الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / أرسطو /

فهرس الموضوعات

أرسطو

أرسطو

تاریخ آخر التحدیث : 1443/3/27 ۱۳:۴۱:۰۰ تاریخ تألیف المقالة

ویجدر هنا أن نتناول مایسمی لدی أرسطو الماهیة. إن إحدی سمات أرسطو هي أنه یحاول استخدام شتی إمکانیات اللغة الیونانیة لإیضاح مفاهیمه و أفکاره بشکل دقیق. فلأجل التعبیر عما یسمی عادة الماهیة، صنع ترکیبَ to tie n einai. وقد ترجم أوائل المترجمین العرب هذا المصطلح الوارد في کتابات أرسطو المنطقیة و کذلک الطبیعیة، إلی «الماهیة» في الغالب، لکنهم ترجموه في بعض الأحیان أیضاً إلی «الإنیِّة» و «إنِّیة الشيء» و «ماهو بالإنِّیة» و «ما هو الشيء» و «الهویة»، ولایوضّح أي منها مایعنیه أرسطو بشکل دقیق. وقد ورد في موضع واحد مقابل هذا الترکیب: «ماهو وجود الشيء في نفی جوهره»، وذلک شيء جدید (ظ: أرسطو، المنطق، 2/ 374، في ترجمة أبي بشر متی بن بونس، مما ترجمه إسحاق بن حنین من الیونانیة إلی السریانیة، أیضاً «التحلیلات الثانیة»، الکتاب I، الفصل 22، الورقة 82b، السطر 38). ولایعثر في اللغة العربیة علی احتمال آخر لترجمتها. وفي التعبیر الأرسطي تعطي هذه العبارة بشکل عام معنی: «ما کان یکون وجود ذلک الشيء».

کما أن مصطلح الماهیة لایعطي المعنی الدقیق، لما أراده أرسطو لتبیان هذا المفهوم، لکن یمکن التساؤل الآن لماذا رکّب أرسطو هذا المصطلح لتبیان الماهیة، بینما یستخدم هو في الغالب کذلک تعابیر مثل to ti estin، أي «الماهیة» و ti estin و تعني «ماهو الشيء»؟ و کما رأینا فإن کل موجود متعین هو موضوع مرکب من مادة وصورة یمکن تجزأته إلی هذین الجزأین بعد مشاهدته؛ لکن عندما نرید تعریف ذلک الموجود من حیث المفهوم و المنطق، نستعین بمفهومي المادة و الماهیة. فنظر إلی الصورة و نعل ماذا کان ذلک بشکل دائم في الماضي، وماهو الآن. وعلی حد تعبیر أرسطو: أقصد بالصورة ما کان یکون (أو ماهیة) کل مفرد والجوهر (أوسیا) الأول («المیتافیزیقا»، الکتاب VII، الفصل 7، الورقة 1032b، السطر 1، الترجمة، 226). وإن معرفة کل مفرد هي معرفة ماهیته (نفس الکتاب، الفصل 6، الورقة 1031b، السطر 20، الترجمة، 223).

وأنموذج أرسطو، التراکیب و الإبداعات الفنیة. فکل فنان، أو صانع یستخدم مادة، أو مواد موجودة من قبل و یمنحها صورة محددة و خاصة؛ والصورة هي التي تمنح في کل حالة، الشکل لشيءٍ بمواصفاته. وعلی هذا یمکن القول إن ذلک الشيء کان الصورة الموجودة مسبقاً في ذهن، أو فکر الفنان، أو الصانع قبل أن یضفي علیه الحقیقة و الواقعیة بعمله. فالمهندس مثلاً کانت صورة البیت في ذهنه من قبل، و کان علی معرفة بما کان یکون علیه البیت. وانطلاقاً من هذا یقول أرسطو: إن مبدأ الأشیا المصنوعة هو في الصانع نفسه الذي هو، إما عقل، أو فن (ن.م، الکتاب VI، الفصل 1، الورقة 1025b، السطر 23، الترجمة، 194). وعلی حد تعبیر أرسطو، فإن الشيء الذي له مادة وینتج عن شيء بلامادة، هو فن هندسة صورة البیت (ن.م، الکتاب VII، الفصل 8، الورقة 1032b، السطر 14، الترجمة، 227-226).

وفي الطبیعة أیضاً یمکن بشکل آخر العثور علی «ما کان یکون علیه». فمثلاً الشجرة مرکبة من مواد مع صورة کانت کامنة في بذرتها، أو في الشجرة الأم، قبل أن تودع مرة أخری في البذرة. وإن ماکان کامناً فیها هو صورة تلک الشجرة. فوجود النوع، أو الصورة في تلک البذرة کان فیها بشکل دائم. إذن یمکن التساؤل: ماذا کان یکون؟ إي ماذا کان یکون في وجوده النوعي المستمر في مقابل ماهو الآن «ماهو الشيء»؟ ولهذا یعدّ أرسطو التعریف، أو الحدّ بیان ما کان، أو بحسب المصطلح ماهیة کل موجود. و بدورها الصورة المقدمة في الأشیاء الطبیعیة و في المصنوعات الفنیة للإنسان هي الصورة التي یعدّها أرسطو واحدة مع الماهیة.

علم الکونیات: صوّر أرسطو رؤیته الکونیة بادئ الأمر في کتابه «في المساء» ومن ثم في الکتاب 12 من مؤلفه مابعدالطبیعة. ولاینبغي لنا أن نتوقع العثور في مؤلفه الأول علی رؤیة کونیة قائمة علی أسس علمیة دقیقة. وإن مایتصف نوعاًما بطابع علمي مما هو وارد في الکتب الأربعة من ذلک، هو مجموعة مشاهدات أولیة و عدد من الاستدلالات الریاضیة و الفیزیائیة، أما مابقي فهو نتاج حدوس و تخمینات مبالغ فیها.

وفي مؤلفه «في السماء» یحاول أرسطو أن یقدم عن العالم صورة هي علی النقیض تماماً من رؤیة أفلاطون الکونیة الواردة في محاورة طیماوس. فالعالم بأسره من وجهة نظر أرسطو ینقسم إلی قسمین: العالم العلوي، وهو العالم الذي فوق فلک القمر، و العلام السفلي و هو العالم الذي تحت فلک القمر. والمحور الرئیس لرؤیة العالم لدی أرسطو هو مقولة الحرکة. وللحرکة ثلاثة أنواع فقط ممکنة: الحرکة المباشرة من المرکز نحو المحیط، الحرکة المباشرة من المحیط نحو المرکز، الحرکة المستدیرة حول المرکز. و من جهة أخری فإن کل حرکة مرتبطة بجسم معین. وعلی هذا، فإن الأشکال الثلاثة للحرکة مرتبطة بثلاثة أجسام کل واحد منها له هذه الحرکة بشکل ذاتي و طبیعي: الحرکة الطاردة (الطرد من المرکز) و هي خاصة بالنار، الحرکة المتوسطة (نحو المرکز) و هي خاصة بالأرض، الحرکة المستدیرة لجسم خاص یدعوه أرسطو «الجسمَ الأول» و هو غیر التراب و النار والماء و الهواء و یسمیه الأثیر. ویقع الأثیر في أعلی منطقة من العالم، ویشتق أرسطو اسمه من جذر کلمة یونانیة تعني استمراریة الرکض، وهي التي عُرفت فیما بعد بالجسم، أو الجوهر الخامس. والحرکة المستدیرة لیس لها أي نقیض. و علی هذا فهي سرمدیة. وکل واحد من العناصر في حرکة لیصل موضعه الخاص ویستقر فیه. لکن المکان الطبیعي للأثیر لیس في أي نقطة من دائرة مداره، بل جمیعها و هو علی الدوام في حرکة داخل تلک الدائرة، وبهذا فهو سرمدي. الأرض ساکنة و تقع في مرکز العالم، کما أن السماء والعالم واحد جاءا غیر ظاهرین، غیر قابلین للفناء، لابدایة لهما ولانهایة، و بذلک فهما سرمدیان.

یقسم أرسطو العلام کله إلی ثلاث طبقات: في الطبقة السفلی تتموضع العناصر الأربعة التي تتصل مع بعضها علی الدوام و بالتناوب، وتتداخل ببعضها و تصنع الأشیاء القابلة للتغیر. وجوّ الطبیعة هذا هو الذي تصل حدوده إلی ماتحت فلک القمر. والطبقة التي تعلوه هي فلک الثوابت. والمجال الفاصل بین القمر و فلک الثوابت ملآن بالأثیر، أو العنصر الخامس الذي یواصل دورانه بشکل سرمدي. ومابعد کل ذلک، وفي الجانب الآخر من العالم والمکان و الزمان، یضع أرسطو «أول محرِّک یر متحرک» الذي هو الله لدیه.

علم النفس: إن أهم منجزات أرسطو الفلسفیة، معلوماته في علم النفس، وإن واحداً من أبرز آثاره مؤلَّفه «في النفس». و ترکیب الکتب الثلاثة التي یضمها هذا المؤلَّف لیست علی نَسَق واحد، ولم‌یکن أرسطو نفسه قد نظمها بنیة نشرها علی شکل مؤلف منقح، و هذا هو السبب في اتقارها إلی الترابط و الانسجام المنطقي. وهذا المؤلَّف هو مجموعة من النصوص و الطروح والمذکرات التي کان أرسطو قد أعدها بهدف تدریسها لتلامذته و قد جمعت بشکل یمکن معه العثور فیها علی نظم وترتیب إلی حد ما، لکننا لانعلم ما إذا کان شکلها الحالي من عمل أرسطو نفسه، أو تلامذته من بعده؛ أو بشکل خاص عمل منقح آثاره أندرونیقوس الرودسي. وعلی أیة حال، فإن الاحتمال قائم بأن التناقضات التي تلاحظ هنا و هناک في هذا المؤلف کانت نتیجة تنقیح أحد تلامذة أرسطو، أو أتباعه.

علینا أن نتذکر دائماً أن هذا المؤلف هو علم نفس فلسفي. وأرسطو الذي کان قد ظهر من داخل مدرسة أفلاطون کان له منذ شبابه اهتمام وولع بقضیة الروح والنفس، ذلک أن قضیة النفس کانت تحظی في فلسفة أفلاطون بأهمیة خاصة. وکان علم النفس لدی أرسطو بدوره قد تبلور داخل الفلسفة الأفلاطونیة و في خضم الصراع معها. کان أرسطو إبان شبابه – و هو لما یزل عضواً في أکادیمیة أفلاطون کما أسلفنا – قد نشر أول کتاباته بأسلوب أفلاطوني علی شکل محاورة. وأحدها محاورة تحت عنوان إودیموس (کان إودیموس أحد زملاء أرسطو وأصدقائه الشباب الأعزاء جداً، قُتل حوالي سنة 354 أو 353 ق.م في إحدی المعارک). وقد کتب أرسطو تلک المحاورة التي سمیت أیضاً «في النفس» حوالي سنة 352 ق.م وفاءً لذکری ذلک الصدیق. وکان أنموذجه الذي احتذاه هو محاورة فیدون لأفلاطون التي کان قد کتبها قبل 30 سنة، أو أکثر.

ففي هذه المحاورة، یعدّ أرسطو الروح، أو النفس جوهراً غیر مادي تظل تعیش بعد موت الجسد. والروح بعد الموت أکثر طبیعیة و سعادة إذا ماقورنت بحیاتها الأرضیة. والروح خالدة ولاتموت، کما کانت موجودة أیضاً قبل التحاقها بالجسد. والروح التي هي شکل من أشکال الصورة بمعناه الأرسي تتمتع بالتذکّر، أي أنه تتذکر ماجرّبته خلال أسرها في سجن الجسد في هذا العالم و ماجری علیها، بینما تنسی بعد التحاقها باجسد ما کان قد مرّ علیها في العالم الآخر (حول هذه المحاورة، ظ: ییغر، الفصل 3؛ کروست، ج I، الفصل 5).

من جهة أخری، فإن أرسطو و خلال مسیرة تحول و تطور نظرته الفلسفیة للعلم في جمیع المجالات ومنها في علم النفس، کان قد توصل إلی أفکار و نظریات تختلف تماماً عن نظریاته السابقة. ویحتمل أن‌یکون أرسطو قد أنتج کتاباته في علم النفس – و منها «الطبیعیات الصغیر» و «في النفس» - خلال الفترة الواقعة بین 347-334 ق.م، ففي هذا البرهة من الزمن کانت نظرته للعالم قد تغیرت تماماً. وقد تملکته خلال ذلک رغبة ملحة في موضوعات مثل علم الأحیاء و علم الحیوان، وکان قد أنتج آثاراً مهمة جداً في هذین المجالین تتضمن برغم الأوضاع والإمکانیات و حدود علمه في تلک الفترة، أبحاثاً موسعة ذات قیمة عالیة بحیث کانت هذه الکتابات في الفترات التالیة موضع اهتمام و بحث فاق الاهتمام بکتاباته الأخری.

یربط أرسطو علم النفس بمعرفة الطبیعیة بشکل کلي، فضمن إشارته إلی أنکل معرفة جمیلة و قیمة، لکن بعض أنواع المعرفة هو أجمل وأکثر قیمةً من حیث الدقة، أو من حیث کونه یفضي إلی أشیاء أکثر عمقاً، یقول: مع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الأمر بنبغي أن نضع البحث في النفس في عداد أوائل العلوم. و من جهة أخری، ومع الأخذ بنظر الاعتبار کل الحقیقة، یمکن أن‌یکون لمعرفة النفس دور أکبر في معرفة الطبیعة، ذلک أن النفس تعدّ بمثائبة الأصل، أو المبدأ للکائنات الحیة («في النفس»، الکتاب I، الورقة 402a، السطور 1-7). و من وجهة نظر أرسطو فللطبیعة تسلسل منتظم؛ یبدأ من الجمادات و یصل تدریجیاً إلی الحیوان بشکل یختفي معه الحدّ بین کل واحدة منها وکذلک الواسطة بینها، ذلک أنه بعد جنس الجمادات یأتي جنس النباتات التي یوجد بینها أیضاً اختلاف کثیر من حیث الاشتراک في الحیاة. والانتقال من النباتیة إلی الحیوانیة أیضاً یظهر هو الآخر ترابطاً، ذلک أنه وکما یقول أرسطو: توجد في البحر أشیاء یمکن أن نسأل عما إذا کانت حیواناً، أم نباتاً («تاریخ الحیوان»، الکتاب VIII، الفصل 1، الورقة 588b، السطور 4-13).

والجسم الحيّ هو ذلک الشيء الذي له في ذاته مبدأ الحرکة والسکون («في النفس»، الکتاب II، الفصل الورقة 412b، السطر 17). لکن الحیاة تطلق علی معانٍ شتی. والشيء الموجد یسمی حیاً عندما یتمتع بجمیع، أو بعضه هذه الخصائص: التفکیر، الإدراک الحسي، الحرکظ والسکون في المکان، الحرکة للحصول علی الطعام، الزیادة والنقصان (نفس الکتاب، الفصل 2، الورقة 413a، السطور 21-25). والآن ولأجل الحصول علی تعریف للنفس، أو الروح یبدأ أرسطو من نظریته المبدئیة التي مفادها أن الجواهر هي من أجناس الموجودات، ومن بینها واحدة هي المادة والأخری الصورة یسم کل موجود بموجبهما «هذا الشيء»، والثالثة مرکبة من کلیهما. و کما رأینا فإن المادةَ قوةٌ؛ والصورةَ فعلیة و کمالُ التحقق. والأجسام – و بشکل خاص الأجسام الطبیعیة – هي أکثر ماتکون جواهرَ، ذلک أنها أصول لأشیاء أُخَر. ومن بین الأجسام الطبیعیة یکون بعضها ذا حیاة، والبعض الآخر فاقد للحیاة. وکل جسم طبیعي له نصیب فيالحیاة ینبغي أن یکون جوهراً مرکباً من مادة و صورة. لکن لما کان هذا الجسم الطبیعي شکلاً خاصاً من الجسم، أي أن له حیاة لکنه بذاته لیس روحاً، أو نفساً، إذن ینبغي أن یُتصور کموضوع، أي مادة للنفس. ولی هذا، فمن الضروري أن نعدّ النفس جوهراً کصورة لجسم طبیعي ذي حیاة بالقوة (نفس الکتاب، الفصل 1، الورقة 412a، السطور 3-21). و لهذا یعرّف أرسطو النفس علی النحو التالي: هي أول بُلوغ للکمال یحققه الجسم الطبیعي ذوالحیاة بالقوة (نفس الورقة، السطر 28)، لکن هذا الجسم الطبیعي یجب أن یکون جسداً، أو بدناً، أي جسماً له هیئة، ترابطت أجزاؤه بسببٍ ولأجل هدف محدد، و هي أدوات معینة لأنشطة خاصة. وبذلک یقدم أرسطو للنفس تعریفاً أتم: کمال أول للجسم الطبیعي الآلي (نفس الفصل، الورقة 412b، السطر 5).

ویمکن هنا التساؤل: ما هي علاقة النفس بالجسد؟ لایجد أرسطو البحث عما إذا کانت النفس و الجسد کلاهما واحداً، أمراً ضروریاً؛ ذلک أن هذا السؤال یشبه السؤال: تری هل أن الشمع والنقش الي یُنقش فیه هما واحدٌ؟ أو بصورة عامة تری هل أن مادة کل «شيء» هي نفسها ذلک الشيء، و هي و إیاه واحدٌ؟ (نفس الورقة، السطور، 6-8). لکن أرسطو یری من جهة أخری أن جمیع انفعالات الروح – مثل الغضب، الرفق، الخوف، الشفقة، الشجاعة، لسرور... – مرتبطة بالجسد و یقول: إن هذه الإنفعالات هي تغیرات في المادة، أي في الجسد (ن.م، الکتاب I، الفصل 1، الورقة 403، السطر 16 ومابعده). ومن جهة أخری، فبرغم أنه لایمکن للروح أن یکون لها وجود من غیر الجسم، فهي بذاته لیست جسماً، لکنها مرتبطة بالجسم و موجدة فیه (ن.م، الکتاب II، الفصل 2، الورقة 414a، السطور 20-22).

وللنفس قوی یوجد بعضها في جمیع الأحیاء، والأخر في بعضٍ منها، کما أن البعض الآخر لایوجد إلا في نوع منها. وهذه القوی عبارة عن: الغاذیة، الرغبة أو الشهوة، الإحساس، الحرکة في المکان، القوة المفکرة (نفس الکتاب، الفصل 3، الورقة 414a، السطر 31).

وعندها ینبري أرسطو للبحث في کل واحدة من الحواس و موضعاتها، ثم یتناول القوی الخاصة بالإنسان: الأولی هي الإدراک الحسي الذي هو اکتساب صورة المحسوسات دون مادتها کما أن الشمع یکتسب صورة النقش دون مادته کالحدید، أو الذهب (نفس الکتاب، الفصل 12، الورقة 424a، السطر 18). والأخری قوة التخیل والخیال، أو التوهم الذي هو حرکة ناجمة عن إدراک حسي بالفعل. ولما کان ثابتاً وکالإدراکات الحسیة، فإن الأحیاء تعمل بموجبه (ن.م، الکتاب III، الفصل 3،الورقة 429، السطر 2). وعمل الحس فیما هو خاص به صحیح علی الدوام، إلا أن التفکیر یمکن أن یکون خاطئاً. والخیال، أو التخیل غیر التفکیر. فلا وجود للخیال من غیر الإدراک الحسي، کما أن الظن لایحصل هو الآخر من غیر التخیل. لکن من الواضح أن هناک فرقاً بین التفکیر و الظن، ذلک أن التفکیر هو قوة انفعالٍ متی ما اخترناه، بینم حمل المعتقدات لاخیار لنا فیه لأننا مضطرون لأن نؤمن سواء أکن هذا الإیمان صواباً، أم خطأً. وفي الخیال، أو التخیل نشبه متفرجین ینظرون إلی صورة مرعبة، أو مشوِّقة. إذن فالتخیل هو الحالة التي تظهر من خلالها فینا تصورات، أو أشباح، و لیس هو قوة، أو قابلیة نستطیع بمعونتها الحکم علی الأشیاء خطأً، أم صواباً؛ بینما الإدراک الحسي والتصدیق و المعرفة و العقل هي من هذه القوی. و التخیل لیس إدراکاً حسیاً، لأن الإدراک الحسي، إما أن یکون بالقوة، أو بالفعل، مثل الإبصار والرؤیة، لکن التخیل هو شيء یحصل دون وجود کلا الاثنین، و ذلک مثل الأشیاء التي تظهر في الأحلام. ومن جهة أخری، فإن الإدراک الحسي موجد دائماً، بینما التخیل لیس کذلک (نفس الفصل، الورقة 427b، لسطر 10، الورقة 428a، السطر 9). ویعدّ أرسطو أبرز خصئص الإنسان هو «الروح العقلیة، أو الفکریة» التي یسمیها بشکل مختصر «العقل».

وبحث العقل هو أهم أقسام علم النفس لدی أرسطو و أشدها تعقیداً، وکان منذ القدم وإلی یومنا هذا مثاراً لدراسات متنوعة وتفاسیر متناقضة أحیاناً. ففي موضع یعدّ أرسطو النفس، أو الروح ذات قسمین: قسم عاقل و آخر غیر عاقل. والقسم العاقل بدوره علی نوعین: أحدهما یجعلنا نضع في اعتبارنا الموجودات التي لایمکن لمبادئها أن تتغیر، والآخر یجعلنا نضع بواسطته الأمور التي هي عرضة للتغیر. ونسمي أحد هذین الاثنین «المدرِک»، والأخر «الحاسب»؛ ذلک أن التعداد والاستشارة هما واحد. وتوجد في الروح 3 دوافع للفعل و معرفة الحقیقة: الإحساس و العقل و الشهوة («الأخلاق إلی نیقوماخوس»، الکتاب VI، الفصل 2، الورقة 1139a، السطور 5-19).

ومن جهة أخری، فإن العقل الذي هو میزة الإنسان، له شکلان من أشکال النشاط: الأول کالعقل النظري، أو المدرک الذي یبحث عن الحقیقة لنفسها؛ والاخر کالفهم، أو التفکیر العملي الذي هدفه بلوغ الأهداف العملیة و ذات المنفعة. ومن جهة أخری فللعقل خصلتان مانحة ومتلقیة، ویسمي أرسطو إحداهما العقل الفاعل و الآخر العقل المنفعل. وکما مرّبنا، یعدّ أرسطو الروح وانفعالاتها مرتبطة بالجسد، تری هل أن العقل شيء مرتبط، أي أحد الانفعالات النفسیة، أم أنه شيء مستق. یقول أرسطو في موضع: حتی الآن لایوجد شيء واضح حول العقل والقوة المفکرة، لکن یبدو أنه جنس آخر من الروح، و هو الوحید الذي یستطیع أن یکون مستقلاً، وکما هو الحال فیما هو سرمدي، فإنه منفصل عما هو قابل للفناء؛ و الواضح أن الأقسام الأخری للروح (من الجسد) لیست – کما یقول البعض – منفصلةً؛ لکن الواضح أنها من حیث المعنی أشیاء أخری («في النفس»، الکتاب II، الفصل 2، الورقة 413b، السطور 25-30).

وکما أشرنا فیما مضی، فإن نظریة العقل في علم النفس لدی أرسطو ممزوجة بتعقیدات و صعوبات شغلت بال المفسرین منذ القدم. و یتضح من استدلالات أرسطو حول القوی الأخری للنفس أنه یعدها جمیعاً مرتبطة بالجسد، لکنه حین یصل إلی قضیة العقل یستثنیه من هذا المبدأ الکلي. ومن هنا یأتي الغموض الذي یوجد في أقواله. و یخصص أرسطو الفصلین 4 و 5 من الکتاب 3 «في النفس» لقضیة العقل. وکلا هذین الفصلین قصیر و مضغوط. والمثیر للدهشة هو أنه کیف یکتفي أرسطو بالاختصار بهذا الشکل في قضیة مهمة کهذه؟

الصفحة 1 من12

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: