الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

و لكن هذا الشعر الهادئ الرصين، دبت فيه الثورة فجأة بشهادة أمير‌المؤمنين ثم الإمام الحسين (ع)، ففاض بالدموع و الآهات من جهة، و أمواج الغضب و طلب الثأر من جهة أخرى، و امتزج مع المطالب السياسية.

و قد كان كُثَيِّر من أصحاب محمد بن الحنفية يعتبره «المهدي الموعود» (1/277-280، 2/187- 188) و كان يطالب بحق الشيعة استناداً إلى «الكتاب و النبي» (1/52-54، 278، 2/122-124) و يرى أن الإمامة هي أساس الحكم (ظ: 1/ 268-269).

و قد تحول الشعر الديني عموماً و الشيعي خصوصاً إلى مذهب راسخ بظهور «الهاشميات» للكميت الشاعر الشيعي المتعلم و الشجاع (60-126ه‍(، فاكتسب أجواء أكثر علمية و معنوية. و قد كان يضمر الحب الصادق لآل بيت الرسالة، و يبدو أنه كان منبهراً بفضائلهم الخُلُقية أكثر من أي شيء آخر. و تعد القصائد الأربع (البائيتين في 138و 67 بيتاً، لامية في 89 بيتاً، ميمية في 102 بيت) المعروفة بـ «الهاشميات» أهم أشعاره الدينية، و لكن يبدو أن بائيته البالغة 138 بيتاً و التي اشتهرت في الأدب العربي برمته، هي التي رفعت من مكانة الكميت إلى حد بعيد. على أن هذه الآثار لم‌تخل تماماً من التقاليد القديمة، فوصف الناقة مثلاً مايزال يشاهد فيها، و لكن «النسيب» الجاهلي، لايرى فيها في المقابل، ولاشك في أن ذلك كان مقصوداً، لأن الشاعر «يطرب» في بداية البائية الكبرى مثل بعض الجاهليين، و لكنه يصرح بأن طربه في الشيخوخة ليس للبيض و إنما لبني هاشم. و قد بكى في هذه القصيدة بكاء مراً على شهادة الإمام الحسين (ع)، و أفضل أبياتها تلك التي نبعت من أ‌عماق أحاسيس الشاعر و حبه لآل‌بيت النبوة و امتلأت بالتعاليم و الألفاظ الإسلامية (ظ: مبارك، 83-101).

و على أثر الحرية النسبية التي أتيحت بعد تولي العباسيين لزمام الحكم، عبر الشعراء الكبار الذين اعتنقوا التشيع، عن مبادئهم العقائدية بحرية مازجين هذا التعبير بمدح أهل البيت، وبيان الظلم الذي جرى عليهم. فقد بكى السيد الحميري (تـ‍ 173ه‍( بشدة «السبط الذي غيبته كربلاء»، و خصص قسماً كبيراً من شعره لمدح الإمام علي (ع)، و قد كانت القوالب الشعرية في عصره قد أصحبت لطيفة أكثر، و ظرفت مضامينها و صورها الخيالية إلى حد بعيد، و كان الشعراء يتطرقون أحياناً إلى مبادئهم العقائدية. و لذلك، فقد صيغ الكثير من مضامين الأحاديث النبوية شعراً بالإضافة إلى المصطلحات القرآنية (ظ: نعمة، 104-107). وقد نفذت العواطف و الميول الدينية في هذا العصر، حتى في آثار الشعراء الذين اشتهروا في الخلاعة و المجون. وقد تكللت حياة دعبل الذي كان في يوم ما في عداد الشعراء العباسيين الماجنين بنهاية سعيدة بسبب الحب الذي كان يضمره للأئمة (ع). فقد اعتبرت تائيته المفعمة بالروح الإسلامية، في عداد أروع القصائد في الأدب العربي.

و تبلـغ السلسلة الرئيسـة للشعـر الدينـي الـذي يمثـل ــ كما يلاحظ ــ الشيعي على الأغلب، ذروتها في آثار الشريف الرضي (359-406ه‍ )؛ ذلك لأنه لايتخذ أبداً من الشعر و حتى المدح وسيلة للحصول على المال و المنصب، بل يجعله وسيلة للتعبير عن العواطف الحكيمة. و القسم الأكبر من هذه الأشعار، ديني خالص: فقد نظمت «حجازياته» (40 قصيدة) في مراسم الحج؛ وتدور «شيعياته» حول أوضاع العلويين و الطالبيين و آلامهم وحقوقهم المغتصبة، ولاتخلو أشعاره الأخرى أبداً من روح التقوى (الفاخوري، 665-677؛ مبارك، 117-131).

و قد ظهر في عصر الشريف الرضي، بسبب تشيع الديالمة خاصة، طيف واسع من الشعر الشيعي الزهدي، أو المطالب بالثأر في الأدب العربي، ذلك لأن الشعراء كانوا يرون أنفسهم أحراراً في الجو الخاص الذي كان قد عم العالم الإسلامي و خاصة العراق ــ سوى الشريف الرضي ــ من قيود الاعتبارات الدينية والاجتماعية ــ في الشعر على الأقل ــ و لعل ابن الحجاج هو أبرز مثال، حيث كان يعتبر نفسه من جهة «رسول السخف والمجون» و نظم من جهة أخرى فائية تتضمن مدح الأئمة الشيعة و هجاء نابياً للغاية لكبار أهل السنة (ظ: ن.د، 2/ 658 وما بعدها).

كان تلميذ الشريف الرضي، رجلاً زرادشتياً اسمه مهيار الديلمي (تـ‍ 428ه‍( أسلم على يده، و لكنه كان ينظر إلى العالم نظرة التدين رغم افتخاره بأجداده، الأكاسرة (مثلاً ظ: 1/64) وكان يسعى لأن يواءم ميوله الواضحة إلى العنصر الإيراني مع ولائه لأهل البيت؛ وهكذا، فإنه يقدم الشكر إلى آل النبوة الذين أدوا إلى إسلامه (3/48-52؛ مبارك، 135)، و يشيد بأمير‌المؤمنين (ع) بسبب التغير الذي أحدثه في نفوس الفرس (3/109-116؛ مبارك، 133). وفضلاً عن ذلك، فإننا نراه يعبر عن ألمه البالغ بسبب شهادة الإمام الحسين (ع)، و يوجه نقده الشديد إلى أعدائه (2/259-262؛ أيضاً ظ: نعمة، 153، مخ‍(.

و لاشك في أنه لايوجد مذهب ضم أدباً بهذه السعة، والحماس خاصة، مثل الأدب الشيعي. و تدل على عظمة هذا الأدب الديني مؤلفات كبيرة مثل روضات الجنات للخوانساري، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين، و الغدير للأميني، بل و حتى آثار قديمة مثل مقاتل الطالبيين لأبي‌الفرج الأصفهاني. كما أن الأدب الفارسي أصبح هو الآخر يضم مخزوناً ضخماً من الشعر الديني في العصور المختلفة و خاصة منذ العصر الصفوي و مابعده، و هو إما أن يكون قد نظم بمناسبة الأعياد مثل مولد النبي (ص)، و غدير خم (ظ: الطباطبائي، 179-226)، أو بمناسبة شهادة الأئمة الأطهار (ع) و خاصة الإمام علي (ع) و الإمام الحسين (ع) (الكاشفي، 157-173، 242 و ما بعدها).

و فضلاً عن الميول الدينية الواضحة، فقد تجلى الشعر الديني الخالص في المجالات العامة أيضاً بشكل ملفت للنظر. و قد رأينا قبل ذلك، أن قصائد كبيرة و معروفة نظمت في مدح النبي (ص) منذ عصر كعب‌بن‌زهير. و قد بلغ هذا النوع من المدائح ذروته في القرن 7ه‍ بقصيدة البوصيري، حيث لاقت ميميته شهرة واسعة منذ البدء، و اكتسبت شيئاً فشيئاً نوعاً من القدسية، و حتى نسبت إلى بعض أبياتها خصائص علاجية معجزة؛ ثم ظهر بعدها حشد عجيب من الشعر في شرحها و تخميسها و تشطيرها، إلى درجة أنها ترجمت مراراً إلى الفارسية شعراً و نثراً، و مع الشرح في الغالب. و ماتزال هذه القصيدة تقرأ حتى الآن في مجالس الذكر (و خاصة بين الأكراد) بمناسبة مولد النبي (ص) لتضفي على أهل المجلس نفحة روحية (ظ: ن.د، البوصيري؛ أيضاً ظ: مبارك، 141-187). وعلينا أن نذكر بعد البوصيري ابن نباتة المصري (ن.ع) الذي ترك 5 قصائد كبيرة ذات طابع صوفي في مدح النبي (ص).

و أما المجال الآخر الذي يعتبر مظهراً مناسباً للتعاليم الإسلامية، فهو الأشعار المعروفة بالزهديات. ففي القرنين 2 و3 أسس أبو‌العتاهية (ن.ع) الذي اتهم أحياناً بالزندقة و المجوسية وسوء العقيدة، الشعر الزهدي و جعل منه مذهباً بقي خالداً في الأدب العربي. صحيح أن بعض أشعاره قد تفوح منها رائحة الديانة المانوية (ضيف، 3/249-251)، و لكن الجو العام لأشعار أبي‌العتاهية هو إسلامي بالكامل، ففيها ذكر ليوم القيامة و يوم الحساب ومضامين الأحاديث النبوية، و الأهم من كل ذلك، المضامين و حتى الألفاظ القرآنية (ن.ص). و قد جمع ابن‌عبدالبر مجموعة زهدياته (ظ: فيصل، 23- 38).

كان شعر الزهد قد بدأ قبل أبي العتاهية بقليل، فقد كان مالك ابن دينار و سفيان بن عيينة و سفيان الثوري، بل وحتى الخليل بن أحمد ينظمون الشعر الديني الوعظي، كما نظمت رابعة العدوية أولى الأشعار الصوفية؛ ثم ظهـر شعراء زهاد خصصوا أشعارهـم ــ على قلتها ــ للدين (ظ: ضيف، 3/399-413). و الملاحظة التي تستحق الاهتمام أن الشعر الزهدي، كانت له مظاهر مشرقة للغاية حتى بين أكثر شعراء العصر العباسي مجوناً مثل محمد بن يسير وخاصة أبانواس.

و قد أشرنا قبل ذلك إلى أن تأثير الدين لايقتصر على شعر المذاهب، أو الشعر الديني الخالص، ذلك لأن التعاليم و العادات والتقاليد الإسلامية كانت قد سادت المجتمع إلى درجة بحيث لم‌يبق شاعر، إلا و تأثر بها؛ خاصة أن هذه المفاهيم تحولت إلى عناصر ثقافية مشتركة كان الشاعر مضطراً إلى استخدامها للتفاهم مع أفراد المجتمع الآخرين (قا: ملحس، 72 وما بعدها).

و يبدو التأثير العام للإسلام ظاهراً، خاصة في مضامين الشعر، أي العواطف الدينية للشاعر المسلم و كذلك في الألفاظ. فإذا ارتبط الشعر مثلاً بعاقبة الإنسان، اضطر الشاعر المسلم، إلى أن يتحدث في أجواء معرفة العاقبة من وجهة النظر الإسلامية. ففي مرثية أبي‌تمام (ص 329) لأبناء حُمَيد الطوسي، يعتبر الممدوح شهيداً، و له أجر شهداء الإسلام، و ثيابه الملطخة بالدماء تتحول مباشرة إلى «ثياب سندس خضر» (الإنسان/76/21). و نرى ابن‌الأنباري يقارن الوزير المصلوب بزيد بن علي ابن الإمام زين‌العابدين (ع) (البيهقي، 245).

 

تأثير الإسلام في النثر العربي

إذا سلمنا بأن اللغة ظاهرة اجتماعية، فيجب بالضرورة أن تنسجم مع التغيرات الاجتماعية مثل أي ظاهرة اجتماعية أخرى. فالتغير الاجتماعي و خصوصاً عند حدوث الثورات الأصولية، أو تلاقي الثقافات الكبرى، يؤدي أولاً إلى تحديد أنظمة العلاقات، ليتسبب في التغيرات اللغوية. و يرى البعض أنه لامناص من أن تتغير العناصر الدلالية للمجتمع أيضاً مع عناصرها الظاهرية، ذلك لأن اللغة تتغير من حيث «علم التبيّؤ» (ظ: موقت، 15).

و بظهور الإسلام، اكتسبت البيئة العربية شكلاً آخر حقاً، فظهرت حينئذ تغيرات واسعة للغاية في مجال الألفاظ و الدلالة. والموضع الوحيد الذي لم‌تحدث فيه تغيرات مهمة هو مجال الصياغة النحوية للغة العربية، حيث لم‌تصبه تغييرات أساسية بفضل خلفية الأدب الجاهلي (م.ن، 15-16).

و لاشك في أن القرآن الكريم هو أساس جميع التغييرات المتعلقة بالبيئة المحلية للغة العربية، و الذي لايعتبر الوحي الإلٰهي و أكثر ظواهر الأدب العربي إشراقاً و حسب، بل إنه يعد هو نفسه منتجاً لكم هائل من هذا الأدب. ذلك لأنه يعد مؤسس حضارة قليلة النظير في العالم و في نفس الوقت فإنه أحدث تيارات فكرية و أدبية لاحصر لها. و لكن القرآن كان له دور أساسي آخر بالإضافة إلى دور التغيير، ألا و هو، ترسيخ اللغة العربية خلال 400,1 سنة (عبدالجليل، 92).

و مع كل ذلك، يجب أن لانتصور أن اللغة العربية و آدابها، لهما نسيج ديني و قرآني متلاحم؛ على أن ذلك هو بدوره وليد عدة عوامل. فقد كان هناك منذ البدء عاملان حالا أكثر دون هذه الوحدة: أحدهما تعصب الأمويين و إحياء التقاليد القديمة، و الآخر، اجتياح الثقافات الأجنبية للغة العربية. و نحن نرى في الروايات المختلفة بعض الشخصيات البارزة توصي الناس بالاستفادة من القرآن في التعبير عن عواطفهم، وتنهاهم عن الاستشهادات و ذكر الأمثال غير الإسلامية (و على سبيل المثال، فإن أمير‌المؤمنين (ع) نهى جرير بن سهم الذي كان قد بلغ أطلال المدائن، عن الاستشهاد بشعر الأسود بن يعفر، و أوصى بآية من القرآن الكريم؛ ظ: أبوالفرج، 13/21، حيث نقلت هذه الرواية نفسها بشأن عمر بن عبد‌العزيز). و لكن ظهر بشكل تدريجي منذ عصر الأمويين ومابعده أدب قيم إلى جانب الثقافة الدينية الخالصة، و حافظ على استقلاليته لعدة قرون بفضل فضائله الأخلاقية و اللغوية التي تبدو ظلاً للفضائل الدينية.

و إذا ما تجاوزنا القرآن الكريم، فإن أولى الآثار الإسلامية المنثورة، تعد قليلة نسبياً: فالأحاديث النبوية و حتى الأحاديث المختلقة، تتميز بنثر سهل و بعيد عن التصنع، يميل غالباً إلى لغة الحوار؛ فالخطب اعتباراً من خطبة حجة الوداع و حتى كلام أمير‌المؤمنين علي (ع)، تتميز بنثر فاخر و موسيقي و مسجع في الغالب؛ و تصنف الرسائل و العهود و نظائرها في قالب ديني، ولكن مضامينها تميل في الغالب إلى الأمور السياسية والاجتماعية. و لايتجاوز النثر العربي في جميع أرجاء القرن الأول الهجري، هذا النطاق، سوى أن طابعة الديني يتقلص في نطاق السياسـة، و فـي المقابـل تزيــد المذاهـب الدينيــة ـ السياسية الجديدة بدورها من حماسه الديني؛ و لم‌تكن العناصر المحلية مثل «القُصّاص» قد أعدت العدة بعد كي تستطيع إغناء اللغة من جديد، و كانت اللغة العربية ماتزال تنتظر بفارغ الصبر الحركة التي يجب أن يكتسب النسيج اللغوي على أثرها مرونة من عدة جهات، ثم تتحول إلى وسيلة للتعبير عن الثقافات التي بدأت الآن تتدفق في داخل المجتمع الإسلامي.

و أما الوضع التاريخي للنثر العربي منذ بداية القرن 2ه‍ فيتمثل من جهة في أن بعض التقاليد العربية القديمة، استمرت محملة بالمعاني الدينية الجديدة و نسيج تتداخل فيها التقاليد و التجدد، في تركيبة لغوية لم‌تخرج بعد من قوالبها؛ و من جهة أخرى، فإن الحاجات السياسية و الاجتماعية و الثقافية في المجتمع العراقي غير المتجانس خلقت لغة حطمت القيود القديمة، و أصبحت مستعدة للتعبير عن المعاني الفلسفية و المنطقية و العلمية والأخلاقية والقصصية و التاريخية و غيرها. و قد بلغت هذه اللغة التي كانت قد بدأت بعبد‌الحميد الكاتب، ذروة اقتدارها على يد ابن‌المقفع، و تم تثبيتها في قوالب محكمة. و بعد ابن‌المقفع، وظف الكتّاب المسلمون تلك اللغة في مجالات بالغة التنوع، و خلقوا منها أدباً قيماً، حتى تحولت إلى روائع خالدة في آثار مؤلفين كبار مثل الجاحظ و ابن قتيبة و أبي‌الفرج و الوشاء و أبي حيان، بل وحتى الفلاسفة.

و لاجرم في أن هذا الأدب لم‌يخل أبداً من المصطلحات والتعبيرات الدينية لأنه ترعرع في بيئة إسلامية، و خاصة و إنه كان يستشهد دوماً بالآيات الإلٰهية، و كانت هي نفسها تصبح موضوعاً لهذا الأدب. و لكن أسسه الأولى كانت في الغالب المفاهيم التي جاءت أولاً من الثقافتين الإيرانية و الهندية، ثم من العلوم اليونانية، و التقاليد العربية القديمة، و لأن الأسس الأخلاقية كانت تشكل القسم الأكبر منه فقد كان يتقارن مع التعاليم الدينية. و لم‌يكن من باب العبث أن تنسب بعض أقوال أمير‌المؤمنين (ع) إلى ابن المقفع، و عبارات لابن‌المقفع إليه.

و لم‌يكن الأدب العام (ظ: ن.د، الأدب) المفرغ من إرشادات الدين و أوامره يقع موقع الرضى من قبل العلماء الكبار؛ بل إن ابن قتيبة الذي كان يعد لفترة طويلة في آثار المستشرقين كاتباً غير ديني (علماني)، كان يدعو إلى توظيف «الدين في الأدب». ففي البرنامج الذي وضعه للأدباء في بداية العيون، يرى ضرورة تعلم «القرآن و التفسير و الفقه» إلى جانب علوم «الأدب» الأخرى. و يتضمن الفصل الخامس من هذا الكتاب أقوال كبار صدر الإسلام و خطبهم (ظ: ن.د، ابن قتيبة).

و قد كان حضور القرآن في هذا الأدب، على نوعين: أحدهما الحضور العام و ربما الخفي و العاطفي للإسلام، و الآخر الحضور الآني، و المثير للحماس. و المراد من الحالة الثانية، حشد المصطلحات و التركيبات و العبارات القرآنية التي استخدمت في البدء غالباً، و في داخل المؤلفات الأدبية أحياناً. و قد كان للحضور الذهني لعامة المسلمين من القرآن، آثار بديعة؛ و الأهم من كل ذلك أن وحدة الموضوع و معرفة الجميع له، كانت تسهّل من الارتباط الأدبي بين أفراد المجتمع. و نحن نعلم أن الصاحب‌ بن عباد تلا عند نقده العقد الفريد لابن‌عبدربه آية «...هذه بضاعتنا رُدّت إلينا...» (يوسف/12/65؛ قا: ابن خلكان، 1/230). وقد تحول الطيف الدلالي للآية و الذي كان قد اكتسب طابعاً نقدياً في كلام الصاحب، إلى واحدة من أشهر الفذلكات الأدبية بسبب معرفة الجميع للمصادر القرآنية (قا: النظامي، 21، استشهاد بنت سهل بآية أمام زوجها المأمون؛ عن مثل هذه الاستشهادات، أيضاً ظ: خرمشاهي، 12-17). و الهدف من حشد النماذج التي نمتلكها من هذا القبيل، هو هدف أدبي في الغالب و ليس دينياً.

و بعد ابن قتيبة، و مع اتساع الأصول العقائدية، اكتسب الأدب الديني مكانة معتبرة نسبياً في موسوعات الأدب العام؛ و على سبيل المثال فقد تم في نهاية الأرب للنويري تخصيص فن للقصص و الروايات الدينية من بين 5 «فنون» في الكتاب.

على أن تأثير الدين تجاوز هذا الحد أيضاً، فظهر مذهب مستقل تقريباً في الأدب. و قد جمعت الأحاديث النبوية في بداية القرن 2ه‍، و أصبحت للمسلمين أنموذجاً يمكن الارتقاء إليه في مجالات الأدب الأخلاقي و السلوكي و حتى الفني (و خاصة لدى الصوفية) و المهني. صحيح أن التركيبة الظاهرية لهذه النماذج تشبه الأدب العام، و لكن الهدف ــ الذي هو السعادة الأخروية في هذه المرة ــ يميزها عن الأنواع الأخرى. و قد أظهر الأدب الديني، بهذا الأساس، معطياته، منذ بداية القرن 3ه‍ : فقد بدأ العمل بآثار مثل الأدب المفرد للبخاري، و آداب النفوس للمحاسبي، ثم ثبّت قسم كبير من آثار ابن أبي الدنيا العديدة بناء الأدب الديني في نهاية القرن نفسه، و واصله في القرنين 3و4 ه‍، مؤلفون عديدون، خاصة الماوردي؛ و في القرن 5ه‍، ساد الأدب عصره بآثار مثل الآداب للبيهقي، و بهجة المجالس لابن عبد‌البر، وخلاصة إحياء العلوم و كيمياي سعادت للغزالي، و الأهم من كل ذلك كتابه الأدب في الدين، و أودع الأدب العام غير الديني عالم النسيان، أو حدّ من فاعليته على الأقل. و في القرن 6ه‍، لبس الأدب السلوكي أيضاً لباس الدين في آثار كتّاب كبار مثل السمعاني، و انتظم سلوك الإنسان المسلم في إطار التعاليم الدينية حتى في أدق تفاصيل السلوك الاجتماعي و الشخصي. إن مايلفت الانتباه في الإملاء و الاستملاء للسمعاني، هو أنه أولى اهتماماً خاصاً لنظام التعليم و المعلم و المتعلم، و دخل الأدب المهني من خلال التذكير بملاحظات ظريفة للغاية.

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: