الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / الأدب /

فهرس الموضوعات

الأدب

الأدب

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/28 ۰۸:۲۶:۲۱ تاریخ تألیف المقالة

ومادام الأدب یعني مکارم الأخلاق (ولیست الدینیة بالضرورة) والرقة و التحضر، فربما لن نجد علی الإطلاق أدبیاً بأصالة ابن المقفع وشفافیته، فقد اجتمعت فیه صفات الذکاء الخارق و الحکمة و یقظة الضمیر و حب بني الإنسان ومعرفة الاداب و حلاوة اللسان و معرفة الشعر و حتی الثراء. و حینها تجلت هذه المعاني في حکایات آسرة و کلام جکمي و مواعظ ملموسة، و کلها بلسان صادق مترابط دونما تعقید. وأکثر من وصفوا الأدب اعتبروا أن أحد أهدافه هو أن یصبح الإنسان محبوباً لدی الجمیع. لقد کان ابن المقفع یسحر الجمیع حقاً،ففیه یتجلی حب الناس في قالب مدرسي منظم، وإن ماقدّمه في کتب الأدب تحت عنوان الإنسان الکامل، إنما ینطبق علیه هو. فقد اعتبر أسمی صفات المثقفین تکمن في المحبة التي کان یعتبرها أفضل من مکل شيء («الأدب الکبیر»، 114): لم‌یکن أسیر بطنه، ولم‌یکن یطلب مالایجد، فإن حصل علیه لم‌یسرف فیه، لم‌یکن عبد شهوته علی الإطلاق، و لم‌یکن یلوث ثوبه بالقبائح، یحفظ ماء وجهه، ولم‌یکن یطلق العنان للسانه أبداً، لایتحدث بما لایعرف، ولایعادي أحداً في معلوماته، لایبخل بالوعظ و النصیحة، کان صامتاً في أغلب الدحیان و متی تکلم، تفوّه بالحسن من الکلام و ... .

ویلاحظ هنا أنه فضلاً عن الأخلاق السامیة، یحدد أیضاً السلوک الجتماعي للرجل المثقف و یلزم نفسه بها. و یتضح التزامه بهذا السلوک فيعدة أخبار عن حیاته. و هو في «الأدب الکبیر» (ص 83) یعظ بقوله: «إبذل لصدیقک دمک و مالک»، و نحن نعلم – استناداً إلی بعض الروایات – أنه کان یرید بعد ذلک أن یفتدي صدیقه عبدالحمید بنفسه (ظ: ن.د، 4/ 117). کما أنقذ صدیقه الآخر عمارة بن حمزة من غضب المنصور، واشتری حیاة محکومٍ بالموت (ظ: ن.د، 4/ 121). وفي حیاته الیومیة أیضاً کان أدبه و تحضره قمة الثقافة المتحضرة و بمستوی بلاطات الأمراء الإیرانیین و المثقفین العرب. وإن التشریفات التي رواها البلاذري (3/ 219-220) عن أسلوبه في الضیافة و آداب المائدة، جدیرة جداً بالقراءة (أیضاً ظ: ن.د، ابن المقفع).

ومن البدیهي أن هذه الثقافة الشاملة الوافدة حدیثاً، لم‌یعد بإمکان النشر الجاهلي المسجوع أن یستوعبها بقوالبه. وقد تجلی نبوغ ابن المقفع في هذا المضمار بشکل خاص: جرّد لسانه من الصناعات اللفظیة و الکلمات الجاهلیة الغریبة، ثم اتجه إلی الفصاحة و البلاغة و السلاسة في النثر. و عندها و بالقدر الذي کانت تتسع منه مفاهیم و معاني، أو مضامین الحکایات، اتسعت تراکیب جمله لامحالة، فقدم مجالات أرحب. ومن هناک اتجه النثر في الأدب العربي نحو السلاسة، وورد علی مدی قرون سبلاً شتی.

ولاتقتصر معاني الأدب الأخلاقي بکتاب خاص من آثار ابن المقفع، ویمکن أن نجدها – کما یتضح من فهرست آثاره – في کل مکان: الأدب الکبیر، خاصة في آداب الملوک و أخلاقهم و سلوکهم اللائق، و لهذا السبب وُجَّه الاهتمام نحو ثقافة ندماء السلطان أیضاً. خصّص القسم الأخیر من الکتاب للصدیق و اختیار الصدیق وکیفیة التعامل معه، و بشکل عام کل ماله علاقة بالصدیق و الصدیق و کیفیة التعامل معه، وبکل عام کل ماله علاقة بالصدیق و لاصداقة. و قد تناول في الأدب الصغیر قلیلاً سیاسة ملوک إیران، لکن الدروس الأخلاقیة و الاجتماعیة و بشک لخاص حث الناس علی اکتساب العلوم و التحلي بالاداب و حسن المعاشرة و اکتساب الأصدقاء، تشکل القسم الأعظم من الکتاب.و کلیلة و دمنة فهي بأسرها أدب أخلاقي. رسالة الصحابة الموجهة إلی الخلیفة المنصور، تتضمن مواعظ و مقترحات، بل و حتی انتقادات لبلاط الخلیفة، و تتضح في هذه الرسالة آثار الأدب السیاسي التي کانت تتجلی أحیاناً في کتب «خداي‌نامه» و «آیین نامه».

ولدینا لابن المقفع کتاب آخر یدعی المنطق، یشتمل علی المنطق الأرسطي، لکنه مترجم من الفهلویة إلی العربیة. و في هذا الکتاب، سمیت بعض المصطلحات بکلمات تختلف عما هو متداول وأحدها علم الحساب و الهندسة الذي سمي علم الأدب (ظ: المنطق، 3، عن هذا الکتاب ظ: ن.د، 4/ 129). ولم ینمح هذا المصطلح بوفاة ابن المقفع، ذلک أنه و بعد قرنین أیضاً، قسمت العلوم الإنسانیة في رسائل إخوان الصفا إلی ثلاث مجامیع: ریاضیة (= الأدب) و شرعیة و فلسفیة (1/ 266-267). أما الکتب الأخری التي نسب ابن الندیم (ص 132) ترجمتها إلیه، فقد کان أغلبها في سیر الملوک: التاج في سیرة أنوشروان، آیین‌نامه، خداي‌نامه، في السیر. وکتاب مَرْدَک (أو مَرْوَک) هو الشبیه بکلیلة و دمنة علی مایبدو و لم‌یکن هناک بدّ من وضعه في حقل الأدب الأخلاقي (بشأن هذه الآثار و آثاره الأخری، ظ: ن.د، ابن المقفع).

ومع أن عصر ابن المقفع کان مایزال یشکل بدایة عملیة تدوین أخبار العرب و أشعارهم، فإن آثاره لقیت رواجاً في کل مکان، و هذا ما أدی إلی أن یصل بعضها إلی عصرنا. والروایة التي أوردها الطبري (9/ 107-108) حول الأفشین تدل علی انتشارها: خلال المحاکمة التي أدت إلی قتل الأفشین، سأله محمد بن الزیات الوزیر عن الکتاب الجمیل الذي کانوا قد وجدوه في بیته، فأجاب الأفشین أنه کتاب في الأدب و الأخلاق مثل کلیلة و دمنة و کتاب مردک «الموجود في بیتک» (ظ: ن.د، 4/ 130).

 

آیین = آداب

إن کلمة «آیین» التي استخدمت في عناوین بعض الکتب هي نفسها کلمة إون الفهلویة (مکنزي، 31)، تخطّت تدریجیاً عناوین الکتب واستخدمت في أحد معانیها اللغویة أیضاً. و من الملفت للنظر جداً أن الجاحظ استخدمها غالباً بدلاً من آداب، أو تقالید عملٍ معین: «آین المملکة» (ظ: التاج، 104). ویحتمل أن یکون مقصوده آداب العظمة، ذلک أنه یقول لیس آیین الملوک أن یتبع الأکبر أسلوب من هو أصغر منه؛ أو في البلخلاء (ص 25) حین یقول أحدهم لآخر: إن آیین هذا العمل هو أن تقول شیئاً وأقول شیئاً. و مرة أخری فيهذا الکتاب (ص 97) یتحدث عن «آیین الموائد الراقیة» (للاطلاع علی أمثلة أخری، ظ: محمدي، 230-232)، لکن هذه الکلملة نسیت تدریجیاً في اللغة العربیة، خاصة و أنها لم‌تکن قد لقیت رواجاً کبیراً فطعصرها الأول أیضاً. ولهذا، فإن الباحث یتصور علی مایبدو أن الکتّاب العرب استخدموا في مقابلها کلمة الجمع «آداب» التي تتطابق مع أحد أوزان الجمع العربیة من باب المصادفة؛ رغم أن یمکن العثور علیها مراراً بمعنی الأدب الأخلاقي و الدیني و کذلک الآداب (حول کتب الآیین باللغة الفهلویة، ظ: دانشنامه، مادة آیین‌نامه؛ للاطلاع علی الترجمات العربیة، ظ: محمدي، ن.ص).

وتزامناً مع ظهور عبدالحمید و ابن المقفع، واصلت التقالید العربیة القدیمة و الخالصة حیاتها في المجتمع المثقف الجدید بشکل تغیرات طفیفة،و في المجتمعات الأکثر تقلیدیة، بشکل أکثر وضوحاً. و من جهة أخری، کانت هذه التقالید تمتزج بقوة بسلو ک و معتقدات الدین الإسلامي الحدیث الظهور، و تؤدي إلی ظهور ثقافة دینیة عمیقة و شاملة نسبیاً. ومع أن هذا الأدب لم‌یصبح حتی القرن 3هـ منظماً ولم یدون في کتب، إلا أنه کان له تواجد مشهود في المجتمع.

ومن البدیهي أنه في هذا التشابک الشدید التعقید لایمکن علی الإطلاق وضع حدود معینة للمفاهیم المذکورة أعلاه. وفإذا أمکن وضع حدود غامضة لها ضمن فترة زمنیة قصیرة (إلی ابن المقفع)، فإن المفاهیم التي نبحثها تتخذ بعدها شکل دوائر متداخلة فمن الممکن مثلاً أن یظهر في مقطوعات من الشعر العربي الکلاسیکي، أدب أخلاقي من نوع أدب ابن المقفع، أو أدب دیني. ومع کل ذلک، فإن الجذع الأصلي لهذه الشجرة التي امتدت أغصانها لکل مکان تبعاً لابن المقفع، یزداد صلابة وثمراً ویکتسب توعاً مدهشاً. وعندها یتخذ ماندعوه الأدبَ العام شکلاً نهائیاً. ولاشک في أن العامل الأساس في هذا العمل هو نابغة الأدب العربي الجاحظ.

 

القرن 3هـ، الجاحظ

عندما نشط الجاحظ (تـ 255هـ) في تدوین الأدب، کان في متناول یده بطبیعة الحال وسائل جمة للعمل، یمکن أن نعدها بشکل إجمالي کمایلي: 1. الفلسفة الیونانیة التي کانت تستقطب اهتمامه بشکل کبیر، والتي کانت قد ترجمت إلی العربیة، وکانت عملیة الترجمة ماتزال متواصلة. وقد منحته هذه الآثار تعقلاً منطقیاً وأعانته علی بناء الکلام المعتزلي؛ 2. أشعار العرب و أخبارهم التي کانت تتضمن جمیع العادات والتقالید الجاهلیة والإسلامیة وکانت تنقل آنذاک من ذاکرة الرواة إلی بطون الکتب، وبذلک کان الکتاب إلی جانب الراوي، یعرّف الجاحظ بجمیع الأخبار العربیة التاریخیة، أو الأسطوریة وکذلک بأشعارهم التي لاحصر لها؛ 3. العلوم القرآنیة، کانت العلوم القرآنیة و علم الحدیث و الشریعة تتبلور في عصره إلی جانب قواعد اللغة و یتسع نطاقها بوتیرة متسارعة، وکان الجاحظ نفسه شریکاً في هذا الدمر بشهادة الاثار التي نعرفها له فيهذا المضمار؛ 4. أدی ذکاؤه الوقاد و نظرته الثاقبة في القضایا الاجتماعیة إلی أن لاتخفی علیه أیة فئة من فئات المجتمع؛ 5. وفي المجال الأدبي، ربما کان الأهم فیه الأدب الأخلاقي والآداب الإیرانیة التي ترجمت إلی العربیة بکمیة هائلة ووضعت تحت تصرف الجاحظ. کان ابن العمید یقول: إن کتب الجاحظ تعلّم الحکمة أولاً ثم الأدب (شلحت، 165).

فعقلنة الجاحظ و معرفته الفلسفیة، تقع من جهات معینة ضمن إطار علاقة العقل والأدب المقفّعیة، ذلک أن «العقل الاکتسابي» لدی الجاحظ یشبه الأدب لدی ابن المقفع الذي هو مکمل للعقل، ویؤکد الجاحظ في رسالة «المعاد والمعاش» (ص 96) «وقد أجمعت الحکماء أن العقل المطبوع والکرم الغریزي لایبلغان غایة الکمال إلا بمعونة العقل المکتسب». ثم یضیف: «وإنما الأدب عقل غیرک تزیده في عقلک» (ن.ص؛ أیضاً قا: شلحتفن.ص). ومن البدیهي أن تشابه العقل الجاحظي و الأدب المقفعي فحس هو موضوع البحث و لیس العقل الکلامي المعتزلي.

ربما کانت دراسة نصیب الثقافة الإیرانیة في تکوین الأدب الجاحظي ضروریاً لبحثنا، لکن لما کنا سنفصل ذلک في مقالة الجاحظ فیما بعد، فسنکتفي هنا بذکر عدظ عناوین و بعض المصادر. لقد تمت دراسة وتکمیل فهرست الکتب الفارسیة الذي أعده ابن الندیم (ص 377-378) مرات بواسطةالباحثین المعاصرین. کما أن الجاحظ یقول بشأن أحد هذه الآثار الذيکان اسمه أمثال بزرجمهر: إن هذه الأمثال و کذلک آثار ابن المقفع ... انتجت أدب الکاتب («ذم أخلاق الکتّاب»، 42؛ أیضاً ظ: بروکلمان، 3/ 103-105، الذي عرض فهرستاً جیداً بالترجمات الفارسیة). و هذا الکلام یعني أن الجاحظ لم‌یکن یبحث عن أدب کتّاب الدواوین الحکومیة و الذي یضم دون شک القسم الأعظم من «الأدب» في مکان غیر المصادر الإیرانیة. و العبارة الأخری التي نقلها عن الشعوبیة تدعهم الرأي أعلاه: «من أحب أن یبلغ في صناعة البلاغة و... فلیقرأ کتاب کاروند،ومن احتاج إلی العقل و الأدب و ... فلینظر في سیر الملوک» (البیان، 3/ 10). وفضلاًعن ذلک، فإن البعض یری أنه کان یعرف الفارسیة أیضاً (ظ: کرد علي، 2/ 317؛ خفاجي، 111-112). وتدل عدة عبارات، أو روایات علی معرفته بهذه اللغة (مثلاً ظ: الحیوان، 1/ 143، حول أشترگاوپلنگ = الزرافة)، وکذلک الشعر الفارسي الوارد في آثاره (مثلاً شعر ابن مفرغ في البیان، 1/ 132، أو عبارة في البخلاء، 22، أو الکلام الفارسي لعبدالله بن طاهر في المحاسن و الأضداد، 83؛ أیضاً ظ: خفاجي، ن.ص). وعلی أیة حال فإن الثقافة الإیرانیة تتجلی بوضوح في آثاره و خاصة البیان و التبیین (بهذا الشأن، أیضاً ظ: ذکاوتي، 57-67).

لکن مایبدو مهماً جداً في مسألة الأدب، هو تحوله الأساسي علی عصر الجاحظ و في آثاره. والمراد بهذا التحول، هو أن مفاهیم الأدب المختلفة، سواء أکانت أخلاقیة، أو لغویة، أو تقلیدیة و دینیة فإنها تترابط في ذهت الجاحظ بمجری واحد، فیتعلمها جمیعاً لیعرفه المجتمع بوصفه أدبیاً. إلا أن من الواضح أن أي شخص – حتی الجاحظ – لایستطیع أن یتبحر و یتخصص في جمیع علوم زمانه، لذا فإن علم الأدیب یختلف عن علم الرجل العالم اختلافاً کبیراً: العالم هو من یتخصص في فرع واحد (خاص في العلوم الدینیة)، و الأدیب هو الذي یتعلم من کل علم، أفضل وأبرز أقسامه. وإن معنی الأدب هذا الذي راج کثیراً منذ عصر الجاح، ظل لقرون و تکرر في جمیع کتب الأدب حتی وصل إلی ابن خلدون؛ و مع أنه هو أیضاً یکرر نفس المعنی (ص 533).

إلا أن الأدب اتجه بشکل أکبر إلی الآداب منذ عصر ابن خلدون (ظ: م.ن، 553-554؛ أیضاً ظ: تتمة المقالة). وهذا المعنی یتجلی في الجاحظ نفسه أیضاً: هو: «رجل عالم فیلسوف» لیس بالمعنی الأخص للکلمة، بل هو أدیب نابغة ولاینوي أن یبحث الموضوع الذي یرغب فیه بأسلوب علمي و شامل (عبدالجلیل، 134-135). بل إنه یری أن التخصص للجمیع غیرمقبول، ویعتقد أن خسارته أکثر من نفعه، ولهذا نری الجاحظ یوصي الخلیفة: «فخذ أولادک بأن یتعلموا من کل الأدب؛ فإنک إن أفرادتهم بشيء واحد، ثمّ سئلواعن غیره لم‌یحسنوه» («صناعات...»، 381).

وفي موضع آخر یدعو إلی أن یُتعلم من علم النحو بقدر ماتدعو إلیه الحاجة، کما لایقبل علی الإطلاق لغة الأخفش العلمیة و التخصصیة (الحیوان، 1/ 91-92). واختلاف الجاحظ عن بقیة الأدباء کبیر جداً، فقد کان له ذکاء و نظرة ثاقبة مثیرة للإعجاب و کذلک علم واسع جداً، وتحتوي آثاره جمیع علوم عصره تقریباً، فهو یقدم الإلهیات و الفلسفة و الحدیث و النحو و الآداب و المنطق و علم الاجتماع و الأخلاق والسیاسة و التاریخ و علوم النبات و الحیوان و الفلک و الموسیقی و ...، بأسلوب نثري سلس خال من التزویق وراق لیس له مثیل في کل الأدب العربي. وعن علمه وفنه في الکتابة، تحدث جمیع من لهم مؤلفات تدور حوله مثل لاسندوبي و الحاجري و خفاجي و شلحت و ذکاوتي وغیرهم بالتفصیل، وبالغوا أحیاناً في ذلک.

والشخصیة التي کان الجاحظ یحاول أن یخلقها لنفسه، هي شخصیة الأدیب العارف بکل شيء والتي کان یراها في وجود أستاذه النظام المعتزلي. لذا، فقد کتب یقول عنه بإعجاب بأنه کان یعلم الحساب و الفلک والکیمیاء وکان نشابة أیضاً ویحفظ القرآن عن ظهر قلب، وقرأ التوراة والإنجیل و کتب الأنبیاء، وکان عالماً بالفلسفة القدیمة ومتبحراً أیضاً بالشریعة الإسلامیة وفرقها و علم الحدیث (ظ: ذکاوتي، 22). وفضلاً عن ذلک، فقد کان ینظم الشعر و یعلم العروض و النحو و کان ماهراً في حل الألغاز والأحاجي، بلیغاً في العربیة وأستاذاً في الاحتجاج، یعاشر شتی فئات المجتمع، خاصة المتصوفة منهم، وکان قد تعرف إلی تقالیدهم، لکن بنظرة عابرة إلی فهرست آثار الجاحظ، یتضح جلیاً أن علمه کان أوسع بکثیر من علم أستاذه، و کتاباه الکبیران البیان و التبیین و الحیوان، کنوز ثمینة من کل مایلیق بأدیب القرن 3هـ. وقد أدرک الصفدي (ظ: خفاجي، 185) هذا الأمر جیداً، حین قال إن کل من قرأ الحیوان و بقیة کتب الجاحظ واستطراداته، أدرک ماهو الضروري للأدیب. وکتبه الأخری مثل البخلاء، المحاسن و الأضداد (المنسوب إلیه)، وخمسون ونیف رسالة مما خلفه تمتد باندفاع بکل اتجاه و تهرب من قید کل نظام و قانون. وقد أوضح بروکلمان (3/ 110 ومابعدها) الذي بوّب آثاره بحسب موضوعاتها، هذا الاتساع بشکل جلي. وکتبه ورسائله في أبواب الدین والسیاسة والتاریخ (مثل رسالة في إثبات إمامة علي (ع)، في باب العباسیین و...)، أخبار البشر (مناقب الترک وسائر أجناد الخلیفة، تفضیل السودان علی البیضان، النساء والحب، الجواري و...)، الأخلاق العامة التي هي بشکل من الأشکال نفس الأدب الأخلاقي، وعناوینها تشبه تماماً ماورد في کتب الأخلاق و حتی آثار ابن المقفع: الحاسد و المحسود، تفضیل الکلام علی الصمت، الوفاء بالعهد، و خاصة رسالة المعاد والمعاش في الأخلاق الحمیدة، کتمان السر، طهارة الأعراق، تهذیب الأخلاق، الجد و الهزل؛ الصنائع والحرف (التجار، الوکلاء، المغنون، کتّاب الدواوین، الجواري، المعلمون و...)؛ الحیوان، اللغة العربیة والبلاغة، الجغرافیا، المختارات، الجدل، فضلاً عن حشد من الرسائل في موضوعات متنوعة جداً مما لم‌یبق منها سوی عناوینها.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار مجموع هذه الآثار، فقد قسم پلا (ظ: البستاني؛ إیرانیکا) الأدب غیر الدیني للجاحظ إلی ثلاثة أقسام: 1. الأخلاق، 2. مختارات من التراث القدیم بهدف تثقیف المجتمع الناطق بالعربیة، 3. الأدب المهني. عندها یشیر إلی أن هذا التقسیم کان یصدق علی عصر ماقبل الجاحظ أیضاً. إذن لامناص من القول إن هذا الکاتب منح المفهوم الأول للأدب استمراریته. وربما کان عمل پلا الذکي جداً فیما یتعلق بالحالة الثالثة، أي الأدب المهني، جدیر بالنظر قلیلاً لمایلي: أولاً إن هذا الأدب کان علی عصر ابن المقفع و قبله خاصاً بالملوک مبدئیاً،ولم‌یکن حتی الوزراء قد نالوا بعدُ نصیباً یذکر منه. وأدب الملوک الذي ینبغي أن یکون النموذج الأسمی للأدب في المجتمع، من الصعب أن یدعی أدباً مهنیاً و یوضع بمستوی واحد مع رسالة المعلمین؛ ثانیاً إن الأدب المهني هذا لم‌یکن في آثار الجاحظ یوماً یدور حول آداب الحرفیین و ذويالمناصب الحکومیة، أو أخلاقهم الحمیدة في إطار مهنهم، بل مجموعةمن الحکایات الطریفة وغالباً الساخرة، جمعت حول فئة من المشتغلین بإحدی الحرف. فمثلاً «رسالة القواد» التي تبدأ بأدب أخلاقي، تختم بدن یصف کل مهني موضوعاً واحداً علی أساس المعطیات الذهنیة ومصطلحات مهنته و أن یکون الشعر الذي ینظمه في ذلک الباب، أیضاً علی هذا المنوال. أو رسالة ذم أخلاق الکتّاب التي تتضمن نقداً لاذعاً – ومفعماً بالضغینة أحیاناً – لطبقة کتّاب الدواوین، فصحیح أنه یمکن الاستفادة من هذه النقود إسلامیاً وأخلاقیاً، إلا أن هذا لم‌یکن مایهدف إلیه الجاحظ علی مایبدو. و بعبارة أخری، فإن هذه الآثار یمکن أن تکون موضوعاً للبحث في باب أدب القطاعات المختلفة للمجتمع، لکنها بذاتها لیست بحثاً في الأدب، أو الأب بعینه. فقد تناول الجاحظ أفراد المجتمع من داخله فرداً فرداً مع سلوکیاتهم. وخلافاً لابن قتیبة، فإنه لم‌یجعل موضوعاته في إطار عام ضمن برنامج منظم؛ وبالتالي، فإنه لایمکن إطلاقاً مقارنة کتابه ذم أخلاق الکتّاب من حیث الهدف، أو الهیکلیة العاطفیة بأدب الکاتب لابن قتیبة.

الصفحة 1 من7

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: