الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أبو حنیفة /

فهرس الموضوعات

أبو حنیفة

أبو حنیفة

تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/26 ۲۱:۵۶:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

وفي بعض الحالات أیضاً یعود الاختلاف إلی المصداق، ولایعتبر أبوحنیفة أصل المسألة فیها من الأمور التعبدیة. وکنموذج لذلک، فإن المسائل المتعلقة بالنجاسات و تطهیرها لاتعد في فقه أبي حنیفة من الأمور التعبدیة، وبناء علی ذلک فإن القیاس أمر ممکن فیها. و في الحدیث المتعلق بطهارة سؤر القطة، استفاد أبوحنیفة من عبارة «هي من الطوّافین علیکم» (ابن حجر، بلوغ، 4)، واعتبر العلة في الحکم بطهارة سؤر القطة هو العسر و الحرج فيتجنب ذلک، ثم عمم هذه العلة، واعتبر في کل حالة تتحقق فیها الضرورة و الحرج، حکم تجویز هذا الحدیث ثابتاً، ورأی أن المصلي إذا لم یجد ماءً لتطهیر ثوبه المتنجس، یمکنه الصلاة بذاک الثوب (ظ: القدوري، 1/62؛ أیضاً علاء‌الدین البخاري، 3/359).

ویلاحظ کثیراً استنباط علل الأحکام من نصوص الکتاب والسنة وتعمیمها ووضع بعض القواعد، في فقه أبي حنیفة، وکما قیل في قسم السنة فإنه کان یقدم القواعد علی أخبار الآحاد وبقیة الأدلة الضعیفة في المسائل غیر التعبدیة، ومن نماذج ترجیح القواعد علی شواهر الکتاب، یمکن ذکر الحکم بجواز نکاح الأمة من أهل الکتاب مع عدم قبول المفهوم المخالف للوصف الوارد في الآیة 25 من سورة النساء (الجصاص، 3/116؛ الطوسي، الخلاف، 2/220)، والحکم بعدم فسخ نکاح الزوجین الحربیین الأسیرین، مع عدم الاستناد إلی العموم الظاهري في «ماملکت أیمانکم» في الآیة 24 من سورة النساء (الجصاص، 4/24؛ الطوسي، ن.م، 3/183).

وعلی أیة حال، فالجدیر بالذکر أن بعض أنواع القیاس قد هو جمت بشدة في عبارة منقولة عن أبي حنیفة. وهذا الأمری ظهر کیف أن أباحنیفة کان یصر علی ضوابط في استخدام القیاس (ظ: ابن عدي، 7/2476).

 

2. الاستحسان

استناداً إلی تعریف الجرجاني فإن الاستحسان هو ترک القیاس والأخذ بما هو أرفق للناس (ص 8)، إلا أنه حسب التعریف الدقیق لأبي الحسن الکرخي فإن الاستحسان في المذهب الحنفي هو عبارة عن عدول المجتهد عن أن یحکم في مسألةٍ بمثل ماحکم به في نظائرها إلی خلافه لوجه أقوی یقتضي العدول عن الأول (علاء‌الدین البخاري، 4/3). وقد فصّل الحنفیة في کتبهم الأصولیة البحوث المتعلقة بالاستحسان، إلا أن أباحنیفة نفسه کان یعدل عن استخدام القیاس في بعض الفروع عندما یراه غیر مناسب وقبیحاً. وکانت العوامل المؤثرة في عدوله هي حالات مثل عدم انسجامه مع العلاقات الاجتماعیة السائدة والشکل المتعارف للمعاملات، وخلق العسر و الحرج.

وأهم روایة قدیمة عن عمل أبي حنیفة بالاستحسان هو قول سهل بن مزاحم إن أباحنیفة عدل إلی الاستحسان في حالات قبح القیاس (المکي، 1/82). وجدی بالذکر أن أبا حنیفة عمل بالقیاس أیضاً في حالات عدل فیها تلامیذه إلی الاستحسان (مثلاً ظ: السرخسي، المبسوط، 24/46). وربما کان هذا هو الذي حدی ببعض الأصولیین الحنفیة إلی أن یظنوا أن العمل بالقیاس والاستحسان جائز في حالة التردد بینهما، إلا أن الرأي المعتمد لدی الحنفیة هو ضرورة العدول عن القیاس إلی الاستحسان في حالات قبح القیاس (ظ: م.ن، أصول، 2/201؛ علاء‌الدین البخاري، 4/4). ویجدر بالذکر أنه صُرِّح فيروایة سهل بن مزاحم أن أبا حنیفة کان یرجع في بعض الأحکام إلی تعامل المسلمین أو العرف؛ وقد بلغ الأمر بعلماء الحنیفیة في مجال حجیة العرف أن اعتبروا أحیاناً الحکم الثابت بالعرف بمصاف الحکم الثابت بالنص، واعتبروا تخصیص عموم النص بالعرف العام جائزاً (ظ: أبوزهرة، أبوحنیفة، 351-353). ومهما یکن، فإنه ینبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن أبا حنیفة تعامل أحیاناً بشکل مضاد مع بعض المعاملات کالمزارعة استناداً إلی أسسه الفقهیة (ظ: أبویوسف، ن.م، 111؛ الطوسي، ن.م، 2/125).

 

3. الأصول والقواعد العملیة في الفقه

إن الحدیث عن الأصول والقواعد العامة التي استنبطها أبوحنیفة طبقاً لوجهة نظره في الشریعة واستخدمها في کل موضع من فقهه، أصعب بکثیر من البحث في الأدلة الفقهیة المعروفة. ونشیر هنا إلی عدة حالات باختصار:

الاستصحاب: تلاحظ في فقه أبي حنیفة نماذج من الاستصحاب في الأمور التعبدیة وغیر التعبدیة: في باب الطهارة و في المسألة المعروفة المتعلقة فیمن تیقن الطهارة وشک بوقوع الحدث، حکم أبوحنیفة مطلقاً ببقاء الطهارة (الطوسي، ن.م، 1/14). والنموذج الآخر یمکن أن نجده فيبحث الطلاق الذي اعتبر فیه وخلافاً لمعاضرَیه الکوفیین سفیان الثوري وشریک النخعي وعلی أساس الاستصحاب، عقدَ النکاح ثابتاً إلی حین حصول الیقین بوقوع الطلاق (الخوارزمي، أبوالمؤید، 2/153؛ أیضاً ظ: علاء‌الدین البخاري، 3/377 ومابعدها؛ السرخسي، أصول، 1/224 ومابعدها).

التوسع في العبادات: کان أبوحنیفة في مختلف الأمور الخاصة بالعبادات یمیل إلی التوسع في کثیر من الحالات التي یتردد فیها الأمر بین الاحتیاط و التوسع. ورغم أن کل واحدة من الفتاوی موضع البحث لها أسس واضحة ومحددة في بنیة فقه أبي حنیفة، إلا أن التوسع في العبادات یلاحظ بوصفه وجهاً مشترکاً فیها، ومن ذلک فتواه بعدم اشتراط النیة في الوضوء، وعدم اشتراط اقتران النیة بالتکبیر في الصلاة، وإسقاط القراءة عن المأموم، وإسقاط وجوب تفریق الزکاة في الأصناف الثمانیة، وتجویز تأخیر النیة في الصوم و غیر ذلک من المسائل (ظ: ابن نجیم، 86-87). وبطبیعة الحال، فإن هذه القاعدة غالبة و لیست شاملة، حیث تلاحظ أحیاناً حالات تناقضها مثل بطلان الوضوء بالقهقهة (القدوري، 1/13).

الحریة الفردیة: لأبي حنیفة في فقهه استناد خاص إلی الحریات الفردیة في الأمور الاجتماعیة المختلفة کالزواج و المعاملات إلی الحد الذي رجح معه أحیاناً هذه الحریة کقاعدة تتعارض مع المصادر الروائیة الضعیفة. وأوضح نموذج لذلک رأیه في حریة المرأة في عقد الزواج، فقد أجاز زواج المرأة البالغة والعاقلة برضاها، ولم یشترط صدور العقد من جانب الولي، ولاحتی إذن الولي لصحة العقد. وهو بإبدائه هذا الرأي، عارض في الحقیقة الرأي المشهور، ولم یتبعه فيهذا الرأي حتی تلمیذاه أبویوسف ومحمد بن الحسن (ظ: م.ن، 3/8؛ الطوسي، ن.م، 2/204). ومننماذج استناده إلی الحریة الفردیة في المعاملات، رأیه في الحجر، حیث لم یعتبر – خلافاً للمشهور – عوامل کالإفلاس و‌الدین و حتی السفه و الفسق من موجبات الحجر، معتبراً أصحاب هذه الصفات أحراراً في التصرف بأموالهم حسب مایرونه مناسباً وتقتضیه مصلحتهم (القدوري، 2/68 و مابعدها؛ الطوسي، ن.ن، 2/72-74؛ أبویوسف، ن.م، 104؛ للاطلاع علی الأحادیث، ظ: ابن حجر، ن.م، 176-178). والنموذج الآخر، رأیه بشأن تصرف الأب بأموال ولده في حالة انعدام المسوّغ، وفي حالة عدم الاضطرار، حیث أفتی أبوحنیفة في هذه الحالات باحتفاظ الولد بحق التسلط علی أمواله، وعدَّ الأبَ ضامناً في حالة الخسارة (أبویوسف، ن.م، 106-107). ولتسامحه في الصلح والعقود الحقوقیة أیضاً جذور في رؤیته هذه (مثلاً ظ: ن.م، 112-113).

عدم الجمع بین واجبین أو عقوبتین: یمکن أن نعثر علی نماذج متعددة من اتجاهات أبي حنیفة هذه في شتی الأبواب من بحوث الفقه غیرالتعبدیة، کما في البحث المالي بمسألة الرسوم المستحصلة من الأراضي المفتوحة عنوة، فهو یری – خلافاً لقول الفقهاء المشهور – أن العشر والخراج لایجتمعان مع بعضهما علی أرض، وإن کانت الأرض خراجیة سقط العشر عن محصولها (ظ: الجصاص، 4/183؛ الطوسي، ن.م، 1/190).

وفي الأحکام الجزائیة أیضاً تلاحظ نماذج متعددة لاتجاه أبي حنیفة هذا. ومن هذه الحالات حکمه بعدم الجمع بین الجلد و الرجم في حالة زنی المحصنة (الجصاص، 5/95)، وعدم الجمع بین قطع الید و ضمان غرامة المال المسروق التالف (القدوري، 3/210).

الحیل: الحیل الشرعیة، أو – حسب تعبیر شاخت – محاولة العثور علی حلول قانونیة مما کان أبوحنیفة مشهوراً بها وعدها شاخت إحدی مفاخرة (ظ: «أدبیات الحیل ... »، 221 ومابعدها)، هي في الحقیقة من معطیات الفقهاء الحنفیة قبل أن تکون قد طرحت البحث في فقه أبي حنیفة. ورغم أنه نسب في بعض روایات أصحاب الحدیث نقلاً عن ابن المبارک، إلی أبي حنیفة نفسه تألیف کتاب في «الحیل»، إلا أن وجود مؤلَّف کهذا له لم یؤکد في المصادر الحنفیة و المصادر المحایدة (ظ: ابن حبان، 3/70-71؛ الخطیب، 13/403). وإن مایلاحظ في فروع فقه أبي حنیفة هو نماذج محدودة من استخدام الحیل مما هو في الحقیقة رجوع إلی القواعد العامة لفقهه مثل اتباع المصالح ورفع العسر و الحرج عن العباد. وفي الحالات المذکورة استخدمت الحیل في مواضع ینتشل فیها المتورط في مسألة ما من عسرٍ إلی یسر، دون إبطال لحق أحد. یقول السرخسي عن الحیل بعبارة واضحة: «إن مایتخلص به الرجل من الحرام أو یتوصل به إلی الحلال من الحیل فهو حسن، وإنما یکره ذلک أن یقال في حقَّ لرجلٍ حتی یبطله أو في باطل حتی یموّهه» (المبسوط، 30/210).

وکما یتضح من دراسة بنیة فقه أبي حنیفة فإنه في الأمور غیر التعبدیة کان یری أن الأحکام ضامنة لمصالح الناس، وستکون النتیجة الطبیعیة لهذه الرؤیة، القبول بالحیل لضمان المزید من مصالحهم. وقد استمر توسیع استخدام الحیل و تفریعها في أوساط تلامیذه وأتباعهم. وألف أبویوسف کتاباً في الحیل نقل منه محمد بن الحسن الشیباني تلمیذ أبي حنیفة الآخر مقاطع في کتاب عنوانه المخارج في الحیل (ط شاخت، لایبزک، 1930م؛ أیضاً ظ: السرخسي، المبسوط، 30/209 ومابعدها: للاطلاع علی نقوله من کتاب محمد بن الحسن). و بعدهما تنبغي الإشارة أیضاً إلی کتاب الحیل و المخارج لأبي بکر الخصّاف (ط شاخت، هانوفر، 1923م) الذي هو تألیف مسهب في هذا الباب (للاطلاع علی دراسة لاستخدامات الحیل في الفقه الحنفي، ظ: شاخت،ن.ص؛ أبوزهرة، أبوحنیفة، 417 و مابعدها).

 

القسم الثالث – مکانة أبي حنیفة في علم أصول الفقه

یُظهر تاریخ علم الأصول أن بعض المسائل العامة مثل مسألة القیاس کانت في النصف الأول من القرن 2هـ/ 8م مدار بحث بین الفقهاء، إلا أن زمن تدوین علم الأصول یرجع إلی سنوات بعد وفاة أبي حینفة وإلی عهد الشافعي الذي غالباً مابعد کتابه الرسالة أول تدوین في هذا العلم.

وقد أقدم الحنفیة تزامناً مع أتباع بقیة المذاهب علی تألیف آثار في علم الأصول التي کان من أول نماذجها، کتب خبر الواحد وإثبات القیاس واجتهاد الرأي لعیسی بن أبان، وکتاب إثبات القیاس والاجتهاد وخبر الواحد لعلي بن موسی القمي (ظ: ابن الندیم، 258، 260)، حیث انبری هؤلاء – في سبیل تبیان المواقف الأصولیة لمذاهبهم – للاستنباط من آراء أبي حنیفة في شتی الفروع، وقد نُسبت بعض الآراء الأصولیة – استناداً لهذا – إلی أبي حنیفة نفسه، ویمکن العثور بکثرة علی مثل هذه الآراء الأصولیة المنسوبة لأبي حنیفة في شتی الآثار الحنفیة مثل الأصول لشمس‌‌الدین السرخسي و الأصول لفخر الإسلام البزدوي.

وفضلاً عن المؤلفات الحنفیة، تلاحظ أیضاً في الآثار الأصولیة لأتباع بقیة المذاهب مثل الشافعیة والإمامیة، آراء کثیرة منسوبة لأبي حنیفة في مختلف البحوث الأصولیة ومنها بحث الألفاظ (کنموذج، ظ: الشریف المرتضی، الذریعة...، 1/249، 254؛ الغزالي، 31، 76، مخـ؛ أیضاً ظ: أبوالحسین البصري، 1/264، مخـ).

 

القسم الرابع- انتشار مذهب أبي حنیفة الفقهي

بعد وفاة أستاذه حماد، جلس أبوحنیفة للتدریس محله وانبری علی مدی 30 سنة وعلی رأس إحدی أهم حلقات درس الفقه في الکوفة بتبیان آرائه و أسالیبه في الاستنباط في الفروع الفقهیة. ورغم أن أجواء الکوفة العلمیة لم تکن مؤاتیة له کما ینبغي، فإن حلقات دروسه الشیقة قداستقطبت إلیها الکثیر من طلاب العلم من أقصی بقاع العالم الإسلامي. وبطبیعة الحال، فقدکانت لأبي یوسف و محمد بن الحسن الشیباني مکانة متمیزة من بین أولئک الطلاب، وفي الحقیقة فقد لعبا دوراً رئیساً في نقل تعالیم أبي حنیفة وفي تدوینها و توسیعها أیضاً. وجدیر بالذکر أن أبا حنیفة کان یروِّج لحریة التفکیر في الفقه ولم یکن لیدعو علی الإطلاق أحداً إلی تقلیده دون تثبت، وفي العبارة التي نقلها زفر بن هذیل عنه، أعلن أبوحنیفة صراحة: «لایحل لمن یفتي من کتبي أن یفتي حتی یعلم من أین قلتُ» (ابن عبدالبر، 145). وقد أوحی إلی أصحابه رأیه الصریح ذاک أن عَدّوا ولأجیال تلت تقلید عالم لعالم آخر دون تثبّت من مصدر الحکم، أمراً حراماً (ظ: عبدالقادر القرشي، 1/347؛ الدارمي، عثمان، 144).

وبمقارنة بین فقه أبي حنیفة وفقه تلامیذه یظهر بوضوح أنهم لم یکونا مقلدین لأبي حنیفة قط، بل کانوا ینبرون – شأنهم شأن المجتهدین – لاستنباط الأحکام من مصادرها بشکل مباشر، ویبدون في بعض الحالات، آراء تعارض آراء أستاذهم.

وقد قلل جمع من تلامیذ أبي حنیفة و علی رأسهم أبویوسف و محمد ابن الحسن في النصف الثاني من القرن 3هـ/9م إلی جانب تدوین الفقه الحنفي، من المسافة الفاصلة بینهم و بین مدرسة أصحاب الحدیث ببعدیها: الفقهي والعقائدي، واتخذوا في البعد السیاسي موقفاً أکثر اعتدالاً تجاه الخلافة العباسیة. والنموذج البارز لهذه الحرکة في جمیع أبعادها هو کتاب الخراج لأبي یوسف (ظ: ص 3، مخـ). وقد أدت هذه الأمور مجتمعة إلی أن یتغیر موقف أصحاب الحدیث من الحنفیة وإمامهم التقلیدي أبي حنیفة تدریجیاً إلی درجة أن بعض فقهاء أصحاب الحدیث في العراق مثل یحیی بن سعید القطان ووکیع بن الجراح ویحیی بن آدم وأبي عبید القاسم بن سلام – وقبل مرور حتی نصف قرن علی تعامل المحدّثین المتشدد مع أبي حنیفة – کانوا یبدون اهتماماً بآرائه الفقهیة (ظ:یحیی بن معین، 2/38؛ ابن عبدالبر، 131-132، 136؛ ابن آدم، 30، مخـ؛ أبوعبید، 37، مخـ). وفي القرن التالي کان فقهاء مثل محمد ابن نصر المروزي و محمد بن جریر الطبري یطرحون في کتبهم «اختلاف الفقهاء»، الاراءَ الفقهیة لأبي حنیفة إلی جانب آراء فقهاء أصحاب الحدیث (ظ: المروزي، 57-59، مخـ؛ الطبري، اختلاف ...، 25، 27، مخـ).

ومن حیث الانتشار الجغرافي، ینبغي الانتباه إلی أن وجود تلامیذ من مختلف البقاع في حلقة درس أبي حنیفة کان العامل الذي أوصل فقهه في حیاته و بعدها إلی المناطق الدانیة و القاصیة، وقد انتشر فقهه في البصرة أولاً علی ید یوسف بن خالد السمتي، ومن ثم علی ید زفر بن الهذیل (الصیمري، 110). وفي المشرق کانت علاقة أهل خراسان بأبي حنیفة عریفة، وکان حضور عدد من الخراسانیین حلقة درسه بحد ذاته عاملاً لتحویل خراسان إلی أکثر قواعد الفقه الحنفي تجذّراً بعد العراق (ظ: مدرسة أبي حنیفة العقائدیة في هذه المقالة). وفي المغرب نجد عدداً من طلاب إفریقیة الذین قدموا إلی الکوفة وحضروا حلقات درس أبي حنیفة أو تلامیذه رغم أنهم لم یظلوا ثابتنی علی مذهب أبي حنیفة، إلا أنهم لعبوا دوراً فاعلاً في إیصال تعالیمه إلی تلک الدیار، وینبغي أن نذکر من بینهم أسد بن الفرات و عبدالله بن فروخ الفارسي و عبدالله بن غانم قاضي إفریقیة (ظ: القاضي عیاض، 3/67، 109، 296، مخـ).

وفي مصر کان إسماعیل بن الیسع الکوفي الذي عُیّن قاضیاً علیها بعد ابن لهیعة (عزل في 164هـ/781م)، یقضي طبقاً لمذهب أبي حنیفة (الکندي، 370-371). ورغم المعارضة بل ولعن أبي حنیفة علی منبر دمشق فقد لاقت تعالیمه في الشام رواجاً في العقود الوسطی من القرن 2هـ/8م (ابن عدي، 7/2474؛ أیضاً ظ: الخطیب، 13/412). وجاء في حکایة رواها محمد بن إسماعیل البخاري عن حمدویه أن تعالیم أبي حنیفة کانت قد ازدهرت في جمیع البقاع الإسلامیة عدا المدینة (م.ن، 13/395).

احتل فقه أبي حنیفة خلال فترة تقل عن قرن مکانة کان یعتبر معها هو و فقه مالک مذهبین بارزین و منافسین لبعضهما. ویمکن إدراک ذلک الاعتبار من خلال حکایات عن المناظرات و المفاخرات بین المذهبین (ظ: الجاحة، الحیوان، 7/7؛ الطبري، «المنتخب»، 653).

وسرعان ما وُضع الفقه الشافعي أیضاً إلی جانب فقه أبي حنیفة ومالک، وظهرت فکرة المذاهب الثلاثة. ویمکن العثور علی هذه المذاهب الفقهیة الثلاثة في آثار کتّاب القرنین 4 و 5هـ / 10 و 11م، من المشرق إلی المغرب و باتجاهات متباینة (ظ: الأشعري، أبوالحسن، اللمع، 97؛ القاضي النعمان، 1/87؛ البغدادي، 21، 189؛ الشریف المرتضی، الانتصار، 2؛ ابن عبدالبر، الانتقاء، عنوان الکتاب)، وکانت هذه تشکل الخلفیة لظهور المذاهب الأربعة التي تضم فقه أبي حنیفة ومالک و الشافعي و أحمد بن حنبل (ظ: ابن هبیرة، 1/50، 51، مخـ؛ للاطلاع علی انتشار الفقه الحنفي في شتی العصور، ظ: ن.د، الحنفیة).

 

القسم الخامس – فقه أبي حنیفة لدی أتباع المذاهب العقائدیة

 

1. المعتزلة

لم یثبت إبداء وجهة نظر خاصة في فقه أبي حنیفة من قِبل مؤسسي المدرسة الاعتزالیة في البصرة، إلا أن ماکتبه أبوالهذیل العلاف رداً علی أبي حنیفة (ابن الندیم، 204)، یظهر أنه لم یکن هناک تعامل ذو نیة حسنة مع شخصیة أبي حنیفة في طبقات البصریین الأکثر تأخراً. وفي العبارة المرویة عن أحد زعماء المعتزلة المتقدمین، هوجم بشدة العمل بالرأي في فقه أبي حنیفة، وحُمِّلت حتی الأجیال السابقة مثل حماد بن أبي سلیمان و أصحاب ابن مسعود و ابن مسعود نفسه المسؤولیة بهذا الشأن (ظ: ابن أبي الحدید، 20/31). وتوجد علاقة خاصة بین الکلام المذکور آنفاً وبین مانقله ابن قتیبة (تأویل، 20-21) وآخرون عن إبراهیم النظام فیما یتعلق بالرأي الفقهي.

وتلاحظ في مدرسة بغداد في أواخر القرن 2هـ/ 8م والنصف الأول من القرن 3هـ، موجة من معارضة فقه أبي حنیفة ینبغي أن نذکر منها بهذا الصدر ردّ بشر بن المعتمر علی أصحاب أبي حنیفة (ابن الندیم، 185)، وردّ ثمامة بن أشرس النمیري علی أبـ حنیفة في الاجتهاد بالرأي (ابن أبي الحدید، ن.ص)، یضاف إلی ذلک الردّان العامان لأبي موسی مردار وجعفر بن مبشر علی أصحاب الرأي (ظ: ابن الندیم، 207-208).

ویحتمل أن یکون بین المعتزلة في نفس النصف الأول من القرن 3 هـ هذا جناح آخر کان یتخذ موقفاً متساهلاً من فقه أبي حنیفة. وفي روایة عن أبي سلیمان الجوزجاني و المعلی بن منصور الرازي اعتُبر أحمد بن أبي دؤاد الشخصیة المعتزلیة الشهیرة ممن شوّهوا سمعة أصحاب أبي حنیفة باعتقاده بخلق القرآن (ظ: الخطیب، 13/378). وهذا بحد ذاته شاهد علی أنه کان في عداد أتباع المذهب الفقهي لأبي حنیفة. ولابن الندیم أیضاً (ص 212) إشارة فقط إلی أن أبا الولید نجل ابن أبي دؤاد القاضي وصاحب المؤلفات العدیدة في الفقه، کان علی مذهب أبي حنیفة.

الصفحة 1 من9

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: