الصفحة الرئیسیة / المقالات / ایران /

فهرس الموضوعات

الزرادشتيون

  بلغت هجمات العـرب المسلمين المتفرقـة على أراضي الساسانيين مرحلتها النهائية في معركة القادسية ونهاوند؛ فسقطت الدولة الساسانیة بعد هزيمة جیوشها في هاتين المعركتين في 21ه‍ / 642م؛ ثم استمرت فتوح المسلمين تدريجية وباتجاه الشرق حتى سنوات عدیدة. استناداً إلی مؤرخين مثل الطبري والبلاذري، فقد كان المسلمون بعد سیطرتهم علی المدن، أو المناطق المفتوحة يخيرون أهاليها من خلال التفاوض مع حكامها بين 3 خیارات: الإسلام والأمان؛ التمسک بدیانتهم وشريعتهم ودفع الجزية؛ الحرب وانتظار المصير. وإذا ما اعتنقوا الإسلام لم يكن عليهم، سوى دفع ضرائب الدخل والتي كانت تأتي من عائدات الأرض وأحياناً من العائدات الأخرى وكانت تسمى الخراج؛ وإذا ما أرادوا البقاء على دينهم، كان عليهم أن يعقدوا معاهدة صلح مع الفاتحين یدخلون بموجبها في عداد أهل الذمة، ويتوجب عليهم أن يدفعوا الجزية التي كانت في الحقيقة ضرائب فردية بالإضافة إلى الخراج، وفي المقابل كانت الحكومة الإسلامية تتولى المحافظة على أمنهم وتضمن لهم الحریة في ممارسة شعائرهم الدينية، بل وحسب بعض المعاهدات لم يكن يحـق للمسلمین أن يضايقوهم فـي أداء شعائرهم في أعیادهـم (ظ: البلاذري، 453-454)؛ ومن الواضح أنهم کانوا یواجهون جنود الإسلام في حالة نقض المعاهدات ومعارضتهم أو تمردهم علی المسلمین وقد ذكرت في تاريخ الطبري وفتوح البلدان للبلاذري نماذج كثيرة من هذه المعاهدات، أو النـزاعات في مناطق إيران المختلفة (كنموذج، ظ: الطبري، 4 / 137- 138، 141؛ البلاذري، 428-429، 433، 437-439). ورغم أن آراء الفقهاء من السنة والشيعة متضاربة بشأن الزرادشتيين واعتبارهم من أهل الكتاب (ن.ع، أهل الکتاب) إلا أن المسلمین ظلوا في هذه الفترة یعاملونهم معاملة أهل الذمة. 
لقد تمسک الفاتحون المسلمون بعد السيطرة على مدن إيران والاستقرار فيها، بالنظام الضريـبي الساساني، کما احتفظوا بالنُظم السیاسیة القائمة علی الدواوین وجباة الضرائب المحليين والكتّاب (الطبري، 2 / 151-152؛ البلاذري، 421؛ أيضاً ظ: دنت، 14,28-31). وقد كانت کتابة الدواوین في البدء باللغة الفارسية، ولكنها تحولت إلى العربية في العقد السابع من القرن الأول (البلاذري، 422؛ زرين كوب، دوقرن … ، 113-115).
في العقود الأولى بعد فتح إيران، كانت مسيرة تغيير دیانة الإیرانیین واعتناقهم الإسلام في المناطق المفتوحة تسير ببطء، حيث كان الزرادشتيون يشكلون أغلبية السكان في كل منطقة، وخاصة في المناطق الريفية، وبالأخص في غرب إيران وكان المسلمون (السكان المحليون الحديثو الإسلام والعرب) يعيشون بشكل متفرق بين هذه الأغلبية (دنر، 568). ولكن اعتناق الدين الجديد أخذ يتسارع تدريجياً على أثر الاحتكاك بالمسلمين، وخاصة في المناطق الحضریة متزامناً مع خضوع الإقطاعيين الكبار، أو الدهاقنة للإسلام تهرّباً من دفع جزية المزارعين الذين كانوا يعملون على أراضيهم، وكذلك من أجل الحصول على فرص اجتماعية واقتصادية أفضل (دنت، 33-32؛ بوليه، 36-35). ویصرح کل من الإصطخري (ص90، 127- 128) والمقدسي (ص323، 328، 334)، أن الزرادشتیة في عصرهما لم تزل سائدة علی جزء کبیر من إيران المسمى بفارس وأن بیوت النار منتشرة في جمیع أرجاء البلاد ومازالت شعائر الزرادشتيين جارية في المدن و يزينون الأسواق في أعيادهم. وفضلاً عن ذلک كان الحكم المحلي في بعض المناطق مثل طبرستان، بيد الحكام الزرادشتيين المشهورین بإسپهبدان وکانت بلاد إیران تعیش في مثل هذه الظروف حتى القرن 5ه‍ / 11م (زرين كوب، تاريخ ... ، الفصل 5؛ آذرگشسب، 79-80).
رغم أن مناطق مختلفة في إیران خلال عهد الخلفاء الراشدين وعصر بني أمية شهدت بین حین وآخر إجراءات صارمة ومحاولات متشددة لتغییر دیانة سکانها وتدمیر بيوت النار، إلا أن الزرادشتيين كانوا يعيشون في رخاء ورفاه نسبيين. وكانت الحكومة الإسلامية تعترف بزعیمهم «هودينان بشوباي» زعيم الزرادشتيين)، المقیم في فارس وكانت قد ألقت على عاتقه مسؤولية إدارة شؤونهم (بويس، 147). وفي هذه الفترة هاجرت مجموعة من الزرادشتيين إلى منطقة قهستان في خراسان وسكنت خواف وعاشت فيها مايقرب من مائة سنة؛ ثم أجبرتهم الظروف القاسیة علی النزوح إلى ميناء هرمز وبعد هجوم جيش ربيع بن زياد، في النصف الثاني من القرن 2ه‍ / 8م توجهوا إلى الهند واستوطنوا گجرات (في سنجان) ومدن أخرى مثل نوسري، وبومباي وسورات وشکلت على مر القرون الجالیة الفارسیة في الهند. وقد أورد وقائع هذه الهجرة شخص يدعى بهمن كيقباد في رسالة منظومة بعنوان قصة سنجان (البلاذري، 551-552؛ پورداود، 2- 8؛ معين، 12-17؛ بويس، 157؛ فيتر، 122-126). لم يقطع الفرس في الهند على مر القرون علاقاتهم مع الزرادشتيين الساكنين في موطنهم الأصلي، إذ كانوا يطرحون علیهم أسئلتهم الدينية ويستلمون أجوبتها. عبر المراسلات. وقد جمعت هذه الأسئلة والأجوبة في كتابين يحملان اسم روايت داراب هرمزديار وروايت هرمزديار فرامرز (آذرگشسب، 95؛ دهاله، 457-458)
في بداية العصر العباسي، وخاصة في عهد خلافة المأمون، انتعش المجتمع الزرادشتي واسترد قواه و وجدت مبادئ الدیانة الزرادشتیه طریقها إلی الأوساط العلمیة وبرزت اکثر من السابق من خلال طرحها في المباحثات والمناظرات الدينية والكلامية التي كانت تتم غالباً بین یدی المأمون وفي هذه الفترة، أي خلال القرنين 3-4ه‍ / 9-10م، قام المفکرون من أتباع الزرادشت بتأليف كتب هامة مثل دينكرت و بندهشن وگزيده‌هاي زادسپرم وآثار منوشجهر ( نامه‌ها ودادستان دينيك) وماتيكان غجستك أباليش وخاصة شكند گمانيك ویجار (في الرد على الإسلام والمسيحية واليهودية والمانوية). كما ظهرت في هذه الفترة شخصيات علمية بارزة مثل آتور فرنبغ فرخزادان ومنوشچهر گشن جم وأميد أشه وهيشتان وآتورپات أيميدان (أميدان) ومردانِ فرخ أهرمزد دادان (تفضلي، 128-153، 161-166؛ دومناش، 565-543؛ زرين كوب، دوقرن، 322-326؛ بويس، 156-153؛ دهاله، 441). وفضلاً عن ذلك، فقد كان هناك عدد من الزرادشتيين أسلم بعضهم فيما بعد، أو جماعة من المسلمین الذين انحدروا من أسر زرادشتية، يعدون من الوجوه العلمية المعروفة في العصر العباسي. منهم نوبخت وابنه، وابن المقفع وعلي بن عباس المجوسي (نصر، 208؛ صفا، 1 / 56-59؛ أيضاً ظ: ن.د، آل نوبخت، أيضاً ابن المقفع). 
وفي بداية الخلافة العباسية، ظهر في خراسان تيار فكري خاص على يد شخص يدعى «بهافريد ماه فرودين»، حيث ترکت بصماته لعشرات السنين بعده. فقد سعى بهافريد من خلال إحداث تغييرات في الدين الزرادشتي، إلى ان یوفق بین الزرادشتیة والإسلام، ولكن هذه البدعة أثارت غضب الموابذة الزرادشتيين فشكوه إلى أبي مسلم. فاعتقله الأخير وأمر بقتله (البيروني، 210؛ الشهرستاني، 2 / 71-72؛ براون، I / 308-310؛ آمورتي، 490-489؛ دوشن غيمن، 240؛ يوزبكي، 319-320).
في الفترة نفسها حدثت ثورات متفرقة بقيادة إيرانيين مثل سُنباد وأستادسيس وبابك ومازيار، حيث لعب فيها الزرادشتيون دوراً كبيراً، كما كانت تحمل في طیاتها بقايا تيار بهافريد الفكري (زرين كوب، ن.م، 147-161؛ أمورتي، 498-494؛ دوشن غيمن، 241-240). وفي أواخر الخلافة العباسية ازدادت الضغوط على أهل الذمة ومنهم الزرادشتيون وأدى وضع القوانين المختلفة إلى تزايد الفقر والعوز بين أتباع الزرادشت (بويس، 159؛ يوزبكي، 159-160).
لاتتوفر معلومات كثيرة عن أوضاع الزرادشتيين الاجتماعية تحت حكم الغزنويين والسلاجقة ويبدو أن المؤرخين لم يكونوا يعيرون اهتماماً إلى الزرادشتيين بسبب صغر مجتمعهم وبعدهم عن التيارات السياسية في ذلك العصر. وفي عصر هجوم المغول ومایلیه في عهد تيمور وخلفائه تعرض الزرادشتيون لنفس المصائب والمذابح التي ابتلي بها الإيرانيون بأجمعهم. ويبدو أن المجموعة المتبقية في فارس هاجرت في ظل هذه الأوضاع برفقة موبذ الموابذة (رئيس الكهنة) ومجموعة من شخصياتهم الدينية إلى منطقة نائية وجبلية في شمال يزد واستوطنوا قريتي شریف آباد وترك آباد كي يكونوا بمأمن من الغزاة. وهكذا، انتقلت الزعامة الدينية الزرادشتية من فارس إلى يزد وكرمان، حيث كانت تسكن ولاتزال مجموعة من الزرادشتيين منذ القدیم (بويس، 165-161). 
وفي العصر الصفوي، نقل الشاه عباس الأول عدداً من الزرادشتيين من يزد وكرمان إلى أصفهان من أجل استغلال أيديهم العاملة الرخيصة وأسكنهم في حيّ گبرآباد في هذه المدينة (م.ن،177). وقد جاء وصف هذه الناحیة وأهاليها وحياتهم الهادئة والمرفهة نسبياً في رحلات أوروبيين مثل شاردن (8 / 87، 95-96) ودلاواله (ص 77-80).
إثر تسنم خلفاء الشاه عباس الحكم ازدادت الضغوط على الزرادشتيين تدريجياً حتى أمرهم الشاه سلطان حسين بترک دیانتهم واعتناق الإسلام وأدی هذا الأمر، إلی قتل الكثير من الزرادشتيين في أصفهان ونزوح بعضهم إلى يزد (بويس، 182). وبعد هذه الحادثة، جاء دور الأفغان الذين دمروا «گبر محله» خارج سور المدينة خلال هجماتهم على كرمان، وارتكبوا المذابح بحق الزرادشتيين الساكنين فيها. ولكنهم قضوا بضع سنوات في أمان مع ظهور كريمخان زند وتخفيف عبء الجزية عنهم في كرمان، حيث كانوا حتى تلك الفترة يجبرون على دفع جزية المقتولين خلال هجوم الأفغان (سروشيان، 1 / 17).
وبعد الحكم الزندي، وفي العهد القاجاري، بلغ عدد الزرادشتيين في إیران أدنى مستوياته بسبب الاضطهاد والمضایقات والضغوط الاقتصادية (ظ: سروشيان، 1 / 36 ومابعدها: رسائل دعاوی الزرادشتیین في كرمان في العهد القاجاري). وفي هذه الفترة بعثت الجالیة الإیرانیة في الهند لمساعدة إخوتهم في الدين في إيران وتحسين أوضاعهم شخصاً يدعى مانكجي ليمجي هاتريا كممثل الى إيران. وقد نجح أخيراً بعد جهود حثیثة وتقديم هدايا كثيرة، وفي خلال عدة جولات من المفاوضات، في الحصول على موافقة ناصر الدين شاه لإلغاء الجزية وتأسيس مدرسة ومعهد تعليمي ومنح حريات أخرى للزرادشتيين في إيران وذلك في 1231ش / 1852م؛ كما أسس مانكجي جمعية تدعى «الجمعية الناصرية للزرادشتيين»، في يزد أولاً ثم في كرمان، كانت تتولى متابعة شؤون الزرادشتيين وحلّ مرافعاتهم. وبذلک تحسنت ظروف حياة الزرادشتيين في إيران شيئاً فشيئاً واستطاع هذا المجتمع أن یعوض عن بعض مظاهر التخلف السابقة (م.ن، 1 / 2-3؛ آذرگشسب، 101-107؛ دوشن غيمن، 251).

المصادر

   آذرگشسب، أردشير، مراسم مذهبي وآداب زرتشتيان، طهران، 1343ش؛ الاصطخـري، إبراهيم، ممالك ومسالك، تج‍ : محمد بن أسعد التستـري، تق‍ : إيرج أفشار، طهران، 1373ش؛ البلاذري، أحمد، فتوح البلدان، بيروت، 1407ه‍ / 1987م؛ پورداود، إبراهيم، إيرانشاه، بومباي، 1925م؛ البيروني، أبوريحان، الآثار الباقية، تق‍ : زاخاو، لايبزیغ، 1923م؛ تفضلي، أحمد، تاريخ أدبيات إيران پيش از إسـلام، تق‍ : ژاله آموزگار، طهران، 1378ش؛ زرين كوب، عبد الحسين، تاريخ زرتشتيان كرمان، طهران، 1370ش؛ شاردن، جان، سياحت ‌نامه، طهران، 1345ش / 1966م؛ الشهرستاني، محمد، الملل والنحل، بيروت، 1367ه‍ / 1948م؛ صفا، ذبيح الله، تاريخ علوم عقلي در تمدن إسلامي، طهران، 1356ش؛ الطبري، تاريخ؛ معين، محمد، مزديسنا و تأثير آن در أدبيات پارسي، طهران 1346ش؛ المقدسي، محمد، أحسن التقاسيم، بيروت، 1987م؛ واله، پیترو دلا، سفر‌نامه، تج‍ : شجاع الدین شفاء، طهران، 1358ش؛ يوزبكي، توفيق سلطان، تاريخ أهل الذمة في العراق، الرياض، 1983م؛ وأيضاً:  

Amoretti, B. S., »Sects and Heresies«, The Cambridge History of Iran, vol. IV, ed. R. N. Frye, Cambridge, 1975; Boyce, M., Zoroastrians, London, 1979; Browne, E.G., A Literary History of Persia, Cambridge, 1951; Bulliet, R. W., »Emergence of Muslim Society in Iran«, Conversion to Islam, ed. N. Levtzion, New York, 1979; Danner, V., »Arabic Literature in Iran«, The Cambridge History of Iran, vol. IV, ed. R. N. Frye, Cambridge, 1975; De Menasce, J., »Zoroastrian Literature after the Muslim Conquest«, ibid; Dennett, D. C., Conversion and the Poll Tax in Early Islam, Cambridge, 1950; Dhalla, M. N., History of Zoroastrianism, Bombay, 1963; Duchesne-Guillemin, J., Religion of Ancient Iran, tr. K. M. Jamasp Asa, Bombay, 1973; Fitter, K. A., »The Post-Sassanian Parsi Immigration into India«, Poure Davoud Memorial Volume, Bombay, 1951, vol. II: Nasr, H., Science and Civilization in Islam, Massachusetts, 1968. 
فاطمة لاجوردي / خ.


VII. التصوف والعرفان 

لاتنفصل دراسة المسيرة التاريخية للتصوف والعرفان في إيران، عما طرأ علی الثقافة والحضارة الإسلامیتین. وقد وردت هذه المواضيع تحت عنوان «العرفان والتصوف» في مقالة الإسـلام (ظ: ن.د، 8 / 467-485). ویتم هنا تقدیم صورة عامة عن مسيرة التصوف والعرفان في إيران، وللاطلاع أكثر على كل من المواضيع والعناوين الفرعية يمكن الرجوع إلى مقالة العرفان والتصوف في الإسلام. 
يعتبر التصوف والعرفان من أرقی المظاهر الثقافية للحضارة الإيرانية والإسلامية ولكن من الصعوبة بمكان تقديم تعريف دقيق وجامع وشامل لهما، ویتعذر تبیین ماهيتهما تقريباً (نیکلسون، 25؛ العبادي، 29؛ شيمل، 17). كما أنّ الآراء تتضارب بشأن اشتقاق اسم الصوفية (نولدكه، 45ff. ؛ همائي، 63-82) ويبدو أن الوجه الصحيح لاشتقاقه هو النسبة إلى لفظة الصوف والصوفیة کانوا یلبسون ثیاباً من الصوف (ظ: القشيري، 126؛ سراج، 21؛ السهروردي، عمر، 59).
بدأت المراحل الأولى من التصوف في الإسلام بالتزهد والتجرد والابتعاد عن الأغراض والآمال الدنيوية واتباع أسلوب حياة أصحاب النبي الأعظم (ص)، واكتسب تدريجياً الأبعاد والجوانب النظرية في القرنين 3و4ه‍ / 9و10م بظهور أشخاص مثل بايزيد البسطامي، ذي النون المصري، الجنيد البغدادي والحسين بن منصور الحلاج. وقد توسعت هذه الخصوصية في القرون التالية وتحولت إلى تيار فكري وثقافي واسع النطاق أدى إلى تأسيس مذاهب وطرائق مختلفة، وترک تأثيراً واسعاً كل السعة في حياة الناس الأخلاقية والدينية، وفي الحياة الاجتماعية للطبقات المختلفة بسبب تغلب الأحوال والعوامل العاطفية والتأكيد على الباطن وحقيقة الأعمال والآراء العقائدية وتأسيس أساليب السلوك الروحي وطرائقه. 
ويبدو من الأقوال التي ذكرت في التباین بين العالم والعارف، أن العرفان لا يقف مقابل زهد أهل التقالید فحسب، بل وفي مقابل علم أهل التقالید أیضاً؛ ذلك أن علم أهل العرفان يقوم على الكشف والوجدان وأساسه التزكية وتهذیب النفس (ظ: المولوي، الکراس 1، البيت 3467 ومابعده؛ زرين كوب، سرّ ني، 780-782). وفي الحقيقة فإن الکمال المطلوب لأهل العرفان هو التخلق بأخلاق الله والتجرد عما سواه. ولذلك كان الحكماء الإشراقيون يرون أنفسهم قريبين من التصوف والمبادئ العرفانية وحتى اعتبر بعض المتصوفین ومشايخ الصوفية مثل بايزيد البسطامي وسهل التستري في عداد الحكماء الحقيقيين (السهروردي، يحيى، 503). وعلى أي حال، فإن الباحثین یعتبرون العلاقة بین التصوف والعرفان من نوع علاقة الخصوص والعموم فالتصوف أعمّ حسب رأیهم (عزالدين، 80-81 ؛ قا: الجامي، 12-17). ولكن هناك نوعاً من التمايز في حقيقة هذين اللفظين ومعناهما رغم أنهما يتلازمان ويتقاربان ويمكن اعتبارهما بعدین متمايزين لنوع من الحياة الدينية، حيث يتضمن كلاهما الإعراض عن متاع الدنيا ويقومان على تزكية النفس، ولكن التصوف يميل إلى العمل فيما يميل العرفان إلى العلم والنظر؛ وقد كان أهل الخانقاهات وغالبية المشايخ الكبار يجمعون بين كلا البعدین. 
ويشترك الصوفية في المبادئ العامة ووجهات النظر المشابهة بشأن إسناد الخرقة والسلوك في المقامات بالرغم من اختلافهم في الجزئيات، ويعتبرون في الغالب الإمام علیاً (ع) مرشدهم وإمامهم، ويلقبونه «آدم الأولياء» («منتخب ... »، 281). ومن الطرائق التي نسبت إرشادها إلى الإمام علي (ع)، یمکن أن نذکر الكبروية والهمدانية والنوربخشية والذهبية والنعمة اللهية وبعض مشايخ المولوية (ظ: معصوم عليشاه، 1 / 263؛ غولبينارلي، 236، 244، 254-256، 261-264)؛ وذهب البعض مثل علاء الدولة السمناني إلی أن المشایخ والأولیاء الذین لاینسبون طریقتهم إلى الإمام علي (ع) لایستحقون الاتباع (ظ: «منتخب»، ن.ص؛ أيضاً الخوارزمي، 1 / 32). وبالطبع، فإن الروايات المروية عن الأئمة (ع) لاتؤيد هذا الارتباط، ولكن بالنظر إلی منزلة أصحاب الإمام علي (ع) مثل كميل وسلمان وأويس القرني عند الصوفیة وشهرة انتساب بايزيد البسطامي إلى الإمام الصادق (ع)، والشقيق البلخي إلى الإمام الكاظم (ع) ومعروف الكرخي إلى الإمام الرضا (ع) فإن التصوف اقتـرب تدریجیاً مـن التشیـع (ظ: مولـه، «الكبرويـة ... »،  61ff..؛ قا: كوربن، III / 149ff.). وقد أنكر المحققون مـن علماء الشيعة أي علاقة تربط مشايخ الصوفية بالأئمة (ظ: القمي، 2 / 56-64). ولكن لايمكن على أي حال إنکار تأثير التشيع على التصوف وتوجد في هذا المجال شواهد وقرائن كثيرة (ظ: موله، «العرفاء ...»، 50-46).
اجتاز تاريخ التصوف والعرفان خلال مسيرة تطوره عدة مراحل. وقد كانت هذه الحركة الفكرية والدينية تسعى في البدء إلى أن تنفذ في المجتمع عبر الاستناد إلى الباطن وحقيقة الأمور والأعمال الدينية وتحتل مكانها بين المذاهب الإسلامية. وفي المرحلة الأخرى، اضطرت خلال مواجهتها لمعارضات أهل الظاهر، إلی أن یوفق بشكل ما بين الطريقة والشريعة من أجل بقائها وإنقاذها من سوء الظن واتهامات من كانوا يصورونها على أنها تيار يخالف الشرع. وكانت المرحلة الأخيرة من هذا المشوار تتمثل في إیجاد الطرائق وتأسیس الخانقاهات وتأليف الآثار التعليمية والتمثيلية البديعة، التي خلفت للمجتمع الإسلامي في أرجاء العالم تراثاً ثقافياً ومعنوياً كبيراً وقيماً. 
ظهر التصوف عند المسلمين منذ عهد الصحابة ثم التابعين، ومما أدی إلی انتشاره هو الإعراض عن التنعم بالحیاة الرغیدة التي کانت قد ظهرت على أثر الفتوح الإسلامية، وأما اعتبار أحوال الزهبان المسيحيين والصديقين المانويين والمتقشفین الهنود، مؤثرة في نشر الزهد بين المسلمين (ماسينيون، 80-45)، فلا يقوم، إلا على الحدس والظن فلا تبدو وجوه الشبه والتقارب، بینها، سوى من باب التشابه والتوارد (ظ: زرين كوب، أرزش ... ، 28- 29). ويسند الصوفية جميع حالاتهم ومقاماتهم إلى الآيات والأحاديث النبویة وإن اتباع سنة رسول الله (ص) والالتزام بسيرته في اجتناب الحطام الدنيوي، والاحتراز من التجرد والرهبانية التي يسميها الصوفية «الفقر المحمدي» في مقابل الفقر العيسوي، بل وحتى خلفیة لبس الصوف بين الصحابة والتابعين، كل ذلك يمثل ملاحظات وحقائق تبطل آراء بعض الباحثين المعاصرين الذين اعتبروا التصوف الإسلامي محاکاة للزهد والرهبانية المسيحية، أو رد فعل للروح الآرية إزاء الروح السامية، أو عوامل أخرى من هذا النوع. 
كان مشايخ الصوفية، في القرون الأولی مثل أبي الحسن الخرقاني وأبي سعيد أبي الخير منشغلين بالتعليم والإرشاد في مجالسهم وحلقاتهم المحدودة، عن طريق الوعظ والنقل وكانوا أحياناً ينشغلون بالدعوة وتلقين الأحوال العرفانية في الأجواء الروحية والوجدية للذكر والسماع. ولقد ازداد بعد ذلك وعلی مر الزمن عدد الفرق والطرائق الصوفية وظهرت السلاسل والطرق المختلفة في الخانقاهات ونشأت الدرجات والمراتب الخانقاهية واستمرت سلسلة المشايخ على شكل توالي الطبقات. ولقد کان کبار متصوفة الطبقات الست من الإيرانيين مثل الحارث المحاسبي، بايزيد البسطامي، أبي الحسين النوري، سهل بن عبد الله التستري، محمد بن علي التستري، محمد بن علي الترمذي، ممشاد الدينوري، مرتعش النيسابوري، أبي بكر بن يزدانيار، أبي بعقوب النهرجوري، أبي منصور المعمر الأصفهاني، أبي الحسن الخرقاني، أبي سعيد أبي الخير، أبي القاسم القشيري، خواجه عبد الله الأنصاري، أبي إسحاق الكازروني، وأحمد جام. وبالإضافة إلی ذلک فإن الطرائق الكبيرة والمعروفة مثل السهروردية والكبروية القادرية والمولوية والجشتية والنقشبندية والنوربخشية والذهبية والنعمة اللهية قد تأست في إیران أو كان مؤسسوها وشخصياتها البارزة والمؤثرة من الإيرانيين. 

الصفحة 1 من62

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: