أبوتمام
cgietitle
1442/12/20 ۱۹:۳۷:۰۴
https://cgie.org.ir/ar/article/234746
1446/11/16 ۰۷:۴۳:۳۵
نشرت
4
واضح أن أبا تمام لم یستفد شیئاً من إقامته في خراسان، وربما لم یتمکن إطلاقاً من نیل رضا عبدالله، ذلک أن عبدالله عندما فقد في یوم واحد کلا ولدیه، هرع إلیه أبوتمام وأنشد قصیدة في رثائهما (ط الخیاط، 379-381)، فقال له عبدالله في بادئ الأمر – و کان یتعنّته کثیراً – قدأحسنت ولکنک تؤسِّفني ولاتعزّیني؛ إلا أنه شجعه بعد ذلک ومنحه صلة (الصولي، ن.م، 217-220، نقلاً عن المبرد؛ أبوالفرج، 16/398-399). ویبدو أن له قصائد کثیرة في مساوئ خراسان وقد وعد الصولي (ن.م، 226) أن یوردها بأسرها ضمن مجموعة قصائده، لکنه أورد قصیدة واحدة في هذا الباب فقط (ن.م، 222-223)، یشکو فیها من برد خراسان ویثني علی الصیف.
وکان أحد ممدوحیه الحسن بن رجاء والي فارس (عن الحسن، ظ: الصفدي، الوافي، 12/9-11) الذي خصص الصولي (ن.م، 167 وما بعدها) فصلاً لأخباره مع الشاعر، وذکر أنه قد أقام لشهرین في منزله (ن.م، 170). وربما کانت هذه الإشارة دلیلاً علی أن الشاعر قد ذهب إلی بلاط هذا الممدوح في فارس. ولایُستبعد أیضاً أن یکون قد ذهب إلی هناک خلال عودته من خراسان. وکان الحسن مغرماً جداً بشعره وقد منحه صلات کثیرة. وقد حضر في مجلسه، وبحضور أبي تمام قدم شیخ نفسه باسم أبي تمام وأنشد أیضاً قصیدة في مدح الأمیر و نال صلة، وأخیراً وحین علم أن حیلته لم تنطلِ علی أحد، أدی ذلک إلی ضحک الحاضرین في المجلس (الصولي، ن.م، 170-171؛ قا: أبوالفرج، 16/392). أما عن خط سیر عودته من خراسان، فقد أشیر فحسب إلی نزوله بهمدان رغم أن محمد بن قدامة رآه مرة في قزوین أیضاً و هو غارق بین أکداس الکتب (ابن المعتز، 283-284).
ویستشف من هذه الروایة أن إقامته بقزوین کانت طویلة نسبیاً، وکان یعیش في دار عالم لدیه خزانة کتب کبیرة. وستصادفنا هذه الروایة مرة أخری عند دراسة مذهبه. و ربما کان قد ذهب من قزوین إلی همدان حیث استقبله أبوالوفاء ابن سلمة بحفاوة بالغة، ولما کان هطول الثلج بغزارة قدمنع أباتمام من مواصلة رحلته، فقد وضع أبوالوفاء خزانة کتبه تحت تصرفه، فجمع الشاعر بمعونة مصادر تلک الخزانة الحماسة (الخطیب التبریزي، مقدمة دیوان الحماسة، 1/4؛ الیافعي، 2/100)، وأضاف الخطیب التبریزي أنه ألف عدة کتب أخری أیضاً. إلا أن إقامته لم تدم إلی الحد الذي یمکنه من تألیف آثار أخری إضافة إلی الحماسة (قا: کلین فرانک، III/142؛ نقشة، 79-80؛ الکعبي، EI2; 278، مادة الحماسة).
وکان أحد ممدوحیة أیضاً أباسعید الثغري الذي أرسله المعتصم في بدایة خلافته إلی أردبیل لیقوم ببناء استحکامات في مواجهة بابک. وقد تمکن أیضاً من إلحاق الهزیمة بأحد مساعدي بابک و هو المدعو معاویة. وفي 22هـ ذهب الأفشین بنفسه إلی آذربایجان و استعد لحرب بابک (الطبري، 9/11-12). فمدح الشاعرُ أبا سعید في قریة خُش، إلا أن المعرکة والانتصار الکبیر الذي حقق فیها حدث في قریة أرشق. فنظم أبوتمام قصیدة في مدح الخلیفة و الأفشین أشار خلالها إلی الحرب ضد بابک (ط عزام، 3/79 و مابعدها)، لکنه لم یورد ذکراً لموت بابک. ویری البهبیتي (ص 126-127) أن هذه القصیدة قد نظمت لامحالة في 220 هـ، وأن الشاعر ذهب بعدها إلی أبي سعید الثغري في آذربایجان، وتحدث في قصیدة (ط عزام، 2/22 و مابعدها) عن أرشق و بطولات أبي سعید في الحرب ضد بابک. ورغم کل ذلک لایمکن الجزم في هل أنه نظم هذه القصیدة في آذربایجان، أم في مکان آخر کبغداد مثلاً. وجمیع القصائد التي نظمها أبوتمام في تلک الظروف عن الحرب ضد بابک حافلة بالمعلومات التاریخیة.
کانت ثورة بابک الخرمي التي استمرت حوالي 20 سنة تقلق کثیراً جهاز الخلافة، ولهذا السبب فقد بعث انتصار الأفشین وقادة جیشه علی بابک (في 223هـ) فرحة غامرة، وأثنی أبوتمام تقریباً علی جمیع القادة العظام في هذه الحرب لبطولتهم و حسن تدبیرهم وأرضاهم جمیعاً. وکان الأفشین هو الذي قاد عملیاً الحرب ضد بابک وبلغ بها النصر الحاسم. وفي 223هـ قام بأسر بابک و حمله إلی سامراء. واستناداً إلی قول الطبري (9/55) فإن المعتصم وضع علی رأس الأفشین تاجاً وألبسه و شاحین بالجوهر ومنحه جوائز قیمة، وکان أبوتمام حاضراً ذلک المجلس فأنشد قصیدة نونیة في مدحه (ط عزام، 3/316-332). وتبدأ هذه القصیدة التي هي من القصائد الشهیرة باسم «بذّ» (مقر بابک) وجناس جمیل، ثم یرد اسم الأفشین (3 أبیات)، ثم أسماء أجداده (بشکل معرب: جرس وجانا خرّة، البیت 8)، ثم یأتي ذکر درشق وبابک وأبرشتویم، وباختصار کیفیة أسر بابک. ویقارن الشاعر في البیت 35 بین الأفشین ذي الأصل الإیراني وأفریدون، وبین بابک والضحاک، مما یدل علی معرفته بأساطیر إیران.
کما کان أبودلف العجلي واحداً آخر من کبار أمراء تلک الحرب وقائداً لجیش المتطوعین. وکان – وهو في عداد ممدوحي الشاعر و من کبار کرماء العرب – یجلّ أبا تمام کثیراً ویمنحه صلات ثمینة. لکن أشهر روایة عنه هي تلک التي طلب فیها إلی الشاعر أن یقرأ له قصیدة الرثاء التي کان قد نظمها في مقتل محمد بن حمید الطوسي و حین سمعها – کما مرّ بنا فیما مضی – قال: واللهِ لوددتُ أنها فيَّ (الصولي، ن.م، 124-125؛ أبوالفرج، 16/390؛ ابن خلکان، 2/14).
وما زلنا نجهل المکان الذي مدح فیه أبوتمام أبا دلف، أفي بلاد الجبال، أم في العراق؟ وکان من بین قادة جیش أبي دلف، جعفر بن دینار الخیاط الذي حظي هو الآخر بمدیح الشاعر، وخُلّد اسمه في قصیدة بلیغة (ط عزام، 2/214-217؛ قا: البهبیتي، 135)، إلا أن الخطیب التبریزي نقل في شرح الدیوان عن ابن درید قوله إن هذا الشعر من بین أوائل آثاره و هو لم یُنظم في مدح جعفر الخیاط (ظ: أبو تمام، ن.م، 2/214). ولیس من المستبعد أن یکون کلام ابن درید صحیحاً، ذلک أن هذه القصیدة – خلافاً لقصائد أبي تمام في هذه الفترة – خالیة من أي إشارة لحروب بابک.
وکما أشیر فیما مضی فإن أکبر شخصیة مدحها أبوتمام هو إسحاق ابن إبراهیم المصعبي الذي کان من الأسرة الطاهریة وصاحب شرطة بغداد و سامراء لما یقرب من 30 سنة (207-235هـ)، وللمکانة والمنصب الخاص الذي کان یتمتع به، فإن انتصارات جیش الخلیفة علی بابک مسجل أغلبها باسمه، وکان رغم تشدده و تعامله الجاف، رجلاً محباً للأدب وممدوح الشعراء خاصة البحتري. یعتقد البعض أن أبا تمام رغم أنه لقي سوءاً من طاهریة خراسان، لکنه لقي بالمقابل إقبالاً من الفرع الاخر لهذه الأسرة ببغداد (ظ: الکعبي، 315-323).
في 225 هـ و حین اتهم المعتصمُ الأفشینَ بالخیانة وقتله وصلبه إلی جانب المازیار ثم أحرق جثته، هرع أبوتمام إلی المعتصم وأنشد قصیدة في کفر الأفشین و نکرانه الجمیل و قلة عقله (ط عزام، 2/198 وما بعدها). ورغم قولهم (مثلاً السمعاني، 9/24) إن المعتصم سمع قصیدته واستدعاه للمثول بین یدیه، فما یزال غیرواضح الکیفیة التي انضم بها أبوتمام إلی المعتصم: في 223هـ، شن تیوفیل هجوماً علی زیطرة الواقعة قرب سمیساط، وکان معه جیش یضم علی مایبدو 100,000 مقاتل، التحق بهم فریق من أتباع بابک أیضاً (ابن الأثیر، 6/479؛ البهبیتي، 139). وقد أثار هذا الهجوم ثائرة المسلمین إلی الحد الذي قرر معه المعتصم أن یذهب بنفسه لحرب تیوفیل. و قد اشترک معه في جیشه أکبر القادة الذین کانوا قد أثبتوا مهارتهم في الحرب ضد بابک و کان منهم محمد بن إسحاق المصعبي والأفشین وأبوسعید الثغري. وأخیراً حقق جیش الإسلام في عموریة نصراً مؤزراً. وفي قصائد المدیح التي قدمها أبوتمام لأبي سعید الثغري، ذکر فیها کثیراً من أسماء کبار الشخصیات و المدن والقلاع الرومیة، وأشار إلی انتصار المسلمین و الغنائم التي حصلوا علیها (ط عزام، 2/166-182، 430-446).
لکن أعظم قصائد أبي تمام هي القصیدة التي أنشدها عند انتهاء الحرب بمدح المعتصم. وطبقاً لقول الصولي (ن.م، 143-144) فإنه قدقرأ هذه القصیدة للخلیفة في سر من رأی (سامراء) وکتب ابن خلکان یقول: إنه کرر إنشاد هذه القصیدة ثلاثة أیام، إلی أن سأله الخلیفة: کم تجلو علینا عجوزک؟ فأجابه الشاعر: حتی أستوفي مهرها. وعندها منحه المعتصم 170,000 درهم (2/23). وبطبیعة الحال فإن هذهالروایة مختلقة، خاصة وأن ذهنیة المعتصم لم تکن تدرک بشکل جید قصائد أبي تمام (ظ: الصولي، ن.م، 267)، کما لم یکن یحمل في فکره ذکری واضحة عنه، ذلک أنه بعد أن مدح الشاعرُ المعتصمَ في سامراء بعد فتحه عموریة، یبدو أن الخلیفة لم یکن یتذکره، فقام ابن أبي دؤاد بتذکیر الخلیفة به، وعندها سأل الخلیفة: ألیس هذا الرجل هو نفسه صاحب الصوت الأجش الذي أنشدنا شعراً بالمصیصة؟ وخوفاً من أن لایستقبله الخلیفة، فقد بیّن ابن أبي دؤاد له أنه جاء معه في هذه المرة براویة حسن الإنشاد. وبعد أن سمع الخلیفة مدحه، وهبه کمیة من الدراهم مع حوالة مالیة یتسلمها من صاحب شرطة بغداد إسحاق المصعبي (ن.م، 143-144)، إلا أن البهبیتي یرجح أنه تم وضع زمن کل من القصیدتین (قصیدة عموریة والقصیدة التي أنشدها في الشام) محل زمن القصیدة الأخری (ظ: دراساته، ص 137-143).
تبدأ قصیدة عموریة ببیت ذائع الصیت جداً نعتقد أنه هو بیت القصید أیضاً وتقع في 71 بیتاً محشوة بالصناعة الفظیة خاصة «المطابقة» التي کانت دائماً تحظی بعنایة خاصة من الشاعر، وکذلک ببعض الألفاظ العسیرة والاستعارات التي تکون أحیاناً بعیدة جداً، وهي بمجملها قصیدة صعبة وقلما یوجد فیها بیت یتمکن القارئ أن یدرک معناه بشکل تام دون الرجوع إلی القوامیس وعون التفاسیر المختلفة. یوجد بین بناء القصیدة ومحتواها وبین القصائد القدیمة اختلاف کبیر: فلا وجود فیها للمقدمة الغزلیة ولا الصفات المعروفة والمعاني الشهیرة للمدح. ومن البدیهي أن یکون للمقام ولمناسبة الشعر أیضاً، أثر في إبعاد أبي تمام الذي کان هو نفسه من المحدثین و المجددین، عن المضامین القدیمة. ففي مقدمة القصیدة (10 أبیات) یسخر أبوتمام من المنجمین الروم، ثم یتلو ذلک الثناء علی الفتح العظیم، وعندها ینبري للحدیث عن سقوط أنقرة، وخوف أهل عموریة، وإحراق المدینة وأسر النساء الرومیات وحِلّیتهن للمسلمین، والفخر، ومدح المعتصم (العروبة)، وإبادة الروم، ثم مدح المعتصم مرة أخری، وذکر تیوفیل (ورد شبکل توفَلِس) ومطالبته بالصلح وهروبه، وموت جنده خلال احتراق المدینة، ویعود مرة أخری لمدح المعتصم، کما یرجع للإشارة إلی أسر النساء الرومیات، ثم یمدح المعتصم.
وواضح أن هذه القصیدة قد درست مراراً في کتب تاریخ الأدب، ومن ذلک دراسة إنعام الجندي (1/363-378)، وهي عمل بسیط، لکنه مفید، کما بحث بدوي في «مجلة الأدب العربي» (VII/43-55) بشکل تفصیلي الصناعة اللفظیة في القصیدة. وقامت سوزان شتتکویتش أیضاً بدراستها في نفس المجلة (X/49-64) وترجمت قسماً منها إلی الإنجلیزیة. وفي الفارسیة أورد کتّاب نامۀ دانشوران (1/333-338) قسماً من القصیدة والروایات المتعلقة بها، ثم ترجموا جزءاً منها إلی الفارسیة.
ولم ینعدم تأثیر هذه القصیدة في الشعر الفارسي القدیم أیضاً. ولاشک في أن العنصري (تـ 431هـ) الشاعر الإیراني قد استوحی في إحدی قصائده الشهیرة موضوع کون السیف أصدق من علم النجوم، من مطلع قصیدة أبي تمام (ظ: العنصري، 78-81).
وعلی أیة حال، فإن أبا تمام بعد فتح عموریة کان یعیش في العراق ویسعی إلی إقامة علاقات ودیة مع شخصیتین کبیرتین في بلاط الخلافة: ابن الزیات الوزیر وابن أبي دؤاد القاضي. وربما کان علی معرفة مسبقة بابن الزیات، ذلک أنه أشار في بیتنی له (ط عزام، 3/128) إلی سابق معرفة به. وکان ابن الزیات یجلّ الشاعر کثیراً، بل وحتی إنه لم یکن یری نفسه أهلاً لمدائحه (ابن خلکان، ن.ص)، وتدل المقطوعتان اللتان نظمهما في رثائه علی صداقته واهتمامه الخاص بالشاعر (الصولي، ن.م، 277-278). إلا أن الصداقة مع القاضي المتشدد لدی الخلیفة ابن أبي دؤاد لم تکن بالأمر الهین. ولانعلم علی وجه الدقة لم کان القاضي متألماً من الشاعر؟
وینقل الصولي (ن.م، 147-148) عن محمود الوراق أن الشاعر أصبح یجالس في سامراء محموداً وبقیة الشعراء، ومدح قبیلته وحط من قدر مضر التي کان ابن أبي دؤاد یعتبر أجداده منها، وبذلک أغضب القاضي. لکن هذا الدلیل لایبدو کافیاً بطبیعة الحال. و مهما کان، فإن القاضي قد أعلن أنه لایحب أن یراه و أمر بمنعه من الدخول علیه (ن.م، 148)، فالتجأ الشاعر إلی خالد بن یزید، ووقع الصلح أخیراً بین القاضي والشاعر بوساطته (قا: ابن خلکان، 2/24). وقد أشار أبوتمام في قصیدة له إلی شفاعة خالد (ط عزام، 1/388 و ما بعدها). ویبدو أن غضب القاضي کان مستمراً، وربما لم یکن ینظر إلی الشاعر بعد ذلک بعین الرضا، وکان کلما تفوه الشاعر بکلام أو شعر جمیل، تساءل القاضي من أین جاء بهذا المعنی (الصولي، ن.م، 141، 146). ومع کل هذا فقد رأنیا أنه هو الذي اصطحبه معه إلی بلاط الخلیفة المعتصم، ومنحه مرة صلة کبیرة (1,000 دینار) إلی الدرجة التي اعترض فیها الخلیفة الواثق علیه (ن.م، 144؛ قا: أبوالفرج، 16/391).
وکما مرّ بنا فإن خالد بن یزید کان هو الآخر من ممدوحي الشاعر، وکان المعتصم قد ولّاه أرمینیة في 223هـ، لکن وصول خالد إلی هناک أدی إلی حدوث عصیان بحیث اضطر الخلیفة إلی إعادته، ثم أرسله الواثق مرة أخری في نهایة الأمر إلی تلک الدیار في 230 هـ، لکنه توفي في تلک السنة (الیعقوبي، 2/475، 481). وقد مدحه الشاعر في حیاته، کما رثاه. ولایستبعد أن یکون قد ذهب إلی أرمینیة في تلک السنوات.
وفي 226 هـ صلب المعتصمُ الأفشینَ، ثم أحرق جثته، وقد ضمن الشاعر إحدی مدائح الخلیفة تلک الحادثة وقدمها له في سامراء (ط عزام، 2/198 و ما بعدها). وفي السنة التالیة حین توفي المعتصم، نظم قصیدة في رثائه و مدح الخلیفة الذي جاء بعده (ن.م، 3/203)، إلا أن کلام ابن رشیق (1/59) الذي قال فیه: إن الشاعر شفع للواثق عند أبیه المعتصم في أن یولّیه العهد، یبدو أمراً مستبعداً، خاصة إننا نجد الواثق لم یکن یرحب بالشاعر کثیراً. وکما رأینا فیما مضی فإنه کانت للشاعر صداقة مع ابن الزیات الوزیر و کان یمدحه کثیراً، لکنه لم یصطحب الشاعرَ معه إلی الواثق إطلاقاً، بل استطاع فحسب أن یقدم قصیدته إلی الخلیفة و یتسلّم منه صلة قلیلة (الصولي، ن.م، 207-209).
وروی أبوتمام نفسه (الصولي، ن.م، 89-93) أنه ذهب في بدایة خلافة الواثق إلی سامراء و التقی هناک أعرابیاً کان یقرأ شعره. ثم تجاذب معه أطراف الحدیث. ویعقب المسعودي بعد نقله هذه الروایة متعجباً: «وهذا الخبر فمخرجه عن أبي تمام، فإن کان صادقاً فیما قال – ولا أراه – فقد أحسن الأعرابي في الوصف، وإن کان أبو تمام هو الذي صنعه وعزاه إلی هذا الأعرابي، فقد قصر في نظمه، إذ کانت منزلته أکبر من هذا» (7/147-151). وعلی أیة حال، فإن أبا تمام قدّم ذلک الأعرابي إلی ابن أبي دؤاد الذي اصطحبه معه إلی الخلیفة.
ولاشک في أن أبا تمام لم یکن خلال تلک السنوات مستقراً في مکان واحد، بل کان یتنقل مسافراً إلی هذا المکان و ذاک بحثاً عن ممدوح کریم. ویستنبط من قصیدة له أنه بلغه یوماً نبأ موت عزیز، فاستأذن أباسعید الثغري للسفر (ط عزام، 2/183؛ البهبیتي، 152). وفي الجزیرة مدح مالک بن طوق (ط عزام، 3/184-194)، ویتضح من البیت 7 في هذه القصیدة الذي یشیر فیه إلی عبادة الأفشین للأصنام، أن أبا تمام قالها بعد قتل الأفشین. کما یتحدث أیضاً في القصیدة التي أنشدها في مدح أبي المغیث موسی بن إبراهیم الرافقي. عن اضطرابات وقعت في دمشق (ن.م، 2/262-273). وقد أورد ابن تغري بردي (2/249) أن أهالي دمشق ثاروا علیه في 227هـ، لکننا نقرأ في ختام القصیدة: أرسلتُ لک هذا الشعر. ولانعلم إن کان أرسل هذه القصیدة من العراق، أم کما یقول البهبیتي (ص 158) من جاسم؟
کنا قد رأینا قبل هذا أن أبا تمام – وفقاً لما یری البهبیتي – ذهب إلی الشام مرة بین سفرتیه إلی مصر، ومدح وهجا أبا المغیث هذا. ولذا ینبغي وضع قصائده الاعتذاریة في هذه الفترة الأخیرة. لکن اعتذار الشاعر لم یؤثر في قلب الممدوح فامتنع عن إعطائه صلة بسبب تلک الأهاجي (ظ: أبوتمام، ط عزام، 2/109-117؛ البهبیتي، 159-161).
وربما کان تعرفه إلی الحسن بن وهب الکاتب و محمد ابن الزیات في السنوات الأخیرة من عمره، وحینها نشأت صداقة متینة بین الاثنین والشاعر. وقد خصص الصولي فصلاً لأخباره وأخبار رجلي الدولة هذین، رغم أن المعلومات المستخلصة من مجموع روایاته، ضئیلة. وکانت صداقة ابن وهب قد نفعت أبا تمام کثیراً إذ کان هو الذي عین الشاعر علی برید الموصل في 230 أو 231هـ. تولی الشعاعر الذي یبدو أنه تعب من الشعر والمدح، وبفضل صدیقه، هذا المنصب، وظل فیه حتی آخر حیاته (الصولي، ن.م، 272؛ قا: ابن خلکان، 2/15-16). وهناک أیضاً لم ینسه ابن وهب، بل أرسل له خلعة ثمینة، وقد مدح الشاعر تلک الخلعة في قصیدة (ط عزام، 2/223-233).
وتحیط الشکوک کثیراً بأمر تولیه برید الموصل، ویحتمل أن یکون هذا الشک قد بدأ من ابن خلکان (ن.ص). فعمل البرید کان صعباً وحساساً، وکان علی مأمور البرید أن یرسل إلی المرکز دائماً الأخبار التي تتعلق بشکلٍ ما بأمن الخلافة، وإن عملاً کهذا لایتناس وطبیعة شاعر مثل أبي تمام، ولم ترد في قصائده و حتی في القصیدة التي أرسلها لابن وهب من الموصل، أیة إشارة إلی هذه الأمر (ظ: کلین فرانک، II/19). ویؤید البهبیتي (ص 166-170) هذا الرأي، ذلک أنه یرجح أن یکون تاریخ وفاة أبي تمام في 231هـ. ویشیر کذلک إلی أن الواثق قد ألقی بکتّاب البلاط في السجن سنة 229هـ و صادر من کل واحد منهم – و من بینهم الحسن بن وهب – مقداراً کبیراً من المال. ولذا لم یکن بإمکان ابن وهب أن یعیّنه علی برید الموصل بعد 229هـ، وفضلاً عن ذلک فإن من المحتمل أن یکون الشاعر في 230 هـ بأرمینیة – کما أشیر إلی ذلک – و نظم قصیدة في رثاء خالدبن یزید الذي کان قد توفي هناک.
لکن استنتاج البهبیتي یجعلنا نفترض أن روایات الصولي أیضاً بهذا الصدد، مختلقة. فموضوع سجن ابن وهب رواه ابن الأثیر (7/10)، إلا أنه یستشف من مجموع روایاته أن هدف الواثق کان أکثر ما کان هو مصادرة أموال من الکتّاب الکبار – الذین یبدو أنهم کانوا قد جمعوا ثروات طائلة – ویحتمل أن یکونوا قد عادوا جمیعاً بعد ذلک إلی أعمالهم، خاصة ونحن نجد الحسن بن وهب بعد ذلک أیضاً (ح 235هـ) ببغداد وقد ذهب إلیه الشاعر الکبیر دعبل لحاجة (الصولي، ن.م، 202). وقد أنشد ابن وهب قصیدة في رثاء الشاعر.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode