الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أبو حنیفة /

فهرس الموضوعات

أبو حنیفة

أبو حنیفة

تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/26 ۲۱:۵۶:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

ولدراسة فقه أبي حنیفة – و کما یتطلب البحث في أي ظاهرة تاریخیة أخری – ینبغي أولاً تحدید مکانته في الهیکل العام للنظام مع ملامحه العامة، ثم الشروع بدراسة أوجه الشبه والاختلاف بینه و بین الظواهر المشابهة له. لهذا ولمعرفة المکانة التاریخیة لفقه أبي حنیفة، من الضروري الاهتمام بالملامح العامة لفقه الکوفة و بشکل أعم فقه القرن الثاني من جهة، ودراسة الخصائص التي انفرد بها، ومایمیزه عن غیره من جهة أخری.

 

القسم الأول – عوامل نشأة فقه أبي حنیفة

لمعرفة ماضي المدرسة الفقهیة للعراق، ینبغي التنویه إلی أن تاریخ تیلور هذه المدرسة ومواجهتها للمدرسة الحجازیة، یعود إلی العقود الأولی للإسلام. وفي الحقیقة فإنه وإثر فتح العراق و اعتناق الإسلام في تلک البلاد، استوطن عدد من أصحاب النبي (ص) المعروفین العراق بشکل تدریجي، وکانوا واضعي أسس المدرسة الفقهیة في العراق و علی رأسهم الإمام علي (ع) وابن مسعود. ولدینا نماذج عدیدة تظهر أن العراقیین و الحجازیین قدوقفوا في مواجهة بعضهم البعض في عدد من المسائل الفقهیة خلال النصف الأول من القرن الأول، وبذلک کانوا یحققون فعلیاً تبلور المدرستین المحلّیتین في العراق والحجاز (کمثال، ظ: الصنعاني، 2/225؛ مالک، 1/27-28). وکانت تلک المواجهة تؤدي إلی أن یتحدث الصحابة في المدینة عن «قُتیا العراق» وینقدوها (الصنعاني، 1/575).

وباستنتاج عام من طبقات ابن سعد (ج 6-7) یمکن القول إنه خلال العقود الوسطی من القرن الأول وعلی عهد الطبقة الأولی من التابعین وفضلاً عن الأحادیث والأقوال الفقهیة للإمام علي (ع) و ابن مسعود، کانت تُتداول في الکوفة کمیة ملحوظة من أحادیث وأقوال الخلیفة عمر، وکمیة محدودة من آثار بقیة الصحابة. وعلی عهد الطبقة الثانیة من التابعین تُدوولت في العراق أحادیث وأقوال الشباب من أصحاب النبي (ص) خاصة ابن عباس وابن عمر وأبا هریرة. وعلی هذا وقع الفقه العراقي إلی حدّما تحت تأثیر المصادر الروائیة لفقه الحجاز. ویلاحظ انعکاس هذا التوزیع لمصادر فقه العراق الروائیة إلی حد کبیر في المصادر الروائیة لفقه أبي حنیفة أیضاً. وبغض النظر عن أساس النقل ینبغي التذکیر بأن الفقه العراقي اهتم أکثر من الفقه الحجازي بعنصر الرأي وسار بسرعة متزایدة نحو التعقید و المیل نحو التجدید.

وهناک نماذج تظهر أن الفقهاء الکوفیین في النصف الثاني من القرن الدول الهجري، کانوا قد حددوا مکانة الرأي ومقدار استخدامه إلی جنب الأدلة الروائیة وکانت روایات عمارة بن عمیر عن ابن مسعود، وعامر اشعبي عن عمر، وأبي عون الثقفي عن معاذ بن جبل، تفترح جمیعها مع قلیل من الاختلاف في اللفة، النظام التالي في استنباط الفروع الفقهیة: أولاً الرجوع إلی القرآن، ومن بعده إلی سنّة النبي (ص)، ثم إلی أقوال الصحابة. وفيحالة عدم العثور علی حکم في المصادر الروائیة، العمل بالرأي والاجتهاد (ظ: أبوداود، 3/303؛ الترمذي، 3/616؛ النسائي، 8/230-231). وفي القرن التالي أیضاً، حدد مضمون نفس هذه الروایات الإطار المهیمن علی أدلة فقه أبي حنیفة وأسالیبه في الترجیح (ظ: بنیة فقه أبي حنیفة في هذه المقالة).

وکان ابن مسعود و تلامیذ مدرسته الذین هم ممثلو المرحلة الأولی من الفقه الکوفي یُعملون آراءَهم في الرد عند الوقائع الضروریة فقط، ویتجنبون المسائل الافتراضیة والتقدیریة (مثلاً ظ: الدارمي، عبدالله، 1/46-48، 54). وحذا حذوهم في هذا الأسلوب أتباعهم في النصف الثاني من القرن الأول الهجري مثل إبراهیم النخعي و عامر الشعبي (مثلاً ظ: م.ن، 1/52، 65-67). ورغم أن هؤلاء کانوا یقبلون الرأي، إلا أنهم یمنعون العمل بالقیاس الذي شاع بین فریق من فقهاء الکوفة (ظ: م.ن، 1/65-66؛ الخوارزمي، أبوالمؤید، 2/255).

إلا أن أصحاب القیاس في الفترة الثالثة للتعابعین کانوا أشهر فقهاء الکوفة وکان أبرز شخصیة فیمهم حماد بن أبي سلیمان أهم أساتذة أبي حنیفة. وعلی هذا، فإن أباحنیفة في مصادره الروائیة وفي أسالیبه الاجتهادیة مدین إلی حد کبیر لتعالیم أستاذ الفقه الکوفي هذا الذي أصبح بعد وفاة إبراهیم النخعي (96هـ/715م) قطب الفتیا و تدریس الفقه (ظ: ابن سعد، 6/232).

وکما یتضح من دراسة الکثیر من أسانید أبي حنیفة فإن نقولاته عن حماد و نقولات حماد عن إبراهیم النخعي، تشکل جزءاً مهماً من المصادر الروائیة لفقهه. إلا أنه استناداً إلی الروایة التي نقلت عنه شخصیاً اعتبر نفسه مکتسباً فقهه من عمر و علي (ع) وابن مسعود (ظ: الخطیب، 13/334). ومهما یکن مصدر هذا الکلام، فإن هدف قائله هو تقدیم الأئمة الثلاثة الأساسیین للفقه العراقي، وهو تفاخر أکثر من کونه إعلاناً عن حقیقة. وعلی أیة حال، فالادعاء بأن فقه أبي حنیفة مستقیً من علي (ع) وابن مسعود، کان یعد فخراً بین حنفیة القرون الأولی، ولم یکن یرد اسم لعمر في الغالب؛ فالمقدسي في القرن 4هـ مثلاً عَدّ هذه الخصیصة دلالة علی أفضلیة مذهب أبي حنیفة علی بقیة المذاهب (ص 113). کما تدل المقارنة بین عنوان و مضمون کتاب اختلاف علي و ابن مسعود الذي ألفه الشافعي و درس ونقد فیه مقدار استناد الحنفیة إلی أقوال هذین الصحابیین، علی صحة هذا الادعاء. ویدعم هذا الأمر أیضاً عنوان کتابي: الاقتداء بعلي و عبدالله لأبي محمد ابن عبدک الحنفي (تـ 347هـ/ 958م)، وماخالف فیه أبوحنیفة علیاً وعبدَالله لمحمد بن نصر المروزي (تـ 294هـ/907م) في الرد علی الحنفیة (ظ: الصیمري، 170؛ السبکي، طبقات، 2/247).

ویقدم لنا التعامل المضمونة والإحصائي مع المصادر الروائیة لفقه أبي حنیفة معلومات أکثر دقة. وکمثال علی ذلک فقد جری الحدیث في کتاب اختلاف علي وابن مسعود عن 94% من معارضة أبي حنیفة لأقوال علي (ع)، في مقابل 6% من مواضع معارضته لأقوال ابن مسعود. بینما إذا اعتمدنا علی أسانید روایات أبي حنیفة فسنلاحظ أن 72% من روایات أبي حنیفة عن الصحابة تتعلق بأقوال و أحادیث 8 فقط من الصحابة. وهؤلاء الثمانیة هم حسب تسلسل کثرة الروایات: ابن مسعود (15%)، ابن عمر (12%)، عمر (10%)، ابن عباس (10%)، عائشة (9%)، جابربن عبدالله (6%)، علي (ع) (5%)، أبوهریرة (5%).

وإنها لحقیقة أن یکون فقه الکوفة علی عهد أبي حنیفة قد عُرِّض من حیث المصادر الروائیة لتنوع کبیر قیاساً إلی الفترات السابقة. وتوجد في هذا المضمار حکایة تظهر کیف أن فقهاء الکوفة الثلاثة البارزین أباحنیفة وابن أبي لیلی وابن شبرمة، کانوا في زمن واحد وفي مسألة واحدة، علی ثلاثة آراء مختلفة، وقد استند کل واحد منهم إلی حدیث (ظ: السرخسي، ن.م، 13/13-14؛ الطوسي، الخلاف، 2/7-8).

والجدیر بالذکر أن مقارنة إحصائیة بین فتاوی أبي حنیفة بوصفه الممثل البارز لأصحاب الرأي في الکوفة، وسفیان بن سعید الثوري بوصفه ممثل أصحاب الحدیث في الکوفة في نفس الفترة، تظهر إلی أي مدی اقتربت آراء هذین الاثنین وبشکل عام الجناحین من بعضها، وکمثال واستناداً إلی إحصائیة في شتی الأبواب الفقهیة في الخلاف للطوسي، یلاحظ في مباحث العبادات 72% من حالات الاتفاق، و 28% من حالات الاختلاف. وفي المباحث الفقهیة الأخری 75% من حالات الاتفاق و 25% من حالات الاختلاف بین آراء هذین الفقیهین. کما تظهر دراسة مضامین مواضع الاختلاف أن أساس الاختلاف یعود في أغلب المواضع إلی الأدلة الروائیة، ویبدو أنه یجب اعتیار عامل تقارب الأفکار هذا بعد فترة التباعد، یعود لبدایة فترة تدوین الفقه ومصادره الروائیة، التدوین الذي کان أبوحنیفة من البادئین به في الکوفة بمشارکة تلامیذه (ظ: الببلیوغرافیاً في هذه المقالة)، والذي کان قد بدأ خلال نفس الفترة في الحجاز والشام (ظ: ابن الندیم، 281-284).

 

القسم الثاني – بنیة فقه أبي حنیفة

 

ألف- الأدلة الروائیة للفقه

إلی جانب المذهب الفقهي المدون الذي خُلّف باسم أبي حنیفة، فإن ماوصلنا من الروایات القدیمة عن أدلته الفقهیة هو عدة روایات متناثرة لاینبغي الاعتماد علیها أکثر مما تحتمل. وأهمها وأکملها روایة عن یحیی بن ضریس بین فیها أبوحنیفة مصادر فقهه علی النحو التالي: أولاً، کتاب الله؛ ثانیاً، سنة النبي (ص) والروایات الصحیحة المرویة عنه بواسطة ثقات عن ثقات؛ ثالثاً، قول الصحابة؛ ووفي حالة عدم العثور علی حکم في المصادر المذکورة، یتم العمل بالاجتهاد و الرأي (ظ:الصیمري، 24؛ ابن عبدالبر، 143؛ الخطیب، 13/368).

والنموذج الآخر من هذا الصنف، روایة ابن الصباح التي اعتُبرت فیها أدلة أبي حنیفة الفقهیة بعد کتاب الله بطبیعة الحال الحدیث الصحیح، ومن بعده آراء الصحابة والتابعین، ثم القیاس (الخطیب، 13/340) والتي لاتنسجم وروایة ابن ضریس بشأن آراء التابعین (للاطلاع علی روایات مشابهة لذلک، ظ: الصیمري، ن.ص؛ ابن عبدالبر، 143-145). وبغض النظر عن الاختلافات المعدودة بین مضامین هذه الروایات، فإن تصنیف الأدلة الفقهیة فیها هو في الواقع نفس التصنیف التقلیدي لفقه أهل الکوفة الذي کان قد تجلی في روایات لابن مسعود وعمر و معاذ بن جبل:

 

1. الکتاب

کان کتاب الله علی الدوام یطرح بوصفه دلیلاً قطعي الصدور في النظم الفقهیة المختلفة ویعتبر المصدر الئریس للأحکام، إلا أن کونه ظنّي الدلالة في بعض آیات الأحکام أدی إلی ظهور الاختلافات الفقهیة. وکان لأبي حنیفة في کیفیة الاستنتاج من ظواهر الآیات أسالیب یمکن استنباطها من بین طیات فقهه.

العام والخاص: لاشک في أن أباحنیفة کان یری تخصیص الکتاب بالسنة الثابتة أمراً صحیحاً، إلا أن تخصیصه بأخبار الاحاد کان مثار نقاس في الفقه الحنفي. ویعتقد بعض الکتّاب الحنفیین أن العام في القرآن قطعي من وجهة نظر أبي حنیفة، وأن خبر الواحد لایمکنه معارضة عمومیته. ولذا لم یجیزوا تخصیص الکتاب بخبر الواحد (الجصاص، 5/94 وما بعدها؛ البزودوي، 1/294؛ علاء‌الدین البخاري، 1/294 ومابعدها)، ومع کل هذا، یمن أن نجد في فقه أبي حنیفة حالات عُمل فیها بتخصیص من هذا لانوع، وکنموذج علی ذلک، فإن تخصیص آیة «وأحل لکم ماوراء ذلکم» (النساء/ 4/24) بحدیث أبي هریرة «لایجمع بین المرأة وعمتها ولابین المرأة و خالتها»، کان مقبولاً لدیه (ابن هبیرة، 2/334). وأُید تخصیص آیة «قل لاأجد فیما أوحي إليّ...» (الأنعام/ 6/145) بأخبار الاحاد مثل حدیث أبي هریري في حرمة أکل القنفذ (ظ: ابن هبیرة، 2/458؛ ابن حجر، بلوغ...، 277-278). وقد عزی الفقهاء الحنفیة أحیاناً سبب هذا القبول إلی شهرة الخبر (ظ: الجصاص، ن.ص؛ الغنیمي، 3/5-6). واستنبطوا في أحیان أخری، أن العام وبعد مرة واحدة من التخصیص یصبح ظني الدلالة في باقي مدلولاته، ولذلک سیکون تخصیصه بأخبار الاحاد الظنیة الصدور أمراً جائزاً (ظ: علاء‌الدین البخاري، ن.ص).

المطلق و المقیَّد: وفي الحالات التي طرحت فیها موضوعات متشابهة في مواضع عدیدة من القرآن، وکانت أحکام بعضها مطلقة وبعضها مقیدة، کان أبوحنیفة علی الأغلب ینزع إلی تعمیم القید و تقیید المطلق. وکمثال علی ذلک وفي باب الشهادة، اشترط القرآن العدالة في شهود الطلاق (الطلاق/ 65/2)؛ بینما لایلاحظ شرط کهذا في حالة شهود‌‌الدین والبیع وتسلیم أموال الیتیم (ظ: البقرة / 2/282؛ النساء/ 4/6؛ المائدة/ 5/106)، لکن أباحنیفة عمم شرط العدالة في بقیة الحالات أیضاً (القدوري، 4/56-57). والنموذج الاخر هو تعمیم قید «إلی المرافق» في حالة غسل الیدین في الوضوء (المائدة/ 5/6) بالأمر المطلق لمسح الید في التیمم في نفس الایة. وبطبیعة الحال یمکن أننجد حالات لم یتم فیها تعمیم القید، فقد خصص أبوحنیفة مثلاً – خلافاً للشافعي – قیدَ «الإیمان» في حالة «عتق الرقبة» بحالتها المنصوص علیها في کفارة القتل (النساء/ 4/92)، ولم یعتبر إیمان الرقبة شرطاً في کفارة الظهار وکفارة الیمین (القدوري، 3/70، 4/8)، وأوکل أمر الآیات المتعلقة بذلک إلی إطلاقها (المائدة / 5/89؛ المجادلة/ 58/3). وماعدا الحالات المذکورة التي هي في الحقیقة تقیید قیاسي للکتاب بالکتاب، فإن لأبي حنیفة تعاملاً متشدداً في قبول القیود الخارجیة لمطلقات الکتاب. فهو بتمسکه بعدم ورود ذکر للنیة في آیة الوضوء (المائدة/ 5/6)، لایتعتبر النیة شرطاً في صحة الوضوء (الجصاص، 3/335).

قصر بعض الظواهر علی حالة معینة: استنبط أبوحنیفة أحیاناً في تعامله مع بعض الآیات حکماً قصره علی حالة معینة، واتخذ موقفاً مخالفاً للمشهور، فمثلاً في آیة «أُحل لکم صید البحر و طعامه» (المائدة/ 5/96)، قصر الأحیاء المائیة ذات اللحم الحلال علی الأسماک (الجصاص، 4/145)، وفي آیة «ولاجُنُباً إلا عابري سبیل» (النساء/ 4/43)، حددجواز اجتیاز الجنب المسجدَ في حالات الاضطرار (الجصاص، 3/168-169). والحالة الأخری هي طریقة تعامله مع آیة «فلایقربوا المسجد الحرام» (التوبة/ 9/28)، حیث اعتبر المنع الشرعي فیها للمشرکین مقتصراً علی فترة أداء الحج، ولم یرَ منعهم من دخول المساجد حتی المسجد الحرام أمراً واجباً (الجصاص، 4/278-279). وقد اعتبر أحیاناً وفي استنباطه من ظواهر الکتاب، أن تحقق أقل مصداق کافٍ لتحقق موضوع الحکم، ویلاحظ النموذج البارز لذلک في قراءة الصلاة حیث اعتبر حتی مقدار آیة واحدة مما یصدق علیه اسم القرآن کافیاً للامتثال لأمر الکتاب في القراءة (ظ: القدوري، 1/77؛ ابن نجیم، 86).

الفریضة والواجب: جدیر بالذکر أنه کانت هناک آراء في أوساط بعض فقهاء القرن 2هـ/8م في العراق و الحجاز، تمتاز علی أساسها – من بعض الجهات – الأحکام الوجوبیة للقرآن عن الأحکام الوجوبیة للسنة. وکما یستخلص من نماذج متعددة من آراء أبي حنیفة الفقهیة، فإنه و فیما یتعلق بأوامر القرآن الوجوبیة أو مایسمی بالفرائض، یعتبر کل تخلف عمداً أوسهواً عن أدائها مبطلاً للعبادة، إلا أنه لایری بطلانها عند تخلف غیرمتعمد فیما یتعلق بسنة النبي (ص). ودون أن نعتبر هذا الرأي خصیصة لفقه أبي حنیفة، علینا أن نذکّر بأن هذا التقسیم متجذّر في فقهه إلی الحد الذي اعتبر معه في تعامله مع آیة «إن الصفا و المروة من شعائر الله» (البقرة /2/158)، ونظراً لعدم وجود أمر صریح بالسعي بین الصفا والمروة فيهذه الآیة، هذا السعي واجباً غیر مفروض (لیس رکناً) (ظ: الجصاص، 1/118 و مابعدها). وینبغي القول إن یوسف بن خالد السمتي اعتبر تقسیم الأمر الملزم إلی فرض وواجب، هو من تعالیم أبي حنیفة (ظ: السرخسي، أصول ...، 1/112)، و یلاحظ هذا التقسیم في الکتب الحنفیة في مختلف العصور (مثلاً ظ: الجصاص، 1/96؛ الخضري، 31-32).

القراءات: والنموذج المشهور لاستخدام أبي حنیفة القراءات في فقهه، هو تطابق فتواه القائمة علی ضرورة تتابع أیام الصوم في کفارة الیمین مع قراءة ابن مسعود و أبيّ بن کعب في الآیة 89 من سورة المائدة (ظ: الجصاص، 4/12؛ ابن أبي داود، 53). وبطبیعة الحال لایمکن القول بثقة إن أبا حنیفة أصدر فتوی کهذه لأنه کان یعتبر هذه القراءة حجة (ظ: المرغیناني، 4/366)، لکن یبدو أنه کان یری لنفسه الحریة في الاختیار أو الجمع بین قراءتین في حالة اختلاف القراء، کما هو علیه الحال في أسلوبه المعروف بشأ اختلاف أقوال الصحابة.

ویلاحظ النموذج البارز لهذا التعامل في آیة «فاعتزلوا النساء في المحیض ولاتقریوهن حتی یَطهرنَ» (البقرة/ 2/222)، حیث امتنع عن تفضیل قراءةٍ علی أخری آخذاً بنظر الاعتبار اختلاف القراء في کیفیة قراءة کلمة «یطهرن» بشکل «یَطَّهَّرنَ» أو «یَطهُرنَ» و جمع بین القراءتین بشکل خاص (ظ: الجصاص، 2/35 و مابعدها؛ القدوري، 1/44). ویسترعي الانتباه في هذه الحالة أمران: الأول أن أبا حنیفة ولأجل ترجیح القراءة المشددة «یطهرن» لم یتمسک بالمفهوم المخالف لظرف «فإذا تطهرن» في بقیه الایة؛ والاخر أنه لم یفضل قراءة غالبیة الکوفیین و رسم مصاحف ابن مسعود و أبي بن کعب وأنس بن مالک علی قراءات قراء البصرة و الحجاز و الشام (ظ: أبوعمرو الداني، 80؛ القرطبي، 3/88).

 

2. السنة

استناداً إلی روایة یحیی بن ضریس وابن الصباح اعتبر الحدیث المشروط بکونه صحیحاً، ثاني دلیل من أدلة فقه أبي حنیفة؛ واستناداً إلی روایة الصیمري عن ابن ضریس فقد اعتبر رواج الحدیث بروایة ثقات عن ثقات شرطاً لقبوله (ظ: الصیمري، 24؛ الخطیب، 13/340). وکان الحسن بن صالح بن حي الفقیه الکوفي المعاصر لأبي حنیفة و من أصحاب الحدیث المتفق علی وثاقتهم یری أن أبا حنیفة إذا ثبتت لدیه صحة حدیث عن النبي (ص) فإنه لایعدل عنه إطلاقاً (ابن عبدالبر، 128)، وقد نقل مایشبه هذا الکلام عن سفیان الثوري وابن المبارک أیضاً (م.ن، 142)؛ ولکن تری ما الذي یمکن أن یکون المقصود بالحدیث «الصحیح» لدی أبي حنیفة؟ في الإجابة علی هذا السؤال ینبغي التذکیر أنه خلال فترة تبلور فقه أبي حنیفة، لم تکن مجامیع الحدیث أصبحت متداولة بعد، وکان الحدیث قد حافظ إلی حد کبیر علی تقسیمه المحلي بشکل کانت تُتداول فیه الدحادیث ذات الأسانید الحجازیة بصورة محدودة في العراق. وفي وضع کهذا لایبدو ممکناً فسح مجال لجمع الطرق الروائیة لحدیث ما وتمییز الأخبار المتواترة عن أخبار الآحاد؛ کما أن استخدام المصطلحات الخاصة بالنقد الرجالي للحدیث کالحدیث الصحیح، یرجع إلی فترة متأخرة.

ولاشک في أن بعض أحادیث عصر أبي حنیفة، قد بلغت من الشهرة حداً أن نالت ثقة الفقیه للعمل بها، إلا أن کثیراً من الأحادیث التي اعتمدها أبوحنیفة في فقهه و حسب معلوماتنا یمکن وضعها في عداد أخبار الاحاد و الأحادیث المرسلة.

أخبار الآحاد: واضح أن أخبار الآحاد من وجهة النظر العقلیة تحتمل الکذب، کما تحتمل السهو والنسیان في نقلها، والظن الحاصل منها لیس الظن الذي یحدو بفقیه عقلاني کأبي حنیفة إلی أن یستنبط علی أساسها حکم الشارع الحقیقي، وقد انعکس سوء الظن تجاه بعض الرواة من حیث انعدام الدقة والکذب في نقل سنة النبي (ص) بوضوح في کتاب العالم و المتعلم (ص 43-54). ویلاحظ انعکاس سوءالظن هذا بشکل واضح في أوساط أتباع أبي حنیفة العقلانیین. وکان وجود إشکالات عقلیة في واقعیة خبر الواحد و معرفة الحنفیة بشخصیة إمامهم العقلانیة، یؤدي بهم إلی أن ینکروا القول بحجیة خبر الواحد لدی أبي حنیفة، ویدّعون الشهرة في أخبار الآحاد التي اعتمد علیها (ظ: أبوزهرة، أبوحنیفة، 272 و مابعدها).

الصفحة 1 من9

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: