الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / الأدب /

فهرس الموضوعات

الأدب

الأدب

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/28 ۰۸:۲۶:۲۱ تاریخ تألیف المقالة

ومهما یمکن، فإننا نرجح أن نستخدم «أدب الأصناف» بدلاً من «الأدب المهني» الذي اقترحه پلا، لئلا نظل مقیدین بالحرف نفسها.

ومع ظهور الجاحظ في الأوساط العربیة، اضطر الباحثون (ظ: میکل، 35؛ البستاني، 8/ 64) ذلی أن یتساءلوا عن الطریق الذي ینبغي للمجتمع العربي المثقف الیوم أن یسلکه: الاتجاه نحو صیانة التراث العریق و خلق ثقافة منسجمة و متجانسة و مقاومة للثقافات الأجنبیة الدخیلة، أم نحو التعمیق و التدقیق في کل واحد من العلوم آخذین بنظر الاعتبار أهداف ثقافتهم؟

ومع الجاحظ، شاع الأسلوب الأول الذي هو «التأدیب». ومع أن الصراع بین الاتجاهین لم‌ینتهِ حقاً، ظهر مانسمیه الآن الأدب العام، وألقی بظلال شاملةعلی النثر العربي أیضاً.

وها هو النثر یتناول العلوم التي امتدت إلی جمیع الاتجاهات، لکنها تتجنب بشدة التعمق و التخصص. والمجتمع یری اعتبار الوق الإنساني فيمعرفته الموجزة بکل شيء ولیس في علم واحد متعمَّق فیه. فقد تخلی النثر عن الإطار الأخلاقي المتزمت لابن المقفع و سمح للتعالیم المصحوبة دائماً بالظرافة والحلاوة و الشعر واللهو، ولاشک في أن ذلک یبدو سهلاً علی الدوام. وقد أدی هذا إلی أن یطرح غرونباوم رأیاً مبالغاً فیه فیقول: «مع ظهور الأدب لمی عد لإسلام القرون الوسطی نصیب في تقدم الحضارة البشریة»، و بطبیعة الحالف فإن میکل الذي نقل هذا الکلام لم‌یؤیده، فطرح ردیاً أکثر اعتدالاً مایزال جدیراً بالنظر: جمد النثر الأدبي في قالبٍ عابَ النثرَ العربي و إلی الأبد... و أصبح وسیلظ بأیدي المتحجرین وکتّاب اللغو (ص 36).

 

ابن قتیبة، الأدب العام، النزوع إلی الدین والأدب المهني

في القرن 3هـ، القرن المشحون بالضجیج والحماس، حیث ظهر ثالث کاتب کبیر وأحد أبرز ممثلي الأدب، أي ابن قتیبة (تـ 276هـ)، وحدثت تغیرات في الأدب الأکثر قدماً الذي کان قد ورثه في الأساس عن الجاحظ. ولاتختلف مصادر إلهام ابن قتیبة کثیراً عن مصادر الجاحظ و یمکن تبویبها علی النحو التالي: 1. السنن الأخلاقیة والتقالید الإیرانیة الاجتماعیة والإداریة التي کانت تزداد هیمنة علی المجتمع العراقي یوماً بعد یوم، و تجد طریقها إلیه عن طریق آثار ابن المقفع و أکداس الترجمات (ظ: EI2؛ لوکنت، 450). وإن دراسة أبواب کتاب عیون الأخبار لوحدها تظهر جلیاً کیف استقی ابن قتیبة التقالید الإیرانیة الثقافیة – الفنیة ووسعها بمقتضی الحال. ففي القسم الأول من هذا الکتاب، حُشدت کمیة من الأقوال المنقولة عن ابن المقفع (ظ: ن.د، 3/ 692)؛ 2. استفاد علی نطاق واسع بلاشک من الاثار الفلسفیة الیونانیة و بشکل خاص الآثار المترجمة لأرسطو، في تکوین شخصیته العلمیة. و یحتمل أن یکون قد درس الفلسفة عندما کان یعیش في البصرة (ظ: ن.د، 3/ 686)، وعندما هبّ لمقارعة المتفلسفین والمتعقلنین حاول أن یستخدم في ذلک سلاحهم نفسه؛ 3. المصادر الأدبیة الضخمة من نثریة و شعریة والتي کانت في متناول الید بوفرة؛ 4. القرآن الکریم والحدیث الشریف والثقافة الدینیة مما کان مجال اختصاص ابن قتیبة. و علی هذا، یمکن تقسیم أدب ابن قتیبة إلی قسمین: 2. الأدب المهني؛ 2. الأد العام الذي هو تکمیل لأدب الجاحظ و یولي اهتمماض لجمیع علوم عصره.

1. أدب الکاتب: من أوائل آثاره کتاب أدب الکاتب الذي یمکن أن نضعه في إطار الأدب المهني و مما لایمکن مقارنته ببعض آثار الجاحظ مثل رسالة المعلمین. فإذا کان ابن قتیبة قد اهتم بعمل الکتّاب، فلیس ذلک عبثاً بطبیعة الحال. فتقالید الکتابة کانت تقالید إیرانیة تماماً وهاهي تجد طریقها إلی العالم العربي، وکان جمیع من یتولاها تقریباً من الموالي و خاصة الموالي من العنصر الإیراني. وکانت بلاطات الخلفاء والتنظیمات الإداریة في العلام الإسلامط بحاجظ إلی رصید هؤلاء الثقافي. فبمجرد أن یستطیع هؤلاء أن ینالوا نصیبهم من الأدب العربي، سواء أکان شعراً، أم نثراً، أم تقالید عربیة عریقة، کانوا یُستقطبون بسهولة إلی الجههاز الحکوميف و بعد فترة قصیرة، یتسنمون مناصب عالیة و حتی وزارات. وکان للکتّاب غالباً نشاط ملحوظ في خمسة مناصب: 1. کاتب دیوان الرسائل، الذي کان في الأساس مرکزاً لمراسلات البلاط ومکاتباته و لاجرم فإنه بحاجةتامة إلی المعلومات الأدبیة و فن الکتابة؛ 2. کاتب دیوان الخراج، الذي کان یحاجة إلی معرفة الحساب و أمور الضرائب و حتی مبادئ الهندسة (لأجل تقدیر الأملاک)؛ 3. کاتب دیوان الجند،الذط کان یتولی الأمور المعقدة و المتشعبة للجند؛ 4. کاتب المعونة، أو الشرطة، الذي کانت معرفة قوانین العقوبات و المقررات التنفیذیة من متسلزمات مهامه؛ 5. کاتب الحاکم، الذي کان ینبغي له أن یعرف الشرع الإسلامي جیداً (ظ: لوکنت، 442).

وعلی هذا، فإن الکاتب بهذه الثروة الثقافیة العظیمة یقف لامحالة في قلب ثقافة مجتمعه. ولما کان علیه أن یمهر في الأدب العام أیضاً إلی حد الکمال، فإنه سیکون لامحالة رجل بلاط ظریفاً فناناً مفوهاً أدبیاً (سوردل، 375). إذن، فأدب الکاتب الذي هو في أساسه کتاب مهني ووسیلة الکتّاب في عملهم، یمکنه أن ینفع کل رجل مثقف. وقد حدث ذلک حقاً، حیث اکتسب هذا الکتاب شهرة واسعة إلی الحد الذي اعتبر معه ابن خلدون في مقدمته (ص 553-554) وبعد حوالي 500 سنة أن أساس فن الأدب أربعة کتب: أدب الکاتب لابن قتیبة، الکامل للمبرد، البیان و التبیین للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي.

وفهرست موضوعات هذا الکتاب یمکنه جیداً أن یوضح مضمون الأدب وخاصة الأدب المهني، ولکن قبل الإشارة إلی هذا الفهرست، یستحسن أن ندرس مقدمة الکتاب لنری ماذا کانت أهداف ابن قتیبة ودوافعه إلی تألیفه.

فهو في البدء یتأوه بعتاب من جهل المجتمع وانحطاطه (ص5)؛ «فإني رأیت أکثر أهل زماننا هذا عن سبیل الأدب ناکبین ... الناشئ منهم راغب عن التعلیم ... و کسدت سوق البر وبارت بضائع أهله، وصار العلم عاراً علی صاحبه ... و أموال الملوک وقفاًعلی شهوات النفوس، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر و معاطاة الندمان و سقطت همم النفوس وزهد في لسان الصدق. فأبعد غایات کاتبنا في کتابته أن یکون حسن الخط قویم الحروف، وأعلی منازل أدیبنا أن یقول من الشعر أبیاتاً في مدح قینة، أو وصف کأس، وأرفع درجات لطیفنا أن یطالع شیئاً من تقویم الکواکب و ینظر في شيء من القضاء و حدّ المنطق، ثم یعترض علی کتاب الله بالطعن و هو لایعرف معناه، و علی حدیث رسول الله (ص) بالتکذیب و هو لایدري من نقله، وقد رضي عوضاً من الله و مما عنده بدن یقال «فلان لطیف، أو دقیق النظر» و هو بهذه الذریعة یری نفسه أفضل الناس (ص 5-6). ثم ینتقد ابن قتیبة بشدة أولئک المتفاخرین بعلومهم الفلسفیة، التي هي في نظره کلام أجوف (خاصة محمد بن الهجهم البرمي، ظ: ص 8-9). وأخیراً و حین یری (ص 9-12) أن کتّاب العصر بدورهم – شأنهم شأن بقیة الناس – قد استطابوا الدعة و العجز و العلوم البسیطة، یفکر في تألیف الکتاب فیدون أدب الکاتب في ثلاثة أقسام لأولئک الذین أهملوا الأدب. لکن هذه النقود و الشکاوی ماتزال غیر کافیة، فهو یبین الثقافة التي ینبغي للکتّا بالأدباء أن یعرفوها، فضلاً عن هذه الأمور الفنیة للأدب، لیصبحوا جدیرین بقراءة کتابه (ص 12): «ولیست کتبنا هذه لمن لم‌یتعلق من الإنسانیة، إلا بالجسم، و من الکتابة، إلا بالاسم، ولم یتقدم من الأداة، إلا بالقلم والدواة، ولکنها لمن شدا شیئاً من الإعراب فعرف الصدر و المصدر، والحال و الظرف، ولابد له أیضاً من النظر في الهندسة»، ثم یضیف نقلاً عن الفرس: «من لم‌یکن عالماً بإجراء المیاه ومجاري الأیام ودوران الشمس و مطالع النجوم والأوزان و الهندسة ونصب القناطر و الجسور و النواعیر علی المیاه و دقائق الحساب، کان ناقصاً في حال کتابته» (ص 12-13). ویضیف في الختام قلیلاً من الفقه والحدیث وأخبار العرب إلی هذا البرنامج..

وبطبیعة الحال، فإن کل ذلک لایثمر شیئاً من غیر رصید أخلاقي راسخ لایختلف کثیراً عن الأخلاق المقفعیة و یقول (ص 14) إنه لابد لمن أراد قراءة کتابه أن یؤدب نفسه قبل أن یؤدب لسانه، و یهذب أخلاقه قبل أن یهذب ألفاظه، و یصون مروءته من دناءة الغیبة،وصناعته عن شین الکذب و یجانب رفت المرح.

یتشکل کتاب أدب الکاتب من ثلاثة أقسام، القسم الثاني منه «تقویم الید»،تناول أمر الکتابة و دراسة أشکال رسوم الکلمات الخارجة عن الحالة المتعارف علیها. و القیم الثالث «تقویم اللسان» خاصبـ «إسقاط الأفعال و الأسماء»، أما القسم الأول فهو قسم مهم من العلوم الضروریة لکل أدیب کاتب: مسائل اللغة والبلاغة،الاسم و التسمیة، الفلک، الأزمان، الرباح، النبات، معرفة ما في الخیل، معرفة الإنسان، معرفة الطعام و الشراب، معرفة الثیاب، أسماء الصنّاع، الطیر، الحیة والعقرب و ...

2. عیون الأخبار: تصرمت سنوات إلی أن ألف ابن قتیبة کتاباً في الأدب، وبلغ بالعمل فیما سمیناه الأدبَ العام، حدَّ الکمال. فهو یقول في بدایة الکتاب (1/ ط-ک) إنه یؤلف العیون – کما هو الحال مع أدب الکاتب – لأولئک الذین هجروا الأدب،ذلک أنه أدرک أن أدب الکاتب ناقص لایشتمل علی جمیع الموضوعات، و یبدو أن استشعار النقص هذا ینبع من أنه ألف أدب الکاتب في البدء لطبقة خاصة وأهمل – مضزراً – حشداً من المعاني. و بعبارة أخری، فإن هذا الکتاب لم‌یکن بمقدوره أن یربي الأدیب الذي یتطلبه مجتمع العراق الآن، بینما لوکان ألف کتابي العیون و المعارف أولاً و قدم للقارئ مجموعة العلوم الضروریة، حینها لکان کتابه الأکثر تخصصاً أدب الکاتب قد أخذ موقعه الطبیعي.

وقد أوضح في مقدمة العیون برنامجه الأدبي و أهدافه بقوله: «إن هذا الکتاب و إن لم‌یکن في القرآن و السنة و شرائع الدین و علم الحلال والحرام، دالٌ علی معالي الأمور، مرشد لکریم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناه عن القبیح، باعث علی صواب التدبیر و حسن التقدیر و رفق السیاسة وعمارة الأرض ولیس الطریق إلی الله واحداً، ولیس مقتصراً علی معرفة علم الحلال والحرام، فأبواب الخیر واسعة و صلاح‌الدین بصلاح الزمان، و صلاح الزمان بصلاح السلطان، و صلاح السلطان – بعد توفیق الله – بالإرشاد و حسن التبصیر. لقد ألفت هذا الکتاب لمغفل التأدیب تبصرة،ولأهل العلم تذکرة، ولسائس الناس و مسوسهم مؤدباً، وللملوک مستراحاً منکد الجدو التعب» (ن.ص). و«لم أرَ صواباً أن یکون کتابي هذا وقفاً علی طالب الدنیا دون طالب الآخرة، ولاعلی خواص الناس دون عوامهم، ولاعلی ملوکهم دون سوقتهم. فوفیت کل فریق منهم قِسمه، ووفرت علیهم سهمه» (ن.ص).

إذن فمخاطَبوه هم: من وضعوا الأدب جانباً، أهل العلم، الحکام، المرؤوسون و الملوک. لکنه أضاف العروام إلی هؤلاء. فکل واحدة من هذه الفئات تستطیع أن تجد نصیبها في هذا الکتاب.

ولما کان الکتاب قد نظم جیداًو کان «لقاح عقول العلماء و نتاج أفکار الحکماء وزبدة المخض وحلیة الأدب ... و المتخیر من کلام البلغاء وفطن الشعراء و سیر الملوک و آثار السلف»، فلاجرم، أنها تنقذ القارئ من مساوئ الأخلاق، وتعلمه معالي الأمور و لاسلوک الرصین والأدب الراقي والأخلاق الحمیدة. کما أن ابن قتیبة قد ذکر فوائد أکثر وضوحاً لکتابه هذا بعضها: قول الحسن من الکلام والبلاغة في الکتابة ... واستخدام آداب الکتابة في صحبة السلطان ویعمر بها المجلس في الجد والهزل وقوة الحج وإفحام الخصم... و بشکل عام أن یکون محبوب الجمیع في کل جمع (1/ ک). وهذه المعاني هي نفسها التي یمکن العثور علیها تقریباً فيجمیع کتب الأدب وفيجمیع القرون.

إلا أن سمات الأدب لاتتوقف عند هذا الحد، ذلک أن من مستلزمات الأدب – فضلاً عن البلاغة – الخطابة و سلاسة التعابیر و الاتجاه إلی عمومیات العلوم و تجنب التخصص، وبعث السرور في النفوسو إدخال البهجة في الخواطر. وقد ألقیت هذه المهمة بطبیعة الحال علی عاتق النواد رو اللطائف و النکات و الحکایات الهزلیة. ولئلا یخرج کتابه عن نمط المتقدمین (1/ ل) تناول ابن قتیبة هذا الموضوع خاصة و أن المزاح «لیس من القبیح ولامن المنکر، ولامن الکبائر و لامن الصغائر» (ن.ص).

وعلی هذا، فالقسم الأخیر من لاعلوم مخصص للمزاح و الفکاهة، إلا أن کاتب الفکاهة مضطر للخطو فطوادٍ خطر یمکن أن یلحق الضرر بأخلاق القارئ و النثر العربي أیضاً. وبطبیعة الحال، فإن کاتب العیون الذکي عارف بهذه المخاطر، لکن یبدو أنه – ویثقته بإیمان المسلمین المثقفین من جهة، ورصانة النثر العربي من جهة أخری – لایدع للخوف إلی قلبه سبیلاً. فهو یخاطب أولاً قراءه الزاهدین بالقول إن الکتاب إذا خلا من المزاح – کما یریدون – فسیخسر لامحالة جزءاً من رقته (ن.ص). ثم یطلب إلی المخاطبین أن لایقلقوا من بعض الأمثال القبیحة والحکایات المثیرة للخجل ولامن بعض الأخطاء النحویة في اللغة، ذلک أن النادرة والنکتة التي تنبع من لغة الناس الدارجة تتبلور أحیاناً باللحن فقط. فإن ابتلي قول کهذا بقواعد الإعراب فقد حلاوته و عذوبته لامحالة (1/ م). ونحن نعلم أن الجاحظ أیضاً کان له نفس الأسلوب في استخدام اللحن (الحیوان، 1/ 282، البیان، 1/ 134)، وعقب ابن قتیبة بحوالي 150سنة تمت متابعة أسلوبه في کتاب حکایة أبي القاسم البغدادي المنسوب لأبي المطهر الأزدي (ص2).

وفي مقدمة عیون الأخبار أمران جدیرن بالاهتمام والدراسة: الأول إن ابن قتیبة قال صراحة إن کتابه لم‌یکن في القرآن ولا في لاسنة والشریعة و علیم الحلا و الحرام. و هذا الأمر و الإشارات المماثلة له أدت علی الدوام إلی أن ینظر إلیه الکتّاب المعاصرون – خاصة المستشرقین – نظرة کاتب حر التفکیر، وأحیاناً بعیدٍ عن الدین. لکن الأمر، کما یقول لوکنت (ص 421) لیس کذلک. فقد کان بشهادة آثار دینیة عدیدة رجلاً مسلماً حقاً و مؤمناً بالثقافة العربیة – الإسلامیة. صحیح أنه کان یتناول في بعض کتبه الرئیسة وبشکل أکبر، تلک الثقافة العامة والشاملة التي کانت قد وجدت أطرها النهائیة. إلا أن العلم الذي یخبو موقتاً في الوقت الراهن، هو العلم الذي لامفرّ منه لأي مسلم مثقف. أي أنه یمکن الاتجاه إلی الأدب في وقت تکون فیه علوم القرآن و الحدیث والحلال و الحرام قد توفرت بالقدر المتعارف علیه والضروري. لذا، فإن الأقوال الوعظیة و الأخلاقیة التي یوردها غالباً في مقدمات آثاره (مثلاً مقدمة أدب الکاتب التي ذکرت آنفاً)، رغم أنها تشبه تماماً وفي ظاهرها الکلام الأخلاقي لابن المقفع، فإنها بحسب رأي ابن قتیبة ترتبط بالمثل والأهداف الإسلامیة ولاتقتصر علی الأخلاق المحضة. ومن هنا، فنحن نعتقد أن الأدیب من وجهة نظره لایتطابق تماماً مع الأدیب لدی ابن المقفع الذي یهتم بالأخلاق العامة غیر الدینیة، و من جهة أخری لایتطابق أیضاً مع وجهة نظر الجاحظ عن الأدیب العارف بکل شيء والحائر ذي الثقافة الإیرانیة والحکمة الیونانیة و اللغة العربیة الذي یخوض قلمه في جمیع المعارف الإنسانیة. وربما لم‌یکن بعیداً عن الصواب کلام پلا (ظ: البستاني، 8/ 65) الذي قدم ابن قتیبة بوصفه أکبر تلامذة الجاحظ وأشد خصومه عناداً. ویخیل إلیک أن ابن قتیبة یسعی إلی أن یضیق دائرة الأدب و یرسم حدودها. فمرکز الأدب لدیه هو القرآن الکریم و قد أحاطت به السنة و لافلسفة و علوم العربیة. وإن مایضفي السعة الکبیرة و العذوبة علی آثار ابن قتیبة، هو العلوم الأکثر بساطة والأسهل منالاً في مجال الأدب، مما یصبح میداناً للشعر ولانثر العربي المحدث لامحالة، ویزید من قیمته إلی الحد الذي یستوعب معه بعد عدة قرون جمیع مقاهیم الأدب الواسعة.

ولأجل أن یحافظ ابن قتیبة علی الأدب ضمن نطاق معین ویصون طابعه العربي – الإسلامي، فهو مضطر إلی الوقوف في مواجهة تغلغل ثقافات عدیدة. وإن وقوفه – بشکل خاص – في مواجهة الفلسفة العقلانیة، جليّ (ظ: لوکنت، 441)؛ لکنه مستسلم تقریباً إزاء الثقافة الإیرانیة التي تهتم بالأخلاق و الآداب أکثر من اهتمامها بالفلسفة، ورسالته تفضیل العرب علی العجم التي لاتدل – بالمناسبة – بشکل واضح علی تفضیل العرب (ظ: ن.د، 3/ 688)، لیست دلیلاً علی التهرب من الثقافة الإیرانیة؛ فکتبه الثلاثة الأساسیة عیون الأخبار، أدب الکاتب، المعارف، مشحونة بنقول عن حکماء فارس. کما وضع هو نفسه «کتب الأعاجم و سیرهم» في عداد مصادر عیون الأخبار (1/ س؛ عن مصادره الفارسیة، ظ: لوکنت، 188-181).

والأمر الآخر الملاحظ جلیاً في مقدمة عیون الأخبار هو أن ابن قتیبة وضع العوام في عداد مخاطَبیه. وفي أدب الکاتب ادعی أنه یریدأن یلحق الرجل العادي بالمرهفین ویجلب الکودن إلی مضمار عتاق الخیل (ص 12). إلا أن الحقیقة لیست کذلک، إذ إن جمیع آثاره الأدبیة بدءاً من أدب الکاتب و حتی عیون الأخبار بأجزائه العشرة، لیس لها من مخاطَب سوی کبار الشخصیات والمثقفین. وبطبیعة الحال فإن الکتاب الأول قد ألف لفریق معین من موظفي الجهاز الحکومي، کما أن عناوین أجزاء عیون الأخبار عرّفت بمخاطَبیها: «السلطان» (في أخلاق الحکام)، «الحرب» (خاص بقادة الجیش)، «السؤدد» (مظاهر العظمة و العلو)، کما تتناول عناوین أخری مثل الطبائع، علم البیان، الزهد، الطعام وغیرها، أموراً یمکن طرحها في أوساط النبلاء و الأعیان.

ویمکننا هنا أن نوجز مفهوم الأدب لدی ابن قتیبة علی النحو التالي: ینبغي في الأدب أن یؤخذ قلیل منکل علم و أن یُبتعد عن التخصص، و هو کالجاحظ یصرح بهذا الأمر قائلاً: «إذا أردت أن تکون عالماً، فاقصد لفن من العلم، وإن أردت أن تکون أدبیاً،فخذ منکل شيء أحسنه» (عون، 2/ 129). وعلی هذا، فإن الأدب الأخلاقي لابن المقفع والأدب العلام للجاحظ هاهما یتجهان نحو التقنین و یسعیان إلی أن یتموضعا ضمن نطاق معین. ویکمن تفاوت أدب ابن قتیبة عن أدب الماضین في أن الجوهر الدیني لایتُتجاهل فیه، و هذا الأمر جلي في «کتاب الزهد» (الفصل السادس من العیون) و في مقاطع عدیدة من المعارف.

الصفحة 1 من7

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: