الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أبو حنیفة /

فهرس الموضوعات

أبو حنیفة

أبو حنیفة

تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/26 ۲۱:۵۶:۴۹ تاریخ تألیف المقالة

وربما أمکن القول بشأن بیان وجه عمل أبي حنیفة بخبر الواحد إنه کان یستخدم هذه الأخبار لاستخراج الحکم الظاهري و لیس الحکم الواقعي، و بعبارة أخری کان یعد خبر الواحد وسیلة للاجتهاد. ویحتمل أن تکون رؤیة أبي حنیفة هذه هي التي کانت تحدو به إلی أن یمیز بین الأحکام التعبدیة و غیر التعبدیة في استخدام خبر الواحد، فقد تعامل بتحرج خاص في الأحکام التعبدیة في استخدام خبر الواحد، فقد تعامل بتحرج خاص في الأحکام التعبدیة و سنن النبي (ص)، ولم یکن یعتبر الأخبار الضعیفة و غیر الثابتة کافیة لإثبات سنة النبي (ص)، وقد صرح بطریقته هذه في جوابه علی مسألة بشأن لباس المحرم (ابن عبد البر، 140-141). ویلاحظ نموذج ذلک البارز في نفي إقامة صلاة الاستسقاء و حسب روایة محمد بن الحسن الشیباني (الأصل، 1/447) فإن أباحنیفة کان یری أن السنّة الثابتة في حالة الاستسقاء هي الدعاء فقط. أما صلاة الاستسقاء فغیر ثابتة في سنة النبي (ص) (أیضاً ظ: القدوري، 1/120؛ الطوسی، الخلاف، 1/159).

وفي حالات التعارض بین أخبار الآحاد، تدل بعض النماذج کمناظرته للأوزاعي علی أنه لم یکن یقبل السنة غیر الثابتة مقابل السنة الثابتة (من وجهة نظره)، ولم یکن یصرّ علی الجمع بین الروایتین (ظ: الخوارزمي، أبوالمؤید، 1/352-354؛ قا: الشافعي، الرسالة، 216-217)؛ وربما کان تعامله هذا یؤدي إلی أن یتهمه أصحاب الحدیث برد الحدیث والسنة.

تعارض الخبر والقیاس: یوجد من بین الحنفیة مثل أبي الحسن الکرخي من یعتقد أن الخبر في فقه أبي حنیفة مقدم بشکل مطلق علی القیاس، إلا أن البعض اعتبر ترجیح الخبر منوطاً بوجود صفات مثل الفقاهة في رواته (ظ: البزدوي، 2/377؛ علاء‌الدین البخاري، 2/377؛ علاء‌الدین البخاري، 2/377-378). وبإلقاء نظرة إجمالیة علی فروع فقه أبي حنیفة، تلاحظ حالات ترجیح الخبر علی القیاس و بالعکس، و من بین النماذج الواضحة علی ترجیح خبر الواحد علی القیاس یمکن أن نذکر ترجیح حدیث بطلان الصلاة بالقهقهة حسب روایة معبد بن صبیح الصحابي (أبویوسف، الآثار، 28) علی القیاس، و کذلک ترجیح حدیث أبي هریرة في صحة صوم من بأکل أویشرب سهواً (ابن حجر، بلوغ، 135)، مع تصریح أبي حنیفة بتقدیمه علی القیاس. و من نماذج ترک خبر الواحد بسبب مخالفته للقواعد و الأقیسة یمکن أن نذکر أیضاً ترک حدیث لاتصروا الإبل و الغنم، وعدم اعتباره التصریة عیباً وغرراً في العقد؛ وترک حدیث زید بن ثابت بشدن العرایا و إلحاقه بموارد الربا (ظ: أبوزهرة، ن.م، 286-289).

ومن الممکن البحث عن عامل هذه الازدواجیة في ماهیة الحالات ذاتها. إذ تدل بعض القرائن علی أن أبا حنیفة کان في الفروع العبادیة ملتزماً بالتعبد وله نزعة خاصة إلی مراعاة النصوص، إلا أنه ینزع إلی الرأي والقیاس في الفروع المتعلقة بأمور الحیاة الیومیة. والنموذج الذي یمکن ملاحظة هذا التفصیل فیه هو فتویان له في مبحث الطهارة، فقد وضع فرقاً واضحاً بین رفع الحدث الذي هو أمر تعبدي ومقدمة للعبادة و بین رفع الخبث الذي هو من وجهة نظره متعلق بالنظافة ولیس فیه جانب تعبدي: ففي حالة رفع الحدث یعتبر الماء لوحده مزیلاً، ویجیز استثناءً في ظروف السفر وعدم وجود الماء نبیذ التمر المطبوخ فقط، وقداستقی هذا الاستثناء من حدیثٍ، و خلافاً للأوزاعي لم یقس حتی نبیذ غیر التمر علی المورد المنصوص (ظ: الطوسی، ن.م، 1/2؛ قا: م.ن، تهذیب ...، 1/219؛ ابن بابویه، من لایحضره...، 1/11)، إلا أنه في حالة إزالة الخبث، استخرج بتعمیمه عدة روایات متفرقة. قاعدة عامة جداً، ولم یکتف بجواز رفع الخبث بأي سائل طاهر، بل جوز مبدئیاً أیضاً إزالة عین النجاسة بطریقة أخری عدا الغسل، حیث اعتبر المسح لوحده مزیلاً للنجاسة ورافعاً للخبث في الأدوات الصقیلة کالمرایا والسیوف (ظ: القدوري، 1/50-53).

الحدیث المرسل: کان الحدیث المرسل في فقه العراق و کذلک في فقه الحجاز خلال النصف الأول من القرن 2هـ/ 8م موضع اعتماد و مرجعاً لکثیر من الأحکام. وإن کافة المواضع في مسانید روایات أبي حنیفة ومنها کتاب الآثار لأبي یوسف، شأنها شأن موطأ مالک ملأی بروایات التابعین المرسلة عن النبي (ص). وفي المسانید المذکورة یمکن العثور علی أحادیث مرسلة بروایة أبي حنیفة عن تابعي الکوفة مثل سعید بن جبیر والشعبي و علی رأسهم إبراهیم النخعي، وعن تابعي البصرة و الحجاز کذلک مثل الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح وابن شهاب الزهري و مجاهد و سعید بن المسیب و عن الإمام محمدالباقر (ع) أیضاً ممن استند إلیهم أبوحنیفة في إصدار فتاواه (ظ: الخوارزمي، أبوالمؤید، 1/388، 403، 421، 423، 499، 529، 2/59، 129، 220، مخـ).

وفي النصف الثاني من القرن 2 هـ نقد الشافعي حجیة الأحادیث المرسلة وبوّبها من حیث اعتبارها (الرسالة، 461 ومابعدها)، إلا أنه لایمکن إبداء رأي جازم بشأن شروط قبول الأحادیث المرسلة في فقه أبي حنیفة. فقد قال بعض علماء الحنفیة إن الإرسال في الحدیث لیس مقبولاً من التابعین الأوائل فحسب، بل من تابعي الطبقة الثانیة أیضاً (ظ: البزدوي، 3/3-8)، ویلاحظ تأیید ذلک في مسانید روایات أبي حنیفة.

ظواهر السنة: نجد أبا حنیفة في بعض الحالات ملتزماً جداً بظواهر الأحادیث، ویلاحظ ذلک غالباً في الأحادیث المتعلقة بالعبادات. فهو خلافاً لآراء الفقهاء الشهیرة عدّ الأمر بصلاة الوتر وکذلک التضحیة في عید الأضحی – بحکم الظاهر – أمراً وجوبیاً لایمکن التخلي عنه (ظ: الطوسي، الخلاف، 1/118، 3/193). وفي السنن المندوبة اعتبر مواصلة العبادة أمراً إلزامیاً بعد البدء بها. ویمکن بوضوح ملاحظة تعامل کهذه في منعه من قطع صلاة النافلة و الصوم المستحب، واعتبار قضائهما في حالة البطلان أمراً واجباً (ظ: القدوري، 1/93؛ الطوسي، ن.م، 1/232).

واعتبر أبوحنیفة – في استنباطه من ظواهر السنة کما هو أسلوبه فیما یتعلق بالکتاب – أحیاناً أن تحقق أقل مصداق کاف لتحقق المفهوم، وکنماذج لهذا الاستنباط: کفایة إدراک بعض الصلاة الجمعة (القدوري، 1/113) وکفایة ذکر واحد لله في صلاة الجمعة (م.ن، 1/110).

وبشأن الأحادیث الناسخة والمنسوخة و کما رُوي، فإن أباحنیفة کان یبدي دقة خاصة ویسعی إلی أن یمیز الحدیث الناسخ و یجعله أساساً للعمل (ظ: المکي، 1/89).

وفي بحث العام و الخاص في الأحادیث، اعتبر بعض الحنفیة أن عدم إبقاء العام المخصص علی عمومیته في باقي المصادیق هو أسلوب أبي حنیفة، مستشهدین علی ذلک بنماذج مثل فساد البیع المشروط (ظ: علاء‌الدین البخاري، 1/308).

وفي باب الأحادیث المطلقة و المقیدة یوجد أمر ملفت للنظر: رغم أن أباحنیفة عمم قید العدالة للشاهد الوارد في الآیة لاثانیة من سورة الطلاق، علی آیات أخری، لکنه لم یقید الأخبار المتعلقة بشاهدي النکاح بهذا القید الکتابي ولم یعتبر العدالة شرطاً في شهود النکاح (ظ: القدوري، 3/3-4؛ الطوسي، ن.م، 2/207).

 

3. آراء الصحابة

صُرَح في روایتي یحیی بن ضریس وابن الصباح أن أبا حنیفة کان یرجع إلی أقوال الصحابة في حالة عدم وجود حکم في کتاب الله وسنة النبي (ص). وفي روایة ابن ضریس أضیف أن أبا حنیفة کان یجد نفسه في حالة اختلاف الصحابة مخیراً بالانتقاء من بین أقوالهم (ظ: الصیمري، 24؛ الخطیب، 13/340، 368). ونقل مایشبه هذا الانتقاء في اختیار أقوال الصحابة عن أبي حنیفة في روایة أخری عن أبي حمزة السکري (ابن عبدالبر، 144-145).

حجیة أقوال الصحابة: اعتبر أبوالحسن الکرخي من الحنفیة – و ضمن نفیه وجوب تقلید الصحابة – استخدام أقوال الصحابة في فقه أبي حنیفة، مقتصراً علی الحالات التعبدیة مما لامجال فیه للقیاس والرأي، إلا أن البعض الآخر من علماء الحنفیة أمثال أبي سعید البردعي والسرخسي، أکدوا علی وجوب اتّباع أقوال الصحابة (ظ: البزدوي، 3/217؛ السرخسي، أصول، 2/105 و مابعدها). وقد أشار ابن المنذر من الفقهاء المتقدمین غیر الحنفیة في عبارة شاملة إلی أن أبا حنیفة کان في عداد الفقهاء الذین یجیزون تقلید أحد أصحاب النبي (ص) شریطة عدم معارضة ذلک لأقوال بقیة الصحابة (2/289؛ أیضاً ظ: السرخسي، ن.ص؛ قا: الشافعي، ن.م، 596-598). ومن وجهة النظر العقلیة، ینبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن أوقال الصحابة و بنفس القدر الذي تستطیع به التعبیرعن سنّة النبي (ص)، یمکن أن تکون الآراء الخاصة للصحابة أیضاً. وعلی هذا یمکن الظن أن أبا حنیفة – و کما هو شأنه في تعامله مع خبر الواحد – کان قائلاً بتفاوتٍ بین الأمور التعبدیة وغیر التعبدیة في أقوال الصحابة، ویعتبر أقوال الصحابة في الأمور التعبدیة سبیلاً للوصول إلی الحکم الظاهري. ورغم أن أبا الحسن الکرخي قصد في کلامه نفس هذا المعنی علی مایبدو، إلا أن استشهاده بمثال ضمان الأجیر المشترک، غیرمقبول (ظ: أبویوسف، ن.م، 158؛ الخوارزمي، أبوالمؤید، 2/49-51).

أفعال الصحابة: حظیت أفعال الصحابة أیضاً في مواضع مختلفة من مسانید روایات أبي حنیفة مثل کتاب الآثار لأبي یوسف (ص 3، 6، مخـ)، فضلاً عن أقوالهم بالاهتمام، إلا أن أبا حنیفة تعامل في التمسک بأفعال الصحابة بنظرة نقدیة، فمثلاً اعتبر تصرف عمر في مسألة من مسائل القصاص (مسألة الإکراه المؤدي إلی القتل) نوعاً من التهدید، ولم یعدّها حکماً شرعیاً (السرخسي، المبسوط، 24/68). ودفاعاً عن أبي حنیفة، اعتبر محمد بن الحسن الشیباني بعض أفعال ابن عمر المتعلقة بالوضوء والغسل، ناجمة عن شدة احتیاطه، ولم یعدها أساساً لاستنباط الحکم (ظ: الحجة...، 1/60).

 

4. آراء التابعین

کعنوان فرعي ینبغي التذکیر و حسب روایة یحیی بن ضریس بأن أباحنیفة إثر قبوله بحجیة أقوال الصحابة، أعلن أنه لایعتبر فتاوی تابعین مثل إبراهیم النخعي والشعبي و الحسن البصري و ابن سیرین، حجة علیه، ویری نفسه مجتهداً مثلهم (الصیمري، ن.ص؛ ابن عبدالبر، 143). کما یلاحظ شبیه هذا المضمون في روایتي أبي حمزة السکري وأبي عصمة (م.ن، 144-145؛ ظ: الدارمي، عثمان، 125).

ومع کل ذلک، فإن عدم حجیة آراء التابعین لایعني بأي شکل عدم استفادة أبي حنیفة من آرائهم (قا: الشافعي، ن.م، 460). وقد اعتبر أحمد بن حنبل – ضمن وصفه لفقه أبي حنیفة – کثیراً من فروعه مستنبطاً من آراء تابعي الکوفة مثل إبراهیم النخعي والشعبي و الحکم بن عتیبة (ابن عدي، 7/2475)، وأکد بعض معاصري أبي حنیفة مثل ابن المبارک و سفیان الثوري علی تأثره الکبیر بآراء علماء الکوفة (ظ: ابن عبدالبر، 142؛ المکي، 1/89-90). وتدعیماً لهذه الأقوال ینبغي القول إنه قد نقلت في مسانید روایات أبي حنیفة کمیة کبیرة من فتاوی التابعین ضمت فضلاً عن فتاوی تابعي الکوفة، عدداً من فتاوی تابعي البصرة والحجاز مثل الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح و سعید بن المسیب (ظ: الخوارزمي، أبوالمؤید، 1/279، 396، 554، مخـ).

 

5. الإجماع

یعود أقدم بحث أصولي عن الإجماع (ن.ع) وشروطه إلی الرسالة للشافعي في النصف الثاني من القرن 2هـ/ 8م (ص 471-476، مخـ).ولاتوجد في الروایات القدیمة إشارة تدل علی أن الإجماع بمفهومه الأصولي کانت له مکانة بین أدلة فقه أبي حنیفة. ومع هذا فإن الفقهاء الحنفیة بعد تدوین علم الأصول، سعوا إلی أن بصوروا بطرقهم في الاستنباط مکانة الإجماع في الفقه الحنفي و شروطه. ورغم أن بعض هذه الآراء نسبت أحیاناً في آثار الحنفیة إلی أبي حنیفة نفسه (ظ: البزدوي، 3/226 و مابعدها؛ السرخسي، أصول، 295 ومابعدها)، لکن لایبدو أن هذه النسبة ثابتة بالقدر الکافي.

 

ب- الرأي في فقه أبي حنیفة

یلاحظ في روایة یحیی بن ضریس نقلاً عن أبي حنیفة أنه في حالة فقدان الأدلة النقلیة کان یری طریق الاجتهاد مفتوحاً أمامه، ویعتبر هذا الأسلوب هو أسلوب کبار التابعین (الصیمري، ن.ص). وکان قد أوصي في روایات کوفیي القرن الأول الهجري من قِبل ابن مسعود و عمر و معاذ بن جبل بالاجتهاد و الرأي في حالة فقدان النصوص. وفي الحقیقة فإن عدم کفایة النصوص مقابل الأسئلة المتزایدة وازدهار الفقه التقدیري، کان یطرح الرأي بوصفه أداة مهمه لسد هذه التغرة. وکان رأي الفقیه آنذاک یقوم علی أساس الاستنباط العام الذي استخلصه من أحکام الشریعة، بینما کان اجتهاد الفقیه محاولة منه للعثور علی أکثر الأحکام انسجاماً مع نظام الشریعة استناداً إلی مافي متناول یده. ذکر أبوحنیفة نفسه في العبارة المنقولة عنه وبصراحة: «قولنا هذا رأيٌ، وهو أحسن ماقدرنا علیه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولی بالصواب منا» (الخطیب، 13/352).

وبنظرة أخری إلی کلام أبي حنیفة هذا یمکن الاستنتاج أن الهدف من الرأي والاجتهاد من وجهة نظره هو العثور علی أقرب حکم ظاهري إلی الحکم الواقعي أو الصواب، وفي کلامه الموجه إلی یوسف بن خالد السمتي بهذا الشأن تحدث أبوحنیفة بشکل أکثر وضوحاً، فبشأن الآراء‌‌الدینیة کان یعتقد أن «الله لایکلف العباد مالا یطیقون، ولاعاقبهم بما لم یعلموا، ولارضي منهم بالخوض فیما لیس لهم به علم. والصواب [الحکم الواقعي] الذيعنده. ونحن مجتهدون، وکل مجتهد [من حیث الحکم الظاهري] مصیب» (المکي، 2/104؛ قا: الشافعي، ن.م، 494 ومابعدها؛ السرخسي، ن.م، 2/14، 91؛ البزدوي، 1/46، 4/10).

ولأجل معرفة دقیقة لأسس أبي حنیفة الفکریة في الاجتهاد و الرأي ینبغي القول إنه کان یعتقد أن أحکام الشریعة نزلت من الله لتأمین مصالح الخلق، ولاینفع اللهَ أيٌّ من عبادات الخلق و أعمالهم. إلا أن أحکام الشریعة ذات مدی واسع ویجب التمییز بین الحکمة والمصلحة الکامنة فیها عن بعضها. فبعض أحکام الشریعة تخص آداب وطقوس أداء المراسم العبادیة والأعمال‌‌الدینیة، والمصلحة الکامنة فیها هي التعبد وتقرب العبد إلی الله. ولذا فإن الأحکام التعبدیة تابعة للنصوص الشرعیة، والرأي في هذه الحالات له أدنی حد من إمکانیة الإفادة منه. إلا أن البعض الاخر من أحکام الشریعة ذو علاقة بقضایا الحیاة الیومیة للإنسان، والحکمة الأصلیة من هذه الأحکام لیس تعبد العباد و لاتقربهم من الله، بل خلق نظام حقوقي و جزائي سلیم في المجتمع. وهذه المجموعة من أحکام الشریعة هي التي کان أبوحنیفة یری أن أکثر استخدام الرأي هو في استنباطها و تبیانها. وقد أظهر شاخت في مقارنة تحلیلیة بین آراء أبي حنیفة وآراء ابن أبي لیلی، أنرأي أبي حنیفة بشکل عام رأي منظم متناسق ینسجم و العقل السلیم («مصادر الفقه...»، 294 ومابعدها).

وتقدم المقارنة الإحصائیة بین الآراء الفقهیة لأبي حنیفة واثنین من معاصریه من الفقهاء الکوفیین أهل الرأي – ابن أبي لیلی وابن شبرمة – نتائج مثیرة للاهتمام، وکنموذج لذلک وفي کتاب اختلاف أبي حنیفة وابن أبي لیلی الذي جمع فیه القاضي أبویوسف اختلافات هذین الفقیهین في شتی الأبواب الفقهیة، یرجع 88% من مواضع الاختلاف إلی المسائل غیر العبادیة، و 12% منها للمسائل العبادیة. وبدراسة مضمون هذه الـ 12% والاستفادة من إیضاحات أبي یوسف و الشافعي حول أسباب ظهور الاختلافات، یتضح أن أغلب اختلافاتهما في العبادات – خلافاً للحالات غیر العبادیة – یرجع للمصادر الروائیة (ظ: أبویوسف، «اختلاف...»، 140-147)؛ أما بشأن فقه ابن شبرمة فإنه علی الرغم من أن قلة المصادر في مباحث العبادات، لاتتبح الفرصة لإجراء مقارنة کهذه، إلا أنمقارنة إحصائیة لمواضع اتفاقه واختلافه مع أبي حنیفة في المباحث غیر العبادیة، تُظهِر کما هو وارد في کتب اختلاف الفقهاء للطحاوي والإشراف لابن المنذر و الخلاف للطوسي، مامجموعه 40% من الاتفاق، و 60% من الاختلاف، وهذا دال علی نسبة تأثیر رأیهما في مسائل الفقه غیر العبادیة.

 

1. القیاس

نظراً لأن «الأصل» بوصفه رکناً للقیاس دائماً، وأحیاناً «العلة»، رکنه الآخر، کانت لهما جذور في النصوص الشرعیة من الکتاب والسنة وأقوال الصحابة، فقد کان القیاس یحظی إلی حدما بثقة أصحاب الحدیث أیضاً. وفي الحقیقة فقد کان القیاس لدی الفقهاء من أصحاب الحدیث علی عهد أبي حنیفة وسیلة مقبولة، وتلاحظ کثیراً نماذج العمل به في فقه المحدَثین العراقیین مثل سفیان الثوري والحجازیین أیضاً مثل مالک (مثلاً ظ: الصنعاني، 1/120؛ مالک، 2/528). وکان أبو حنیفة نفسه یقول إنه أخذ أصل القیاس من بعض أصحاب النبي (ص) (ظ: الخوارزمي، أبوالمؤید، 2/338).

وإن ماکان یمیز أبا حنیفة عن غیره في مسألة القیاس هو مستوی استخدامه وخاصة کیفیة تعامله في حالات تعارض القیاس مع أدلة روائیة ضعیفة مثل خبر الواحد و بعض الظواهر. وهذا هو ما کان یؤدي إلی أن ینتقد قیاسَه بعضُ المحدثین المعاصرین له مثل ملالک ممن کانوا أنفسهم یستخدمون القیاس في الفقه (ظ: الطبري، «المنتخب»، 654). ویشجع مقابل ذلک فریقاً آخر أیضاً علی مدح قیاسه (مثلاً ظ: ابن قتیبة، المعارف، 495)، إلی الحدّ الذي کان قیاسه قد أصبح یضرب به المثل (ظ: أبوالعلاء، «سقط الزند»، 5/1956؛ القلقشندي، 1/453).

ویمکن العثور في کثیر من المصادر المتنوعة للإمامیة و الحنفیة وغیرهما علی حکایات ذات مضامین متباینة تتضمن مناظرة بین أبي حنیفة و بین الإمام الصادق (ع) أوأحد علماء ذلک العصر مثل محمد ابن علي صاحب الطاق أو هشام بن الحکم أو عامر الشعبي، کان محور البحث فیها هو التزام أبي حنیفة بالقیاس في الفقه (مثلاً ظ: المفید، الاختصاص، 109-110، 189-190؛ الخوارزمي، أبوالمؤید، 2/255، 338).

ولاشک في أنه علی عهد أبي حنیفة، لم تکن قد دُوّنت بعد أنواع القیاس والبحوث المتعلقة بالعلة مثل تقسیم أنواع العلل تبعاً للمناسبة والتقسیمات المتعلقة بالاجتهاد في العلة، إلاأن دراسة الآراء المتبقیة من الفقهاء من أهل القیاس في ذلک العصر تظهر أنهم کانوا ملتزمین في قیاساتهم بمجموعة معاییر. و جدیر بالذکر أن بعض علماء الحنفیة قرروا استخراج معاییر أبي حنیفة في استخدام القیاس و سعوا إلی تدوینها. ومایسترعي الانتباه هنا أکثر من غیره، هوتجنب أبي حنیفة استخدام القیاس في الأمور التعبدیة. وبعض النماذج مثل تجویز أذکار التکبیر عدا «الله أکبر» في تکبیرة الذحرام (القدوري، 1/67)، لیست من باب القیاس، بل هي من باب العمل بالعموم الظاهري للنصوص الشرعیة.

الصفحة 1 من9

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: