الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / إحیاء علوم الدین /

فهرس الموضوعات

إحیاء علوم الدین

إحیاء علوم الدین

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/19 ۱۷:۲۳:۱۶ تاریخ تألیف المقالة

و الحدیث في باب شکر النعمة، یوضح جلیلاً هذا الأمر و یظهر بشکل أفضل الهوة الفاصلة بین «حکمة الیوناییین» و «حکمة الإیمانیین»، ذلک أن «النعمة» مصطلح خاص باللغة الدینیة و تدل علی «الأنعام» و «المنعم» اللذین لا مکان لهما علی الإطلاق في الأخلاق الیونایة التي لاتؤمن بالله، و التعریف الذي یقدمه الغزالي للشکر یتضمن کل ذلک أیضاً: الشکر له ثلاثة أرکان: العلم والحال و العمل. فالعلم معرفة النعمة من المنعم، و الحال هو الفرح الحاصل بإنعامه، و العمل هو القیام بما هو مقصود المنعمو محبوبه، و یتعلق ذلک العمل بالقلب و الجوارح و اللسان (4/ 81). کما أن حدیث الغزالي الوافي بشأن أنواع نعم البارئ و وجوب شکر النعمة علی العباد، یوضح جلیاً نظره الثاقب و تقدیره للنعمة، و في نفس الوقت ابتعاده عن الأشعریة الذین لایرون شکر المنعم واجباً، و یوسع الغزالي بحث نعم‌الله و البحث في خلق الحواس و العقل و الإرادة و الجوارح مروراً بالأغذیة و الصناعات و الحرفیین و السلاطین و الأنبیاء و الملائکة ممایراه بأسره من نعم البارئ، إلی الحد الذي ینتبه فیه هو نفسه إلی إسهابه في الموضوع و یکبح جماح قلمه و یعد قائلاً: «و لعلنا نستأنف له کتاباً مقصوداً فیه إن أمهل الزمان و ساعد التوفیق، نسمیه عجائب صنع الله تعالی» (4/ 120–123).

و ربما کان أکبر بحوث هذا الکتاب جذّابیة و أهمها هو البحث في أیهما أفضل الصبر، أم الشکر؟ و کان الغزالي قد طرح ما یشبه هذا السؤال في «کتاب الفقر و الزهد» وسأل: أیهما أفضل الفقر، أم الغنی؟ (4/ 201). ثم أورد بأسلوبه العلمي أولاً رأي من یحکمون بالظاهر، و من ثم رأي «أهل العلم و الاستبصار»، فیقول: یبدو أن الأخبار وردت في فضیلة الصبر بشکل یفوق ماورد في فضیلة الشکر (4/ 136)، إلا أن التأثیر الأساسي للعمل هو في القلب. و بهذا المعیار ینبغي قیاس أفضلیة الأعمال، ولذا فإنه مع أخذ جمیع الجوانب بنظر الاعتبار لا یمکن القول ببساطة إن الفقیر الصابر هو بشکل مطلق أفضل من الغني الشاکر: إذا أردت الإجابة آخذاً بنظر الاعتبار عموم الخلق، أمکنک القول إن الصبر أفضل من الشکر.. فإن أردت التحقیق ففصِّل (4/ 140–141).

و قد انعکس الخوف الهائل الذي کان یجعل الغزالي طوال حیاته یعیش القلق و الاضطراب، في فصل بیان معنی سوء الخاتمة من «کتاب الخوف و الرجاء»، کما ورد في «کتاب الفقر و الزهد» زهده و تقشفه الصوفي اللذان کانا قد سلباه الفرح و البهجة.

و حدیثه في بیان سوء الخاتمة یذکّر بعهد شغبه الکلامي، و یظهر خوفه العظیم من أن یشوش ذلک القیل و القال القاتل للإیمان، ذهنه مرة أخری عند الموت، و یعکّر صفو إیمانه و تُطلق ید الشیطان في عقله و قلبه. و من خلال تحسره علی إیمان العوام و الأعراب و القرویین، یذکِّر أنهم بُله و أهل جنة و ظلوا في مأمن من خطر أقاویل المتکلمین (4/ 175–176).

و هو یعتبر الفقر بشکل عم أصلح و أفضل لعموم الخلق، ذلک أن أنس الفقیر و رغبته في الدنیا أقل (4/ 203). و یری أن الزاهد هو من تکون الدنیا بکل رفاهیتها في متناول یده، ولا یجلب له الانتفاع بها سوء السمعة ولا یقلل من شأنه ولا ینقص من نصیبه الروحي، و مع کل ذلک، یهجرها خشیة أن یأنس بالدنیا و تجتاح قلبه محبةُ غیرِ الله فیصبح مشرکاً في أمر المحبة (4/ 219).

و إن ترک الدنیا الذي لاتؤخذ فیه بعین الاعتبار أفضلیة الحیاة الأخرویة، یمکن أن یکون مروءة و فتوة و سخاء و حسن خلق، إلا أنه لا یکون زهداً. و یتحدث الغزالي بشکل واف عن کیفیة الزهد في ضرورات الحیاة التي تتلخص بحسب رأیه في هذه الضرورات الست: الطعام و اللباس و الدار و الأثاث و الزوجة و المال. و هو یضع الجاه خارجها، ذلک أن الناس إذا طلبوا الجاه و المنصب فلأجل الحصول علی هذه الضرورات الست، و عندها یبین بإسهاب الأسلوب الزهدي بهذه الضرورات. ففي الطعام تکون أعلی درجات الزهد هي أن یأکل الإنسان شیئاً بقدر مایسد جوعه عند الجوع الشدید و الخوف من المرض فحسب. و المرتبة الثانیة أن یدخر القوت لمدة یوم إلی 40 یوماً؛ و الثالثة أن یدخر لمدة سنة و هو للزهاد الضعفاء. وفي نوع الطعام أیضاً فإن أقل درجات الزهد، تناول خبز الحنطة بنخالتها، لأنه إذا أکل الخبز بلانخالة، خرج من آخر أبواب الزهد. و أفضل المرق – الذي یخص أدنی درجات الزهد – هو اللحم. و هذا بدوره أیضاً لمرة، أو لمرتین في الأسبوع لا أکثر. أما في الملبس فأعلی درجاته المسموح بها أن یکون للإنسان فضلاً عن قمیص و قلنسوة و نعلین، سراویل و مندیل. و شرط الزاهد: أن لایکون له ثوب یلبسه إذا غسل ثوبه بل یلزمه القعود في‌البیت. و من حیث نوعیة الثیاب: فأقصاه ما یستر سنة و أقله ما یبقی یوماً. وفي المسکن أیضاً فإن أکثر الأسالیب زهداً هو: أن لایطلب موضعاً خاصاً لنفسه فیقنع بزوایا المساجد فإن طلب التشیید و التجصیص و السعة و ارتفاع السقف... فقد جاوز بالکلیة حد الزهد في المسکن. و أما في الأثاث فأدنی درجة مسموح بها هي أن یکون له بعدد کل حاجة آلة من الجنس النازل و الخسیس. وفي المنکح فإن لا یشغله کثرة النسوة ولا اشتغال القلب بإصلاحهن و الإنفاق علیهن فلامعنی لزهده فیهن من مجرد لذة المضاجعة و النظر... و إن لم یشغله و کان یخاف من أن تشغله الکثرة منهنّ، أو جمال المرأة فلینکح واحدة غیر جمیلة و لیراع قلبه في ذلک. وفي أمر المال فإن کان کسوباً فإذا اکتسب حاجة یومه فینبغي أن یترک الکسب. فإن جاوز ذلک إلی ما یکفیه أکثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد و أقویائهم جمیعاً. بل لا یعد من الزهد في المال و الجاه جمیعاً حتی یکمل الزهد في جمیع حظوظ النفس من الدنیا. و إنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله و نظرهم إلیه و مدحهم له (4/ 230–239).

و الکتاب الخامس من ربع المنجیات هو «کتاب التوحید و التوکل» الذي یتألف – شأنه شأن «کتاب الصبر و الشکر» - من قسمین: التوحید و التوکل.

و کلام الغزالي في القسم الأول تطغی علیه صبغة من علم المکاشفة و یغور في أعماقٍ یُمنع القلم عادة من الولوج فیها في إحیاء العلوم. و هذا القسم بمثابة مقدمة نظریة للتوکل الذي ورد في القسم الثاني. و جوهر کلامه في القسم الأول أن معنی التوحید هو أن لا فاعل إلا الله (4/ 256)، و أن الشخص الموحِّد یری کثرة العالم منذکّة في وحدة الحق، ولذا فهو في الحقیقة لا یری کثرة (4/ 246–247)، و رغم أن إفشاء هذا غیر جائز و أن بلوغ غوره هو غایة علوم المکاشفات (4/ 246)، فإن التأمل في وجود الإنسان یقلل من استبعاد التصدیق بذلک الحکم، ذلک أن الإنسان رغم مافیه من عظام و عروق و جوارح کثیرة مختلفة هو شخص واحد. و رؤیة الغیر و نفي الفاعلیة عن الغیر، هي و توحید المقربین، و رؤیة الحق و عدم رؤیة الغیر، هي مشاهدة الصدیقین، و هذا ما یدعوه الصوفیةُ الفناءَ في التوحید (4/ 254). ویبدو أن نفي الفاعلیة عن الغیر تحیي شبهة الجبر، ولذا ینبري الغزالي کالمتکلم لدحضها، و خلاصة رأیه هو أن فاعلیة العبد لا معنی لها، سوی أن یکون محلاً تُخلق فیه القدرة بعد الإرادة، و الإرادة بعد الفعل (4/ 255). «و معنی کونه مجبوراً أن جمیع ذلک حاصل فیه من غیره لا منه، و معنی کونه مختاراً أنه لا محلّ لإرادةٍ حدثت فیه جبراً، و حدث حکم العقل أیضاً جبراً، فإذا هو مجبور علی الاختیار» (ن. ص).

وفي ختام هذا القسم من الکتاب، یعتبر الغزالي أن النظام القائم في العالم هو أفضل النظم الممکنة التي لا یمکن أن یکون هناک أحسن منها و أتم، لأن الله لو کان بإمکانه أن یخلق خیراً منه و ادّخره مع القدرة ولم ینفضل بفعله لکان بخلاً ینقض الجود و ظلماً یناقض العدل، ولو لم یکن قادراً لکان عجزاً یناقض الإلهیة، و هذا محال (4/ 258).

وفي القسم الثاني من الکتاب یذکر الغزالي ثلاث درجات للتوکل: الأولی، التوکل علی الله کتوکل الشخص علی وکیله؛ الثانیة، أن یکون کحال الطفل مع أمه؛ الثالثة، أن یکون کالمیت بین یدي الغاسل و هي أعلاها و هي عزیزة نادرة کصفرة الوجه من الوجل (4/ 261). وفي هذه الحالة – و خلافاً للدرجتین السابقتین – لا یتفوه المتوکل بالدعاء و السؤال (ن. ص)، بل یکون صاحبها کالمبوت (4/ 262).

أما تدبیر الأمور و الانتفاع بالأسباب و الدعاء و الکسب و الدواء و حمل السلاح و لبس لامة الحرب، فلا یتناقض أي منها مع التوکل شریطة أن: أولاً، أن یکون القلب مع مسبِّب الأسباب؛ ثانیاً، أن لا یعتمد علی أسباب و همیة النفع مثل الحیل، أو التدابیر الغریبة لکسب المال، أو علاج مرض، و أن یستفید من وسائل یکون تأثیرها في تلبیة الحاجات أکیداً، أو محتملاً (4/ 267).

و کان تفسیر سهل التستري للتوکل هو ترک التدبیر، بینما یفسر الغزالي التدبیر علی أنه «استنباط الأسباب البعیدة»، ولذا یعدّه منافیاً للتوکل (ن. ص)، و إلا فإن الانتفاع بالأسباب الجلیة لا مانع منه، و بطبیعة الحال فإن علی الإنسان أن یکون في جمیع الأحوال معتمداً علی مسبب الأسباب و لیس علی السبب، فتلک هي المعرفة و الحالة التي تقوّم التوکل. و مع کل هذا، و رغم أن طلب الرزق لا یتعارض و التوکل، إلا أن الاهتمام بالرزق قبیح بذوي الدین، و هو بالعملاء أقبح، لأن شرطهم القناعة، و العالم القانع یأتیه رزقه لا محالة (4/ 275). فعلیک بالقناعة بالنزر القلیل و الرضا بالقوت فإنه یأتیک لا محالة و إن فررت منه، و عند ذلک، علی الله أن یبعث إلیک رزقک علی یدي من لا تحسّب...، إلا أنه لم یتکفل له أن یرزقک لحم الطیر و لذائذ الأطعمة، فما ضمن إلا الرزق الذی تدوم به حیاتک (4/ 274).

کما أن للمتوکل إذا خرج من بیته أن یغلق الباب، ولا یستقصي في أسباب الحفظ کالتماسِک من الجیران الحفظَ مع الغلق، و أن لا یترک في البیت متاعاً یحرّض علیه السرّاق، و إن ما یضطر إلی ترکه في البیت ینبغي أن ینوي عند خروجه الرضا بما یقضي الله فیه من تسلیط سارق علیه (4/ 281). و إن معالجة الأمراض هي الأخری جائزة للمتوکلین، ولکن لیس بالکي و الرقی و قراءة الفأل و ما إلی ذلک مما یُشک في نفعه. و مع ذلک، لایمکن القول إن المعالجة هي دائماً و بشکل مطلق، أفضل من ترکها. و یحدث أحیاناً أن یکون المریض من أهل المکاشفة فیعلم أنه سیموت بهذا المرض، وفي أحیان أخری یکون غارقاً في الخوف من سوء العاقبة بحیث ینسی الألم و یغفل عن المعالجة، و حیناً یکون المرض عضالاً و الدواء أیضاً مشکوک في جدواه، و حیناً یقصد العبد بترک التداوي، استبقاء المرض لینال ثواب المرض، و یکون المریض حیناً خائفاً مما سلف من ذنوبه و یرید أن یؤدي هذا المرض إلی محوها، و یستشعر المریض حیناً البطر و الطغیان بطول مدة الصحة، فیترک التداوي خوفاً من أن یعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة و البطر. ففي جمیع هذه الحالات لا إشکال في ترک التداوي (4/ 287–290).

و «کتاب المحبة و الشوق و الأنس و الرضا» أرق کتب إحیاء علوم الدین، ذلک أنه یتحدث عن محبة الله و هو نابع من موقع الدفاع عن الشوق و الأنس و الرضا، و رغماً عن الأدعیاء الذین یمنعون الحب، یظهر الحقَّ تعالی جدیراً به، و هو یدخل في صراع مع المتکلمین السطحیین الذین یرون المحبة هي علاقة فحسب بین بني البشر و من هم من جنس واحد، و یعرّفهم (المتکلمین) بحقیقة أنفسهم.

و من وجهة نظر الغزالي فإن المحبة هي الغایة القصوی من المقامات و الذروة العلیا من الدرجات، و إن جمیع المقامات السابقة کالتویة و الصبر والزهد هي مقدمات لها (4/ 294). و قد ورد بشأنها من الآیات و الأحادیث ما لا یمکن معه التشکیک بسموها و قیمتها، إلا أن المحبة ذاتها هي تابعة للمعرفة و ثمرة لها، و کل مالذّ للمدرک سیلذّ للمحبوب، و لذا یختلف نوع المحبة بحسب نوع الإدراک. لهذا فإن الصوت الجمیل والوجه الحسن و الرائحة الزکیة و الأطعمة اللذیذة، کلها محبوبة و مطلوبة، و کذلک الصلاة التي کانت محبوبة سید العالمین، ذلک أنها کانت تمنح قلبه الطاهر اللذة و الفرح (4/ 296–297).

کما أن الإنسان یحب نفسه و ما هو خاص به و أمواله و أبناءه و أصدقاءه و أقاربه، ذلک أن بقاءه متصل، أو منوط ببقائهم. و لیس هؤلاء فحسب، بل إن کل من یحسن إلی الإنسان هو محبوب لدیه. و کذلک علاقة المحبة التي تقوم بین الناس بمجرد تناسب الأرواح. و الأسمی من کل ذلک، أن یحب الإنسان شیئاً لا لأجله هو، بل لأجل ذلک الشيء، و هذه هي المحبة الحقیقیة. و إن حب الجمال هو من هذا الصنف، و رغم أن بیان حقیقة الجمال لا یتعلق بعلم المعاملة، إلا أن کلام الحق بشأنه هو أن جمال کل شيء بحسب الکمال اللائق و الممکن لذلک الشيء. و متی ما تحققت جمیع الکمالات الممکنة لشیيءٍ، بلغ ذلک الشيء غایة جماله (4/ 297–299).

و الآن، فإن جمیع الأسباب المذکورة تستدعي محبة الله، ذلک أنه کیف یمکن للإنسا الذي یحب نفسه أن لایحب الله الذي هو مدین له بوجوده؟ و الأمر الثاني أن الله لم یخلقه فحسب، بل أحسن إلیه أیضاً، و هذا سبب آخر لحبه لله. و الثالث أنه ینبغي للإنسان أن یحب المحسنین لا لأجل نفسه فحسب، بل لأجلهم هم و لأجل الأحسان بذاته، لأن الإحسان بذاته شيء محبوب. و الرابع هو أن الله الذي هو کمال مطلق هو جمال مطلق أیضاً، و إن بقیة أصناف الجمال الآسرة و الفاتنة هي نماذج ناقصة لجماله اللامتناهي، لکنه هو الجمیل علی الإطلاق، محبوب علی الإطلاق أیضاً. و الخامس أنه توجد علاقة بین الإنسان والله و هي «الروح من أمر ربي» (الإسراء / 17/ 85). و الإنسان حامل روح‌الله و خلیفته «و خُلق علی صورته». و إن المداومة علی أداء النوافل تؤدي إلی أن یصبح الإنساب محبوب الله، و یکون الله في أذنه و عینه و لسانه، و یصبح بصره و قوله و سماعه کله إلهیاً و ربانیاً، و کل هذه تشکل دافعاً قویاً للمحبة. و هذه العلاقة بین الإنسان والله هي التي أدت بالقاصرین إلی التشبیه، و بالغلاة إلی الاتحاد و الحول إلی الحد الذي قال معه البعض: «أنا الحق»، و اعتبر البعض الآخر عیسی (ع) هو الله (4/ 300–307).

و علی هذا القیاس یعتبر الغزالي الشوق (عند البعد) و الأنس (عند الحضور) و الرضا بأفعال البارئ أموراً صحیحة، و أن منکري ذلک سطحیون و قاصرو العقول و سذّج لم یدرکوا کنه العشق. و هو لا یعتبر محبة الله للبشر – التي تؤیدها شواهد نقلیة عدیدة – من صنف الرغبة و الحب بطبیعة الحال، و یقدم لها معنی آخر، فیقول في التمهید لذلک: إن الألفاظ التي تستخدم بحق الخالق و المخلوق لیس لها معنیً واحد، فهي في موضع حقیقة وفي موضع آخر مجاز؛ و حتی کلمة الوجود التي هي أعم الکلمات، تعني في الإنسان الوجود القائم بالغیر، وفي الله الوجود القائم بالذات، و کذلک العلم و القدرة و الإرادة و أمثال ذلک. فهذه الکلمات وضعت في الأصل بحق الإنسان، ولذا فإن استخدامها بشأن الله، إنما هو للمجاز و الاستعارة (4/ 327–328). و هذه هي النقطة التي أشار إلیها الغزالي مراراً وفي مواضع شتی من إحیاء العلوم، و کذلک في مشکاة الأنوار و استفاد منها فوائد تفسیریة و علمیة دقیقة. و هو یعتقد هنا أیضاً أن محبة الله للعباد ینبغي تأویلها، ذلک أنه لیس في الدار غیره دیّار، و «الله لایحب سوی نفسه»، ولذا فإن محبته تعادل کشف الحجب عن قلوب المؤمنین لیتقربوا منه بشکل أکبر، و لیس میلاً نحوهم و الإصابة بغلیان العاطفة و هیجانها.

و سمات المحبین کثیرة أیضاً تفصل بین الأدعیاء الکاذبین و المحبین الصادقین: أحدها حب الموت و الهجرة نحو المحبوب، و الآخر تفضیل متعة المحبوب علی متعة النفس، الغرق في ذکره، الأنس بالخلوة معه و مناجاته، التحسر علی غیبته و الغفلة عنه، إطاعة أمره بعذوبة، الإشفاق علی عباده و معاداة أعدائه، الخوف منه في نفس الوقت الذي أحبه، ذلک أنه خلافاً لظن البعض ممن یعتقد أن الحب و الخوف لا ینسجمان، فإن «إدراک العظمة یوجب الهیبة، کما أن أدراک الجمال یوجب الحب»، و إن هذین الاثنین یصدقان بحق الله (4/ 330–335).

إن المحبین یعجبهم ما یعجب المحبوب، و إن التسلیم بالقضاء الإلهي لإیؤدي بطبیعة الحال إلی أن یقبلوا بالکفر و العصیان اللذین یحدث کلاهما بقضائه، ذلک أن المعصیة لها جانبان: الأول ما هو مراد الله، و الآخر ما یکتسبه العبد و یصفه، و هو علامة ابتعاده عن الله. فمن الجانب الأول ینبغي الرضا بامعصیة، و من الجانب الثاني ینبغي أن یعتبرها مثیرة للکره و النفور (4/ 352). و استناداً إلی هذا، ینبغي لعن الشیطان و معاداته، لأن الله طرده من حضرته، بینما نحن نعلم أن الله أجبره بقهره و قدرته علی العصیان. و غضب المحبین یتبع غضب المحبوب، و کل مغضوب علیه منه سیکون مغضوباً علیه من قِبَله (4/ 253). و کذلک الدعاء الذي لا یتعارض هو الآخر مع الرضا بقضاء الله، لأنه هو الذي أراد أن یتوجه الناس إلیه بالدعاء لیظهر فیهم خشوع القلب ورقّة التضرع مما یؤدي إلی مزید من الکشف و جلب لطفه بهم (4/ 354).

و تأتي بعد «کتاب المحبة» ثلاثه کتب هي: «کتاب النیة و الإخلاص و الصدق» و «کتاب المراقبة و المحاسبة» و «کتاب الفکر» و تتضمن أعمق آراء الغزالي و إنذارته و ترهیبه التي تفتح البصائر و السرائر و التي توضّح جلیاً کیف کان یصارع نفسه في خلوته، و أي حب کان یملکه في زوایا الإخلاص و الریاء و کیف کان یخضع النفس للمشارطة و المراقبة و المحاسبة و المعاقبة و المجاهدة و المعاتبة و یستعل کل مناسبة لیستثیر غیرة المذنبین الغافلین و یجعل في قلوبهم الصماء و عیونهم الجافة ذرة رقة و قطرة دمع. و من الأقسام الجذابة في «کتاب المراقبة» قسم خاص بأحوال النساء المجتهدات (4/ 414)، حیث شجع الغزالي في هذا القسم الرجال علی الجهاد النسوي و ینادي قائلاً: «یانفس! لا تستنکفي أن تکوني أقل من امراة، فأخسس برجل یقصر عن امراة في أمر دینها و دنیاها». ثم یورد بعدها أخباراً في سلوک و عبادة حبیبة العدویة و شعوانة و عفیرة و معاذة العدویة و رحلة العابدة و أخریات، و یدعو أخیراً قراءه إلی مطالعة کتاب حلیة الأولیاء لأبي نعیم الأصفهاني (4/ 414–416).

و «کتاب ذکر الموت و ما بعدها» هو آخر و أطول کتاب من کتب أحیاء علوم‌الدین الأربعین، تحدث فیه عن ذکر الموت و فضیلة قصر الأمل، و عن سکرات الموت و وفاة النبي (ص) و الخلفاء و أقوال الصالحین عند الموت، و حقیقة الموت و سؤال القبر و عذابه و ضغطته، ثم أوضاع یوم القیامة و الحساب علی الأعمال و المیزان و الصراط و الشفاعة و حوض الکوثر و جهنم و الجنة و الحور العین و النظر إلی وجه الله، و ربما کان هو الکتاب الوحید الذي تحدث فیه الغزالي عن کشفه و استبصاره و اعتمد علیه في الحکم قضایا عذاب القبر. و قد کتب یقول إن قبور الأغنیاء هواة الدنیا تعجّ بالحیات و العقارب، و یروي عن النبي (ص) أنه یُسلط علی الکافر في القبر تسعة و تسعون تنیناً کل واحد بقدر تسع و تسعین حیة و لکل حیة تسعة رؤوس.. (4/ 500). ثم یورد قول من یعترض علی ذلک قائلاً: کلما تطلّعنا في قبور الکفار فإننا لا نجد فیها حیات ولا عقارب، و یرد علی ذلک قائلاً إن التصدیق بهذا الأمر ممکن من ثلاث طرق: إن ذلک أمر ملکوتي لا تصلح هذه العین لمشاهدته، و هو الأظهر و أصح الطرق، فالحیات و العقارب لیست من جنس حیات عالمنا، بل هي جنس آخر و تدرک بحاسة أخری. الثاني أن تتذکر أمر النائم و أنه قد یری في نومه حیة تلدغه و هو یتألم، کل ذلک یدرکه من نفسه و یتأذی به کما یتأذی الیقظان، سوی أنه لایری الحیات و العقارب إلی جانبه. الثالث أنک تعلم أن الحیة بنفسها لا تؤلم، بل الذي یلقاک منها و هو السم، ثم السم لیس هو الألم، بل عذابک في الأثر الذي یحصل فیک من السم، و إن أفضل إیضاح لذلک هو ما نقوله أحیاناً: کأنما لدغته أفعی (4/ 500–501). و الأن نرید معرفة الدصح من هذه الأمور، و قد اختلفت الآراء في ذلک «و إنما الحق الذي انکشف لنا بطریق الاستبصار، أن کل ذلک في حیّز الإمکان... هذا هو الحق، فصدِّق به تقلیداً، فیعزّ علی بسیط الأرض من یعرف ذلک تحقیقاً» (4/ 502).

و آخر باب في هذا الکتاب مخصص لسعة الرحمة الإلهیة (4/ 544 و ما بعدها) حیث یستغفر الغزالي قائلاً: «نحن نستغفر الله من کل مازلت به القدم، أو طغی به القلم في کتابنا هذا وفي سائر کتبنا، و نستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا، و نستغفره من کل تصنّع و تللّف تزیناً للناس». ثم یدعو بالرحمة و الغفران لقرّاء کتابه و نسّاخه، و بعد ذکره روایات في سعة الرحمة الإلهیة، یختم الکتاب بالدعاء (4/ 547).

 

إحیاء العلوم بعد تألیفه

حظي کتاب الإحیاء منذ تألیفه بالبحث و الدرس و النقد و الردو التلخیص و تحول إلی موضوع مثیر. یقول الفقیه المالکي ابن العربي (تـ 542هـ/ 1148م): إنه سمع کتاب الإحیاء ببغداد سة 490 هـ من الغزالي نفسه (ظ: بدوي، 546) – و هو الذي قال بلع شیخنا أبو حامد الفلاسفةَ و أراد أن یتقیأهم فما استطاع (الذهبي، 19/ 327) – و کذلک أبوسعید النوقاني، حیث نقل أبیاتاً عن الغزالي خلال تدریسه الإحیاء (ظ: الزبیدي، 1/ 25).

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: