الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الإسلام /

فهرس الموضوعات

و في إطار تحيلل تاريخي يجب القول إن المعتزلة كانوا يميلـون إلى النص كثيراً في النظـام الفقهي حتى منتصف القـرن 3ه‍/ 9م، رغم نزعتهم العقلية في المسائل الكلامية؛ و كانوا يهاجمون في آثارهم العديدة أصحاب الرأي و القياس (ظ: ن.د، 5/666). و قد كان النهج العام لمتقدمي المعتزلة و الذي كان قد اشتهر آنذاك بـ ‍‌«الاستخراج»، يتمثل في أنهم كانوا يقصرون الأدلة الفقهية و المصادر الشرعية الملزمة، على الكتاب و الخبر «القاطع للعذر»، فيما اعتبروا الشرع ساكتاً في ذلك الموضوع دون اللجوء إلى أساليب مثل العمل بالأخبار غير الثابتة، أو الإجماع، أو الرأي و القياس، و كانوا يتمسكون بمبدأ الإطلاق العام استناداً إلى دليل العقل بمفهوم خاص. و كمثال على اختلاف الأساليب الجزئية بين النظام و جعفر‌بن‌مبشر تمكن الإشارة إلى أسلوبهما في القياس المنصوص العلة؛ فلم يكن جعفر يعتبر النص على علة الحكم موجباً للتعبد بالقياس، خلافاً للنظام (ظ: أبوالحسين البصري، 2/753).

و أما النصف الثاني من القرن 3ه‍، فقد شهد تحولاً أساسياً في النظام الفقهي للمعتزلة؛ تحولاً كان من شأنه أن يزيل الشذوذ السابق في الفقه الاعتزالي من الأذهان، و يقرب المواقف الأصولية للمعتزلة إلى حد كبير من المذاهب الفقهية المتداولة. و في هذه الفترة كان أبوالحسين الخياط أحد زعماء معتزلة بغداد، يسعى لأن يوفق بشكل رمزي بين النهج الفقهي للنظام و جعفر و بين مواقف المعتزلة الجديدة (ظ: الخياط، 89، مخ‍(. وفي مذهب البصرة، قبل أبو علي الجبائي حجية الإجماع و القياس، و لم‌يكن يختلف كثيراً مع الفقهاء الشافعيين و الحنفيين حول الأدلة الأربعة و هي الكتاب و السنـة و الإجماع و القياس فـي نفس الوقت الـذي كان فيـه فقيهاً معتزلياً مستقلاً (ظ: أبوالحسين البصري، 2/467- 468، 533، مخ‍؛ أيضاً الناشئ الأكبر، 107). و استمراراً لهذه المسيرة، انقرض النهج المستقل للفقه المعتزلي، و اتجه المتكلمون المتأخرون تدريجياً إلى المذاهب الفقهية الشائعة كالحنفي و الشافعي.

و يلاحظ بين المتكلمين القائلين بالإرجاء الذين كانوا ينتمون إلى المعتزلة من حيث التعاليم العدلية، وجهة نظر خاصة بالنسبة إلى الأدلة الفقهية. و نذكر على رأسهم بشراً المريسي الذي كان يؤكد تأكيداً خاصاً على حجية الإجماع في بيان أدلة الفقه إلى جانب الكتاب و السنة (ظ: الدارمي، الرد على بشر المريسي، 144، الرد على الجهمية، 93). و مما يستحق التأمل إمكانية أن يكون فكر الإرجاء متلازماً مع طرح «حجية الإجماع»، و لكن الشواهد التاريخية تشير إلى أن المرجئة من أصحاب العدل كانوا من المدافعين المتحمسين عن حجية الإجماع، و أصحاب آراء خاصة حول ماهيته. و إن بشراً المريسي الذي أخذ هو نفسه في الفقه بالإطار العام للفقه الحنفي، و كان كأسلافه الحنفيين يؤمن إيماناً راسخاً بحجية القياس، وضع القياس بشكل‌ما على أساس الإجماع؛ حيث نقل عنه إنه لم‌يكن يرى «قياس (الفرع) على الأصل» ممكناً إلا في حالة إجماع الأمة على «تعليله» (ظ: أبوالحسين البصري، 2/761). و استناداً إلى رواية منقولة عن أحمد بن حنبل، فقد كان بشر المريسي إلى جانب أبي بكر الأصم، المتكلم المعتزلي المعاصر له ــ الذي لم‌تكن أفكاره تحظى بتأييد عامة المعتزلة بشكل كامل ــ أهم المنظرين لنظرية الإجماع في تاريخ الفقه (ظ: ابن حزم، 4/573-574). و في جناح آخر من المعتزلة المرجئة، طرح أبوعمران مُويس بن عمران موضوعية الإجماع بشكل آخر حاملاً هذه العقيدة حول التكاليف الشرعية وهي إنه لااختلاف بين أن يبين الله حكماً، أو أن يفوض الحكم إلى اختيار علماء الأمة بعد علمه بأنهم لايختارون، إلا مافيه المصلحة (ظ: القاضي‌عبدالجبار، «فضل الاعتزال»، 279؛ الشريف المرتضى، 2/174-185). و ربما كانت هذه الرؤية إلى مسألة الإجمـاع أكثـر الآراء صراحـة حـول الإجـمـاع، حيـث اعتبـرت كـ‍ ‍‌«مرجع للتقنين»، لاطريق للتوصل إلى حكم معين سلفاً.

 

ظهور الفقه الظاهري

مؤسس هذا المذهب الفقهي هو داود الأصفهاني الذي كان إيراني الأصل و ولد في الكوفة. و قد سافر إلى البصرة و بغداد و نيسابور للدراسة و أخيراً سكن بغداد. كان والده يتبع المذهب الحنفي، و قد اعتنق هو نفسه أولاً المذهب الشافعي، و لكنه على إثر تحول فكري ترك ذلك المذهب وأسس نهجاً خاصاً في الفقه (ظ: الخطيب، 8/369 و مابعدها). و رغم أننا لانلاحظ في المصادر القديمة إشارات واضحة إلى العلاقة بين النهج الفقهي لداود و تعاليم المعتزلة، إلا أن مقارنة أفكار داود مع متقدمي المعتزلة في الأصول الفقهية من جهة، و اعتقاد بعض أتباع داود كالقاضي أبي الفرج الفامي (عنه، ظ: أبو إسحاق، طبقات...، 178-179) بمذهب الاعتزال من جهة أخرى، يجعلان إرجاع بعض جذور فقه داود الظاهري إلى فقه المعتزلة الظاهري، قابلاً للتأمل ولايستبعد أن يكون هذا التقارب حصيلة تعرف داود المباشر على تعاليم هذا المذهب في بيئتي البصرة و بغداد. إن مايقرّب اتجاهات داود من المعتزلة المتقدمين، ليس اتجاهه إلى محاربة القياس والرأي فقط، فمواقفه في مباحث مثل نقد حجية الإجماع، و حجية الخبر الواحد، و نفي التقليد قريبة بشكل ملفت للنظر من تعاليم المعتزلة.

و رغم أن ابن النديم (ص 271-272) ذكر عناوين أكثر من 150 أثراً من مؤلفات داود، و لكننا لانجد اليوم أي أثر من هذه المؤلفات، و الطريق الوحيد لدراسة نهج داود الفقهي، هو نقد وتحليل الآراء الكثيرة المذكورة في آثار الآخرين. و كنظرة سريعة إلى الموضوع، يجب التذكير بأن داود حمل الأمر بالنكاح الوارد في‌الآية (النساء/4/3) على الوجوب، و حكم بوجوب النكاح، خلافاً لجميع الفقهاء (ظ: الطوسي، الخلاف، 2/203). و قد دفعت النظرة الظاهرية لداود في التعامل مع الحديث بنفس الشكل إلى الشذوذ و أدت إلى أن لايعتبر الأمر في الحديث: «إذا أحيل على أحدكم... فليحتل» رضا المحتال شرطاً في صحة الحوالة، وذلك استناداً إلى الظاهر (ن.م، 2/77). و من خصائص فقه داود الاستناد إلى النطاق المنصوص عليه و تجنب القياس و إلحاق الحالات غير المنصوص عليها، و افترض عدم تشريع حكم شرعي ــ حرمة، أو وجوباً ــ كقاعدة في الحالات غير المنصوص عليها والمسكوت عنها، فكان يقول بالحلّية، أو عدم الوجوب (لنموذج، ظ: ن.م، 2/11). و هو الأسلوب الذي كان ينسجم مع الرجوع إلى العقل وتنفيذ مبدأ عدم التشريع في الفقه المعتزلي المتقدم. ولم‌يكن داود يوافق على إجماع الفقهاء كدليل فقهي، و لم‌يكن يعتبر «إجماع الصحابة» حجة إلابشرط أن يكون كاشفاً عن النص الشرعي، لا أن يقوم على الرأي و القياس (ظ: ابن حزم، 4/372، 525).

و استناداً إلى رواية أبي الطيب الطبري و تأييد المصادر المختلفة، كان داود الأصفهاني في منتصف القرن 3ه‍/9م، المنظر لأسلوب سُمي في المصادر الأصولية للقرون التالية «استصحاب الحال»، و كان في الحقيقة المرحلة الأولى لظهور فكرة «الاستصحاب» الأصولية (ظ: السبكي، 3/269-270، نقلاً عن أبي‌الطيب؛ أيضاً أبوالحسين البصري، 2/884؛ ابن حزم، 5/5 ومابعدها؛ أبوإسحاق، التبصرة، 526).

 

المصادر

ابن أبي يعلى، محمد، طبقات الحنابلة، تق‍ : محمد حامد الفقي، القاهرة، 1371ه‍/1952م؛ ابن بابويه، محمد، علل الشرائع، النجف، 1385ه‍؛ ابن‌حزم، علي، الإحكام، بيروت، 1407ه‍/1987م؛ ابن رشد، محمد، بداية المجتهد، بيروت، 1402ه‍/1982م؛ ابن سعد، محمد، كتاب الطبقات الكبير، تق‍ : إدوارد زاخاو وآخرون، 1904-1915م؛ ن.م، القسم المتمم لتابعي أهل المدينة، تق‍ : زياد محمد منصور، المدينة، 1403ه‍/1983م؛ ابن عدي، عبدالله، الكامل، بيروت، 1985م؛ ابن‌العربي، محمد، أحكام القرآن، تق‍ : علي محمد البجاوي، بيروت، 1392ه‍/1972م؛ ابن عساكر، علي، تاريخ مدينة دمشق، عمان، دارالبشير؛ ابن قبة، محمد، «نقض الإشهاد»، ضمن كمال الدين لابن بابويه، تق‍ : علي أكبر الغفاري، طهران، 1390ه‍؛ ابن قتيبة، عبدالله، تأويل مختلف الحديث، تق‍ : محمد زهري النجار، بيروت، 1393ه‍/1973م؛ م.ن، المعارف، تق‍ : ثروت عكاشة، القاهرة، 1960م؛ ابن المرتضى، أحمد، البحر الزخار، بيروت، 1394ه‍/1975م؛ ابن المقفع، عبدالله، «رسالة في الصحابة»، آثار ابن المقفع، بيروت، 1409ه‍/1989م؛ ابن النديم، الفهرست؛ ابن هبيرة، يحيى، الإفصاح، تق‍ : محمد راغب الطباح، حلب، 1366ه‍/1947م؛ أبوإسحاق الشيرازي، إبراهيم، التبصرة في أصول الفقه، تق‍ : محمد حسن هيتو، دمشق، 1403ه‍/1983م؛ م.ن، طبقات الفقهاء، تق‍ : خليل الميس، بيروت، دار القلم؛ أبوالحسين البصري، محمد، المعتمد في أصول الفقه، تق‍ : محمد‌حميد‌الله و آخرون، دمشق، 1384ه‍/ 1964م؛ أبوزهـرة، محمد، الإمام زيد، القاهرة، 1959م؛ أبوعبيد القاسم، الأمـوال، تق‍ : عبدالأمير علـي مهنا، بيـروت، 1988م؛ م.ن، الناسـخ و المنسـوخ، تق‍ : برتـن، كمبـردج، 1987م؛ أبـوالعــرب، محمـد، طبقـات عـلـمــاء إفـريقيــة و تـونـس، تق‍ : علي‌الشابي و نعيم حسن اليافي، تونس، 1985م؛ أبوهلال العسكري، الفروق اللغوية، القاهرة، 1353ه‍؛ أبويوسف، يعقوب، الخراج، بيروت، 1399ه‍/1979م؛ م.ن، الرد على سير الأوزاعي، تق‍ : أبوالوفاء الأفغاني، القاهـرة، 1357ه‍؛ پاكتچي، أحمد، «گرايشهـاي فقـه إماميـة درسدۀ دوم وسـوم هجـري»، نامــۀ فرهنگستان علـوم، 1375ش، عد 4؛ البرقي، أحمد، المحاسن، تق‍ : جلال‌الديـن المحدث الأرموي، قم، 1371ه‍؛ البسوي، يعقوب، المعرفة و التاريخ، تق‍ : أكرم ضياء العمري، بغداد، 1975-1976م؛ البيهقي، أحمد، مناقب الشافعي، تق‍ : أحمد صقر، القاهرة، 1970م؛ الترمذي، محمد، سنن، تق‍ : أحمد محمد شاكر وآخرون، القاهرة، 1357ه‍/1938م و مابعدها؛ الخطيب البغـدادي، أحمد، تاريخ بغـداد، القاهرة، 1349ه‍؛ الخيـاط، عبدالرحيم، الانتصار، تق‍‌ : نيبرغ، القاهـرة، 1344ه‍/1925م؛ الـدارمي، عثمـان، الرد علـى بشر المـريسي، تق‍ : محمد حامد الفقي، بيروت، دار الكتب العلمية، م.ن، الرد على الجهمية، تق‍‌: يوستا فيتستام، ليدن، 1960م؛ الذهبي، محمد، ميزان الاعتدال، تق‍ ‍‌: علي محمد البجاوي، القاهرة، 1382ه‍/1963م؛ السبكي، علي و عبدالوهاب بن علي السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، بيروت، 1404ه‍/1984م؛ الشافعي، محمد، «اختـلاف مالك...»، ضمن ج 7 الأم؛ م.ن، الأم، بيروت، دارالمعرفة؛ م.ن، الرسالة، تق‍ : أحمد محمد شاكر، القاهرة، 1358ه‍/ 1939م؛ م.ن، «سير الأوزاعي»، المذكرات، ضمن ج 7 الأم؛ الشريف المرتضى، علي، الذريعة إلى أصول الشريعة، تق‍ : أبوالقاسم گرجي، طهران، 1348ش؛ الشهرستاني، محمد، الملل و النحل، تق‍ ‍‌: محمد بن فتح الله بدران، القاهرة، 1375ه‍/1956م؛ الصفار، محمد، بصائر الدرجات، طهران، 1404ه‍؛ الصنعاني، عبدالرزاق، المصنف، تق‍ : حبيب الرحمان الأعظمي، بيروت، 1406ه‍/1983م؛ الطوسي، محمد، الخلاف، طهران، 1377ه‍؛ م.ن، الفهرست، تق‍ ‌: محمد صادق بحر‌العلوم، النجف، المكتبة المرتضوية؛ م.ن، المبسوط، طهران، 1387ه‍؛ عزالدين، حسن، «مشيخة»، تق‍ : محمد تقي دانش‌پژوه، نامۀ مينوي، طهران، 1350ش؛ الغزالي، محمد، المستصفى، القاهرة، 1322ه‍؛ القاضي عبدالجبار، «فضل الاعتزال»، فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة، تق‍‌ : فؤاد سيد، تونس، 1393ه‍/1974م؛ م.ن، المغني، الشرعيـات، القاهـرة، 1382ه‍/1963م؛ القاضـي النعمـان، دعائم الإسـلام، تق‍ ‍‌: آصف فيضي، القاهرة، 1383ه‍/1963م؛ القرآن الكريم؛ الليث بن سعد، «رسالة إلى مالك بن أنس»، ضمن ج 3 أعلام الموقعين لابن قيم، تق‍ ‍‌: طه عبدالرؤف سعد، بيروت، دار‌الجيل؛ مالك بن أنس، الموطأ، مع حاشية الكاندهلوي، كراتشي، مكتبة آرام باغ؛ محمد بن الحسن الشيباني، الأصل، تق‍ : أبوالوفاء الأفغاني، حيدرآباد الدكن، 1391ه‍/1971م؛ المرشدبالله، يحيى، الأمالي، بيروت، 1406ه‍/1984م؛ المروزي، محمد، اختلاف العلماء، تق‍‌ : صبحي السامرائي، بيروت، 1406ه‍/1986م؛ مسند زيد، تق‍‌ : عبدالواسع الواسعي، بيروت، 1966م: المكي، موفق، مناقب أبي حنيفة، حيدرآباد الدكن، 1321ه‍؛ الناشئ الأكبر، عبدالله، «الأوسط في المقالات»، مـع مسائل الإمامة لجعفر بن حرب، تق‍ ‍‌: فان إس، بيروت، 1971م؛ النجاشي، أحمد، رجـال، تق‍ : موسى الشبيري الزنجاني، قم، 1407ه‍؛ النووي، يحيى، تهذيب الأسماء واللغات، القاهرة، 1927م؛ الهادي إلى الحق، يحيى، الإحكام في الحلال و الحرام، 1410ه‍؛ وأيضاً:       

GAS.

أحمد پاكتچي/خ.

 

الأفكار الفقهية في القرون 4-6ه‍

في أواخر القرن 3ه‍، كان جو التقليد يطغى تدريجياً على الأوساط الفقهية، رغم أن عامة المذاهب الفقهية كانت تصرّ بشكل نظري على أهمية الاجتهاد. و في الحقيقة، فقد كانت هناك نتيجة مشتركة تحظى بالأهمية منذ أواخر القرن 3ه‍ بين شريحة واسعة من الأوساط الفقهية و هي أن تعمد إلى بسط و تفريع المذاهب الموجودة بدلاً من تأسيس مذاهب جديدة و ذلك على أثر سلسلة من العوامل التاريخيـة ـ الاجتماعية، و أن تلتزم بأصول هذه المذاهب في حالة الاتجاه إلى الأساليب الاجتهادية و الابتكارات الفقهية؛ و هو الفكر الذي أدى من جهة إلى الانسداد النسبي لباب الاجتهاد، و كانت نتيجته الأخرى تحديد المذاهب، أو معرفة عدد محدود من المذاهب فقط باعتبارها مذاهب فقهية مقبولة.

و في إطار دراسة تاريخ ظهور فكرة «المذاهب الأربعة» والأفكار المشابهة لها، يجب التذكير أولاً بأنه لايمكن البحث، إلا عن جذور مثل هذه المذاهب في القرون الهجرية الأولى الثلاثة. بمعنى أنه يمكن الحصول بين ماتبقى من القرن 3ه‍، على الفقه الحنفي و الفقه المالكي باعتبارهما اتجاهين متنافسين (مثلاً ظ: الجاحظ، 7/7)، و الفقه الشافعي مع قليل من التأخر كمنافس جديد (مثلآً ظ: الأشعري، 97؛ القاضي النعمان، 1/87). و قد كانت فكرة «المذاهب الأربعة»، قد اكتسبت في النصف الثاني من القرن 4ه‍ في شرق العالم الإسلامي طابعاً فكرياً، و كان مذهب داود الذي كان له آنذاك أتباع كثيرون، يعتبر عادة المذهب الرابع (مثلاً ظ: المقدسي، 46-47؛ ابن‌ النديم، 271). و في القرن 5ه‍، كان مذهبا أحمد‌ بن ‌حنبل و سفيان الثوري قد دخلا ساحة المنافسة، و عرف المذهبان الداودي و الحنبلي معاً في بعض مصادر هذه الفترة، كمذهبين من الدرجة الثانية بعد المذاهب الثلاثة (مثلآً ظ: الشريف المرتضى، الانتصار، 3؛ أبو إسحاق، طبقات...، 171-179)، و عندما كان أهل الفقه ينوون الحديث عن «المذاهب الأربعة»، فإنهم كانوا يذكرون أحياناً داود كفقيه رابع (ظ: الشريف المرتضى، الفصول...، 122-123، 157؛ أبوالصلاح، 508) وسفيان أحياناً (ظ: العبادي، 55) و أحمد أحياناً أخرى (ظ: عثمان بن‌أبي عبدالله، 211)، وكانت لاتزال هناك مؤلفات في مشرق العالم الإسلامي وفي مغربـه تصرّ على أفكار الفقهاء الثلاثة (مثلآً ظ: ابن عبدالبـر، الذي أكمـل كتابه الانتقاء بعبارة «في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء»).

و يجب أيضاً اعتبار القرون 4-6ه‍ فترة ذروة الدراسات الأصولية في تاريخ الفقه الإسلامي، و لم‌يكتسب تدوين علم الأصول الذي كان قد انفتح بابه منذ القرن 2ه‍، الطابع الجدي، إلا في القرن 4ه‍ . و في الفترة المذكورة انبرت شخصيات كبيرة من المذاهب المختلفة لتدوين علم الأصول مثل الشيخ المفيد والشريف المرتضى و الشيخ الطوسي من الإمامية و أبي الحسن الكرخي و أبي‌بكر الرازي و أبي زيد الدبوسي من الحنفية وأبي‌الحسن القصار و أبي‌بكر الأبهري و أبي بكر الباقلاني من المالكية و القفال الشاشي و أبي إسحاق الشيرازي و الجويني من الشافعية و أبي يعلى ابن الفراء و أبي الخطاب الكلوذاني من الحنابلة و ابن حزم الأندلسي من الظاهرية و القاضي عبدالجبار وأبي الحسين البصري من المعتزلة، و بالإضافة إلى تفصيل المباحث القديمة في أسس الاستدلال الفقهي مثل البحث في كيفية الاحتجاج بكتاب الله و الأخبار و الآثار و الإجماع، و كذلك مباحث القياس و الاستحسان، تطالعنا مباحث في مجال تحديد بعض المبادئ الفقهية، مثل أقسام الواجب، و الأمر و النهي، وبعض المباحث اللفظية المشتملة على العام و الخاص، و المجمل و المفصل، و الحقيقة و المجاز. و قد لعب كتاب المستصفى لمحمد الغزالي كأبرز ممثل للأصول في هذه الفترة التاريخية، دوراً أساسياً في انتقال البحوث الأصولية إلى الآثار المتأخرة.

 

الفقهاء أهل الاختيار، آخر المجتهدين المستقلين

مع اتساع أجواء اتباع المذاهب، في نهاية القرن 3 و العقدين الأولين من القرن 4ه‍، كان فقهاء مثل ابن جرير الطبري و ابن خزيمة وابن‌المنذز، يمثلون آخر ممثلين اجتهاديين أحرار من المذاهب الفقهية، و رغم أن حريتهم هذه في الأسس الفقهية كانت محدودة ب‍ـ «اختيار» الأقوال من المذاهب السابقة، و لم‌نكن نرى بشكل عام اتجاهاً لديهم لتقديم فتاوى خاصة و غير مسبقة. و من خلال نظرة تحليلية إلى فقه الطبري باعتباره ممثل هذه الطبقة من الفقهاء، يجب اعتبارها أولاً مذهباً في إطار أصحاب الحديث، أو عودة إلى الأساليب المعتدلة بين الحديث و الرأي في القرن 2ه‍؛ وهو الفقه الذي كان بحاجة إلى تثبيت أساليب كفوءة للترجيح بين آراء المتقدمين قبل أن يكون بحاجة إلى التفحص و البحث في المصادر الفقهية الأولى بسبب ماهيته ذات النزعة الاختيارية. ولذلك، فقد كان الطبري قد حوله في آرائه الفقهيـة ـ الأصولية إلى حجة فاعلة و يمكن الحصول عليها، و ذلك من خلال توظيف عنصر الإجماع و الاستناد الخاص إليه، و من خلال تقديم تعريف جديد للإجماع، و الذي كان قد استلهم من الناحية العملية، من الأسلوب التقليدي لأصحاب الحديث في الترجيح بين الآثار على أساس الشهرة، عبر الإعلان عن أن الإجماع ليس سوى اتفاق الأغلبية، و أن معارضة شخص واحد، أو بضعة أشخاص لايحدث خللاً في تحققه (ظ: ابن حزم، 4/ 538؛ أبو إسحاق، التبصرة...، 361). إن الاستناد إلى أسلوب الاختيار على أساس «إجماع موسع»، كان قد أغنى الطبري إلى حدما عن التوسع في الأدلة النقلية و أساليب الرأي و على هذا الأساس أيضاً، نرى في فقهه تعاملاً نقدياً مع الحديث، و اجتناباً نسبياً للقياس، إلى جانب الميل إلى ظواهر الكتاب طبعاً.

الصفحة 1 من57

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: