الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أصحاب الحدیث /

فهرس الموضوعات

أصحاب الحدیث


تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/28 ۱۱:۲۴:۲۵ تاریخ تألیف المقالة

أَصْحابُ الْحَديث، اسم فريق من العلماء في القرون الإسلامية الأولى، أولوا ــ على طريقتهـم ــ أهمية فائقة لتعليم الأحاديث الشريفة و اتّباعها. و هذا الفريق الذي دعي في المصادر الإسلامية بأصحاب الحديث، و مع وجود تنوّع في الأساليب فهم يشتركون في أن المصادر النقلية من الأحاديث و الآثار كانت تشكل الأرضية الأساسية لبحوثهم في تعاملهم مع المعارف الدينية. و بطبيعة الحال، فإن كيفية تعامل العلماء من أصحاب الحديث مع الأحاديث الشريفة لم‌يكن على مستوى واحد، و هذا الأمر يؤدي إلى أن تستشعر ضرورة التمييز خلال البحوث التاريخية، بين تلكم الأطياف المختلفة. و برغم أن أصحاب الحديث ــ بالمعنى الأعم لهذا المصطلـح ــ تناولوا في بحوثهم موضوعات دينية شتى تضمنت التعاليم الفقهية و الكلامية و غيرها، و انبروا لتأليف آثار متعددة في كل من تلك التعاليم أيضاً، لكنهم اشتهروا في تاريخ الثقافة الإسلامية أكثر من كل شيء آخر بوصفهم أحد الاتجاهين الرئيسين في فقه أهل السنة في القرون الأولى مقابل أصحاب الرأي. 
و في تحليل المصطلح يجـدر القول إن الحديث بوصفه تعبيراً لـ «كلام النبي (ص)»، هو مصطلح قديم جداً ينبغي البحث عن خلفيته في استخداماته في القرن الأول الهجري، غير أن مصطلح «أصحاب الحديث» بوصفه اسماً للفريق المعروف لايتمتع بذلك القِدم التاريخي. فمن الواضح أن المصطلح الذي يرد بشكل «أصحاب الحديث» دالّ على وجود مواجهات دينية، و بطبيعة الحال، فإنه يكون مفهوماً حينما يتحقق مصداقه في ميدان تلك المواجهات. و في رؤية مجردة عن التاريخ، يستشف بشكل إجمالي من مصطلح «أصحاب الحديث» بأنه كان يطلق على فريق يعتمد على الحديث، غير أنه لمعرفة معناه الدقيق و التاريخي، من الضروري تبيان المواقع التي كانت تحتلها الفرق التي أطلق عليها هذا الاسم، في المواجهات المذهبية للقرون الأولى. و خلال ذلك، فإن التعاريف المجردة و القائمة على اللفظ مثل تعريف أبي حاتم الرازي الذي عَدَّ أصحاب الحديث بأنهم الفريق الذي أنكر استخدام القياس و الرأي و يتبعون الحديث النبوي و آراء الصحابة و التابعين فقط (ظ: ص 267)، هو تعريف رمزي لاينبغي إطلاقاً تعميمه على جميع الفرق التي كانت قد اشتهرت باسم أصحاب الحديث، و يجدر تشخيص مصداق له فقط عن طريق البحث في التاريخ.

ظهور مصطلح أصحاب الحديث

لدى البحث عن تاريخ المواجهات المذهبية في القرن الأول الهجري، نجد أن أول مجابهة بين فريق من التابعين الذين كانوا يصرون على التمسك بالسنن السالفة مع الفريق المجابه لهم و هو جمع من طلابهم الشباب الذين كانوا بصدد طرح أسئلة تقديرية (فرضية) و توسيع الفقه من الناحية النظرية. و كان هذا يدعى من قبل التيار التقليدي المهيمن باسم «أصحاب أرأيتَ». و لم‌يكن هذا الفريق الشاب قد نال مكانة مرموقة بعد، حتى يشعر التقليديون أنفسهم بحاجة إلى أن يُسموا باسمٍ في مواجهة ذلك الفريق. و في الجيل التالي أدت الحاجة المتزايدة إلى فقه يقبل النظم و يتمتع بهيكلية مقننة، إلى تغير الظروف لغير مصلحة التقليديين و سرعان ما رسّخ عجزهم المتزايد عن تلبية الاحتياجات الاجتماعية مكانة خصومهم في الأوساط العلمية (لانعكاس الظروف، ظ: الدارمي، عبدالله، 1 / 66؛ ابن بطة، 1 / 451، 2 / 516). 
و على عهد الجيل الثاني من التابعين و في الكوفة حيث كانت تلك المواجهة تلاحظ هناك بشكل أكبر، اختارت مدرسة أصحاب ابن مسعود بزعامة إبراهيم النخعي و حماد بن أبي سليمان و على مدى جيلين، اتجاه «أرأيتَ» بشكل تدريجي، و ابتعدت عن التقليد المتطرف، بينما أبدت مدرسة عامر الشعبي مقاومة متزايدة في مواجهة ظاهرة «أرأيت». و في البصرة كانت إحدى الخلافات التي تبلورت المواجهة بين مدرستي الحسن البصري و ابن سيرين، هي مسألة «أرأيت» و محاربة تيار ابن سيرين لهذه الظاهرة. و في بلاد الحجاز، كانت مكة في استخدام النظر و التعامل الدرائي مع المسائل الدينية، تميل بشكل أكبر إلى «أرأيت»، بينما كان مايزال يلاحظ في المدينة أشد الإصرار على معاداة التقدير وأقـل مستوى مـن الرغبة في «أرأيـت» (لمزيد من الإيضـاح، ظ: ن.د، أصحاب الرأي). 
و في النصف الأول من القرن 2ه‍ و في تحول سريع تجاوز الفقه مرحلة الفقه المنظم و انطلق متجهاً نحو مرحلة أخرى، أي التدوين، حيث كان تبلور فريق باسم أصحاب الرأي نتيجة بدء هذه المرحلة في تكوين الفقه. و في أواسط القرن 2ه‍ كان الصراع حول «أرأيت» و الأسئلة التقديرية صراعاً منتهياً تقريباً، لكن صراع الأوساط الدينية بشأن استخدام الرأي و حدود ذلك الاستخدام كان له واقع مختلف تماماً وضع الفريقين الجديدين في مواجهة بعضهما: فريق الذين كانوا يبجلون الرأي الفقهي تبجيلاً خاصاً و الذين عرفوا بأصحاب الرأي (ن.ع)؛ و فريق الذين انبروا لمواجهتهم و الذين يصرون على اتّباع سنة الماضين، لكنهم لم‌يكونوا قد عرفوا آنذاك بأصحاب الحديث بعدُ. 
و قبل البدء بالحديث عن اسم هذا الفريق، ينبغي التذكير بأنه كان لمصطلح «الأثر» في الثقافة الروائية للقرون الأولى، مفهوم أشمل من مفهوم «الحديث»، و فضلاً عن الأحاديث المروية عن النبي (ص)، كان يضم أيضاً روايات دالة على أقوال و أفعال الصحابة و التابعين. و جدير بالذكر أنه في عصر أتباع التابعين، كانت أقوال و أفعال الصحابة و التابعين (البارزين منهم بطبيعة الحال) أيضاً ــ فضلاً عن الحديث النبوي ــ قد وجدت لها قيمة بوصفها مرآة للسنة النبوية سواء أ نُقلت عن فرد، أم جماعة وكانت تُولى الاهتمام في التعاليم الدينية إلى جانب ما يؤخذ عن النبي‌(ص) (مثلاً ظ: أبو داود، مسائل...، 122، نقلاً عن قتادة). 
تظهر دراسة النماذج المختلفة من النصوص التاريخية أنه في العقود الوسطى من القرن 2ه‍ و على وجه الدقة في عصر ازدهار مدرسة أصحاب الرأي و معارضتها للمدرسة التقليدية، كان المصطلح الدال على «علم المتقدمين» (ظ: ابن سعد، 2(2) / 134)، و الذي يستخدم في مقابل «الرأي»، هو مصطلح «الأثر»؛ بحيث دُوِّن هذه المواجهة بين مصطلحي «الأثر» و «الرأي» في عبارات علـى لسان كـل مـن ابن جريـج و زرارة بن أعين و الأوزاعـي و سفيان الثوري في المصادر التاريخية (ظ: ن.ص؛ الكشي، 156؛ الخطيب، شرف...، 6، 7). و في الحقيقة، فإنه يجدر القول إن طيفاً من العلماء التقليديين الذين تكتّلوا في مواجهة أصحاب الرأي خلال القرن 2ه‍ و الذين أطلق عليهم في المصادر المتأخرة الاسم العام «أصحاب الحديث»، كانوا يُدعون أصحاب الأثر، أو أصحاب الآثـار بحسـب تعبيـر عصرهـم (لمعرفـة هـذا المصطلـح، مثلاً ظ: أبوعبيد، الناسخ...، 28، 60؛ المزني، 75؛ أبو داود، ن.م، 266؛ الخطيب، ن.م، 27). 
و بشأن استبدال مصطلح أصحاب الأثر بأصحاب الحديث ينبغي القول إنه و كنتيجة متوقعة لتدوين الحديث الذي كان العمل الجاد به قد بدأ منذ أواسط القرن 2ه‍ ، فإن هذا الاتجاه كان يتعزز بشكل متزايد في أوساط أهل الأثر، حيث لن‌يكون هناك مسوِّغ لإعطاء قيمة كالماضي لآثار الصحابة و التابعين مع وجود حشد من الأحاديث المرفوعة و إمكانية الوصول إليها (لمعرفة تأثيـر تدوين الأحاديث الفقهية في تطـور الفقـه، ظ: شاخـت، 138 ff.). و على أية حال، فإنه مع مسيرة التدوين و كذلك ازدياد العلاقة بين الشعوب المحلية، فتح تدريجياً باب نقد الآثار وتقليص نطاق الآثار المعتبرة، سواء في أوساط أصحاب الأثر، أو في أوساط أصحاب الرأي، و هبّ أشخاص مثل القاضي أبي يوسف (ن.ع) و الشافعي (ظ: السطور التالية) في كلا النطاقين للنقد النظري لمكانة الآثار بوصفها مستنداً شرعياً). 
و الجدير بالذكر أنه استناداً إلى بعض الشواهد التاريخية، فإن تعبير «أصحاب الحديث» كان يستخدم في العراق منذ الربع الثاني من القرن 2ه‍ و حتى نهاية ذلك القرن بمعنى خاص يختلف عن المعنى الاصطلاحي موضع البحث. ففي روايات عن سليمان الأعمش، فإن فريقاً ممن يدعون بأصحاب الحديث كانوا قد عوتبوا (ظ: الخطيب، ن.م، 131 و ما بعدها)، و لم‌يكن المقصود بهم سوى «طلاب الحديث» الذين كان جهل بعضهم بآداب التعلم قد أعيا أستاذهم. و تتوفر شواهد عديدة من الربع الثاني لنفس القرن تظهر شيوع هذا الاستخدام في العراق في الأقل، و نماذج أخرى دالة على أن هذا الاستخدام استمر حتـى أواخر القرن 2ه‍ (ظ: ن.م، 49، 55، 78، 102-103، 136-140). 
و في النصف الأول من القرن 3ه‍ اكتسب مصطلح أصحاب الحديث لدلالته على أتباع الحديث النبوي مفهوماً مشرِّفاً و دعا تقليديون بارزون مثل أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه أنفسَهم و من يشاطرهم الرأي، أصحابَ الحديث. و في هذا السياق، ظهرت تدريجياً لدى مختلف الفرق الفكرية الأرضيةُ لاعتبار «أصحاب الحديث» اسماً عاماً للتقليديين، و إطلاق هذا الاسم على المتأخرين و على المتقدمين من دون أن تؤخذ المراحل التاريخية و الاختلافات الفكرية بنظر الاعتبار. و في النصف الثاني من نفس القرن، و مع أن عالماً بارزاً من أصحاب الحديث مثل ابن قتيبة ولدى فصله بين أصحاب الرأي و أصحاب الحديث، وضع عن اطلاعٍ شخصيات من أصحاب الأثر مثل سفيان الثوري والأوزاعي و مالك فـي عداد أصحـاب الـرأي، لا مـن أصحاب الحديـث (ظ: المعارف، 496- 498)، جرى تعميم مصطلح أصحاب الحـديـث فـي آثار مثل كتاب الإيضاح، المنسوب للفضل بن شاذان (ص 7)، و أُطلق على أشخاص من السلف مثل الثوري ويزيد بن هارون و جرير بن عبد الحميد (كُتب خطأً: عبد الله) ووكيع بن الجراح (أيضاً ظ: سعد بن عبدالله، 10). 
و يلاحظ هذا التعميم في القرن 4ه‍ ضمن إطار منظم في الفهرست لابن النديم الذي خصص الفن السادس من المقالة السادسة منه لذكر أخبار «فقهاء أصحاب الحديث»، حيث أورد عند تعداده أسماء الأشخاص، أطيافاً مختلفة مثل سفيان الثوري والأوزاعي و حتى أحمد بن حنبل و إسحاق إلى جانب بعضهم (لرؤيـة عامة عـن خصائص فقه أصحاب الحديث بدون فصـل، ظ: شاخـت، 253-257).

فقه أصحاب الحديث

في أكثر فترة من تاريخ الفقه تحولاً، أي فـي 100 عام امتدت من منتصف القرن 2 حتى أواسط القرن 3ه‍ ، كان اتجاه أصحاب الحديث ــ بمعناه الواسع ــ مطروحاً في الأوساط الفقهية بوصفه أحد الاتجاهات الرئيسة و المصيرية. وبطبيعة الحال، فإنه خلال دراسة الأساليب الفقهية طيلة فترة نصفي المائة عام المذكورة، ينبغي دراسة كل واحدة من الفترتين المتقدمة والمتأخرة بمعزل عن بعضهما، و أن تؤخذ بنظر الاعتبار أيضاً في الفترة المتأخرة الفوارق بين الباقين من أصحاب الأثر وممثلي أصحاب الحديث.

القسم الأول ـ المتقدمون من أصحاب الأثر 

في دراسة عامة حول أساليب الاستدلال لدى أصحاب الأثر في القرن 2ه‍ ، يجدر القول إن اختلاف أسلوبهم عن أسلوب أصحاب الرأي كان أمراً نسبياً فحسب. و في الحقيقة، فإنه لو وضعت الفوارق الصنفية و بعض الشعائر العقائدية جانباً، و أقيم أساس الفصل بين أصحاب الأثر و بين أصحاب الرأي استناداً إلى المعنى الظاهري لهاتين العبارتين فحسب على أساس مقدار ميل كل فقيه إلى استخدام الأثر، أو الرأي، فإن الممثلين البارزين لأصحاب الأثر أمثال مالك و سفيان الثوري و الأوزاعي سيحتلون مكانة قريبة من مكانة أصحاب الرأي (ظ: تتمة المقالة). 
جدير بالذكر في هذا الخصوص، فإن ابن قتيبة من متأخري أصحـاب الحديث و من تلامذة إسحاق و في كتابه المعـارف (ص 494 و ما بعدها) و باستخدام خاص منه لمصطلح أصحاب الرأي في الفهرست الذي أعده بفقهاء أصحاب الرأي، أورد أسماء الفقهاء من أصحاب الأثر المتقدمين مثل مالك و الأوزاعي والثوري إلى جانب أبي حنيفة و بقية أصحاب الرأي، و بذلك أشار إلى توسع هؤلاء الفقهاء في استخدام الرأي. و في الحقيقة، فإنه من خلال استنتاج دقيق من قول ابن قتيبة هذا يمكن اعتبار مصطلح أصحاب الرأي أيضاً شاملاً لاستخدامين تاريخيين أخصٍّ (الاستخدام المشهور) و أعمٍّ يشتمل على متقبّلي الرأي من أصحاب الأثر. وربما كان استخدام القاضي أبي يوسف في كتابه الخراج عند نقله آراء مالك بن أنس لعبارة «أصحابنا من أهل الحجاز»، يشير إلى هذه القرابة في الأسلوب (ظ: ص 88-89). 
و في القرن 2ه‍ يمكن أن نجد فقهاء أصحاب الأثر في بقاع مختلفة، لكن بلاد الحجاز و بشكل خاص المدينة كانت معروفة على مدى تاريخ الفقه بوصفها المعقل الأساسي لأصحاب الأثر. وبرغم أن بيئة المدينة خلال ذلك القرن شهدت فقهاء من أصحاب الأثر مثل ابن أبي ذئب (تـ 159ه‍ ) و ابـن أبي الزنـاد (تـ 174، أو 180ه‍ )، غيـر أن الشخصيـة البـارزة لمالك بـن أنـس (تـ 179ه‍ ( غطّـت عليهم جميعاً. و إن هـذا التأثيـر بلـغ درجـة ينبغي معهـا ــ وبغيـة متابعة ورثـة أصحاب الأثـر المتقدميـن في المدينـة‌‌ ــ البحث عن تياره في تاريخ المذهب المالكي. و في مكة و جنباً إلى جنب حلقات دروس مالك و تلامذته، كان هناك علماء من أصحاب الأثر مثل مسلم بـن خالد الزنجي (تـ‍ 180ه‍ ) و سفيان بن عيينة (تـ‍ 198ه‍) الذين يظهر التأثير الواسع لفقههم جلياً في التراث النقلي للفقه الشافعي (ظ: السطور التالية). و إن آخر فقيه معـروف مـن هذه المدرسة هـو عبد الله بـن الزبيـر الحُميـدي (تـ 219ه‍ (، الذي كانت فتاواه مثار اهتمام ليس في الحجاز فحسب، بل في أوساط أصحاب الحديث ببغداد (مثلاً ظ: أبوداود، مسائل، 43؛ ابن نقطة، 2 / 43) و خراسان أيضاً (مثلاً ظ: الترمذي، 1 / 9). 
و كان أشهر فقهاء أصحاب الأثر في الشام أبو عمرو الأوزاعي (تـ 157ه‍ (، عالماً كثير السفـر استفـاد من مشايـخ بقاع ‌شتى مثل الشام و الحجاز و العراق و مصر و اليمامة، و منهم مشاهير مثل عطاء و قتادة و الزهري؛ و كان من أوائل الكتّاب في الفقه و السنن، غير أن أهم الآثار الباقية منه هي الأقسام التي اقتبسها أبو يوسف من كتابه في باب «السير» (ظ: مصادر هذه المقالة). و في خضم الحديث عن الشام، من المناسب أن نذكر عباد ‌بن عباد الخواص الذي تشكل الرسالة التي خلفها أنموذجاً مهماً لإعلان مواقف عالم من أصحاب الأثر في النصف الثاني للقرن 2ه‍. و توضح سمات مثل بدائية التعاليم و اقتفاء «أثر السالفين» و الأمر بتقليد الصحابة، بأن النص يعود تاريخه إلى تعاليم ما قبل الشافعي (للاطلاع على النص الكامل، ظ: الدارمي، عبد الله، 1 / 160-163؛ أيضاً لمعرفة قسم منه، ظ: أبو نعيم، 8 / 282). و في نفس الفترة يبنغي أن نشير إلى الفقيه المصري الليث ابن سعد (تـ 175ه‍ ( الذي كان مذهبه لفترة المنافس العنيد لمذهب مالك. و فضلاً عن استفادته من علم المصريين، فقد استفاد الليث من كبار مشايخ مكة و المدينة مثل عطاء و الزهري، و ربما كانت خصيصة الجمع بين سنن المكيين والمدنيين مع المصريين هذه هي التي جعلته يحظى كثيراً باهتمام الشافعي (ظ: النووي، 1(2) / 73-74). و أهم مصدر لدراسة الآراء الفقهية للّيث هي رسالته في الرد على مالك بن أنس (ظ: مصادر هذه المقالة؛ للاطلاع على أثر مفقود، ظ: ابن النديم، 252). 
و في تاريخ فقه أصحاب الأثر، تتمتع بيئه العراق بظروف خاصة، ذلك أنه تلاحظ في هذه البلاد أكثر النزاعات بين أصحاب الأثر و أصحاب الرأي، و أكبر فارق في إعلان المواقف لدى الفريقين. بينما تلاحظ و نتيجة لاشتراك التيارين في المصادر النقلية و بعض الأساليب الاجتهادية و بشكل عملي، أكبرُ القرابة بين أصحاب الأثر و أصحاب الرأي في الفتاوى الفرعية في تلك البلاد. 
و قد استفاد سفيان الثوري (تـ 161ه‍( الممثلُ البارز لأصحاب الأثر في الكوفة من كبار التابعين العراقيين، و كان الفقيه الذي لامنافس له في الكوفة على عصره (ظ: ابن عدي، 7 / 2476). ولم‌يبق من آثار سفيان الفقهية سوى عدة أوراق تحت عنوان الفرائض (للاطلاع على المخطوطة المحفوظة في المكتبة الظاهرية، ظ: GAS,I / 519)، لكن المعلوم أن كتابه الجامع في الرأي الذي كان يتضمن آراءه و نظرياته الفقهية ظل لفترة طويلة متداولاً في أوساط أصحاب الأثر (مثلاً ظ: أبو العرب، طبقات...، 127، 220؛ أيضاً الطوسي، 1 / 63). و في تاريخ أصحاب الأثر كان سفيان نقطة بدء التطور و التيار المهم في تقريب تعاليم أصحاب الأثر من شتى البقاع. و من سمات هذا التيار خلق موجة واسعة من حركة التأليف في صفوف أصحاب الأثر، و تدوين حشد من الآثار ذات أرضية فقهية يمكن العثور على مسودة بنماذجها في الفهرست لابن النديم (ظ: ص 283 و ما بعدها). و من الفقهاء الكوفيين وكذلك الخراسانيين الذين يمكن أن نضعهم إلى جانب الثوري في الأساليب العامة، في نفس الوقت الذي هم فيه مستقلون بآرائهم الفقهيـة، يمكن أن نـذكـر الحسن بـن صالـح بن حـي (تـ 167ه‍(، العالـم الزيـدي و شريك بـن عبـد الله النخعـي (تـ 177ه‍( و ابن المبارك المروزي (تـ‍ 181ه‍ ). 
و في البصرة اشتهر من متقدمي أصحاب الأثر شعبة بن الحجاج و حماد بن زيد و يحيى بن سعيد القطان بوصفهم فقهاء، لكن قلّما بقي أثر لغير القطان. و كان فقه حماد بن زيد بوصفه استمراراً لفقه شعبة (ظ: الترمذي، 5 / 749)، يتمتع على عهده في البصرة بأهمية ملحوظة، و للتذكير بهذه الأهمية يجدر الذكر أن أبا‌داود السجستاني من محدثي البصرة في القرن التالي و احتراماً منه لفقه البصرة المتقدم، كان قد أوصى بأن يغسل جسده بحسب ما ورد في كتاب سليمان بن حرب عن حماد بن زيد (ظ: ابن حجر، تهذيب...، 4 / 173).
و بصورة عامة، ينبغي التذكير بأن فترة المتقدمين من أصحاب الأثر هي الفترة من تاريخ فقه أهل السنة التي كان فيها فقه أصحاب الحديث (بالمعنى الأعم) قد اقترب كثيراً من فقه أصحاب الـرأي، و كـان ما يميـز الفريقيـن عـن بعضهما خلال تـلك الفتـرة ــ فضلاً عن الاختلافات الدقيقة في باب الترجيح بين الرأي والأثر ــ يتجلى بشكل أكبر في تباين الفريقين من حيث الصنف العلمي و الجذور التاريخية للمدرستين. 
و يجدر التذكير أنه من بين المدارس المختلفة لأصحاب الأثر في الفترة المتقدمة، تلاحظ وجوه اشتراك عديدة في الأساليب الفقهية مما سندرسه بشكل إجمالي في الأسطر التالية: 

 

 

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: