الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أصحاب الحدیث /

فهرس الموضوعات

أصحاب الحدیث


تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/28 ۱۱:۲۴:۲۵ تاریخ تألیف المقالة

ألف ـ استخدام الدليلين الكتاب و السنة

لدى بحث كيفية تعامل أصحاب الأثر المتقدمين مع كتاب الله، تجدر الإشارة إلى أسلوب مالك بوصفه أنموذجاً لذلك؛ و استناداً إلى تحليل الآراء تجدر الإشارة إلى أنه أبدى التزاماً كبيراً لدى تعامله مع ظواهر الكتاب، و كان متشدداً جداً في قبول الحديث الذي يتعارض وظاهر الكتاب، و كان أشدّ من أبي حنيفة في تمسكه بهذا الأسلوب، و المثال على ذلك هو حكمه بحسب العموم الظاهري للآيات (المائدة / 5 / 96؛ الأنعام / 6 / 145) بشأن اللحوم المأكولة (للاطـلاع علـى تحليل بهـذا الصدد، ظ: أبـو زهـرة، 307- 308). و فضلاً عن ذلك، يجدر ذكر الاستناد إلى اتّباع كتاب الله في رسالة الفقيه الشامي عباد بن عباد التي سُردت بتعابير مثل ضرورة «العمل بالمحكمات» (ص 160) و «اتخاذ القرآن إماماً» (ص 160، 163). و لدى البحث في أسلوب علماء هذه المدرسة في نقد الأخبار يمكن لموطأ مالك أن يكون إلى حدّ ما معبراً عن الاتجاهات الرئيسة لمؤلفه؛ و إن تسجيل عدد ضئيل من الأحاديث المرفوعة في الموطأ، دال على تشدد المؤلف في الاختيار. و قد أدى هذا الأمر إلى أن يُعدّ هذا الكتاب في بعض الأوساط أحد الصحاح (مثلاً ظ: ابن الأثير، 1 / 19، 20). كما أن استناد الكثير إلى مراسيل متقدمي فقهاء المدينة في الموطأ (مثلاً ص 7)، يدل على قيمتها لدى مالك. 
و في العراق و في نفس الوقت الذي كان فيه سفيان الثوري يولي اهتماماً رئيساً للأثر في مستنداته الفقهية، لكنه لم‌يكن يعدّ كلّ أثر معتبراً، و لأجل أن يمنح الأثر قيمة، كان يقيِّم خصائص معيَّنة في الإسناد؛ و في الوقت الذي لم‌يكن فيه الكثير من علماء أصحاب الأثر يبدون اهتماماً بضرورة الإسناد بعدُ، كان سفيان يعتمد بشدة على ضروة الإسناد، و يعدّه من مستلزمات اعتبار الأثر (مثلاً ظ: الخطيب، شرف، 41-42).
و فيما يتعلق بآراء التابعين في الفقه المتقدم لأصحاب الأثر وكأنموذج في فقه مالك، ينبغي القول إنه في جميع أرجاء الموطأ ــ فضـلاً عـن آراء الصحابـة ــ ضُمِّنت فتاوى و سير التابعين المدنيين أيضاً، و لدى مقارنتها بالفتاوى المنقولة عن مالك يتضح أن آراءهم و خاصة سعيد بن المسيب و الزهري و عروة بن الزبير، و إن لم‌تُعدّ حجة في رؤية مالك النظرية، لكنها أدت دوراً فاعلاً في تبلور فقهه. و إن ما دعاه مالك ب‍‍ـ «بلاغ» من الماضين و استند إليه مراراً لدى انعدام وجود دليل من الكتاب و السنة (مثلاً ص 56)، يمكن أن يعدّ تعبيراً مجملاً عن آراء الصحابة والتابعين. 

ب ـ الاستناد إلى سيرة المسلمين و الإجماع

كانت المدينة بوصفها مهجر النبي (ص) و موطن أغلب الصحابة تُعدّ لدى كثير من التابعين المنشأ الرئيس للعلوم الدينية. و هذه الخصيصة جعلت علماء المدينة يرون أن صيانة السنن النبوية و مواجهة البدع تقع على عواتقهم من جهة، و من جهة أخرى و مع اعتبار أن السنّة المعمول بها في المدينة هي سنة مؤيَّدة ضمنياً من قبل النبي (ص) و أصحابه، لم‌يجدوا أنفسهم بحاجة للرجوع إلى علوم بقية البلدان (مثلاً ظ: م.ن، «رسالة...»، 64-65). و يلاحظ أشد انعكاس لاعتماد سيرة أهل المدينة وضوحاً في فقه مالك الذي طُرح في رسالتـه إلى الليث بن سعد بشكل جلي بوصفه القاعدة النظرية (ظ: ن.ص)، بحيث نجد في الاستخدام أيضاً و في شتى المواضع من الموطأ الاستناد إلى هذه السيرة بعبارات مثل «الذي أدركتُ عليه أهل العلم ببلدنا» (ص 303، مخ‍ (، و بشكل خاص عبارة «الأمر عندنا» الموجزة و الكثيرة الاستعمال. و يرجع حديث مالك عن السيرة، إلى المدينة بشكل رئيس، و لم‌يستخدم، إلا في حالات قليلة عبارات مثل «مضت السنّة على...»، أو «سنة المسلمين...» (ص 319، 550؛ لدراسة ذلك، ظ: الشافعي، الرسالة، 535). 
و في بقية البقاع و برغم أن الفقهاء من أصحاب الأثر المعاصرين لمالك، كانوا يستندون بشكل ما إلى سيرة المسلمين (مثلاً عن الأوزاعي، ظ: أبو يوسف، الرد...، 5، 17، مخ‍ )، لكنهم لم‌يكونوا يرون لسيرة أهل المدينة مكانة متميزة، بحيث إن الليث فقيه مصر، و كما يستشف بوضوح من رسالة مالك (الليث، 64) و جوابها (م.ن، 83) لم يكن يعدّ سيرة أهل المدينة حجة، و كان قد أصدر مجموعة من الفتاوى خلافاً لعمل المدنيين. 
و قد تم التمسك بدليل الإجماع بكثرة في الموطأ، و وُضِّح معناه بعبارات مثل «الأمر المجتمع عليه عندنا» و الذي فُسر غالباً من قبل الأصوليين بأنه إجماع أهل المدينة (ظ: ن.د، 5 / 682)، لكن الإجماع كان له في فقه الأوزاعي طابعاً غير محليّ على الإطلاق. فهو الذي أبدى اهتماماً خاصاً بدليل الإجماع، تمسّك مراراً باجتمـاع أهل العلم و اتفاقهم (مثلاًظ: أبو يوسف، ن.م، 17، 91)، و في رسالته إلى أبي بلج عَدَّ الحكم الذي «اجتمع عليه الناس» من بين الأحكام المشروعة (ص 200). 

ج ـ طريقة وسطى، بين اتباع السنة و الرأي

كان مالك بن أنس الذي أنهى دراسته في موطنه المدينة و كان قد تعلم على علماء أصحاب الأثر في المدينة مثل ابن شهاب الزهري، وفقهاء ذوي اطلاع ممن يطلق عليهم «أهل الرأي» بالمدينة مثل يحيى بن سعيد الأنصاري و ربيعة الرأي، يحمل في تركيبته الفقهية انعكاساً لمزيج من مشايخه. و قد استقى خميرته النقلية عن سنّة المدينة من صحابة مثل عمر و ابن عمر و عائشة و أبي هريرة و من الفقهاء السبعة (ظ: مالك، كافة أرجاء الموطأ)، لكنه في أساليب الفقه تأثر بوضوح بتعاليم الأساتذة من أهل الرأي. و في تبيان موقف مالك المعتدل بين اجتهاد الرأي و بين اتّباع الآثار، ينبغـي القول إنه كان يستفيد فـي استدلالاته الفقهية ــ في إطار محدود ــ من القياس و من أساليب أهل الرأي (مثلاً ظ: ن.م، 523). بـل إن مالكـاً ــ و استنـاداً إلـى روايـة ابـن القاسـم ــ كـان يولـي الاستحسان في الفقه قيمة كثيرة (ظ: ابن حزم، 6 / 195). وقد أورد ابن القاسم أيضاً في كتاب المدونة حالات عديدة لعدول مالك عن القياس و عمله بالاستحسان (5 / 428، 6 / 417).
كما كان الأوزاعي فقيه أصحاب الأثر في الشام ــ شأنه شأن جمـع آخر من فقهاء أصحاب الأثـر في القـرن 2ه‍ ــ يقبل الرأي والقيـاس بشكل ملحـوظ، و لم‌يكن يعـدّ ــ استنـاداً إلـى نقـل ــ اختلاف موقفه عن موقف أبي حنيفة في مسألة الرأي اختلافاً رئيساً (ظ: ابن قتيبة، تأويل...، 52). ولاستخدام الاستحسان بشكل بدائي و غير مدون أيضاً نماذج في فقه الأوزاعي، فمثلاً في البحث بشأن «الجارية المغنية»، تحدّث عن بطلان البيع، ثم صرح أن «هذا [الحكم على أساس] الاستحسان، و أن القياس يقتضي الصحة» (ظ: السبكي، 3 / 3 و مابعدها). و في العراق و برغم أن سفيان الثوري لدى تعامله مع الرأي، كان ينتقد أبا حنيفة (ظ: البسوي، 3 / 21) و يعارض أساليبه الفقهية (ظ: الخطيب، تاريخ...، 13 / 406)، لكن الشواهد تظهر أنه ــ شأنه شأن بقية الفقهاء من أصحاب الأثر في عصره ــ لم‌يكن ليأبي كثيراً العمل بالرأي. وبرغم وجود عبارات منقولة عن سفيان مثل «الدين بالآثار وليس بالرأي» (ظ: م.ن، شرف، 6)، فقد عَدَّ فقهاء من أهل الرأي مثل ابن أبي ليلى وابن شبرمة أبرز فقهاء الكوفة (ظ: الترمذي، 4 / 214). و على هذا، فقد أعلن موقفه الإيجابي من أهل الرأي غير الحنفية. بل إن معارضته لأبي حنيفة كانت ناجمة بشكل أكبر من خلافات عقائدية. و تظهر مقارنة إحصائية بين فتاواه و فتاوى أبي حنيفة أن الآراء الفقهية لهذين الاثنين كانت عملياً متقاربة جداً من بعضها (ظ: ن.د، 4 / 529). و كان هذا التقارب قد بلغ حداً جعل المقـدسي يتحدث في القرن 4ه‍ عـن ضرورة التمييز بين الثوريـة و الحنفية و تجنب الخلط بينهما (ص 45). 

القسم الثاني ـ الشافعي و أصحاب الحديث المتأخرين 

إن تحول بغداد منذ أواسط القرن 3ه‍ إلى محور، كان أرضية لنشوء مدارس جديدة غير محلية في مختلف العلوم الإسلامية. وفي الفقه أيضاً و خلال النصف الثاني من نفس القرن كان الفقهاء من اتجاهات و بلدان مختلفة قد تجمعوا ببغداد، كان من بينهم أشخاص من أبرز تلامذة أبي حنيفة و مالك و بقية الفقهاء، و لكن أصحاب الرأي كانت لهم الأسبقية على غيرهم في تقديم فقه مدون، بحيث إن طلاب الفقه من أصحاب الحديث لم‌يكونوا يرون أنفسهم في غنىً عن أوساط هؤلاء (ظ: ن.د، 6 / 37). و مع ظهور الشافعي، أصبحت الظروف مؤاتية إلى حدّ ما لأصحاب الحديث، وكان مكث الشافعي القصير ببغداد (195-199ه‍ ( نقطة تحول مهم في تاريخ فقه أصحاب الحديث. و لم‌تكن هذه الفترة فرصة سانحة للشافعي فحسب لتدوين أفكاره، بل هيأت الظروف لفريق من المحدثين من طلاب الفقه ببغداد مثل أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه، ليقدموا ــ مستلهمين تعاليم الشافعي و ليس على خطاه ــ مشروعاً جديداً في فقه أصحاب الحديث (ظ: البيهقي، 1 / 221 و ما بعدها) يمكن أن يُعبَّر عنه بفقه متأخري أصحاب الحديث.

ألف ـ الشافعي

حلقة الوصل بين أصحاب الأثر المتقدمين وأصحاب الحديث المتأخرين: لما كان الفقيه و الأصولي المكي الشهيـر محمد بـن إدريس الشافعـي (تـ 204ه‍( قد أنهى مراحل دراسته في مكة و المدينة و اليمن و العراق، فقد تعرف جيداً إلى المذاهب الفقهية المختلفة في عصره، و كانت أفكاره الفقهية حصيلة تلاقح تعاليم بلدان و مدارس شتى. فقد قدّم في الفقه نظاماً مدوناً منظماً يمكن أن يتطابق في عمومياته و الموازين التقليدية لأصحاب الحديث، و دوّن أسسه في كتاب الرسالة، و عبر هذا الطريق، فقد اشتهر بوصفه مؤلف أول أثر جامع نسبياً في علم الأصول. و قد تعامل الشافعي برؤية جديدة مع كيفية التمسك بالأدلة من كتاب و سنة و إجماع و كذلك إعمال الرأي، بحيث تلاحظ لدى مقارنة أسلوبه بأسلوب أصحاب الأثر المتقدمين، فوارق طفيفة في ظاهرها، لكنها عميقة في تأثيرها العملي. 
و لم‌يكن الشافعي في استناده إلى الكتاب يرى العمومات الظاهرية للقرآن الكريم قابلة للتمسك بها (ظ: الرسالة، 56 و ما بعدها)، و بطرحه فكرة أن السنة النبوية تفسر ظواهر الكتاب، كان يحدد عملياً التمسك بظواهر الكتاب مقارنة بالأحاديث. و إن الاعتماد على الأحاديث بوصفها مرآة للسنة و من ثَمّ مفسرة للكتاب، يُعدّ محوراً أساسياً في النظام الفقهي للشافعي، و هذا الاعتماد بلغ حداً بحيث طرح فقهاً (قائماً على الحديث) من خلال تضييق نطاق الرجوع المباشر إلى الكتاب. 
و فـي تعامله مـع آثار الصحابـة و التابعيـن، عـدّ الشافعـي ــ بتقديمه تعريفـاً ضيّقـاً للسنـة ــ الأحاديث المرفوعة فحسب ممثلة للسنة، و هاجم أسلوب الفقهاء المتقدمين مثل مالك والأوزاعي في تقليد الصحابة و أحياناً ترجيح الأقوال المأثورة عنهم على الأحاديث المرفوعة، و لم‌يستثنِ في هذا الباب حتى سيرة الشيخين (ظ: «اختلاف...»، أيضاً مذكرات...، مخ‍ (. و في الحقيقة، فإن استنباط الشافعي هذا من السنة و تعامله النظري مع الآثار غير المرفوعة هو نقطة تحول مهمة في العودة عن الاتجاه إلى الأثر بمعناه العام و ذلك باتّباع الأحاديث النبوية و هو ما يشاهد كاتجاه واضح في أوساط أتباع السنة في القرن 3ه‍. 
و في الإجماع أيضاً و استناداً إلى سمة كون فقهه غير محلي، عدّ الشافعي إجماع الأمة بأسرها فحسب، دليلاً شرعياً قابلاً للاستناد عليه ( الرسالة، 403، 473، 476)، و عدّ أحياناً الإجماع في تخصيص حديث فقهي، أو انصراف دلالته عن المفهوم الظاهري إلى المفهوم المؤول، حجة (ظ: ن.م، 322، الأم، 7 / 194). وخلافاً للمتقدمين، فإنه كان يرى أن كل رأي فقهي وراء القياس، مرفوض. و يعدّ الاجتهاد المقبول هو الاجتهاد المرادف للقياس بشكل عملي؛ و كان يعارض الاستحسان بشدة (ظ: الرسالة، 447، 502). وفي النظرية الفقهية للشافعي، فإن للقياس أقل المراتب من بين الأدلة، و تنحصر حجّيته في الحالات الضرورية و عدم توفر النص (ظ: ن.م، 476 و ما بعدها)، لكن في الاستخدام العملي، فقد اشتهر الشافعي بالعمل بالقياس بقدر اشتهار أبي حنيفة بالرأي (مثلاً ظ: ابن‌ النديم، 295؛ أيضاً قا: أبو هلال، 61).

ب ـ فقه أحمد

ذروة الابتعاد عن التقدير و التدوين: في تحليل الفكر الفقهي لأحمد بن حنبل (ن.ع)، ينبغي القول إنه كان يصرّ أكثر من غيره على اتّباع الحديث و ترك القياس و الرأي، إلا في حالات الضرورة و إلى جانب هذا التعامل كان قد اتخذ من تجنب طرح المسائل التقديرية أساساً له. و في فقه أحمد طُرح الفكر الشافعي القائل إن السنة تفسر كتاب الله، بشكل أكثر تأكيداً وجرى بشدة ذم اتّباع ظواهر الكتاب مع وجود الأحاديث المعارضة. و في الاستناد إلى الأحاديث، كان أحمد يعتقد بضرورة إهمال الأحاديث «المنكرة» و الاعتماد فقط على الأحاديث «المعروفة» الصادرة عن النبي (ص). 
و في تعامله مع آثار الصحابة و التابعين، كان أحمد يقدم أقوال الصحابة على الرأي و القياس، لكن ينبغي أن يُعدّ اقتداؤه بالتابعين بمعنى انتخاب القول المختار من بين آرائهم؛ و لم‌يكن يرى الإجماع من الحجج الفقهية و كان من منتقديه الجادين. وكان للأساليب الاجتهادية استخدام محدود نسبياً في فقهه، لكن أسلوبه لم‌يكن النفي التام لهذه الأساليب (ظ: ن.د، 6 / 40-41). و برغم أن فقه أحمد و إلى القرن 4ه‍ كان مطروحاً بوصفه فقه عالم من أصحاب الحديث باتجاهاته المتأخرة (ظ: ابن النديم، 285)، لكن وحتى في القرن 3ه‍ كان فقه أحمد يُعدّ واحداً من أكثر ممثلي فقه أصحاب الحديث أصالة (ظ: ابن أبي يعلى، 1 / 92). 

ج ـ خراسان بيئة التصالح مع التدوين

كان العالم الخراساني إسحاق بن راهويه (تـ 238ه‍( الفقيه القليل الشهرة خلافاً لمعاصره أحمد، يتمتع في علم الفقه بتنوع في الدراسة. فقد أدرك أساتذة من بقاع و مدارس مختلفة (ن.د، 3 / 112)، و هذه الخصيصة جعلت فقهه ــ مقارنة بفقه أحمد ــ مصحوباً بنوع من التوسع و الاعتدال النسبي. و لما كان فقه إسحاق أيضاً وليد ظروف مشابهة لظروف أحمد في أجواء أصحاب الحديث ببغداد، ينبغي في البدء توقع موافقته لأحمد، ثم الانتقال بعدها إلى اختلاف الأساليب. و في نظرة إحصائية إلى سنن الترمذي في نقل فتاواهما يلاحظ اتفاق الرأي بينهما بنسبة 88٪ من الحالات، و اختلاف في وجهات النظر بنسبة 12٪ فقط. و لدى تحليل الفكر الفقهي لإسحاق على أساس المصادر المحدودة يمكن القول إنه ــ شأنـه شـأن أحمـد ــ وجّه سهـام نقده إلى فكـرة الالتـزام بالقيـاس و التخلـي عـن الكتـاب و السنة (ظ: ابن قتيبة، تأويل، 53-54)، و عَدّ السنن و الفرائض خارجة عن إعمال القياس و نظر العقول (ن.م، 56). و توجد شواهد دالة على أن التمسك بظواهر الكتاب كان يحظى بقبول أكبر في فقه أسحاق (ظ: ن.م، 55-56). و في تعامله مع الحديث، كان فصل صحيحه عن سقيمه هو الأساس (ظ: ن.م، 74-76). وفي موضوع الإجماع، فإن رواية حديث «عدم اجتماع الأمة على الخطأ» بطريقين في مسند إسحاق (ظ: ابن حجر، المطالب...، 3 / 104)، مقارنة بأحمد الذي امتنع عن الإتيان بهذه الأحاديث في المسند، تدل على موقف إسحاق الأكثر اعتدالاً. 
و خلافـاً لأحمـد الذي كـان يعـارض تدوين الآثار الفقهية (ظ: ن.د، 6 / 38)، فإن تأليف كتاب السنن بوصفه كتاباً مدوناً في الفقه (ظ: ابن النديم، 286؛ أيضاً للاطلاع على أثر نظري في الفقه بعنوان «الجامع»، ظ: ابن رجب، 81)، دليل آخر على اعتدال إسحاق في اتجاهاته، لكن هذا الأثر مفقود اليوم، و إن أهم مصدر عن فقه إسحاق ــ عـدا نقـول فـي الآثـار المقارنـة ــ هو كتاب مسائـل أحمد و إسحاق من تأليف إسحـاق بن منصور الكوسـج (تـ 251ه‍ ( )للاطـلاع عـلى مخطـوطـة المكتبـة الظـاهـريـة، ظ: GAS,I / 509). و إن التأكيد على الرجوع المباشر إلى الأدلة ومقاومة تقليد الفقهاء ــ و حتى الفقهاء البارزين من أصحاب الحديث ــ هي سمة مشتركة تُلاحظ في تعاليم أحمد و إسحاق (ظ: أبو داود، مسائل، 277؛ ابن قتيبة، ن.م، 74). 
و في القرن 3ه‍ ، كانت الرؤية السائدة في أوساط أصحاب الحديث في خراسان و إلى حدّ ما في بلاد الجبال، في الفقه غالباً تنحو منحى أفكار إسحاق و برغم أن فقهاء مثل تلميذه البخاري وكذلك الترمذي، لم‌يكونوا يتجنبون أحياناً الإفتاء خلافاً لرأيه (مثلاً ظ: البخاري، 1 / 137؛ الترمذي، 3 / 389، مخ‍ (، لكنهم في رؤيتهم العامة كانوا متأثرين به، و يمكن أن يكون الاتجاه إلى تأليف آثار حديثية ـ فقهية تحمل عنوان الجامع، أو السنن و منها «الكتب الستة»، من ثمار هذه الرؤية. كما يمكن اعتبار رواية الأحاديث الخاصة بعدم اجتماع الأمة على الخطأ في آثار هؤلاء المؤلفين، شاهداً آخر على قرب رؤيتهم من رؤية إسحاق (ظ: الدارمي، عبدالله، 1 / 29؛ الترمذي، 4 / 466؛ ابن ماجة، 2 / 1303؛ أبوداود، سنن، 4 / 98). و في نفس السياق يلاحظ القول بحجية الإجماع بشكل صريح أيضاً في آثار البعض مثل ابن قتيبة التلميذ الأثير لدى إسحاق (ظ: تأويل، 19-20) و عثمان الدارمي (ص 193)؛ و في تعزيزه لأحد الآراء تمسك الترمذي مراراً بإجماع أهل العلم (ظ: 2 / 68، مخ‍ (. و فتح النسائي في كتابه السنن (8 / 230-231) باباً للالتزام باتفاق (إجماع) أهل العلم (أيضاً للاستناد إلى الشهرة، ظ: الترمذي، 1 / 24، 46، مخ‍ (. 

د ـ الاتجاهات المعتدلة في بغداد

فضلاً عن المشرق الإسلامي، بل في العراق أيضاً لايمكن اعتبار خصائص فقه أحمد، سمات مشتركة بين جميع فقهاء أصحاب الحديث في القرن 3ه‍ و يمكن العثـور بين زملائه على أشخاص مثل أبـي ثـور (تـ‍ 240ه‍ ( الذي كـان لفقهه منزلـة بين الفقـه الروائـي و فقـه أصحاب الــرأي (ظ: الخطيب، تاريخ، 6 / 65). و كان يلاحظ في فقه أبي ثور اتجاه قريب من أسلوب الظاهريين في اعتمادهم على ظواهر الكتاب، و موقف متسامح نسبياً تجاه استخدام الرأي. و كان لمذهب أبي ثور لفترة أتباع، و قد ترك تأثيراً ملحوظاً على التيار المتأخر من أصحاب الحديث (ظ: ابن النديم، 265؛ الذهبي، سير، 1 / 29؛ أيضاً ن.د، 4 / 433-434). 
و كان لأبي عبيد القاسم بن سلام (تـ‍ 224ه‍ ( الفقيه الآخر من أصحاب الحديث المعتدلين، أو بتعبير أدق من بقايا أصحاب الأثر (مثلاً ظ: أبو عبيد، الناسخ، 28)، و كما يتضح من شتى المواضع من آثاره، عناية خاصة بفقه الثوري. و كان سيىٔ الظن بالقياس، وكان ــ بعد اتّباع النصوص (الكتاب و السنة) ــ يجعل الموافقة مع الرأي المشهور أصلاً. و كان شأنه شأن المتقدمين من أصحاب الأثـر، يعدّ ــ بعد الكتاب و السنـة ــ فتوى «الصالحيـن» (من الصحابة والتابعين) موثوقة (ظ: الأموال، 439). و في سياق اتجاهه هذا إلى أسلوب المتقدمين، أحلّ «شهرة الفتوى» محل إجماع الشافعي، بل كان يستخدم شهرة الفتوى في نقد الأخبار و«التراجيح» (ظ: ن.د، 5 / 71). 
و كآخر مرحلة من مراحل تبلور فقه أصحاب الحديث، تجدر الإشارة إلى فقهاء «أهل الاختيار» في السنوات الواقعة بين أواخر القرن 3ه‍ و أوائل القرن 4ه‍ الذين يقف في مقدمتهم محمد بن جرير الطبري (ت‍ـ 310ه‍ (. و يجب اعتبار فقه الطبري أولاً مذهباً من مذاهب أصحاب الحديث مع العودة إلى أساليب الاعتدال بين الحديث و الرأي في القرن 2ه‍ ؛ لكن ينبغي أن يوضع بنظر الاعتبار أن فقه الطبري مع الالتفات إلى ظروفه التاريخية الخاصة، لم‌يكن في حقيقة الأمر قد أُقيم على أساس طرح فتاوى مبتكرة، بل على أساس «الاختيار» الاجتهادي من بين الآراء المعروفة. وفي آرائه الفقهية ـ الأصولية و بطرحه الرأي القائل إن الإجماع ليس سوى توافق الأكثرية، أضفى الطبري على نظرية إعادة الإجماع إلى الشهرة العريقة، صبغة أصولية، بشكل عُرفت معه نظريته في مصادر أصول الفقه بوصفها رأياً لم‌يُسبق إليه من قبل (مثلاً ظ: ابن حزم، 4 / 538). و لم‌يكن الطبري يحسن الظن كثيراً بالقياس أيضـاً، و لايعدّ الإجمـاع القائم علـى القيـاس و الاجتهاد حجـة (ظ: أبوإسحاق، 372؛ أيضاً ظ: ابن النديم، 292). و من خصائص فقه الطبري يمكن أن نذكر اتجاهه إلى ظواهر الكتاب و تعامله النقدي مع الحديث. و بصورة عامة نعدّ فقهه ــ و إلى حدّ كبير ــ استمراراً لطريقة أبي ثور، و في بعض الخصائص استمراراً لطريقة أبي عبيد (أيضاً قا: ن.د، 5 / 71). و من بقية الفقهاء من أصحاب الحديث و الاختيار يمكن أن نذكر أيضاً ابن خزيمة وابن المنذر (ن.ع.ع). 

 

 

 

 

 

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: