الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / إحیاء علوم الدین /

فهرس الموضوعات

إحیاء علوم الدین

إحیاء علوم الدین

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/19 ۱۷:۲۳:۱۶ تاریخ تألیف المقالة

إحیاءُ عُلومِ‌الدّین، المعروف بإحیاء العلوم، أهم و أشمل و أضخم و أشهر مؤلفات أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (450ه 505هـ/ 1058- 1111م)، ألّفه خلال فترة اعتزاله التدریس في النظامیة ببغداد و بعد حدوث تغیرات نفسیة و شکوک و اضطرابات فکریة لدیه و إثر اختیاره طریق المجاهدة و التخلي عن المجادلة، و أثناء فترات سفره و إقامته التي استمرت عدة سنوات في الشام و القدس و الحجاز، ضمبنه حصیلة مراقباته الصوفیة و دراساته النافدة.

تعلّم الغزالي في البدء علی أحمد الرادکاني بطوس، و من بعده علی أبی نصر الإسماعیلي من الدعاة الإسماعیلیة بجرجان (السبکي، 6/ 195). وفي 473هـ/ 1080م حینما ذهب إلی نیسابور کان و لمدة خمس سنوات تلمیذاً لدی أبي المعالي إمام الحرمین الجویني في النظامیة هناک (الغزالي، المنقذ...، 85؛ ابن عساکر، 15/ 920؛ السبکي، 6/ 196). و بعد وفاته، التحق في 478هـ بنظام الملک. و بعد عدة سنوات و بتوصیة و استحسان من نظام‌الملک، وافق علی التدریس في النظامیة ببغداد، فدخلها سنة 484هـ/ 1091م بإجلال وافر (ابن عساکر، ن. ص؛ السبکي، 6/ 196–197). و انهمک بجد في تدریس الکلام الأشعري و الفقه الشافعي. ویبدو أن کان آنذاک یعرض أحواله الروحیة علی أبي علي الفارمذي و یتلقی منه دروساً في التصوف (الزبیدي، 1/ 19)، رغم أن تفاصیل تلک الدروس غیر واضحة بشکل جلي. وفي رجب 488هـ خامرته الشکوک و الاضطرابات إلی الحدّ الذي أعاقته عن التدریس مدة 6 أشهر (الغزالي، ن. م، 140–141).

و أخیراً أحلّ شقیق الغزالي محله في التدریس. وفي ذي‌القعدة 488 غادر بغداد مع قافلة للحجاج، لکنه لم یذهب إلی الحجازف بل اتجه إلی الشام. و تلک الفترة هي التي عاش فیها مجهولاً معتزلاً الناس في خلوته، صاباً اهتمامه علی تنقیة القلب و طرد الظنون و نیل الیقین (ن. م، 142؛ الزبیدي، 1/ 7–8)، و طالع خلال ذلک قوت القلوب لأبي طالب المکي و کتب الحارث المحاسبي و آثار الجنید البغدادي والشبلي و بایزید (الغزالي، ن. م، 137–138)، و الرسالة لأبي القاسم القشیري و الذریعة للراغب الأصفهاني (ظ: الزبیدي، 1/ 4). و بهذه الحصیلة من التجارب و الخمیرة القائمة علی الکسب و الکشف، انبری لتألیف إحیاء علوم‌الدین.

و إحیاء علوم الدین الثمرة الضخمة لجهود الغزالي في فترة العزلة، هو کتاب کبیر یقع في حوالي، 600و1 صفحة م القطع الرحلي و مقسم إلی أربعة أقسام: العبادات، العادات، المهلکات و المنجیات، یشتمل کل قسم من هذه الأقسام علی 10 کتب و باشکل التالي:

1. ربع العبادات: کتاب العلم، کتاب قواعد العقائد، کتاب أسرار الطهارة، کتاب أسرار الصلاة، کتاب أسرار الزکاة، کتاب أسرار الصوم، کتاب أسرار الحج، کتاب آداب تلاوة القرآن، کتاب الأذکار و الدعواتف کتاب ترتیب الأوراد.

2. ربع العادات: کتاب آداب الأکل، کتاب آداب النکاح، کتاب آداب الکسب و المعاش، کتاب الحلال و الحرام، کتاب آداب الألفة و الأخوة، کتاب آداب العزلة، کتاب آداب السفر، کتاب آداب السماع والوجدف کتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر، کتاب آداب المعیشة و أخلاق النبوة.

3. ربع المهلکات: کتاب شرح عجائب القلب، کتاب ریاضة النفس، کتاب کسر الشهوتین [شهوة البطن و شهوة الفرج]، کتاب آفات اللسان، کتاب ذم الغضب و الحقد و الحسد، کتاب ذم الدنیا، کتاب ذم البخل و ذم حب المال، کتاب ذم الجاه و الریاء، کتاب ذم الکبر و العجب و کتاب ذم الغرور.

4. ربع المنجیات: کتاب التویة، کتاب الصبر و الشکر، کتاب الخوف و الرجاء، کتاب الفقر و الزهد، کتاب التوحید و التوکل، کتاب المحبة و الشوق و الأنس و الرضا، کتاب النیة و الإخلاص و الصدق، کتاب المراقبة و المحاسبة، کتاب الفکر، کتاب ذکر الموت و ما بعده.

وفي ربع العبادات یتناول بالبحث و التمحیص علاقة الإنسان بالخالق، وفي ربع العادات، علاقة الناس ببعضهم، وفي ربعي المهلکات و المنجیات علاقة الإنسان بذاته. و کما یقول الغزالي نفسه في مقدمة الإحیاء فإنه استقی هذا الأسلوب في التدوین من کتب الفقه – المقسمة هي الأخر إلی 4 أقسام – لیثیر رغبة محبي الفقه في مطالعة هذا الکتاب. و الرباع المذکورة غیر متساویة من حیث الکم، فربع العبادات أصغرها، و ربع المنجیات أکبرها، و ربع المنجیات یعادل مرة و نصفاً ربع العبادات. و تبدأ الکتب المذکورة بشکل عام بخطبة تتناسب و موضوع الکتاب، ثم یؤتی بالآیات و الأخبار المتناسبة معها في فصول مستقلة. و یتم بعد ذلک بیان حقیقة الموضوع و تناول أحکامه و فروعه المختلفة. فإذا کان الموضوع إحدی الرذائل فإنه یتم التعریف به و بأنواعه و أسبابه، ثم تقدم طریقة معالجته. و إن کانت إحدی الفضائل عُرض الطریق لاکتسابها؛ و استفید خلال ذلک من سیر الصالحین و أقوالهم بوفرة، و تنقل بشکل خاص حکایات کثیرة – و أحیاناً غریبة – عن الصوفیة. وفي ربعي العبادات و العادات أیضاً فإن الأسلوب هو نفسه مع قلیل من الاختلاف. فمثلاً یبدأ «کتاب الصبر و الشکر» و هو الکتاب الثاني من ربع المنجیات بهذه الخطبة: «الحمدالله أهل الحمد و الثناء.. المؤید صفوة الأولیاء بقوة الصبر علی السرّاء و الضّراء و الشکر علی البلاء و النعماء...». ثم یأتي فصل في بیان فضیلة الصبر یشتمل علی آیات و أخبار مرویة عن النبي (ص) و آثار واردة عن الصحابة، ثم فصول في البحث عن حقیقة الصبر و أسمائه و أقسامه و تبیان ضرورة و طریقة اکتسابه، و هکذا الأمر بالسنبة للبحث في الشکر و التوبة و بقیة الفضائل.

یتضمن إحیاء علوم‌الدین التصوف التحلیي العلمي – کما قال الغزالي نفسه مراراً – في علم المعاملة لاعلم المکاشفة، و الحدیث فیه عن الأحول الشخصیة قلیل جداً، بل إن الغزالي ینتقد الصوفیة لأنهم لایأخذون مثل العلماء بعیت الاعتبار جمیع الأحوال، و یتحدثون فقط عن أحوال قلوبهم؛ و إذا حدث في بعض المواضع – و بشکل أکبر في ربع المنجیعات – أن تمرد القلم و أدی بالغزالي إلی کشف الأسرار و دخول عالم المکاشفة، زجر فجأة نفسه بأسلوب مولوي:

بندکن چون سیل سیلاني کند

ورنه رسوایي و ویراني کند

و ما یقصده بعلم المکاشفة هو المعرفة بالمعنی الحقیقي للوحي و النبوة و ملکوت السماء و الأرض و المعرفة الحقیقیة لذات البارئ و صفاته و أفعاله و حکمته و نسبة البشر إلیه و حقیقة الجبر و الاختیار. فمثلاً في «کتاب الصبر و الشکر» و بعد طرحه سؤالاً بشأن کون العباد شاکرین، أو کافرین، و نسبة ذلک إلی القضاء و الفعل الإلهي، یبین أموراً «علی ألسن الطیور»، و یقول أخیراً: «ولنقتصر علی هذا القدر، فقد خرج عنان الکلام عن قبضة الاختیار و امتزج بعلم المعاملة مالیس منه...» (4/ 98).

و بیان الغزالي في الإحیاء سلس و آسر جداً و هو نافذ و مؤثر إلی أبعد الحدود خاصة في مقام التخویف و الإنذار و طافح بالخوف و القلق و الزهد، و قلما جری فیه الحدیث عن المباسطة و المؤانسة و العشق و الشجاعة ولا أثر فیه لأخلاق البطولات، ولا تشم منه بأیة حال رائحة التقلید و التزیین و التظاهر. و هو خال من التکلف و السجع و الشطح و الجزاف من القول. و رغم أنه مفعم بالتدقیق و بحوثه الأخلاقیة و السیکولوجیة العمیقة، فإن قلما کان یسندو یعزو موضوعاً إلی نفسه و یعتبره من منجزاته الخاصة.

و في تبیانه الأحادیث و الحکایات لایذکر الغزالي مصادرها، ولا یحیل القارئ – إلانادراً – إلی قراءة کتاب آخر (مثلاً قوت القلوب لأبي طالب المکي، أو حلیة الأولیاء لأبي نعیم الأصفهاني). و هو لیس من أصحاب النقاش و الجدل و قلما یشتبک مع الآخرین. و ینبري بشکل أکبر لذکر آرائه و تفصیلها. ولهذا فقد ألقی هدوء رصین بظلاله علی جمیع أرجاء کتابه. و حین ینتهي القارئ من الکتاب لا یسطیع أن یمنع نفسه عن الثناء علی صدقه و عن المشارکة في خوفه و زهده.

و من البدیهي أن یکون تألیف هذا الکتاب قد تمّ بعد حدوث التغیرات الروحیة لدیه (488هـ/ 1095م) و قبل تألیفه المنقذ من الضلال (حوالي 500هـ/ 1107م)، ذلک أن مقدمة إحیاء العلوم تشهد بصراحة و جمیع الکتاب یشهد بصمت أن أبا حامد قد استفاد من حصیلة مراقبته لنفسه و خلواته في تألیف هذا الکتاب. کما أن الإحالات التي وردت في المنقذ (و منها ص 144) علی أحیاء علوم‌الدین، لا تدع مجالاً للشک في أن تألیف الإحیاء تم في الفترة الواقعة بین 488و 500هـ. و یخمن موریس بویج – بحذر و بشکل تقریبي- تاریخ تألفه في الفترة بین سنوات 489–495هـ/ 1096- 1102م (ص 42)، بینما یری ما سینیون أنه کان بین سنوات 492–495هـ/ 1099- 1102م (ص 93).

و اسم هذا الکتاب یشهد بوضوح علی الهدف من تألیفه و هو إحیاء علوم‌الدین. کان أبو حامد یعتقد أن الفقهاء و المتکلمین و الوعاظ المعاصرین له لم یکونوا مهتمین بأمرالدین ولا یدرِّسون الدین. فهم لا یهتمون بالدین لأن «الشیطان الستحوذ علی أکثرهم و استغوا هم الطغیان و أصبح کل واحد منهم بعاجل حظه مشغوفاً...» (1/ 2)، «حتی ظل علم الدین مندرساً، و منار الهدی في أقطار الأرض منطمساً؛ ولقد خیّلوا إلی الخلق أن لا علم إلا فتوی حکومةٍ یَستعین بها القضاة علی فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو جدل یتدرع به طالب المباهاة إلی الغلبة و الإفحام، أو سجع مزخرف یتوسل به الواعظ إلی استدراج العوام. فأما علم طریق الآخرة و ما درجٍ علیه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في کتابه فقهاً و حکمة و علماً و ضیاء و نوراً و هدایة و رشداً مما جاء الأنبیاء لتعلیمه، فقد أصبح من بین الخلق مطویاً، و صار نسیاً منسیاً» (ن. ص). و بهذه التجربة و التشخیص شحذ أبو حامد همته لإحیاء علوم‌الدین و أقدم علی تألیف إحیاء علوم‌الدین.

و نجد الغزالي في هذا الکتاب، عالماً متصوفاً و خائفاً منعه علمه من الفکر الجزاف و القول الشطح و السجع الصوفي، و جعله خوفه قاسیاً ولا مبالیاً بالفقه و الکلام و الجدل – و التي هي في رأیه جمیعها علوم دنیویة و أحیاناً شیطانیة – و لهذا السبب و بقدر ما کان مطلق الید في بیان خفایا الآداب و تفاصیل السنن و أسرار العبادات و المعاملات و أسالیب تطهیر القلب و علاج النفس و أسباب ظهور السجایا السیئة و الآفات الناجمة عنها، وفي تعریف السجایا الحسنة أسالیب اکتسابها، فهو بخیل في بیان الأحکام الفقهیة و المسائل الکلامیة، و یبلغ تساهله في الأمور الفقهیة به حداً أن یطعن به معارضوه بقولهم «إن الغزالي باع الفقه بالتصوف بثمن بخس» (ابن الجوزي، تلبیس...، 353).

یبدأ کتاب الإحیاء بـ «کتاب العلم»، و قد وردت فیه آراء الغزالي المهمة لعلم المعرفة لدیه، أي علم الفقه و علم الکلام و تبویب العلوم و البحث في العقل و الیقین و غیر ذلک، و قد قسم في البدایة العلوم إلی واجب عیني و واجب کفائي ثم قسم الواجبات الکفائیة إلی شرعیة و غیر شرعیة، و قسم غیر الشرعیة إلی محمودة و مذمومة و مباحة، عندها وضع العلوم الشرعیة المحمودة کلها علی 4 أقسام: الأصول (الکتاب و السنة و إجماع الأمة و آثار الصحابة)، و المقدمات (اللغة و النحو و ...)، و المتممات (علم الأصول و علم الرجال و...)، و الفروع التي هي أیضاً علی قسمین: الأول یتعلق بمصالح الدنیا و هو علم الفقه و تحویه کتب الفقه و المتکفل به الفقهاء و هم علماء الدنیا؛ و القسم الثاني ما یتعلق بمصالح الآخرة و هو إما علم أحوال القلب و سجایا المحمودة و المذمومة، و إما «العلم بما یترشح من القلب علی الجوارح». و الضرب الأول هو المهلکات و المنجیات، و الثاني هو العادات و العبادات (1/ 17–18). و یدل هذا التقسیم علی موقع المعارف الموجودة في إحیاء علوم‌الدین من تقسیم العلوم؛ ثانیاً، نسبتها إلی الفقه و الکلام (العلمین اللذین کانا موضع احتقار أبي حامد علی الدوام).

و یوضح الغزالي نفسه سبب تسمیته علم الفقه علماً دنیویاً فیقول: «فإن قلتَ: لم ألحقت الفقه بعلم الدنیا؟ فالفقیه هو العالم بقانون السیاسة و طریق التوسط بین الخلق إذا تنازعوا بحکم الشهوات، فلو تناولوها بالعدل لا نقطعت الخصومات» و بقي الفقهاء دون عمل (1/ 17). و من جهة أخری فإن الفقیه متکفل ببیان شروط صحة و فساد ظاهر الأعمال، لذا فإن طاعات مثل اعتناق الإسلام و أداء الصلاة و إیتاء الزکاة و مراعاة الحلال و الحرام، مشمولة بحکم الفقیه من حیث ظاهرها فحسب، و تبقی حقیقتها خارجة عن متناول یده (1/ 18). ولذا فإن اعتناق الإسلام خوفاً من السیف و أداء الصلاة دون خشوع و حضور قلب و التحایل للهروب من الزکاة، کله مما یقبله الفقهاء ولا یلاحظ فیه نقص و إشکال من وجهة النظر الفقهیة. و بطبیعة الحال، فإن علم الفقه هو أیضاً علم دیني، بل «مجاور لعلم طریق الآخرة» (1/ 18–19)، لکن لیس بالذات، بل بواسطة الدنیا. و لأن الدنیا مزرعة الآخرة، و الملک و الدین توأمان، و إعمار الدنیا و تنظیمها یسهل علی المتدینین الطاعة و المراقبة، فإنه بإمکان الفقه أیضاً أن یعد علماً دینیاً (1/ 18).

الفقه و الطب شبیهان ببعضهما من بعض الجوانب: فأحدهما یعمر الأبدان و الآخر یعمر العالم؛ إلا أن الفرق المهم بینهما هو أن الإنسان محتاج للطب حتی في الوحدة و الغربة، لکن لو لم‌یکن الإنسان اجتماعیاً، فلربما لم یحتج إلی الفقه. فالفقه للکائنات الاجتماعیة و یلیق بالحیاة الجماعیة، و إن حاجة الإنسان إلیه إنما هي لکونه مدنیاً بالطبع. و هذا الرأي هو الذي یحدو بالغزالي لیوضح بأن ألفاظاً مثل الفقیه و العلم و التوحید و الحکمة و الذکر قد تغیرت معانیها الآن و قد ألبستها «الأغراض الفاسدة» ملبساً لایناسبها. و قد کان الفقه یطلق في صدر الإسلام علی «علم طریق الآخرة و معرفة دقائق آفات النفوس»، کما کان التوحید عبارة عن رؤیة الحضور الإلهي الشامل في کل مکان و قطع التوجه للأسباب و الوسائط، لا أن یجعل الفقه مقتصراً علی فروع اللعان و الطلاق و العتق و الإجارة – مما لا یُستشف منه الإنذار و الترهیب – ولا أن یسمّوا المتکلمین الذین لیس لدیهم سوی إثاررة الشبهات و الطعن بالأعداء و الجدال و المراء، أهلَ العدل و التوحید (1/ 32–38). و قد وُضِّح في هذا الکتاب أمر الکلام و الفلسفة أیضاً، حیث یبیّن الغزالي لماذا لم یورد هذین العلمین في أقسام العلوم، ولم یتحدث عن محاسنهما و مساوئهما، و دلیله علی ذلک أن القسم النافع من علم الکلام یستحصل من القرآن و الأخبار، أما القسم الآخر الذي لایوجد في هذین الاثنین (القرآن و الأخبار) فهو إما جدل مذموم، أو کلام أکثره «ترهات و هذیانات»، أو أقوال غریبة عن الدین و من جنس البدع مما أصبح تعلمه الیوم واجباً کفائیاً بسبب شیوع الشبهات.

و أما الفلسفة فلیست علماً قائماً بذاته أساساً، بل هي 4 أجزاء: الأول، الحساب و الهندسة و هما مباحان؛ الثاني، المنطق و هو یبحث في باب شروط التعریف و الاستدلال، و هو في الحقیقة من علم الکلام؛ الثالث، الإلهیات و هو بحث عن ذات الله و صفاته، و هو داخل في علم الکلام أیضاً، و الفلاسفة لم ینفردوا فیها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها کفر و بعضها بدعة؛ الرابع، الطبیعیات و بعضها مخالف للشرع والدین و الحق، فهو جهل و لیس بعلم حتی نورده في أقسام العلوم، و بعضها لا یحتاج إلیه أساساً و هو شيء شبیه بنظر الأطباء ولکن للطب فضل علیه و هو أنه محتاج إلیه (1/ 22–23).

و الغزالي في الإحیاء لایفوّت في الحقیقة أیة فرصة، إلا و حذّر فیها طالب علم‌الدین من الانغماس في علم الکلام، و هو یعلّ»ه أنه لایمکن تعلم دروس الیقین و التقوی من علم الکلام، و لیس صحیحاً أن کل من کان أفضل تکلماً ازداد إیممانه قوة «فهل أن ضرب الشجرة بالمدقّة من الحدید یجعلها أکثر قوة؟» (1/ 94).

و إن الفارق بین المتکلم و عامة الناس هو أن المتکلم أکثر مهارة في الجدل. فالکلام «دواء خطر» و فاسد لإزالة فاسد آخر، و لیس فیه جدوی سوی حفظ إیمان العوام من لصوصیة أهل البدع. و لذا لا ینبغي أن نتوقع من هذا العلم کشف الحقیقة، ذلک أن هدمه أکثر من إعماره، و ینبغي أن لاتُشحن أذهان الناشئة و السالکین و هم في بدء سلوک طریق الهدایة بأقاویل المتکلمین، ذلک أنها ستزعزع إیمانهم. ولأجل أن تکون لدیهم «اعتقادات حقة» یکفي أن یقرأوا الفصل الأول من «کتاب قواعد العقائد» الذي هو الکتاب الثاني من الجزء الأول من إحیاء علوم الدین و یتعلموا منه العقائد «الحقة» لأهل السنة في أبواب الحیاة و القدرة و العلم و الإرادة و السمع و البصر و کلام البارئ و فعله و النبوة و الحشر و المیزان و الجنة و النار، و إذا کانوا في مدینة تشیع فیها البدع، فلیطالعوا کتاب الرسالة القدسیة الاستدلالي (الذي ضُمّن مع الفصل الثالث من «قواعد العقائد» و هو من آثار فترة إقامة الغزالي في القدس). و إن کانوا یبتغون المزید أیضاً، توخوّه في کتاب الاقتصاد في الاعتقاد الذي هو أکثر شمولیة و استدلالاً و یقع في 50 ورقة، فإن لم یکفِ هذا القدر أیضاً وجب علی المعلم أن یعلم أن العلة صارت مزمنة و علیه أن یعامل تلمیذه بلطف ورقة بقدر إمکانه و ینتظر قضاء الله إلی أن ینکشف له الحق بتنبیه من الله (1/ 98).

وفي «قواعد العقائد» نجد الغزالي مسلماً سنیاً أشعریاً تماماً قائلاً بالکلام الأزلي و القدیم و القائم بذات الله، و معتقداً بإضافة الصفات إلی الذات و کونه تعالی الله مرئیاً یوم القیامة، عدم إمکانیة المقارنة بین عدله و عدل العباد، ذلک أن العبد یستطیع أن یظلم بتصرفه في ملک غیره، ولا یتصور الظلم من الله، فإنه لا یصادف لغیره ملکاً حتی یکون تصرفه فیه ظلماً (1/ 91)، و معتقداً بنبوة النبي (ص) و نسخ الشرائع السابقة، و قائلاً بأفضلیة خلفاء النبي بترتیب خلافتهم «أفضل الناس بعد النبي (ص)، أبوبکر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم» (1/ 93). و قد فصّل بشکل أکبر في «الرسالة القدسیة» مسألة الخلافة بعد النبي (ص) و عارض الضّ علی واحد من الصحابة بالخلافة و قال: إن في ذلک «خرقاً للإجماع و نسبة للصحابة کلهم إلی مخالفة رسول‌الله (ص)، و ذلک مما لا یسنجرئ علی اختراعه، إلا الروافض و إن أهل السنة یرون عدالة و تزکیة جمیع الصحبابة» (1/ 115). و لیس هذا هو الموضع الوحید الذي قابل به الغزالي «الروافض» بمرارة، فالأشد مرارة من هذا هو ما أورده في کتاب «الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر» في باب شروط المحتسب حین قال: إن إذن الإمام لیس شرطاً في الحسبة «و العجب أن الروافض زادوا علی هذا، فقالوا لا یجوز الأمر بالمعروف ما لم یخرج الإمام المعصوم، و هؤلاء أخسّ رتبةً من أن یُکلَّموا» (2/ 315). و إذا أضفنا إلی هذه العبارات أیضاً نهيَ الغزالي عن لعن یزید (ظ: 3/ 125)، فسیعرف السبب في کون الغزالي لم یحظَ إطلاقاً بقبول لدی الشیعة مما حظي به المولوي و ابن عربي.

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: