الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / ابن المقفع، أبومحمد عبدالله /

فهرس الموضوعات

ابن المقفع، أبومحمد عبدالله

ابن المقفع، أبومحمد عبدالله

تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/7 ۱۸:۵۶:۵۲ تاریخ تألیف المقالة

ألف ابن المقفع کتاباً مدهشاً بعنوان رسالة الصحابة الذي لاشک في أنه لامثیل له من نوعه (ظ: آثار ابن المقفع). یقول طه حسین عن هذا الکتاب: إن الذي قتل ابن المقفع لیس الزندقة، ولم یقتله تشدده في الأمان الذي کتبه، لأنه یوشک أن یکون أسطورة، ولکن له رسالة خاطب بها المنصور أخشی أن تکون هي التي قتلته، لأنها توشک أن تکون برنماج ثورة (2/445). ثم نقل طه حسین بعد ذلک خلاصة تلک الرسالة. وقد اهتم سوردل في هذه الرسالة إلی جانب اهتمامه بالمضامین والنقود اللاذعة في مجال السیاسة العامة للبلاد، بواحد من مفاهیمها الرئیسة التي بموجبها ینبغي للملک أو الخلیفة أن یسند المناصب القیادیة العلیا إلی طبقة أشراف العرب ویمنح الکتّاب و الحجاب مناصب تنفیذیة. وعلی هذا، فإنه ینبغي لأعمام الخلیفة و أبناءهم أن یتسنموا أعلی المناصب. کان بإمکان هذه الرسالة أن تقض مضجع الخلیفة من الکاتب الذکي الإیراني الأصل المقرب جداً من العم المتمرد المدعي للخلافة (ص 322).

والآن، توفرت الأسباب الکافیة لقتل ابن المقفع. فإذا فصّلنا هنا حادثة قتله المریعة، فإن القارئ قلما یُعرَّض لنسج أساطیر الرواة. والأمر المهم جداً هو أن الکثیر من المؤلفین أمثال حمدالله المستوفي (ص 300-301) ویاقوت (9/112) یعتبرون السبب الرئیس في موته هو الزندقة. وکما سیرد في القسم II من هذه المقالة فإن حکایة زندقته أو إسلامه، فضفاضة ومحل نقاش. والحق مع الکتّاب المعاصرین الذین تجاهلوا – مع الأخذ بنظر الاعتبار الأجواء الحرة نسبیاً في القرن 2هـ والوجود الزردادشتي والمانوي المکثف في الجهاز الإداري لذلک العصر – هذا العامل تقریباً. ومع کل هذا یمکن التصور بأن ابن المقفع کان بسبب اتهامه بالزندقة عرضة للأذی أکثر من المسلمین العرب. ولذا خاطبه سفیان عند قتله إیاه بابن الزندقة (الجهشیاري، 73)، أو أنه – حسب روایة ابن خلکان (ن.ص) – قال له: لیس عليَّ في قتلک حرج، لأنک زندیق وقد أفسدت الناس.

أورد الجهشیاري عن هذه الواقعة أکثر الروایات تفصیلاً (ص 72-73)، ویبدو أن روایة البلاذري (ن.م، 3/222) هي خلاصة تلک الروایة: عندما قدم عیسی البصرة في حاشیة عبدالله بن علي مع سلیمان، أرسل ابن المقفع في مهمة إلی سفیان، فامتنع ابن المقفع الذي کان یخاف علی حیاته عن ذلک بادئ الأمر، لکنه ذهب أخیراً برفقة إبراهیم بن جبلة. وکان یرید إظهار هذا القاء ودیاً شأن اللقاءات السابقة، ذلک أنه قال لإبراهیم: انطلق بنا إلی سفیان نبلغه رسالة الأمیر ونسلم علیه، فإني لم آتهِ منذ قدمنا البصرة، وأخاف أن یظن بي موجدة وعداوة. وفي دیوان الإمارة أجلسوهما حتی یأذن الأمیر، ثم اصطحب الحاجبُ إبراهیمَ أولاً إلی الأمیر، ثم استدعی عبدالله، إلا أنه و بدلاً من أن یأخذه إلی بلاط الأمیر اقتید إلی مقصورة وأوثقت یداه. عندها طلب الأمیر الذي کان یرید أن یتظاهر أمام إبراهیم بجهله بالأمر، إلی حاجبه أن یدخل عبدالله. وبعد قلیل عاد الحاجب لیقول: إن عبدالله انصرف. فقال سفیان لإبراهیم: هو أعظم کبراً من أن یقیم، وقد أذنت لک قبله، ولا أشک في أنه قد غضب. ثم قام سفیان و ترک إبراهیم لوحده، وذهب إلی ابن المقفع، وأمر بتنور فسجر، وبقطع أعضائه و إلقائها فیه و هو یقول: یابن الزندیقة لأحرقنک بنار الدنیا قبل نار الآخرة.

عندما خرج إبراهیم وجد غلامَ ابن المقفع الذي سأله عن مولاه، ولما کان قلقاً جداً کان یبکي و یصیح: سفیان قتل مولاي. وبعدها هدد عیسی سفیانَ بأنه إذا قتل عبدَالله فسیهب للمطالبة بدمه. إلا أن سفیان ظل یتظاهر بجهله بالأمر ویختلق بمعونة أصحابه أکاذیب لینفي التهمة عن نفسه غیر أن عیسی الذي کان قد تیقن من قتل ابن المقفع حرض جماعة علی الصراخ في الطریق: سفیانُ بن معاویة قتل عبدَالله بن المقفع. ثم ذهب مع إخوته إلی المنصور شاکین. فأرسل المنصور أبا الخصیب لیأتي إما بسفیان، أو بابن المقفع. فجاء أبوالخصیب بسفیان (الجهشیاري، 71-74). وبقیة الروایة ذات علاقة بسفیان و المنصور، إلا الخصیب لیأتي إما بسفیان، أو بابن المقفع. فجاء أبوالخصیب بسفیان (الجهشیاري، 71-74). وبقیة الروایة ذات علاقة بسفیان و المنصور، إلا أنها تحمل في طیاتها ما یلفت النظر و هو أن المنصور کان یبدو مسروراً لما جری، ثم منع وبحیلةٍ أعمامه من متابعة القضیة (م.ن، 73-74).

لاشک في أن مصدر روایات الجهشیاري هو نفسه الذي کان لدی ابن أعثم. وقد خصص ابن أعثم الذي توفي قبل الجهشیاري بـ 17 سنة تقریباً فصلاً لـ «قتل ابن المقفع» اختصر فیه علی مایبدو روایات مصدره، لکنه أورد المثلةَ به بشکل أکثر تفصیلاً (8/219).

وهذه الراویة رغم کونها دقیقة جداً، لکنها غیر متقنة في جمیع أجزاءها، ذلک أنه نقلت روایات أخری موازیة لها أیضاً: الأولی روایة أخری للجهشیاري (ص 75) التي جاء فیها نقلاً عن حماد عجرد صدیق ابن المقفع: إن الذي قتل ابن المقفع هو أن أباجعفر المنصور الذي کان متأثراً من أبي أیوب لأمرما قال له یوماً: کأنک تظن أنني لا أعرف موضع أکتب الخلق و هو ابن المقفع مولاي؟ (قا: سوردل، 321)، فلم یزل أبوأیوب خائفاً من هذا الأمر و یسعی ویدب في أمره حتی قتله أخیراً. وفي الروایة المختصرة للبلاذري (ن.ص) أضفت عدة عوامل أیضاً إلی هذه الحکایة. الأول یکشف عن فصاحة ابن المقفع: لما دخل قصر سفیان قال له الحاجب: اصبر، فأجاب ابن المقفع: ویلک، إن الصبر لایکون إلا علی بلاء ولکن قل: انتظر. ثم ورد: عندما سجروا التنور، دقّ الحاجب عنقه بضربة واحدة. وفي هذه الروایة فإن ما یختلف فیها في موضوع التنور مع روایة البلاذري الأولی وروایة ابن أعثم والجهشیاري هو ماقیل من أنه «ألقي في بئر وأطبق علیه حجر؛ وقیل کذلک إنه أدخل حمماً فلم یزل فیه حتی مات. وقیل إن عنقه دُقت بعد أن قُطع عضواً عضواً وألقیت أعضاؤه في النار و هو یراها و یصیح. وقال بعضهم: ألقي في بئر النورة في الحمام وأطبق علیه الحاجب صخرة فمات …». والأغرب من کل الروایات روایة سعد بن عبدالله الأشعري المتقدم علی الکتّاب الثلاثة الذین ذکرناهم، فهو یقول إن ابن المقفع بعد وقوعه أسیراً بید سفیان قد سمّ نفسه أو خنقها (ص 67).

وواضح أن رجلاً مثل ابن المقفع وقتلاً ببشاعة قتله، قد أدی إلی ظهور حشد من القصائد و العبارات الحکمیة والعبر في الأدب الأسطوري العربي مما لایمکن إبداء رأي قاطع بشأن صحته و ضعفه جمیعاً. والذي ورد منه في المصادر الثلاثة المتقدمة هو: بیتان للهیثم بن درهم صدیق ابن المقفع في هجاء أم سفیان (البلاذري، ن.ص)؛ مقطوعة في 8 أبیات في رثائه لأبي الغول الأعرابي الذي کان قد درّسه العربیة في صباه. وکذلک مقطوعة أخری في 9 أبیات انتُقد في بدایتها عیسی بن علي الذي لم یتمکن من إنقاذ حیاة من کان في کنفه. وهي مقطوعة إما أن تکون لأبي الغول، أو لشخص آخر (ن.م، 3/223). وتوجد لدی الجهشیاري أیضاً حکایة ذات طابع أسطوري بشکل واضح و هي أن ابن المقفع قال لقاتله سفیان: والله، لتقتلني فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتل مائة مثلک ما وفوا بواحد. ثم کرر نفس هذا المعنی في بیتین من الشعر (ص 76). ویقول ابن أعثم بعد ذکره حکایة قتله: إن بحیر بن زیاد قال في ذلک شعراً، لکنه نقل بیتین لمطیع بن زیاد یشیر فیهما إلی الفجیعة التي فجع بها أصحاب ابن المقفع بعد قتله (ن.ص). ویدل هذا الشعر والشعر المنسوب لأبي الغول أیضاً علی أن الناس کم کانوا ینتقدون عیسی الذي لم یستطع منع قتل کاتبه ثم عجزه عن الثأر لدمه.

وفي تاریخ قتل ابن المقفع و خلافاً للکثیر من مشاهیر ذلک العصر، لایوجد کثیر بحث ونقاش، ویکن قبول سنة 142هـ/759م تقریباً وبثقة. ذلک أن ابن خلکان الذي اعتبر عمره 36 سنة (2/154) نقل عن کتاب أخبار البصرة لعمر بن شبة أنه توفي في 142 أو 143هـ. وکنا قد ذکرنا قبل هذا أن عیسی بن علي وإخوانه کانوا یطالبون بدم عبدالله، إلا أن جهودهم توقفت فجأة. فإذا اعتبرنا أن ذلک حصل إثر وفاة سلیمان بن علي (جمادي الآخرة 142)، أمکن القول بجزم تقریباض إن عدالله قتل في 142هـ. والأمر الاخر هو أن قول ابن الجوزي الذي أورد وفاته ضمن حوادث 145هـ (ظ: ابن خلکان، 2/153)، یصبح فاقداً للأهمیة (ظ: إقبال، 13-14؛ غفراني، 102).

 

شخصیة ابن المقفع

ابن المقفع هو أحد من أشهر الوجوه الثقافیة في تارخ الإسلام، بل في الثقافة العالمیة. ولاشک في أن شخصیته الاجتماعیة – الأخلاقیة قد حددت قبل أي شيء آخر مسیرته الثقافیة والأدبیة. وکان قد اجتمع فیه العقل والذکاء الخارق والروح الشفافة الرقیقة وحب الإنسانیة والأخلاق و الأدب و عذوبة النطق و جمال المحیا في حیاة سادتها الرفاهیة الامة. قم أن هذه الخصائص تجلت في الحکایات الخلابة و المفاهیم الحکیمة و المواعظ المحسوسة و الملموسة بلغة سلسة مترابطة خالیة من التعقید.

کان ابن المقفع رجلاً حراً و مفکراً حراً، وکانت خصاله الخلیفة و قیمه الشخصیة قد بلغت الحد الذي جعل عمل المحققین صعباً. فهم الذین یریدون دائماً أن یضعوا رجالات التاریخ في قوالب دینیة وأخلاقیة وسیاسیة و اجتماعیة معینة، انتهی بهم الأمر فیما یتعلق بابن المقفع إلی أن یختلفوا فیه فیضعونه علی قطبین متضادین: الدیانة التامة و الذلحاد المطلق. وقد تمت الإشارة إلی هذا الاختلاف لدی بحث زندقته في القسم II من هذه المقالة.

إن حسن خلقه ووقاره و عباراته المحتشمة بلغت درجة جعلت من الصعب علی المحققین المسلمین أن یعتبروه خارج دینهم. و مع ذلک فإن خلو آثاره من الدفاع المباشر عن الإسلام و الشریعة و جرأته بین الحین والآخر وخاصة مجالسته المتهمین بالزندقة، أدت إلی أن یحکم فریق آخر بزندقته. ویبدو أن المتقدمین لم یکن لدیهم شک في صحبته لفریق من العابثین في البصرة و بغداد ممن عرفوا بـ «أصحاب المجون» و ممن لم یکن لدیهم مایفعلونه سوی معاقرة الخمر و نظم الشعر. لقد ذکر الجاحظ فریقاً یضم 13 شخصاً من مشاهیر هذه المدرسة (ظ: الحیوان، 4/447-448) ممن لم نجد بینهم اسم ابن المقفع، غیر أنه لم یمض سوی قرن من الزمان تقریباً، نجد نفس تلک القائمة – مع قلیل من الاختلاف – في الأغاني (أبوالفرج، 18/101)، نجدها هذه المرة وقد وضع ابن المقفع بین أسمائها. و هذا الخبر نفسه مع اسم ابن المقفع وجد طریقه إلی أمالي الشریف المرتضی (1/90)، لکن عدد أصحاب المجون ارتفع إلی 17 شخصاً.

إن هذه الروایات سواء أکانت صحیحة، أم موضوعة، لن تؤثر علی ماهیة الموضوع کثیراً، ذلک أن ابن المقفع کانت له صداقة مع کثیر من شعراء وأدباء عصره، وحتی إذا لم یکن قد شارک في مجالس قصفهم، فإنه لم یکن لیعرض عن مصاحبتهم.

وإذا أخذنا الأوضاع الاجتماعیة لبدایة العصر العباسي و تصرفات وأخلاق شعراء و کتّاب ذلک العصر بنظر الاعتبار، فإننا لن نکون بحاجة إلی البحث عن قالب دیني لأفکار و معتقدات ابن المقفع. إن جمیع الذین ذکرهم الجاحظ و أبوافرج والشریف المرتضی و عشرات الکتّاب الآخرین، یشترکون في عدة أمور: التحلل في الحیاة الاجتماعیة و الحریة المطلقة في الواجبات والمحرمات والاشتهار بمعاقرة الخمر والهیام في النساء وحب الغلمان والخلاعة في الشعر وخاصة في الغزل والهجاء. صحیح أن بعض أولئک قتل بتهمة الزندقة، لکننا نعلم أنه باستثناء واحد أو اثنین منهم، فقد وقع جمیع أولئک الشعراء ضحیة السیاسات‌الدینیة في ظاهرها. ومن ناحیة أخری فإن کثیراً منهم أیضاً لم یتخلوا عن تلک التصرفات والتصریحات، ولم یصبحوا عرضة لأذی رجال الحکم، بل إن بعضهم تاب في أواخر حیاته و أصبح زاهداً وتقیاً أیضاً، أو أن کتّاب القرون التي تلت ذکروا لهم عواقب خیّرة کهذه. وفیما یتعلق بابن المقفع فینبغي القول إنه لایمکن بسهوله سلبه شرف الإسلام، لکن یمکن الجطم بأن إسلامه کان باهتاً طریقته العقلانیة تبدو أکثر روزاً.

ومع کل ذلک، فإن شخصیة ابن المقفع الجذابة و کرمه ورجولته و أدبه و ظرفه ومنطقه وبراعته و ثروته أیضاً کان بمکان یجعل الجمیع یغرمون به. ویتجلی حبه للإنسانیة في وجوده في قالب عقیدة منظمة إلی الحد الذي تتصور معه أنه أراد أن یملأ فراغاً دینیاً بداخله بهذه المیزة. وتصرفه – إلی الحد الذي تظهره لنا المصادر – و یشکل دقیق هو ذلک الذي یمکن العثور علیه في آثاره. وإن ماورد في الأدب الکبر و الأدب الصغیر في موضوع الإنسان الکامل، لینطبق علیه هو نفسه: «إني مخبرک عن صاحب کان أعظم الناس في عیني، وکان رأسُ ما أعظمَهُ عندي، صغر الدنیا في عینه؛ وکان خارجاً من سلطان بطنه فایشتهي مالایجد ولایکثر إذا وجد؛ وکان خارجاً من سلطان فرجه، فلایدعو إلیه مؤنة ولایستخف له رأیاً ولا بدناً؛ وکان خارجاً من سلطان الجهالة فلا یقدم إلا علی ثقة أو منفعة؛ وکان أکثر دهره صامتاً، فإذا قال بَذَّ القائلین؛ ولایدلي بحجة حتی یجد قاضیاً عدلاً وشهوداً عدولاً. وکان لایشکو وجعاً إلا إلی من یرجو عنده البرء، ولایصحب إلا من یرجو عنده النصیحة» («الدرة الیتیمة»، 114، آیین بزرگي، 44-45).

وهو یقول في بدایة باب الصداقة من الأدب الکبیر (= «الدرة الیتیمة»، 83): «أبذل لصدیقک دمک ومالک». ولقد تصرف هو کذلک مع عبدالحمید الکاتب. کنا قد قلنا قبل هذا إنه یحتمل أن لایکون لقاؤه بعبد الحمید صحیحاً، إلا أن روایة القصة في جمیع المصادر دال علی أن الجمیع یعتبرون تصرفاً کهذا منه أمراً ممکناً. وکان عثمان البتي یقول: إخاؤه عقده (البلاذري، ن.م، 3/220).

إن أغلب الروایات التي نقلت عنه تتعلق بسخائه وحبه لأصدقائه: فقد أنقذ عمارة بن حمزة الذي نفاه المنصور إلی الکوفة، من ضرر بلیغ نزل به (الجهشیاري، 75-76)، کما أنقذ من الموت شخصاً کان یقاد إلی حیث ینفّذ فیه حکم الإعدام بعد أن دفع مایعادل ثلاث مرات دیةَ من اتهم بقتله (البلاذري، ن.ص)؛ کان ثریاً وسخیاً، یطعم الطعام ویتسع علی کل من احتاج إلیه (الجهشیاري، 75). فلاغرو أن یسمیه صدیقة ابن شبرمه بـ «رائد الصادقین» ویسمي مسلم بن قتیبة بـ «رائد الکاذبین»، ثم بین کیف أن الأمیر المقتدر أدار ظهره له ولم یعنه علی حاجته، بینما أسعفه ابن المقع بأدب جم (البلاذري، ن.ص).

إن کل هذا السخاء غیرممکن منه إلا في حالة امتلاکه ثروة عظیمة. ولقد ردینا قبل هذا کیف کان قد جمع في کرمان ثروة طائلة، کماکان یحقق في فارس دخلاً مرموقاً، وکان یؤتی له من أملاکه بالدواب بکثرة (ن.م، 3/219). وکان یجري بهذه الثروة رواتب علی جماعة من وجوه الکوفة والبصرة (الجهشیاري، ن.ص).

سعی ابن المقفع الذي کانت له مخالطة مع کبار شخصیات البصرة، إلی أن یشیع في بیته جمیع تلک الأعراف و التقالید التي کان قد ورثها من الأشراف الفرس. ونورد هنا التقریر الوافي الذي رواه البلاذري والمثیر للاهتمام حقاً: «کان عبدالله بن المقفع إذا أقبل یرید منزله یقدم غلام مجیئه، فمن کان من غلمانه علی غیر هیئة تهیأ، ویفتح له أبوابه فیدخل منزله و معه عدة من إخوانه، فإذا حضر طعامه وقف قهرمانه (خادمه) فقال: قد هُیئ في المطبخ کذا و کذا، لیعلموا مایؤتون به من الطعام، فیبقي الرجل نفسه لما یشتهبه؛ وکانت أیدیهم تغسل بالأشنان قبل الأکل ویقول: إن الأیدي تقع في الحار و البارد، ولایؤمن أن یتحلل في ذلک شيء من وسخها مما لاینقیه الغسل بالماء وحده» (ن.م، 3/219-220).

وکان ابن المقفع یمزج کل هذا الأدب بالدعابة والمزاح، وقد لفتت اهتمام الجاحظ قصة الخبز والملح الشهیرة إلی الحد الذي رواها في البخلاء (2/40-41) وفي البیان (ص 313-314) دعاه أحدهم لتناول الخبز و الملح. وعندما حان وقت الغذاء، وجد ابن المقفع أن مضیفه لم یضع علی المادة سوی الخبز والملح. وصادف أن مرّ فقیر و هو یطلب من یطعمه، فهدده صاحب الدار بأنه سیکسر ساقیه إن لم ینصرف. وبادر ابن المقفع إلی نصیحته بأن ینصرف، ذلک أن صاحب الدار ینفذ کل ما وعدبه (أیضاً ظ: ابن عبدربه، 6/186).

وکان من بین أصحاب ابن المقفع عدة أشخاص من کبار الشعراءالعرب مثل حماد عجرد و حماد الراویة و مطیع. إلا أن ابن المقفع نفسه لم یتجه إلی الشعر، کما أن الأبیات التي بقیت منه أونسبت إلیه، نظمت بشکل استثنائي وفي مناسبات خاصة. وتضم مجموعة هذه الأبیات: 3 أبیات في رثاء ابن أبي العوجاء (الزندیق المعروف)، أو یحیی بن زیاد (ابن خلکان، 2/154؛ أبوتمام، 1/357؛ الخطیب التبریزي، 1/357)؛ بیت واحد في جواب سائل (البیهقي، 589)؛ بیتان في الفقر والغنی (الماوردي، 216؛ أیضاً ظ: غفراني، 491)؛ بیت واحد في النصیحة (الجاحة، البیان …، 392)؛ 3 أبیات في عتاب ابن أبي لیلی (البلاذري، ن.م، 3/219)؛ بیتان في الثناء علی نفسه عندما أمر سفیان بقتله (الجهشیاري، 76). إضافة إلی ذلک، یبدو أنه کانت له قصیدة في الأشهر الرومیة توجد نسخة منها محفوظة في أیا صوفیة بإستانبول و قد طبعت مع ترجمة ألمانیة لها ببرلین (ظ: غفراني، ن.ص).

کتب میوي أن المبرد قد جمع شعره (ص «یز»)، لکننا لانعلم من أبن نقل هذه الروایة.

 

أسلوب ابن المقفع في الکتابة

لاشک في أن ابن المقفع هو فارس النثر العربي. وقلّما نجد باحثاً یستطیع أثناء الحدیث عنه أن یخفي إعجابه ودهشته به. «وبظهوره علینا أن نبارک النثر الذي استطاع بثوبه البسیط والکلمات الیومیة المتداولة أن یقف في مصاف الشعر العربي. وهذه اللغة رغم کل بساطتها وانعدام التکلف فیها، کانت أیضاً نجاحاً تاماً. وببرکة ابن المقفع لم یعد العالم العربي بحاجة إلی أن ینتظر زمناً طویلاً لتغنیه العوامل الخارجیة. وابن المقفع أول شخص وربما کان الوحید الذي استطاع أن یقدم رأس مال ثمیناً للثقافة العربیة. فالتراجم الفلسفیة والعلمیة للقرن 3هـ/ 9م وبسبب کونها متخصصة لم تبلغ إطلاقاً هذه الدرجة من النفع» (فیت، 56).

ولم یکن قبل ابن المقفع في عالم الواقع وجود للنثر الذي ندعوه الیوم بالنثر الأدبي أو الفني. ویبدو أنه لم یبق من العصر الجاهلي شيء، کما أن سنّة قول النثر في ذلک العصر أیضاً و بشهادة عدة آثار مختلفة یبدو أنها تقلید لسجع الکهان، غیر کافیة. ثم القرآن الکریم الذي هو بطبیعة الحال نثر لایمکن تقلیده. وقد بقیت من خطب عظماء الإسلام نماذج جمیلة کان لها تأثیر مهم علی العصور المختلفة، إلا أن بناء الجمل في الخطبة لم یکن لیتلاءم مع بیان القضایا العلمیة أو القصص والخیال. کما أن بعض الکتب التي قیل إنها ألفت أو ترجمت خلال القرن الأول مثل کتاب خالد بن یزید في الکیمیاء، وکتاب ماسرجویه في الطب، لاندري ماذا کانت، وإن الذي بقي هو کثیر من الروایات التي أصبحت أساساً لتألیف کتب أخبار و أیام العرب في القرون 2 و 3هـ و ماثلاهما. وکان نثر هذه الآثار إذا استطعنا أن نسمیه «نثر القرن الأول» في أغلبه نثر حوار یتألف من حشد ضخم من الروایات التي ظلت لسنوات تنتقل من صدر إلی صدر، وکان المعیار في صحتها هو الصدق والأمانة في نقلها. وعلی هذا لایمکن أن یُدعی أي منها حقاً بالتألیف والإبداع الفني أو الأدبي. وینطبق هذا القول أیضاً حتی علی آثار أدباء کبار مثل ابن قتیبة (أیضاً ظ: محمدي، 421).

الصفحة 1 من6

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: