الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / الأخلاق /

فهرس الموضوعات

الأخلاق

الأخلاق

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/22 ۲۳:۵۴:۳۱ تاریخ تألیف المقالة

أولی مدارس التعلیم الأخلاقي

إن الآثار و المؤلفات المتبقیة من القرنین الهجریین الأولین قلیلة جداً و متناثرة، و سیکون الحدیث عن المدارس الأخلاقیة في تلک الفترة أمراً عسیراً جداً لضآلة المعلومات و قلة الدراسات بهذا الشأن. و مهما یکن، فاستناداً إلی المعلومات الضئیلة یمکن رسم الخطوط العامة السائدة في التعالیم الأخلاقیة خلال هذه الفترة الأولی، اعتماداً علی الأقالیم من جهة، و علی مدارس فکریة معینة من جهة أخری:

 

ألف– دراسة إقلیمیة للنزعات

1. التعلیم الأخلاقي في الحجاز

المدینة

طوال القرن الأول الهجري کان في المدینة إلی جانب مدرسة أهل‌البیت (ع) (ظ: القسم ب، رقم 1 في هذه المقالة)، مدرسة من العلماء غیر الشیعة اشتهر في التاریخ سبعة من البارزین فیها باسم الفقهاء السبعة. و کانت الرؤیة الفقهیة تهیمن علی تعالیم هذه المدرسة و یستند فیها إلی الورع الفقهي الذي هو أداء الواجبات الدینیة و تجنب المحرمات الشرعیة (ظ: أبونعیم، 2/ 162). و من بین هؤلاء الفقهاء، لم‌یکن سیعد بن المسیب یولي اهتماماً کبیراً لکثرة العبادة، بل کان یوصي بالتفکر و التدبر (ن.ص)، إلا أن استمرار أبي‌بکر بن عبدالرحمان – الفقیه الآخر من هذه المدرسة – علی التعبد و الزهد في الدنیا قد بلغ حداً أن دُعي معه راهب قریش (م.ن، 2/ 187). و في القرن 2 هـ/ 8م أیضاً کان فقهاء المدینة مثل أبي حازم سلمة بن دینار و ابن أبي ذئب و کذلک مالک ابن أنس - و علی نفس نسق التعالیم التقلیدیة لأهل المدینة في الزهد و النسک – یعارضون بشدة الزهد في التمتع بالدنیا، و کان لهم تفسیر فقهي للزهد و الورع (ظ: الدمیري، 2/ 317–318). و في الحقیقة فإن المدینة حافظت علی مدی هذین القرنین و إلی فترة بعدهما علی تعالیمها التقلیدیة ولم تتوفر هناک الأرضیة المناسبة لازدهار النظریات الأخلاقیة. و رغم أن هذه البیئة کانت تمیل إلی التقلید بشدة في مواجهة النظریات الجدیدة، لکنها کانت تبدي مرونة في تقبل أسالیب الوعظ و التعالیم الأخلاقیة، و کان أسلوب وعظ القصّاص في حقیقته قد اتسع في مساجد المدینة أواسط القرن الأول الهجري خلال فترة قصیرة جداً بعد ظهوره. و کان أبوحازم سلمة بن دینار فقیه المدینة التقلیدي نفسه هو من بلغ بأسلوب القصص في المدینة ذروته (للاطلاع علی مواعظه، ظ: أبونعیم، 3/ 230، 249).

و أحد أطرف نماذج الأدب الأخلاقي في المدینة کانت رسالة مالک ابن أنس إلی الخلیفة هارون التي یمکن أن تعکس - رغم اختصارها – التحول في أسلوب التعالیم الأخلاقیة لأهل المدینة (للاطلاع علی أسانید روایتها ، ظ: «السند»، 3–5؛ ابن خیر، 297–298؛ أیضاً للاطلاع علی تشکیک السیوطي في صحة نسبتها، ظ: GAS,I/ 464). و یتضمن القسم الأول من الرسالة – بعد إشارة إلی ذکر الموت و القیامة – الدعوة إلی أداء العبادات الشرعیة بنظرة فقهیة (ص 6–8). أما بقیة الرسالة فهي مواعظ متنوعة حول الأخلاق الفردیة و بعض الوصایا ذات العلاقة بالحکم، یشبه نمط مواعظها کثیراً بآثار ابن المقفع من جهة، و سُعي فیها من جهة أخری إلی الاستشهاد بالقرآن، أو السنة النبویة لکل واحدة من المواعظ (ظ: ص 9 و ما بعدها). و الأسلوب الأدبي المستخدم في هذا الأثر و الذي هو نموذج قل نظیره للجمع بین أسلوبي المواعظ الإیرانیة و أدب الرسائل الإیراني – العربي، بأسلوب فقهي تقلیدي، هو دلیل آخر علی مرونة مدرسة فقهاء المدینة تجاه مختلف أسالیب الوعظ و التعلیم الأخلاقي (أیضاً للاطلاع علی بعض التعالیم الفقهیة – الحدیثیة في الآداب و الأخلاق، ظ: مالک، الموطأ، 2/ 902 و ما بعدها).

 

مکة

کان الاتجاه إلی تدوین الحدیث و روایته خلال النصف الأول من القرن الأول الهجري بشکل خاصل و في الفترات التي أعقبت ذلک بشکل عام في بیئة مکة، أضیق نطاقاً مقارنة بما کان علیه في المدینة. و من حیث تأثیر الرأي و النظر و المرونة في مواجهة الاصطدام في الدرایة، و من ذلک النظریات الأخلاقیة، کانت بیئة مکة قابلة للمقارنة مع العراق. ففي مکة في عصر الجیل الأول من التابعین، عُرف عبید بن عمیر اللیثي بوصفه رائداً و مبتکراً لأسلوب خاص في الوعظ و التعلیم العام للأخلاق، مما عُبّر عنه في ذلک العصر و في تاریخ الثقافة الإسلامیة أیضاً بالقصص. کما عُرف و عاظ کهؤلاء ممکن کانوا یزینون تعلیمهم بنقل قصص و حکایات ذات عبر و کذلک بتفسیر آیات من القرآن الکریم، باسم القصّصاص (للاطلاع علی ریادة عبید لهذا الفن، ظ: ابن سعد، 5/ 341؛ أیضاً قا: ابن ماجة، 2/ 1235). و بطبیعة الحال فإنه بعد مرور فترة قصیرة لم یعد بالإمکان اعتبار أسلوب القصص ظاهرة خاصة بمکة، بل إن القصاص کن لهم في نفس منتصف القرن الأول الهجري، حضور مشهود في مختلف حواضر الثقافة الإسلامیة. و استناداً إلی روایات فإن الإمام علیاً (ع) خلال فترة خلافته (35–40هـ/ 655–660م) کان یمنع القصاص في الکوفة علی ما یحتمل، من جمع الناس حولهم في المساجد (ظ: الکلیني، 7/ 263)، و في المدینة و خلال نفس تلک الفترة، کان عبدالله بن عمر یشکو من مضایقة القصاص في مسجد المدینة (ظ: المکي، 1/ 303، 307). ویبدو أن محور تلک المعارضة لم‌یکن لدیهم القدر الکافي من المعرفة الدینیة علی منابر الواعظ و کانوا قد اتخذوا الوعظ حرفة (ظ: الدارمي، 2/ 319؛ الجاحظ، البیان، 1/ 236؛ أبونعیم، 3/ 267، 4/ 136، 5/ 124).

و علی أیة حال، فقد کان عبید بن عمیر و فضلاً عن نقله قصصاً عن المتقدمین – خاصة أنبیاء بني‌اسرائیل – و لأجل تقریب بعض التعالیم الأخلاقیة إلی أذهان المستمعین، یأتي بحکایات خیالیة کأمثلة. و بورد في مجال تصویر حالات الإنسان في عالم ما بعد الموت، حکایات رمزیة حول حدیث القبر للمیت و لقاء الموتی بالشخص المتوفی لتوَه، و المرور علی الصراط، لینبه السامعین و یوقظهم (ظ: م.ن، 3/ 261–275).

و في النصف الثاني من القرن الأول الهجري کانت مکة قد اکتسبت قدرة أکبر في شتی مجالات العلوم الإسلامیة بفضل وجود علماء مثل عطاء بن أبي رباح و مجاهد. لکن لما کان أسلوب هؤلاء العلماء في تعلیم التفسیر له أوجه شبه بأسلوب القصاص في التعلیم، فإن هذا الازدهار لم یزعزع مکانة القصص. فاستناداً إلی الدلائل المتوفرة فقد کان یعرف في مکة بدایة القرن 2هـ و عاظ بارزون مثل ابن کثیر القاص باسم قاصّ الجماعة (للاطلاع علی المصادر، ظ: ن. د، 4/ 1).

و منذ أواسط القرن 2هـ/ 8م نشأت في مکة تعالیم أخلاقیة زهدیة ذات طابع قریب من التعالیم العراقیة. و کان و هیب بن الورد الذي ذکر في المصادر بوصفه زاهداً مکیاً (ظ: ابن سعد، 5/ 359) یطرح الخوف و الحزن الدائمین، إلی جانب الصمت و العزلة بوصفها شعار الزهاد. و استناداً إلی الورع و طرح أن الحنطة المعروضة في الأسواق ذات شبهة بسبب اختلاطها بحقوق الناس، کان یجیز أکل الخبز بمقدار جواز أکل المیتة (ظ: أبونعیم، 8/ 141–143؛ 148–153). و الممثل الآخر للاتجاه إلی الزهد في مکة خلال تلک الفترة هو عبدالعزیز بن أبي رواد الذي یعتبر مواصلة الحزن أفضل العبادات، و یلتزم طریقة عامر بن عبدقیس الزاهد البصري في ترک لذائذ الدنیا حتی الزواج (ظ: م.ن، 8/ 194–195). و کان ابن أبي رواد في معتقده علی مذهب المرجئة، و في تعالیمه کان یعدّ معرفة الله هي الأصل قبل کل شيء (ظ: م.ن، 8/ 59–61، 64، 66؛ ابن سعد، 5/ 362)، و هي النظرة المعروفة في أفکار المرجئة و التي اهتم بها فیها بعد مفکرو الصوفیة أیضاً.

و في النصف الثاني من القرن الثاني من القرن الثاني الهجري کانت الرغبة في الهجرة إلی مکة و المجاورة بها قد ازدادت في أوساط زهاد بقیة البقاع و خاصة العراق (مثلاً ظ: المکي، 2/ 247؛ للاطلاع علی وجود هذا الاتجاه قبل ذلک الحین، ظ: ابن خیر، 298)، و هذا بذاته ما کان یؤدي إلی قیام علاقات أقوی بین التعالیم الأخلاقیة في مکة و ما هي علیه في مدارس العراق. و في تلک الفترة کان زاهدا مکة البارزان فضیل بن عیاض و سفیان بن عیینة أبرزي رموز التلاحم بین مکة و مدارس العراق. و بالمقارنة بین هذین الاثنین ینبغي اعتبار فضیل مقدماً علی سفیان بن عیینة في الزهد بلذائذ الدنیا، و في الثبات علی الخوف و الحزن (ظ: أبونعیم، 8/ 84–100، مخـ؛ المکي، 2/ 459). و فضیل هذا هو الذي احتل موقع الحلقة الأولی في سلسلة مشایخ الصوفیة (ظ: السلمي، 7–12). و في المواعظ الباقیة من فضیل، یعرف أن الخوف من الله إذا سکن القلب، غادره حب الدنیا. و استناداً إلی التعلیم الذي کانت له جذور متأصلة في مدارس العراق الأخلاقیة کان فضیل یری أن الخوف من الله في قلب کل إنسان هو بقدر علمه، و أن أکثر الناس استحقاقاً لرضا الله هو من کان من أهل معرفة الله (م.ن، 9–12).

و في ختام الحدیث عن الحجاز و تلاحم تعالیمه الأخلاقیة مع تعالیم مدارس العراق، ینبغي أن نذکر الشافعي، الفقیه الحجازي الشهیر الذي تلقی أوائل تعالیمه في مکة و بشکل خاص في حلقة سفیان بن عیینة، و بلور علمه و اطلاعه من خلال أسفاره إلی المدینة و العراق. و في نظرته الأخلاقیة، کان له تعامل یشبه تعامل الحکماء الواقعیین. و في کلام مختصر و شهیر هو انعکاس لفکره الأخلاقي و بتعبیر بسیط خال من أي فکرة معقدة، اعتبر من زادت طاعته معاصیه سائراً علی طریق العدل (ظ: المکي، ن. ص). و قد دونت مواعظه و تعالیمه الأخلاقیة في المصادر بشکل متناثر و أحیاناً علی شکل مجموعات (مثلاً ظ: أبوعلي مسکویه، 154–157؛ المکي، 2/ 467، 470، مخـ؛ النووي، 1(1)/ 53–57).

 

2. التعلیم الأخلاقي في العراق

 
الکوفة

خلال مرحلة تشکیل أول حلقات التعلیم الدیني في الکوفة، لعبت تعالیم ثلاثة من أصحاب النبي (ص) - الإمام علي (ع) و الخلیفة عمر و ابن مسعود – الدور الرئیس في ذلک (ظ: ابن سعد، 6/ مخـ؛ أیضاً الخطیب، 13/ 334). و في الجیل الثاني من التابعین، أحدثت تعالیم الصحابة المتأخرین، خاصة ابن عباس و عبدالله بن عمر، قدراً من التحول في أجواء الکوفة مقارنة بما کان یلاحظ في عصر الجیل الأول من التابعین، و أضفت طابعاً جدیداً علی التعالیم الدینیة في محافل هذه المنطقة. و من الصعوبة بمکان تعیین القدر الذي تأثرت به کل واحدة من مدارس الکوفة بتعالیم کل من الأصحاب، لکن الواضح بشکل عام أن هذا التأثیر کان مختلفاً باختلاف المدارس المتنوعة.

و في العقود الأولی من القرن الأول الهجري، کان العراق بوصفه أهم قاعدة لتنظیم و توجیه الفتوحات الإسلامیة قد تحول إلی مهجر طلاب الجهاد، و کان حضور عدد کبیر من الصحابة و التابعین ممن التخذوا من الکوفة، أو البصرة قاعدة لجهادهم و موطناً لهم بشکل عملي، یحول هاتین المدینتین حدیثتي التأسیس إلی مرکزین للتعلیم، و کانت سیادة الروح الجهادیة و الترحیب بالشاهدة یوفران أفضل الظروف لیهیمن المیل إلی التعبد و عدم الاهتمام بالمظاهر الدنیویة علی المحافل الأخلاقیة في بیئته کهذه، و في الحقیقة فإنه في بئتي الکوفة و البصرة الجهاد یتین، لم تکن البحوث النظریة لوحدها تلاحظ بشکل محدود جداً فحسب، بل تداول الحدیث کان کذلک. و کان الشغل الشاغل للمحافل الدینیة هو تعلم القرآن و الجد في العبادة.

اشتهرت الکوفة منذ صدر الإسلام و علی الدوام بوصفه مقر الاتجاهات العلویة و الشیعیة، و کان من أکثر الناس تأثیراً في تبلور بدایات التعالیم الأخلاقیة في هذه المنطقة، بعض أنصار الإمام علي (ع) من الصحابة و التابعین. و في الحقیقة فإن التعالیم الأخلاقیة للإمام (ع) حتی في قالبها الاجتماعي، کانت قد لقیت رواجاً في الکوفة قبل تسنمه منصب الخلافة بسنوات، و کانت مصدر تحولات اجتماعیة مهمة. و إن موضوع التخلي عن التتمییز القبلي و القومي، و المیل إلی تطبیق العدالة بالتساوي علی قریش و غیرها و علی العرب و غیرهم، کان الفکرة التي طرحها أنصار الإمام علي (ع) سنة 33هـ/ 653م علی نطاق واسع و في الکوفة بشکل خاص، و انتهت بحدوث صراعات سیاسیة مهمة. و کان علی رأس هذه الحرکة أشخاص مثل مالک‌الأشتر و صعصعة بن صوحان و کمیل بن زیاد و عمر و بن الحمق (ظ: الطبري، 4/ 318–326) ممن کان تمسکهم بتعالیم الإمام علي (ع) جلیلاً للعیان. و جدیر بالذکر أنه خلال هذه الحرکة، کان إلی جانب هؤلاء أیضاً أشخاص مثل عبدالله بن الکوّاء (للاطلاع علی مذهبه، ظ: ابن درید، 340)، الذین مالوا بعد صفین إلی تبار المطالبین بالتحکیم (ظ: الطبري، ن.ص؛ أیضاً ابن إباض، 126–127)، و نقلوا هذه الفکرة الاجتماعیة إلی الأجیال التالیة من المحکَّمة. و بصورة عامة فقد کانت تزکیة النفس مع العبادة في مجال الأخلاق الفردیة و المطالبة بالعدالة في المجال الاجتماعي، التیار الذي استمر في حلقة أصحاب الإمام علي (ع) من أهل الکوفة. و بلغ ذروته بجهاد حجر بن عدي و عمر و بن الحمق و مقتلهما (ظ: الکشي، 49–51؛ الطبرسي، 1/ 297: الرسالة المنسوبة للإمام الحسین (ع) الموجهة إلی معاویة).

و کان فریق من التابعین الکوفیین ممن أدرکوا صحبة الإمام علي (ع) و اهتموا بنشر تعالیمه، قد الکتسبوا أهمیة بشکل أکبر لکونهم دوّنوا أقوال الإمام و رسائله و نقلوها إلی الأجیال التالیة. و کمثال علی ذلک فإن دور التالیة أسماؤهم جدیر بالاهتمام: 1. زید بن وهب الجهني أول جامع مخطوطة تحت عنوان خطب علي (ع) (ظ: الشیخ الطوسي، الفهرست، 72؛ أیضاً ابن بابویه، التوحید، 278–279: نموذج منقول منه؛ أیضاً نصر بن مزاحم، 232، 256، مخـ: شاهد علی صحة النسبة)؛ 2. الأصبغ بن نباتة راوي نسخ من وصیة «من الوالد الفان...»، و کتاب عهده إلی مالک الأشتر (ظ: الشیخ الطوسي، ن.م، 37–38؛ النجاشي، 8)؛ 3. کمیل بن زیاد راوي أقوال مثل وصیة الإمام (ع) الشهیرة له (ظ: نهج‌البلاغة، الحکمة 147 و مصادرها؛ عمادالدین الطبري، 24–31: وصیة مطولة بروایة منسوبة إلی کمیل؛ أیضاً ابن شعبة، 171–176).

و في الحدیث عن أوائل حلقات التعالیم الأخلاقیة الأخری في الکوفة، تجدر الإشارة إلی «القراء العباد» الذین کانوا علی اتجاهین: أصحاب عمر و أصحاب ابن مسعود. و من أشهر الزهاد المعاصرین للصحابة أویس القرني الذي استفاد من متقدمي الأصحاب في المدینة و عُدّ من أصحاب عمر بشکل خاص (ظ: ابن سعد، 6/ 111). و کان قد اتخذ من الکوفة موطناً له خلال فترة التعلیم (ن.ص). و کانت حلقته في الواقع مجلساً لتعلیم القرآن و تلاوته، کما کان أصحاب هذه الحلقة یشکلون أحد الامتدادات الرئیسة لقراء الکوفة (ظ: الحاکم، 3/ 408؛ أیضاً ابن سعد، 6/ 114). و من أمهات مسائل تعالیمه، الذکر الدائم للموت و إدراک الحقوق الإلهیة و التي نتیجتها کما یقول هو، الحزن و الفقر و إیثار العزلة للإنسان؛ و إلی جانب إیثار العزلة، کان ینظر إلی إحقاق الحق و الأمر بالمعروف بوصفهما واجبین اجتماعیین لایجوز ترکهما (ظ: ن.ص؛ أبونعیم، 2/ 83، مخـ؛ للاطلاع علی شیوع أسلوب العبادة لدی بقیة أصحاب عمر من الکوفیین، ظ: ابن سعد، 6/ 110–111، 115). و لم یطل وجود حلقة أصحاب عمر الکوفیة إلی جانب حلقة أصحاب ابن مسعود، و بعد مقتل أویس في صفین یمکن أن نجد استمرار ذلک التیار و لفترة قصیرة في مدرسة المحکِّمة الأوائل.

و کانت حلقة قراء أصحاب ابن مسعود التي کان علی رأسها عبیدة السلماني و علقمة بن قیس (ظ: نصر بن مزاحم، 188)، مظهراً لأحد الاتجاهات في المافل الدینیة للکوفة، و التي جمعت إلی جانب العمل للآخرة، التعلیم و التعلم و شؤون الحیاة السائدة في هذا العالم، و بالنتیجة لم تکن تدعو إلی الإفراط في العبادة (ظ: ابن سعد، 6/ 47، 58، 64). و هذا الأسلوب في الجمع بین الأعمال الأخرویة و الحیاة الدنیا خلال عصر الجیل الثاني من التابعین کان الاتجاه الغالب علی الأخلاق الکوفیة. کما أن اتجاهاً فرعیاً في أوساط أصحاب ابن مسعود کان خاصاً بالربیع بن خیثم یتصف بالخصائص العامة لتعالیم أویس مثل الزهد و العزلة و الصمت و کذلک التأکید علی الأمر بالمعروف (ظ: م.ن، 6/ 129؛ أبونعیم، 2/ 108–116)، لکن وراء تشدد الربیع و زهده هذا کانت نظریته الأخلاقیة المتفائلة، تلطف تعالیمه. و کان یعتقد أن الذنب هو مرض یصیب روح الإنسان، و علاجه یتم بالتوبة و الاستغفار. کما أنه و بطرحه نظریة أن إطاعة کل إنسان الأوامر الإلهیة هي بمقدار إدراکه الشخصي (ظ: م.ن، 2/ 108–109)، کان یقلل م التألم الروحي لدی الناس، و یخرج الأخلاق و التدین من حالة کونهما فضیلتین لایمکن للعامة أن یبلغوهما. و هذا الفکر و کذلک موقف الربیع من حرب صفین (ظ: نصر بن مزاحم، 115) یجعله مرتبطاً بجذور فکرة الإرجاء في الکوفة. و من ممثلي هذا الاتجاه الفرعي الآخرین تجدر الإشارة إلی همام بن عبادة من عبّاد الکوفة و من کانوا یرتدون البُرنُس (ظ: الکراجکي، 30–31؛ قا: أبي الحدید، 1/ 528).

و أخیراً، و في الطبقة الأولی من تابعي الکوفة ینبغي الحدیث عن شخصیة أبي عبدالرحمان السلمي المعقدة الذي خطا في سبیل إیجاد التآلف بین الاتجاهین الدیني و السیاسي للعلویة و العثمانیة خطوات مثل ترویج مصحف عثمان في الکوفة (ظ: ن. د، أبوعبدالرحمان السلمي). إلا أن ما یرتبط من تعالیمه بموضوع البحث، هو نفي «الاستثناء في الإیمان» (ظ: أبوعبید، الإیمان، 22؛ ابن سعد، 6/ 120) الذي یعتبر أساس نظریة الإرجاء الکلامیة – الأخلاقیة؛ النظریة التي کانت في أواخر القرن الأول و النصف الأول من القرن الثاني الهجري، من الاتجاهات السائدة في محافل الکوفة الاخلاقیة. و في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري هیمنت مدرسة أصحاب الحدیث في الکوفة بزعامة سفیان الثوري علی المحافل الأخلاقیة فیها، فتحولت الکوفة إلی قاعدة مدرسة ذات نطاق واسع لاتحده حدود إقلیمیة، لها ارتباط راسخ بمحافل الحجاز و خراسان و الشام، و أدت إلی إحداث تحول في التعالیم الأخلاقیة.

 

البصرة

کما بیّن ابن سعد بوضوح (7(1)/ 64)، و کما تدعم الشواهد التاریخیة ذلک أیضاً، فإن تعالیم الأوائل في البصرة قد تأثرت أکثر من غیرها بتعالیم عمر. لکن في الجیل الثاني من تابعي البصرة یلاحظ – کما في الکوفة – تأثیرأصحاب أصغر سناً مثل ابن عباس و ابن عمر. و کانت البصرة في البدء معسکراً للجند لفتوحات المشرق، و کما هو الأمر في الکوفة، و لتمتعها بالبیئة الجهادیة، کانت علی استعداد لتربیة اتجاهات زهدیة عبادیة؛ و المتوقع أن یشیع في البصرة أیضاً الاتجاه الشدید للزهد و العبادة لدی الطبقة الأولی من التابعین مع الأخذ ینظر الاعتبار تأثر البیئة بتعالیم أصحاب عمر، إلا أن النماذج المعروفة لهذه الاتجاهات تبدو قلیلة في البصرة مقارنة بما هي علیه في الکوفة.

الصفحة 1 من11

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: