها مع دلالاتها أفعالاً و تأثیرات في الکائنات التي تحت فلک القمر، فإنما عرفوا ذلک بطریق آخر غیرطریق أصحاب الأحکام و هو طریق الفلسفة الروحانیة و العلوم النفسانیة، و کذلک عن طریق التأیید الإلهي و العنایة الربانیة. إن کواکب الفلک هم ملائکة الله و ملوک سماواته، خلقهم الله لعمارة عالمه و تدبیر خلائقه و هم خلفاء الله في أفلاکه، و أحکام هذه الکواکب في هذه الکائنات التي تحت فلک القمر، أفعال لطیفة و تأثیرات خفیة تدق علی أکثر الناس معرفتها. و کیفیتها فلایعرفها إلاالراسخون في العلوم من الحکماء و الفلاسفة، الناظرین في العلوم الإلهیة، المؤیَّدین من السماء بتأیید الله و إلهامه لهم (1/ 144-145).

لکن من جهة أخری، فإن الإخوان و خلافاً لظن الکثیرین من الناس یفصلون علم أحکام النجوم عن ادعاء الغیب، ذلک أن علم الغیب هو أن یُعلم ما یکون بلا استدلال و لاعلل و لاسبب من الأسباب، و هذا الیعلمه أحد من الخلق، کذلک لامنجم و لاکاهن و لانبي من الأنبیاءو لاملک من الملائکة، إلا الله (1/ 153). ثم یعدد الإخوان طرق معرفة الوقائع المستقبلیة و أنواعها السبعة. أما النتیجة المترتبة علی معرفة الموجودات قبل وجودها التي تؤدي المعرفة بها في العادة إلی استشعار الخوف والحزن و المصائب قبل حلولها، فهي أن الإنسان العاقل المستیقظ إذا نظر في هذا العلم و بحث عن هذا السر وعن أسبابه و علله و اعتبرها بقلب سلیم من حب الدنیا، انتبهت نفسه من نوم الغفلة و انفتحت لها عین البصیرة و عرفت حقائق الموجودات و رأت بعین الیقین الدار الآخرة و تحققت أمر المعاد و تشوقت إلی الآخرة و زهدت في الکون في الدنیا، فعند ذلک تهون علیها مصائب الدنیا فلاتغتم ولاتجزع و لاتحزن. ثم یعدد الإخوان بقیة مزایا علم أحکام النجوم (1/ 154-155، للاطلاع علی وصف أکثر تفصیلاً لتأثیر النجوم في الموجودات علی الأرض، خاصة حیاة الإنسان، ظ: 2/ 431-450).

ویؤکد الإخوان في موضع آخر علی أن جمیع ما یحدث في العالم البشري و الخلق الأرضي، بتدبیر فلکي و أمر سماوي، ذلک أن العالم السفلي مربوط بالعالم العلومي في جمیع أموره و أحواله (4/ 386). وتجدر الإشارة إلی أن السحر و العزائم و الطلسمات تحظی بأهمیة خاصة لدی الإخوان متأثرین بالعقائد و الأفکار الهرمسیة، و قد خصصوا قسماً مهماً من إحدی رسائلهم لشرحها (ظ: 4/ 283-333).

 

معرفة الله

إن معرفة الله لدی الإخوان هي تماماً کما یری الغنوصیة، أشرف العلوم و أجل المعارف و منتهی و کمال کل معرفة (3/ 513)، إلا أن أول شيء یحذّر منه الإخوان هو الحدیث في ذات البارئ وصفاته بالحزر و التخمین، و لاینبغي لأحد أن یجادل فیه، إلا بعد تصفیة النفس، فإن ذلک یؤدي إلی الشکوک و الحیرة و الضلال (4/ 9). و مع ذلک فإن العلماء قد تکملوا في ماهیة ذاته و أکثروا القیل و القال في حقیقته وصفاته، و تاه أکثرهم في العجاج عن المنهاج و لم‌یبلغوا هدفهم. و لیس ذلک من أجل خفاء ذات الله، بل من شدة ظهوره و جلالة نوره، و ذلک أنهم طلبوه کطلبهم سائر الأشیاء الجزئیة المحسوسة و بحثوا عنه کبحثهم عن سائر الموجودات الکلیات المبدّعات المخترعان من الجواهر والأعراض المحتویة علیها الأماکن و الأزمان. إنه لاینبغي أن یُسأل عن الله بالقول: ماهو؟ کیف هو؟ کم هو؟ أي هو؟ متی هو؟ و لم‌کان؟ و إنما یجوز و یسوغ فیه و عنه اثنان: هل هو موجود؟ و من هو؟ (3/ 513).

ثم ینبري الإخوان لشرح استنتاجات الناس و آرائهم المختلفة بشأن الله فیجدون أفضل مراتب معرفة الله مایکون لدی من یعتقد أنه لیس بشخص و لاصورة، بل هویة وحدانیة ذو قوة واحدة و أفعال کثیرة و صنائع عجیبة لایعلم أحد من خلقه ماهو؟ و این هو؟ و کیف هو؟ و هو الفائض منه وجود الموجودات و هو المظهر صور الکائنات في المادة، المبدع جمیع الکیفیات بلازمان و لامکان، بل یقول: کن فیکون. و هو موجود في کل شيء من غیر مخالطة، و مع کل شيء من غیر الممازجة، کوجود الواحد في کل عدد (3/ 514-516).

وکما أشیر فیما مضی فإن للعدد في إیدیولوجیة الإخوان أهمیة فائقة و دوراً رئیساً. و هذا الأمر یلاحظ أیضاً في معرفتهم لله. فقد قیل في موضع بشأن أخص صفات الله إنه غیر الوجود، و هو أصل الموجودات و علتها، کما أن الواحد أصل العدد و منشأه. و هذا الرأي القائل إن الله «غیر الوجود»، رأي أفلاطوني و أفلوطیني القائل إن الله «یتعدی حدود الوجود» (ظ: أفلاطون، الجمهوریة، 509 ff.). فلو کان للبارئ ضد، لکان العدم، و لکن العدم لیس بشيء، والبارئ في کل شيء ومع کل شيء. کما أن الواحد في کل عدد و معدود؛ فإذا ارتفع الواحد من کل الموجود توهّمنا ارتفاع العدد کله. و إذا ارتفع العدد لم‌یرتفع الواحد؛ کذلک لو لم‌یکن البارئ لم‌یکن شيء موجوداً أصلاً. ولکن لو بطلت الأشیاء لایبطل هو ببطلان الأشیاء (3/ 348-349).

والله غیر موصوف بصفات الروحانیین و لابصفة الجسمانیین، و إنما صفته من حیث أفهامنا أنه قدیم أزلي معلِّل العلل، فاعل غیر منفعل، موجِد مبدِع (4/ 209). ویسمي الإخوانُ اللهَ نورَ الأنوار و محض الوجود (3/ 342؛ قا: «أثولوجیا»، 119). وبشأن خلق الله یستخدم الإخوان غالباً مصطلح الإبداع و الاختراع، إلا أنهم یفرقون بین الخلق والإبداع؛ فالخلق هو إیجاد شيء من شيء آخر، أما الإبداع فهو إیجاد شيء من لاشيء، و کلام الله هو إبداع، فحینما یرید شیئاً، أي یبدعه، یقول له: کن فیکون (3/ 517). وإذا سئل الإخوان عن وجود الأشیاء قبل کونها أجابوا: إن الأشیاء هي أعیان، أي صورٌ غیریّات أفاضها وأبدعها البارئ، کما أن العدد هو أعیان، أي صورُ غیر فاض من الواحد بالتکرار في أفکار النفوس، و الأشیاء کانت في علم البارئ قبل إبداعه واختراعه لها، کما أن الواحد لم‌یتغیر عما کان علیه قبل ظهور العدد منه في أفکار النفوس (3/ 348-349، أیضاً ظ: 517-518). و هنا تجدر الإشارة إلی أن الإخوان أخذوا مفهوم الإبداع و المبدع عن «أثولوجیا» (ص 6، 71، 113).

إلا أنه من جهة أخری، فإن البارئ لایباشر الأجسام بذاته، بل إن عمله هو الاختراع و الإبداع فحسب. و أما التألیف و الترکیب و الصنائع والأفعال و الحرکات التي تکون بالآلات و الأدوات و في الأماکن و الأزمان، إنما یأمر ملائکته الموکَّلین و عباده المؤیدین بأن یفعلوا ما یؤمرون مثل أمر الملوک و الرؤساء بعبیدهم و خدمهم و جنودهم (2/ 126، 128). کما یؤکد الإخوان أن وجود العلام من الله لیس کوجود الدار المبنیة من البنّاء، المستقلة بذاتها المستغنیة عن البنّاء بعد بنائه، لأن بناء الدار ترکیب و تألیف من أشیاء هي موجودة بأعیانها قائمة بذواتها کالتراب و الماء و الحجارة و الاجر و الجص و اللبن و الخشب و ماشاکلها. و لیس الإبداع و الاختراع ترکیباً و تألیفاً، بل إحداث واختراع من العدم إلی الوجود، و مثاله مثال کلام المتکلم و کتابة الکاتب، فإن أحدهما یشبه الإبداع و هو الکلام، و الآخر یشبه الترکیب و هو الکتابة، فمن أجل هذا صار إذا سکت المتکلم، بطل وِجدان الکلام، لکن إذا أمسک الکاتب لایبطل الموجود من الکتابة؛ إذن فوجود العلام من الله کوجود الکلام من المتکلم، إذا أمسک عن الکلام، بطل وِجدان الکلام (3/ 350-351، أیضاً 337).

ومن جهة أخری، فإن المعلومات في علم الله لیس مثل صور المصنوعات في أنفس الصنّاع قبل إخراجهم لها و وضعهم إیاها في المواد المعروفة في صنائعهم، أو مثل صورة المعقولات في أنفس العقلاء و تصورهم لها، بل هي مثل کون العدد في الواحد. فالله لیس کالصناع الذین لدیهم نماذج من صنائع أساتذتهم، بل إن علمه من ذاته کما أن العدد من ذات الواحد (3/ 349؛ ظ: «أثولوجیا»، 162-163).

 

العالم و مراتب الفیض و الخلق

أشرنا قبل هذا إلی أن عناصر الفکر و الإیدیولوجیة الأفلاطونیة الحدیثة لها مکانة خاصة في الإیدیولوجیة التألیفیة للإخوان. فنظریة و فکرة الفیض، أو الصدور هي واحدة من سمات معرفة الله و معرفة العالم لدی الأفلاطونیة الحدیثة. فالوجود و العالم لدی الإخوان کما لدی أفلوطین و الأفلاطونیین المحدثین، له سلسلة مراتب، إلا أن هذه المراتب لدی الإخوان أکثر تفصیلاً و تعقیداً، وتکمن خصوصیة نظریة الفیض لدی الإخوان في أنهم یمزجون الرؤیة الأفلاطونیة الحدیثة بنظریات الفیثاغوریین عن الأعداد مما ینبغي البحث عن مصدرها لدی صابئة حران باحتمال کبیر، ذلک أن نظریة الفیض، أو الصدور موجودة في المدارس الغنوصیة أیضاً ولو في قالب أسطوري.

وعن الباعث إلی الخلق، روی الإخوان أن نبیاً قال في مناجاته مع ربه: یا رب لم خلقت الخلق؟ قال له ربه علی سبیل الرمز: کنت کنزاً مخفیاً من الخیرات و الفضائل و لم أکن أُعرف، فأردت أن أعرف. ثم یوضح الإخوان هذا الجواب بقولهم معناه: لو لم أخلق الخلق لخفیت هذه الفضائل و الخیرات التي أفضتها و أظهرتها من عجائب خلقي و مصنوعاتي المحکمات التي کلت الألسن عن البلوغ إلی کنه صفاتها، و حارت عقولهم عن کنه معرفتها بحقائقها (3/ 356).

و في موضع آخر یقولون: إن الله لما کان تام الوجود کامل الفضائل عالماً بالکائنات قبل کونها قادراً علی إیجادها متی شاء، لم‌یکن من الحکمة أن یحبس تلک الفضئل في ذاته فلایجود بها و لایفیضها. وفإذن بواجب الحکمة أفاض الجود و الفضائل منه کما یفیض من عین الشمس النور و الضیاء. و مادام ذلک الفیض منه متصلاً متواتراً غیر منقطع، فیسمی أول ذلک الفیض العقل الفعال، و هو جوهر بسیط روحاني‌نور محض في غایة التمام و الکمال و الفضائل و فیه صور جمیع الأشیاء. و من العقل الفعال فاض فیض آخر دونه في الرتبة یسمی العقل المنفعل و هي النفس الکلیة و هي جوهرة روحانیة قابلة للصور و لافضائل من العقل الفعال علی الترتیب و النظام کما یقبل التلمیذ من الأستاذ التعلیم. و فاض من النفس «الکلیة» أیضاً فیض آخر دونها في الرتبة یسمی الهیولی الأولی (المادة الأولی) و هي جوهرة بسیطة روحانیة قابلة من النفس من الصور و الأشکال في الزمان شیئاً بعد شيء. فأول صورة قبلت الهیولی، الطول و العرض و العمق. فکانت بذلک جسماً مطلقاً و هو الهیولی الثانیة (المادة الثانیة). و مع ظهور الجسم وقف الفیض و لم‌یفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانیة و غلظ جوهره و بُعده من العلة الدولی (3/ 196-197، ظ: 187، حیث یستخدم هناک مصطلح انبجاس و هو تعبیر أفلوطیني، أیضاً ظ: 184، 465).

ومن جهة أخری و کما أشرنا فإن الإخوان یمزجون بین نظریة الفیض و نظریتهم حول الأعداد فیقولون: أول شيء اخترعه البارئ وأبدعه، نور وحدانیته، جوهر بسیط یقال له العقل الفعال، کما أنشأ الاثنین من الواحد بالتکرار؛ ثم أنشأ النفس الکلیة الفکیة من نور العقل کما أنشأ الثلاثة بزیادة الواحد علی الاثنین، ثم أنشأ الهیولی (المادة) الأولی من حرکة النفس، کما أنشأ الأربعة بزیادة الواحد علی الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من المادة و رتبها بتوسط العقل و النفس، کما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ماقبلها إلیها. فإذا تأملت ترکیب العدد من الواحد الذي قبل الاثنین و نشوءه منه، وجدته من أدل الدلیل علی وحدانیة البارئ و کیفیة اختراعه الأشیاء وإبداعه لها، و ذلک أن الواحد الذي قبل الاثنین و إن کان یُتصور منه وجود العدد و ترکیبه، فهو لم‌یتغیر عما کان علیه و لم‌یتجزأ؛ کذلک الله و إن کان هو الذي اخترع الأشیاء من نور وحدانیته و أبدعها و أنشأها و به قِوامها و بقاؤها و تمامها و کمالها، فهو لم‌یتغیر عما کان علیه من الواحدانیة قبل اختراعه و إبداعه لها. إن نسبة البارئ من الموجودات کنسبة الواحد من العدد، و کما أن الواحد أصل العدد و منشأه و أوله و آخره، کذلک الله هو علة الأشیاء و خالقها و أولها و آخرها. و کما أن الواحد لاجزء له و لامثل له في العدد، فکذلک الله لامثل له في خلقه و لاشبه، و کما أن الواحد محیط بالعدد کله و یَعُدّه، کذلک الله عالم بالأشیاء و ماهیاتها (1/ 54-55).

الصفحة 1 من9

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: