الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / إحیاء علوم الدین /

فهرس الموضوعات

إحیاء علوم الدین

إحیاء علوم الدین

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/19 ۱۷:۲۳:۱۶ تاریخ تألیف المقالة

و یتناول الغزالي في کتب أسرار الطهارة و أسرار الصلاة و أسرار الزکاة و أسرار الصوم و أسرار الحج، الأحکام الفقهیة و الظاهریة لهذه الأعمال، لکن لیس بالقدر الذي یرضي المفتین، بل بالقدر الذي ینفع المریدین (1/ 146)، و یتجه منها إلی البحث بشکل أکبر في أسرارها الباطنیة و معانیة الخفیة و التي تفتقدها الکتب الفقهیة عادةً. و یمکن ملاحظ تساهل الغزالي في الأحکام الظاهریة و اعتبارها مقدمة و عدم إطالته البحث فیها بوضوح في «کتاب أسرار الطهارة». فهو یری في الطهارة 4 مراتب: المرتبة الأولی، تطهیر البدن عن النجاسات؛ المرتبة الثانیة، تطهیر الجوارح عن الجرائم و الآثام؛ المرتبة الثالثة، تطهیر القلب عن السجایا المذمومة و الرذائل الممقوتة؛ المرتبة الرابعة، تطهیر السر عما سوی الله و هي طهارة الأنبیاء و الصدیقین. و الطهارة في کل مرتبة من هذا المراتب نصف العمل. ثم ینبري بعد ذلک لبیان أحوال «عمي القلوب» الذین لایفهمون ممن الطهارة سوی المرتبة الأولی، و ینفقوا أعمارهم بأسرها في غسل الثیاب و طلب المیاة الجاریة و الوسواس في أمر الطهارة. و لأنهم عاجزون عن تفقد أحوال القلب و جاهلون بسیر و سنن المسلمین الأوائل، فإنهم یتصورون أعمالهم موضع رضا الشارع و ما یقتضیه الشرع، ولا یعلمون أن «عمر رضي الله عنه مع علو منصبه، توضأ من ماءٍ في جرة نصرانیة، و حتی إن المسلمین الأوائل ما کانوا یغسلون الید من الدسومات و الأطعمة، بل کانوا یمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم، و عدّوا الأشنان من البدع المحدثة، و لقد کانوا یصلون علی الأرض في المساجد و یمشون حفاة في الطرقات... و یقتصرون علی الحجارة في الاستنجاء...» (1/ 125–127). ولکن هذا النوع من الوساوس و التدقیق لا یتیسر إلا «للبطالین»، ذلک أنهم إذا لم ینفقوا أو قاتهم فیه، فسیمارسون أعمالاً باطلة و خاطئة، و أما أهل العلم و العمل فلا ینبغي أن یصرفوا من أوقاتهم إلیه إلاقدر الحاجة (1/ 127). «فلو وجد العالم عامیاً یتعاطی غسل الثیاب محتاطاً فهوه أفضل، فإنه بالإضافة إلی التساهل، خیرٌ، و ذلک العامي ینتفع بتعاطیه، إذ یشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل مباح في نفسه فتمتنع علیه المعاصي في تلک الحال». کما أن العالم سینجز عملاً أفضل و أشرف. «و لیتفطن بهذا المثل لنظائر من الأعمال و ترتیب فضائلها و وجه تقدیم البعض منها علی بعض» (1/ 127–128).

أما المعاني الباطنة التي تتم بها حیاة الصلاة فهي ستٌ: حضور القلب و التفهم و التعظیم و الهیبة و الرجاء و الحیاء. و کلام الغزالي بشأن حضور القلب جدیر بالمطالعة، فهو یستنتج بعد تمهیده مقدمات، أن «الغفلة تتنافی و صحة الصلاة»، رغم فتاوی الفقهاء. و إذا کان الفقهاء قد عدوا الصلاة بدون حضور القلب صحیحة و مجزیة فلضرورة الإفتاء من جهة و لکون قصور الخلق یمنع أحیاناً من أن تُبیَّن جمیع أسرار الشرع (1/ 161). و الصوم ثلاث درجات: صوم العموم و صوم الخصوص و صوم خصوص الخصوص ، أما الأول، فهو کفّ البطن و الفرج عن قضاء الشهوة؛ و أما الثاني، فهو کفّ السمع و البصر و اللسان و الید و الرجل و سائر الجوارح عن الآثام؛ و الثالث و هو صوم القلب عن الأفکار الدنیة و النیویة و کفّه عما سوی الله بالکلّیة (1/ 234). أما الحج فهو الفریضة التي تبلغ فیها العبودیة و التسلیم أعلی درجاتها، ذلک أنها تضطر الإنسان للقیام بأعمال لا تلتذ منها النفس ولا یأنس بها الطبع ولا یفلح العقل في إدراک معانیها، ولذا لایوجد في أدائها دافع سوی الامتثال المحض و الإطاعة العبادیة و الخالصة. و إن نفي کون أعمال الحج عقلانیة هو موضع تأکید الغزالي البلیغ في هذا الکتاب و کأنه کان یرمي من وراء أصراره علی ذلک إلی دحض و تکذیب آراء التعلیمیة و الباطنیة الذین کانوا یعدون أعمال الحج «الأیسر من بقیة العبادات» رمزیة و تمثیلیة و یقدمون لکل واحد منها معانٍ غریبة. و رغم أنه یعتبر رمي الجمرات رمیاً علی وجه الشیطان، إلا أنه یقول: «لایحصل إرغام أنف الشیطان، إلا بامتثالک أمر الله سبحانه و تعالی تعظیماً له بمجرد الأمر من غیر حظ للنفس و العقل فیه» (1/ 266).

و فیما یتعلق بالحج من وجهة نظر الغزالي فإن اجتماع الهمم و الاستظهار بمجاورة الأبدال و الأوتاد المجتمعین من أقطار البلاد هو سر الحج و غایة مقصوده، فلا طریق ذلی استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم و تعاون القلوب في وقت واحد(1/ 270).

وفي کتاب آداب تلاوة القرآن یقول: یستحب تحسین کتابة القرآن و تبیینه، ولا بأس بالنقط و العلامات بالحمرة و غیرها، فإنها تزیین و تبیین و صدّ عن الخطأ و اللحن لمن یقرؤه.. و إن کان ذلک بدعة فهو بدعة حسنة (1/ 276). و یبین التفسیر بالرأي بقوله إن للإنسان رأیاً إما أن یکون باطلاً، أو صحیحاً، وفي کلتا الحالتین لا یصح أن یحرف معنی الآیة بحیث تلائم رأیه، کذلک عمل من یقدم علی تفسیر القرآن دون الستفادة من النقل و السماع معتمداً علی النزر الیسیر من العربیة جاهلاً بغرائب القرآن و الألفاظ المبهمة و المبدلة و الاختصار و الحذف و الإضمار و التقدیم و التأخیر (1/ 290–291). و رغم کل ذلک، فإن العلم بالظاهر هو تفسیر، و العلم بأسرار و حقائق معاني القرآن شيء آخر، فمثلاً ظاهر معنی الآیة: «و ما رمیت إذ رمیت ولکن الله رمی» (الأنفال / 8/ 17) بسیط، إلا أن فیها باطناً غامضاً، ذلک لأنها تتضمن تناقضاً: إثبات الرمي و نفیه. و یبلغ غموضها حداً یقول معه الغزالي: « و لعل العمر لو أنفق في استکشاف أسرار هذا المعني و مایرتبط بمقدماته و لواحقه، لانقضی العمر قبل استیفاء جمیع لواحقه، و ما من کلمة من القرآن إلا و تحقیقها محوج إلی مثل ذلک» (1/ 293).

و التوضیح المهم الذي یورده الغزالي في کتاب الأذکار و الدعوات بعد ذکره آداب الدعاء و الأدعیة التي لا یستغني «المرید» عن حفظها هو أن الدعاء نفسه من القضاء و لا یتنافي معه: «والذي قدر الخیر قدّره بسبب، و الذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً، فلا تناقض بین هذه الأمور عند من انفتحت بصیرته» (1/ 328–329). و فضلاً عن ذلک، فإن الدعاء یوجب ذکر الله، و هذه أفضل العبادات. و لهذا السبب فإن الفقر و الحاجة التي تجعل الإنسان یذکر الله، أمر محبذ. کما أنه لنفس السبب یُبتلی الأنبیاء و الأولیاء بالمصائب أکثر من غیرهم. و آخر کتب ربع العبادات و عاشر کتاب من کتب إحیاء علوم‌الدین الأربعین هو «ترتیب الأوراد و تفصیل إحیاه اللیل»، و قد بُینت في هذا الکتاب کیفیة تقسیم أوقات اللیل و النهار و الأعمال الصالحة و المستحبة في کل واحد من تکلم الأوقات. فهو یقسم في البدء أوراد الیوم إلی سبعة و أوراد اللیل إلی خمسة و یبیین لکل وقت ورداً: بین الصبح و طلوع الشمس ورد؛ و بین طلوع الشمس و الزوال وردان؛ و من الزوال إلی العصر وردان؛ و من العصر إلی المغرب أیضاً وردان. کذلک أوراد اللیل، فالعمل في النهار مثلاً و النوم في اللیل هما من الأوراد التي ینبغي أن تقع في وقتها. و بعد شرح مفصل لأوراد کل وقت یخصص فصلاً یوضح فیه أن الأوراد تختلف بحسب الأحوال، و علی کل شخص أن یؤدي الورد المناسب لحاله ولا یقلد أحوال الآخرین و أورادهم. ولهذا الهدف فهو یقسم سالکي طریق الآخرة إلی 6 مجامیع: عابد و عالم و متعلم و والٍ و حرفي و موحدّ مستغرق في الله، و عنذ ذلک یقول في تبیان أوراد الشخص العالم: «ترتیب أوراده یختلف عن أوراد العابد، لأنه یحتاج إلی المطالعة و التصنیف و التدریس». ثم یبین بعد ذلک الأسلوب المناسب للعالم و یقول: فینبغي للعالم أن یخصص مابعد الصبح إلی طلوع الشمس بالأذکار و الأوراد في الورد الأول، و بعد الطلوع إلی ضحوة النهار في الإفادة و التعلیم إن کان عنده من یستفید علماً لأجل الآخرة، و إن لم‌یکن فیصرفه إلی الفکر و یتفکر فیما یشکل علیه من علوم‌الدین، فإن صفاء القلب بعد الفراغ من الذکر و قبل الاشتغال بهموم الدنیا، یعین علی التفطن للمشکلات؛ و من ضحوة النهار إلی العصر للتصنیف و المطالعة لایترکها، إلا في وقت أکل و طهارة و صلاة واجبة، وقیلولة خفیفة إن طال النهار. و من العصر إلی اصفرار الشمس بسماع ما یقرأ بین یدیه من تفسیر، أو حدیث، أو علم نافع؛ و من الاصفرار إلی الغروب یشتغل بالذکر و الاستغفار و التسبیح. و أما اللیل فأحسن قسم فیه قسمة الشافعي: ثلث للمطالعة و ترتیب العلم و هو الأول، و ثلث للصلاة و هو الوسط، و ثلث للنوم و هو الأخیر. و هذا یتیسر في لیالي الشتاء، و الصیف ربما لا یحتمل ذلک، إلا إذا کان أکثر النوم بالنهار (1/ 349).

أما الحرفي الذي یحتاج إلی الکسب لعیاله فلایری الغزالي له «أن یضیع عیاله» و یستغرق الأوقات في العبادة، بل ورده في وقت الصناعة حضور السوق و الاشتغال بالکسب، و إن داوم علی الکسب و تصدق بما فضل عن حاجته فهو أفضل من سائر الأوراد لأن «العبادات المتعدیة فائدتها أنفع من اللازمة». و کذلک الوالي و الإمام و القاضي الذین ینبغي لهم أن ینفقوا أوقاتهم نهاراً في قضاء حاجات المسلمین، ولا یبادروا إلا لأداء العبادات الواجبة، و أن یقوموا في الیل بأداء الأوراد المذکورة. و بشکل عا، فإن الغزالي یقدم أمرین علی العبادات البدنیة، الأول العلم، و الآخر خدمة المسلمین. و ما یقصده بالعلم هو بطبیعة الحال، العلم الذي یزید الرغبة بالآخرة و الزهد بالدنیا و لیس أي تعلیم و تعلم آخر (1/ 349–350).

و یبدأ ربع العادات بـ «کتاب آداب الأکل». و تقییمات الغزالي الزهدیة و العرفانیة في هذا الکتاب تستحق هي الأخری قراء‌تها و معرفتها. فهو یقول من المستحسن أن یوضع الطعام علی الأرض، أو علی سفرة موضوعة علی الأرض ذلک «أن السفرة تذکّر الإنسان بالسفر، و یتذکر من السفر الآخرة و حاجته إلی زاد التقوی» (2/ 3). و أثناء تناول الطعام من قبل جماعة ینبغي لهم أن لا یسکتوا علی الطعام، «لأن ذلک من سیرة العجم، ولکن یتکلمون بالمعروف و یتحدثون بحکایات الصالحین في الأطعمة و غیرها» (2/ 7).

و رأي الغزالي في باب النساء و منزلتهُنَّ الاجتماعیة و العائلیة، یمکن أن نجده في کتاب «آداب النکاح»، حیث یری في البدأ أن «القول الشافي» في باب النکاح هو: «النکاح نوع من الرق و المرأة رقیقة للزوج» (2/ 56). و بعد أن یورد أیضاحات في باب «آداب المرأة» یقول: أن تکون قاعدة في قعر بیتها لازمة لمغزلها، لا یکثر صعودها إلی سطح الدار و اطلاعها، قلیلة الکلام لجیرانها لاتدخل علیهم، إلا في حال یوجب الدخول، تحفظ بعلها في غیبته، و تطلب مسرّته في جمیع أمورها، ولا تخونه في نفسها و ماله، ولاتخرج من بیتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمتخفیة في هیئة رثّة، تطلب المواضع الخالیة دون الشوارع و الأسواق، محترزة من أن یسمع غریب صوتها، أو یعرفها بشخصها؛ متنظفة في نفسها مستعدّة في الأحوال کلها للتمتع بها إن شاء زوجها، مشفقة علی أولادها حافظة للستر علیهم، قصیرة اللسان عن سبّ الأولاد و مراجعة الزوج (2/ 59).

و کتابا «الحلال و الحرام» و «الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر»، هما أکثر کتب إحیاء علوم‌الدین من النواحي السیاسية و الاجتماعیة و الفقهیة. و قد أقدم الغزالي في هذین الکتابین علی الإفتاء و إبداء الرأي بشکل فقهي و زهدي، ولم یألُ جهداً في تبیان المسائل الفقهیة الدقیقة و تفصیل الأمور الاجتماعیة و السیاسیة الضروریة، و یجیز التصرف في الأموال المتداولة في المجتمع و العالم مما اختلط حلاله بحرامه حتی في حالة غلبة الحرام، بل بضیف أنه «لوطبّق الحرامُ الدنیا حتی علم یقیناً أنه لم یبق في‌الدنیا حلال، لکن أقول: نستأنف تمهید الشروط من وقتنا و نعفو عما سلف و نقول: ماجاوز حدّه، انعکس إلی ضده. فمهما حرم الکل حلَّ الکل» (2/ 107). و عندها وفي البرهان علی ذلک، یقسم عمل الناس في حالة کهذه علی 5 أقسام : 1. إما أن یظلوا جیاعاً حتی یموتوا؛ 2. أو أن یسدوا رمقهم حتی یدرکهم الموت؛ 3. أو أن یأخذوا عن طریق الغصب و السرقة بقدر جاجتهم من الأموال الموجودة من غیر کسب إذن أصحابها؛ 4. أو أن یراعوا قواعد الشرع و یسعوا في کسب المعاش دون الاکتفاء بما یسد الجاجة؛ 5. أو أن یکتفوا بما یسدّ الحاجة مراعین قواعد الشرع. ثم یعدّ المرتبة المامسة و رعاً و المرتبة الرابعة مقتضی مصلحة المجتمع المنطبقة مع الشرع و یقول لو أن نبیاً بُعث في هذا الزمان فعلیه أیضاً أن یفعل هذا و یضع الأساس علی أن جمیع الأموال و کأنها حلال (2/ 107–108). لکن المرتبة الخامسة لایمکن توقعها من الجمیع لأنها أمر عسیر؛ و فضلاً عن ذلک، فإن السبیل الوحید هو أن یأخذ السلطان الأموال الفائضة عن حاجة مالکیها و یعطیها لذوي الحاجة و یکون هو مالک الخزانة، فیمنح یومیاً و سنویاً کل شخص بقدر حاجته: و فیه تکلیفُ شططٍ و تضییعُ أموالٍ. أما تکلیف الشطط فهو أن السلطان لایقدر علی القیام بهذا مع کثرة الخلق، بل لا یتصور ذلک أصلاً. و أما التضییع فهو أن ما فضل عن الحاجة من الفواکه واللحوم و الحبوب ینبغي أن یلقی في البحر، أو یترک حتی یتعفن... ثم یؤدي ذلک إلی سقوط الحج و الزکاة و الکفارات المالیة و کل عبادة نیطت بالغنی(2/ 108). و علی هذا، فإن الغزالي یری أن فکرة کهذه غیر ممکنة و غیر مشروعة و یصدر بشکل فقهي فتوی ببطلانها. و فضلاً عن ذلک، فإن و رعاً کهذا یحول دون عمران العالم و یؤدي إلی اضطراب أحوال الملک، لذا فمن الأفضل أن ینشغل أهل الدنیا بها لیبقی الدین (الذي هو ملک الآخرة) سالماً لأهله، کما أن الحرفیین منهمکون بالحرف الدنیئة لیبقی الملک و السلطان للسلاطین ولا ینفرط عقد الأمور (2/ 109).

و هذه هي نظریة الغفلة التي توسع فیها الغزالي و التي ذکرها في عدة مواضع من إحیاء العلوم و دعا فیها الواعین إلی أن لایحزنوا من طلب أهل الدنیا للدنیا ولایتوقعوا أن یسلک الجمیع طریق الآخرة بزهد و تقوی، ففي هذه الحالة لن تبقی هناک دنیا ولا سیاسة ولاحکومة. فهذا العالم قائم بغفلة أهله و سیعزز الله دینه بأیدي أقوام لاینالون نصیباً منها (3/ 326). ثم یقول مستشهداً بالآیة 32 من سورة الزخرف (43)، و ذلک قسمة سبقت بها المشیئة الأزلیةالإلهیة (2/ 109).

و البحث المهم التالي للغزالي في هذا الکتاب یتعلق بحرمة و حلیة «إدرارات» السلاطین و جوائزهم و صلاتهم. فهو یجیز أخذ الإنسان حقَّه من السلاطین حتی السلاطین الظالمین (2/ 140)، أي أن العالم، أو الفقیه، أو الطبیب الذي لیس له مورد مالي من طریق آخر و یتولی أمراً فیه مصلحة للمسلمین، یحق له أن یعیش من الأموال الحلال التي یملکها السلطان. و هذه الأموال عبارة عن الغنیمة و الفيء و الجزیة و أموال المصالحة التي تستوفی من الکفار و المواریث و الأموال المجهولة المالک و أوقاف المسلمین التي لیس لها متولٍّ (2/ 135). فما عدا ذلک فإن کل ضریبة و رشوة تؤخذ و أي مصادرة تتم، حرام. و إن کون السلطان ظالماً لایؤثر في حلّیة ذلک الحق، شریطة أن یعلم صاحب الحق أنه یُمنح من القسم الحلال من مال السلطان، إلا أن «کل أموال السلاطین في عصرنا حرام، أو أکثرها»، فضلاً عن أنهم یمنحونها فحسب لأولئک الذین یحضرون مجالسهم و یدحونهم، أو أولئک الذین یخدمونهم و یؤیدونهم، أو یسترون قبائحهم و مظالمهم. فإذا لایجوز أن یؤخذ منهم في هذا الزمان ما یعلم أنه حلال لإفضائه إلی هذه المعاني، فیکف ما یعلم أنه حرام، أو یُشک فیه؟ (2/ 139).

و رغم کل هذاف فإن السلطان الظالم الجاهل هو أیضاً سلطان و إن أعانته «الشوکة» و کان خلعه أمراً عسیراً و أدی حدوثه إلی وقوع الفتن فإن إطاعته واجبة: «فالذي نراه أن الخلافة منعقدة للمتکفل بها من بني‌العباس، و أن الولایة نافذة للسلاطین في أقطار البلاد و المبایعین للخلیفة... بل الولایة الآن لا تتبع، إلا الشوکة، فمن بایعه صاحب الشوکة فهو الخلیفة» (2/ 141).

وفي الباب التالي یتحدث الغزالي بشکل مفصل عن حالات اختلاط الحلال و الحرام بالسلاطین و مصاحبتهم و یبین دقائق الورع في تلک الحالات، فمثلاً لایجوز الدعاء للسلطان الجائر إلا أن یقال له أصلحک الله، أو وفقک الله للخیرات، فأما الدعاء بطول عمره علی نحو مطلق فغیر جائز. کما أنه لایجوز الدخول علی السلاطین إلا بعذرین: أحدهما أن یضطر الإنسان إلی الحد الذي یعلم معه أنه سیصیبه الأذی إن عصی ذلک. و الثاني أن یدخل علیهم في دفع ظلمٍ، أو أن یأمر بالمعروف و ینهی عن المنکر، و هذا لیس واجب و بشرط أن لا یکذب ولا یثني ولا یدع نصیحة یتوقع لها قبولاً (2/ 144–145).

وفي »کتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر» فإن کلام الغزالي في باب أمر الحکام بالمعروف و نهیهم عن المنکر و جواز ذلک، أو عدم جوازه و الأسلوب الممدوح و المذموم لذلک و خاصة جواز استخدام السلاح، أو ضرورة استئذان الوالي في النهي عن المنکر، یفضي مباشرة إلی البحث في الموضوعات التي تُبحث الیوم في فلسفة السیاسة تحت عنوان الحریة و النضال السیاسي و أمثال ذلک. و کذلک في بحث الغزالي الوافي لأرکان و شروط الأمر بالمعروف الذي یتضمن البحث في الحسبة و آدابها و شروطها. کما أن إسهاب الغزالي في باب أنواع المنکرات و القبائح و الأعمال اللامشروعة مما یحدث في المساجد والأسوق و الأزقة و الحمامات و مجالس الضیافة، و واجبات المحتسبین و أفراد الشعب تجاه ذلک، یکشف النقاب عن أوضاع المدن و شکل الحیاة الاجتماعیة فیها آنذاک، و یوضح جلیاً الرؤیة الثاقبة لسالک آثر العزلة مثل الغزالي.

و رأي الغزالي النهائي في «کتاب آداب العزلة» في باب الاختلاط بالناس و اعتزالهم و أفضلیة بعضهم علی بعض هو نفسه «فصل الخطاب» للشافعي الذي قال فیه: الانقباض عن الناس مکسبة للعداوة، و الانبساط إلیهم مجلبة لقرناء السوء، فکن بین المنقبض و المنبسط (2/ 242).

و «کتاب آداب السماع و الوجد» الذي هو الکتاب الثامن من ربع العادات یشتمل علی آراء الغزالي الفقیهیة و العرفانیة في باب السماع والوجد و الرقص الذي یأتي – علی حدّ تعبیر الغزالي – أول السماع و یتبعه الوجد الذي هو حالة في القلب، و یثمر الوجد تحریک الأطراف، إما بحرکة غیر موزونة فتسمی الاضطراب، و إما موزونة فتسمی التصفیق و الرقص (2/ 268).

و بعد نقاش طویل مع المعارضین و نقض أدلتهم الفقهیة یفتي الغزالي أخیراً بحلیة سماع الأصوات الموسیقیة المطربة ولا یعد نفس الالتذاذ بالآلات الموسیقیة و أصوات النساء حراماً (2/ 278). و یستثني من هذا الحکم فحسب الآلات التي یستخدمها عادة و غالباً معاقر و الخمر في مجالس شربهم، لذا فإن استخدامها یؤدي إلی إثارة الرغبة في معاقرة الخمر (2/ 279). و هو یری أن الأصل هو: «کل الطیبات حلال إلا ما أدی تحلیله إلی فساد» (2/ 273). ورداً علی من یعدّون السماع و الطرب لهواً و لعباً و حراماً یقول: نعم الأمر کذلک، لکن ألیست الحیاة کلها لهواً و لعباً؟ و الأکثر من ذلک فإن اللهو ضروري في بعض المواضع ذلک «أن العطلة معونة علی العمل، و اللهو معین علی الجد، ولا یصبر علی الجد المحض و الحق المرّ إلا نفوس الأنبیاء (ع). فاللهو دواء للقلب من داء الإعیاء و الملال، فینبغي أن یکون مباحاً، ولکن لا ینبغي أن یُستکثر منه کما لا یستکثر من الدواء» (2/ 287).

و الرأي النهائي للغزالي في باب السماع یحدده قول أبي سلیمان الداراني حیث قال: «السماع لا یجعل في القلب ما لیس فیه، ولکن یحرک ما هو فیه» (2/ 275). و لهذا فهو یقسم السماع في نهایة الکتاب إلی 4 أقسام: حرام و مباح و مکروه و مستحب.

أما السماع الحرام فهو لأکثر الناس من الشبان و من غلبت علیهم شهوة الدنیا، فلا یحرک السماع منهم إلا ما هو الغالب علی قلوبهم من الصفات المذمومة. و أما المکروه فهو لمن لاینزله علی صورة المخلوقین و لکنه یتخذه عادة له في أکثر الأوقات علی سبیل اللهو. و أما المباح فهو لمن لاحظ له منه، إلا التلذذ بالصوت الحسن. و أما المستحب فهو لمن غلب علیهم حب الله ولم یحرک السماع منه، إلا الصفات المحمودة (2/ 306).

و یتضمن ربع المهلکات أمهات نظریات الغزالي في الأخلاق و ریاضة النفس و تزکیة و معاجلة الرذائل، و هو مفعم بتحلیل سیکولوجي دقیق و ترهیب قائم علی التقوی، و کما یقو لهو فإن «أغمض أنواع علوم المعاملة، الوقوف علی خدع النفس و مکائد الشیطان، و ذلک فرضُ عینٍعلی کل عبد» (3/ 30). و یتضمن هذا الربع أمثال هذه العلوم. و تدل بعض الإشارات المتناثرة في هذا الربع علی أن الغزالي ألفه – أو علی الأقل ألف قسماً مهماً منه – بعد تألیفه ربع المنجیات، رغم أنه وقع قبله في التدوین النهائي (مثلاً ظ: 3/ 284).

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: