الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادیان و التصوف / أحمد السرهندي /

فهرس الموضوعات

أحمد السرهندي

أحمد السرهندي

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/15 ۱۳:۴۳:۲۶ تاریخ تألیف المقالة

و قد تجلی اهتمام محمد بیک أوزبک الجدي بنشر عقائد السرهندي و النقاشات التي کانت بینه وحاملي عقیدته من جهة و بین مناوئیهم من جهة أخری في الرسالة الأخری التي نشرها البرزنجي تحت عنوان الناشرة الناجرة للفرقة الفاجرة بعد سنتین من تألیفه قدح الزند.

و قد أدت أنشطة محمد بیک إلی أن یحمل البرزنجي مرة أخری و بشدة علی آراء الشیخ أحمد و ادعاء‌اته الغریبة (ظ: م ن، 101؛ رضوي، II/ 340).

و منذ أوائل القرن 12هـ/ 18م خبت موجة المعارضة لآراء الشیخ أحمد، واتسع تدریجیاً نطاق إعلام و نشاطات أتباع الطریقة المجددیة النقشبندیة في الحجاز و الشام و العراق و ترکیا، و من الجانب الآخر في أفغانستان و ماوراء‌النهرف و کانت جهود أبي البهاء ضیاء‌الدین محمد خالد الشهرزوري (1193–1242هـ) ذات تأثیر کبیر و شامل في نشر هذه الطریقة في مناطق نفوذ الحکم العثماني، و الیوم تنتهي سلاسل نسب جمیع الطرق النقشبندیة في هذه المناطق إلیه. و قد ترجمت مکاتیب الشیخ أحمد إلی الترکیة علی ید مستقیم‌زاده سعدالدین و طبعت في إستانبول سنة 1277هـ، کما ترجمت مکاتیب الشیخ محمد معصوم أیضاً علی یده إلی التزکیة. و ترجم محمد مراد المنزلوي مکاتیب السرهندي إلی العربیة تحت عنوان معرّب المکتوبات الشریفة الموسوم بادرر المکنونات النفیسة، و وضع في حواشیه ترجمة للشیخ و بعض رسائل و تقریظات علماء الحجاز والفتاوی التي کانت توافع عن آرائهف و طبعه سنة 1317 هـ بمکة.

و رغم أن أهمیة و تأثیر أعمال الشیخ أحمد و خلفائه و أتباعه في الشؤون السیاسیة بالهند لم تکن علی الإطلاق بالقدر الذي یدعی في کتابات المؤلفین النقشبندیة، ولا یلاحظ في الکتب التاریخیة المهمة لهذه الفترة شيء من هذا القبیل، لکن و بصورة عامة فإن دعایات و أنشطة الجناح المتعصب والمتشرع في الهند في مواجهة الجناح المتحرر و المتساهل الذي یدعو بأسره إلی التساهل و التسامع في المسائل الدینیة و السلوک مع الهندوس و أتباع الأدیان و المذاهب الأخری، لم تکن دون تأثیر في المضمار، و إن انتصار أورنگ زیب علی داراشکوه في الصراع الذي نشب بین هذین الشقیقین کان في حقیقته انتصار للفریق الأول علی الفریق الثاني.

ولا شک في أن الاحتجاجات الشدیدة للشیخ أحمد علی سیاسة أکبر شاه في «الوئام العام» و یدعه، و أعمال و أقوال رجال بلاطه، و کذلک تصلبه و عناده في مواجهة أهداف جهانگیر و امتناعه الجريء عن السجود بین یدي الملک، و انتقاده الصریح و الشجاع لسیاسات البلاط و الحکومة في المکاتیب التي کان یرسلها إلی النواحي و إلی ذوي المناصب، جعلت منه شخصیة بارزة متمیزة في أعین الناس. و بطبیعة الحال، فإن طریقته و أسالیبه و بعض أتباعه لم تکن لتمرّ دون تأثیر في تعزیز و تدعیم التیار الذي أدی إلی اتباع الأسالیب و السیاسات المتطرفة و المتعصبه خلال عهد أورنگ زیب.

وفي فترة أنشطته الدینیة و الاجتماعیة کان الشیخ أحمد یکافح علی حبهتین: فمن جهة – و کما أسلفنا – کان یعارض سیاسات البلاط و الدولة التي ابتعدت عن الشریعة، و ینتقد و یؤنّب العلماء و الفقهاء الذین کانوا یوافقون بشکل صریح علی تلک الأعمال و السیاسات، أو یلتزمون الصمت محتاطین حیالها، بوصفهم «علماء سوء» (1/ المکتوب رقم 33، 47)؛ و من جهة أخری، کان یسعی إلی تهذیب التصوف الإسلامي السائد في الهند – الذي کان یسیطر تماماً علی الحیاة الدینیة و الفکریة لأهالیها - مما علق به من جمیع الشوائب التي تتنافی و أحکام الشریعة کما یدعي، و یزیل عنه الآراء التي تتعارض و مبادئ الدین. و الأساس الذي تقوم علیه الطریقة النقشبندیة کان بشکل عام الالتزام بالشریعة و اتباع السنة، و کان تصوف الشیخ أحمد أیضاً قائماً علی نفس الأسس. و لذا فقد کان – خلافاً للصوفیة الچشتیة و الطرق الأخری – یعارض السماع و أحوال الوجد الناشئة عنه (ظ: 1/ المکتوب رقم 266)، ولم یکن یحضر أمثال تلک المجالس (الکشمي، زبدة، 210). و کان یقدّم اکتساب العلوم الدینیة علی السلوک في الطریقة، و یشجع مریدیه علی دراسة الفقه و الحدیث و التفسیر (الکشمي، ن م، 212)، و کان العلم في رأیه العلوم الشرعیة، أما العلوم الأخری التي لا تنفع للآخرة کالریاضیات والفلک و المنطق و الفلسفة، فقد کان یعدّها علوماً دنیویة و مما لا طائل من ورائها (1/ المکتوب رقم 73).

و علی عهده کان التیار المسیطر علی أفکار أهل التصوف هو آراء محیي‌الدین ابن عربي و نظریته القائلة بوحدة الوجودف و کان الشیخ أحمد نفسه من أتباع هذا المذهب في شبابه ویبدو أنه کان قد ألف رسالة أیضاً في هذا الموضوع (ظ: 1/ المکتوب رقم 31، 43، 291)، لکنه في الفترات اللاحقة و جد نفسه و لسببین مضطراً إلی أن یعارض بعض آراء الشیخ الأکبر ابن عربي: الأول أن آراء ابن عربي بشکل عام کانت مصحوبة بنوع من التساهل تجاه الاختلافات و الفروق الموجودة في الأدیان الأخری، و کان أتباع هذه المدرسة یعتبرون جمیع الأدیان مظهراً لحقیقة واحدة و طرقاً منفصلة للوصول إلی هدف واحد، و هذه هي نفس الحالة التي کانت تلاحظ آنذاک في النهضة الفکریة و الدینیة للبهاکتیة الهندوسیة التي کان تقوم علی الحب الإلهي و العبادة المرتکزة إلی العشق، و تعد من مبادئها الأساسیة. و مع انتشار و ازدیاد قوة هذه النهضة بین شتی الفرق الهندوسیة و تسرب کثیر من مبادئها و عناصرها و تفشیها بین أبناء المسلمین من الصوفیة و المحبین للسلام (ظ: مجتبائي، 92–110)، کان یخشی من أن یظهر تصدع في عقائد المسلمین و یتزعرع الالتزام بالأحکام الشرعیة. و منذ الفترة التي سبقت حکم أکبر شاه کان في أوساط المسلمین و الهندوس الکثیر ممن کانوا یؤمنون بوحدة الأدیان في نفس الوقت الذي یؤمنون فیه بوحدة الذات الإلهیة، بحیث لم یکونوا یعتبرون «کافرین» ولا «مسلمین»، بل موحدین.

و قد روی عبدالحق المحدث الدهلوي عن عمه أنه سأل یوماً أباه الشیخ سعدالله عن الکبیر (المتصوف الهندي المعروف و من الشخصیات البارزة في النهشة البهاکتیة) عما إذا کان کافراً، أم مسلماً، فأجاب الشیخ سعدالله: «کان موحداً»، و یعني أنه لم یکن کافراً ولامسلماً (ظ: عبدالحق، 300؛ رضوي، II/ 411–413)، إلا أن الشیخ أحمد کان یعارض بشدة هذا النوع من الرؤی، و حکم في إحدی رسائله (1/ المکتوب رقم 167) بشکل صریح بفساد رأي من کانوا یعتبرون «رام» و «الرحمان» واحداً مثل الکبیر و المعتنقین لفکره، وعدّ تصوراتهم و أوهامهم الفاسدة دلیلاً علی سخافة عقولهم. و کان الشیخ أحمد و بغیة الحیلولة دون نمو و انتشار أمثال هذه النزعات یعتبر ترسیخ مبادئ الشریعة وحفظ حدودها و أحکامها أمراً ضروریاً. و من جهة أخری، فإن اتساع نظریة ابن عربي القائلة بوحدة الوجود کان بإمکانها هي الأخری – خاصة من حیث شبهها القریب جداً من «التوحید المطلق» لمدرسة الفیدانتا الهندوسیة – أن لا تؤدي إلی التقریب بین آراء هاتین المدرستین من بعضهما فحسب، بل إلی مزج آرائهما و إحداث تغییر في التصوف الإسلامي (ظ: أحمد، 187؛ رضوي، II/ 390–411). ویبدو أن هذا الاحتمال لم یکن یخفی علی الشیخ أحمد، بل کانت مدعاة لإثارة القلق لدیه. و فضلاً عن ذلک، فقد کانت في نظریات ابن عربي الصوفیة عناصر بإمکانها أن تؤدي إلی ضعف العقیدة و إلی اللامبالاة بالأحکام و الواجبات الشرعیة لدی السالکین الجدد في الطریقة و کثیر من المصوفة غیر المتعمفین.

و رغم أن الشیخ أحمد یحاول في کثیر من مکاتیبه دحض آراء ابن عربي، إلا أنه یذکره دائماً بتجلة و یعتبره من «الأولیاء المقبولین» (1/ المکتوب رقم 266)، ولا یعرّض إلا نادراً به و بآرائه و آثاره أو بشکل تلمیحي، کما یقول في أحد مکاتیبه: «إن ما یهمنا هو «النص» و لیس «الفص»، و إن فتوحاتنا المدنیة أغنتنا عن الفتوحات المکیة» (1/ المکتوب رقم 100)، و یشکو في موضع آخر بلهجة هادئة: «ما الذي یمکن علمله في ساحة الشیخ هذه قدس سره الذي نحن في حرب معه حیناً وفي سلام حیناً آخر» (3/ المکتوب رقم 79). و یقول أیضاً في موضع آخر: «لما کان الشیخ [محیي‌الدین] لا یمیز بین الواجب والممکن - و نفسه یقول: لعدم التمییز بینهما - فإن سمي الواجب ممکناً و الممکن واجباً فلایهم، و إن عَذَرَهُ، فذلک منتهی الکرم و العفو» (3/ المکتوب رقم 122، أیضاً ظ: 3/ المکتوب رقم 77). بل یحاول الشیخ أحمد أحیاناً تسویغ أقوال ابن عربي بشکل ما و حملها علی «غلبة السکر و استیلاء حب المحبوب علی»، أو تسمیتها بالخطأ الکشفي، فیقول: «الخطأ الکشفي حکمه حکم الخطأ الاجتهادي، مرفوع عنه اللوم و العتب» (1/ المکتوب رقم 31، أیضاً: ظ: 1/ المکتوب رقم 266).

کان الشیخ أحمد یعتبر نظریة ابن عربي في وحدة الوجود بالشکل الذي کانت مطروحة به في أوساط الصوفي آنذاک، مرفوضاً؛ و اعتبار الحق و الخلق واحداً هو أمر مخالف للعقل و الشرع، و کان ینبري في جمیع مکاتیبه، و حیثما سنحت الفرصة، لدحض هذه النظریة و الإنکار علیها بشتی التعابیر، إلا الکلام الذي کان یعلنه هو نفسه في هذه المسألة و بشأن نسبة الواجب إلی الممکن، أو القدیم إلی الحادث، لم‌یکن علی نسق واحد في جمیع أرجء مکاتیبه؛ بحیث کان یقترب حیناً من رؤیة ابن عربي في وحدة الوجود، و حیناً من التوحید الإلهي للمتشرعین، أو کما یقول هو: طبقاً لعقیدة أهل السنة و الجماعة.

و في مسألة الولایة أیضاً و منذ بدء معرفته بابن عربي و کثیر من المتصوفة الذین کانوا یعتبرون الولایة أصلاً و النوبة فرعاً له کان معارضاً، و خلافاً لهم کان یری النبوة أفضل من الولایة و هي أصلها و باطنها (ظ: 1/ المکتوب رقم 260، 266، معارف لدنیة، 70–71)، إلا أن تأثیر آراء الشیخ الأکبر و أقواله تطغی علی أفکاره و أسلوب بیانه في جمیع الأحوال، و هو یتوسل لتحقیق مرامیه بنفس المفاهیم و المصطلحات الخاصة بتلک المدرسة. و هو منذ السنوات الأولی التي انضم فیها للطریقة النقشبندیة، اتخذ من المقولات و التصورات الشائعة في مدرسة الشیخ الأکبر، مرتکزاً لبیان آرائه و نقد آراء ابن عربي و دحضها، وکان یتحدث عن مراتب الوجود و تنزلاته و تعیناته علی أساس الطرح العام لمعرفة الوجود في تلک المدرسة، و یعتبر - شأنه شأن أتباع ابن عربي - نسبة الحق إلی الخلق هي نسبة الظاهر إلی المظهر، أو الأصل إلی الظل، و کان یقول بالوجود الظلي للعالم الخارجي، و یعتبر موجودات العالم عاریة عن الوجود الأصلي و الحقیقي، لکنه خلافاً لأولئک الذین کانوا یعتبرون العالم الخارجي معدوماً و متوهَّماً (الأعیان ما شمّت رائحةً من الوجود الخارجي) ولا یعرفون له تحققاً، إلا في مرتبة الحس و الوهم، لم یکن یعتبر الوجود الخارجي الظلي معدوماً و موهوماً (2/ المکتوب رقم 1)، بل کان یعتقد بثباته واستقراره، ذلک لأن صاحب اظل ثابت لایزول. و إن الثبوت الوهمي للممکنات لیس ن صنف الأمور الوهمیة الأخری التي تزول بزوال الوهم، ولأنها ثبتت و ظهرت بصنع الله تعالي، فإن لها استقراراً، و هي محکومة بأحکام الوعد و الوعید والثواب و العقاب (ظ: 1/ المکتوب رقم 160، 2/ المکتوب رقم 1). و کان أتباع ابن عربي یعتبرون التعینین الأول و الثاني، قدیمین و واجبین، و التعینات الثلاثة التالیة حادثة و ممکنة، إلا أن الشیخ أحمد کان یعتبر التعینات الخمسة بأسرها حادثة و ممکنة، ذلک أن أي تعیّن منافٍ لإطلاق ذات الحق، و الذات وراء الوراء و خارج أي نوع من التمیز و التعین و التنزل («فهو سبحانه وراء الوراء، ثم وراء الوراء، ثم وراء الوراء، ثم وراء الوراء»، ظ: 2/ المکتوب رقم 1)، و حتی الوجود و الوجوب أیضاً هما من الاعتبارات، والذات وراء الوجوب و الوجود (ظ: ن ص، أیضاً 3/ المکتوب رقم 76، 122). و کان الشیخ أحمد في إعلانه هذا الرأي یتبع کلام علاء‌الدولة السمناني الذي کان قد قال: «فوق عالم الوجود عالم الملک الودود» (ظ: 2/ المکتوب رقم 2). و علی هذا، فإن الشیخ أحمد کان یرفع مقام تنزیه و تعالي ذات الحق إلی الحد الذي کان یعتبر معه السیر في الحق أیضاً – و کان الصفویة یتحدثون عنه علی الدوام – هو في الحقیقة سیر في ظلال الأسماء و الصفات لا سیراً في ذات الحق (2/ المکتوب رقم 42). و کان أتباع ابن عربي یسمون العالم بـ «الأعراض المجتمعة في عین واحد»، أي الأعراض التي لها قیام بذات الحق.کما کان الشیخ أحمد یعتبر العالم مجموعة من الأعراض، إلا أن قیامها لیس بذا الحق بل بالأسماء و الصفات، ذلک أن الممکنات هي ظلا الأسماء و الصفات، و أن رجوعها هو إلی أصلها، رغم أن قیام الأسماء إنما هو بذات الباري تعالی (3/ المکتوب رقم 79، 80).

وفي مسألة الخیر و الشر فإن رأي الشیخ أحمد یختلف اختلافاً تاماً عن رأي أتباع ابن عربي الذین کانوا یعتبرون کلا الأمرین نسبیاً و أعتباریاً (ظ: 1/ المکتوب رقم 234). فهو ینسب الشر و النقص و الزوال مباشرة إلی العدم، کما یعدّ الخیر و الکمال و البقاء ناجمة عن الوجود. فالعدم هو للممکن ذاتیاً، و الوجود للواجب، إلا أنه یوجد لکل واحد من الأسماء و الصفات في مقام التفصیل و التمایز، وجه عدمي یقابله و ینقضه، کما في حالة الجهل والعجز و ....التي ینقضها و یقابلها العلم و القدرة و....، کما یقع الوجود أیضاً مقابل العدم الذي هو نقیضه و مقابله. وفي مرتبة التفصیل و التمایز العلمي تقع الصورة العلمیة لکل اسم مقابل نقیضها و تنعکس فیه، و ماهیة الممکنات هي عبارة عن انعکاس الکمالات الوجودیة في النقائص العدمیة و المتزاجها مع بعضها، وفي العالم الخارجي یصطبغ کل عدم بظل من ظلال الکمالات الوجودیة التي تقابله ثم یظهر و یتنجلی. إذن فإن ذوات الممکنات عدم انعکست فیه ظلال الکمالات الوجودیة..... ولا مندوحة من أن تکون کل خیر و کمال ضُمِّن فیها عاریةً فاض علیها من حضرة الوجود الذي هو الخیر المحض، و إن الآیة الکریمة: «ما أَصابَکَ مِن حَسَنَةٍ فَمَنَ اللّهِ وَ ما أَصابَکَ مِن سَسُّئَةٍ فَمَن نَفسِکَ» (النساء/ 4/ 79)، دلیل علی هذا المعنی.

غیر أن الخلاف الأساسي بین الشیخ أحمد و أتباع ابن عربي فهو بشأن مسألة وحدة الوجود و عینیة الحق و الخلق. و کما أشیر آنفاً، فإنه کان یستغل کل فرصة للاعتراض علی هذا الرأي. و من وجهة نظره فإن العالم رغم کونه مرایا للکمالات الصفاتیة و موضعاً لتجلي الظهورات الأسمائیة، إلا أن المظهر لیس عین الظاهر، و الظل لیس عین الأصل علی الإطلاق، بحیث لو وضع المعنی في قالب الألفاظ فإن الألفاظ التي هي تجلیات و مظاهر لذلک المعنی، لیست هي عین ذلک المعنی. و نسبة الألفاظ إلی المعاني هي نسبة الدال إلی المدلول و لیست نسبة العینیة (1/ المکتوب رقم 31). «عدیم الکیفیة لا یمکن تسمیته مثل الکیفیة، و الواجب تعالی لا یمکن تسمیته بعین الممکن، و القدیم لا یمکن علی الإطلاق أن یصبح عین الحادث، و ممتنع العدم لایکون عین جائز العدم علی الإطلاق» (ن ص).

کان الشیخ أحمد قد أراد إزالة النزاع بین التصوف و الشرع، و أن یلائ بین نظریات الصوفیة القائلة بوحدة الوجود و بین الأصول و المبادئ العقائدیة للإسلام، ولذا فقد کان یدعو نفسه «صلة» و یقول: «الحمدلله الذي جعلني صلة بین البحرین و مصلحاً بین الفئتین» (2/ المکتوب رقم 6؛ الکشمي، زیدة، 181)، و لتدعیم رأیه هذا کان یستند هو و أتباعه إلی الحدیث الذي أورده السیوطي في جمع الجوامع بهذا النص: «یکون في أمتي رجل یقال له صلة یدخل الجنة بشفاعته...» و یستشهدون به (الکشمي، ن ص). و لذا فقد قدّم مادُعي بوحدة الشهود في مقابل وحدة الوجود لمدرسة ابن عربي النظریة الأکثر اعتدالاً التي کانت معروفة في أوساط الصوفیة قبل ابن عربي بأسماء التوحید في الفناء و جمع الجمع و تعبیرات أخری، و کانت قد طرحت بعد ابن عربي أیضاً بواسطة أشخاص مثل علاء‌الدولة السمناني و الصوفیة الآخرین الذین کانوا یعارضون نظریته في وحدة الوجود. و استناداً إلی هذه النظریة فإن تصور، أو إدراک عینیة الحق هو أمر شهودي لاوجودي، بمعنی أن السالک هو في مقام الشهود و الفناء و غلبة السکر و الاستغراق و لما کان ما سواه قد مُحي تماماً من أمام ناظریه، فهو لا یری سوی الحق. و إن جملة «الکل هو» الشائعة بین الصوفیة إنما تعني هذه الحالة، و لیس بمعنی أن الواجب تنزّل إلی الحد الممکن، أو أن الممکن سما حتی بلغ درجة الوجوب، و «الکل» تعني في حقیقتها أن «الکل منه» و کل ماسواه هو ظلال و تجلیات له و لیس نفسه و عینه، کما أن وجه زیدلو انعکس في عدة مرایا و ظهر، قیل إن هذه الظهورات و الانعکاسات کلها زید، أي کلها من زید و لیست زیداً نفسه. و زید باقٍ بوجوده المحض الأصیل رغم وجود کل هذه الصور ولا ینقصه شيء بسبب هذه الصور ولا یزید علیه شيء، و إن ماقیل: «الآن کما کان»، یُقصد به هذه الحقیقة (3/ المکتوب رقم 89).

یحاول الشیخ أحمد في بعض مکاتیبه تسویغ نظریة وحدة الوجود لابن عربي و أتباعه و تعلیلها من وجهة نظره هو في وحدة الشهود، و یتزو أقوالهم إلی غلبة الوجد و أحوال الفناء (ظ: 3/ المکتوب رقم 89، 100).

إلا أن الهوة في أواخر حیاة الشیخ أحمد بدأت تتسع بین آرائه و نظریات ابن عربي، و بلغ الأمر حداً أن عدل حتی عن رأیه الذي کان یقول فیه بالوجود الظلي للممکنات، و أن النسبة بین الممکن و الواجب هي نسبة الظل و صاحبه، و قال: «إن قسم العلوم هذا الذي یثبت النسبة بین واجب الوجود تعالی و بین الممکن ...هو بکماله من المعارف السُّکریة و من القصورد في فهم حقیقة المعاملة.... و متی ما کان لمحمد رسول‌الله (ص) ظل لرقّته، فکیف یمکن أن یکون لرب محمد ظل؟ إن الموجود في الخارج بالذات و بالاستقلال هو حضرة الذات الإلهیة تعالی، و صفاته الثمان الحقیقة تعالی و تقدس، و کل ما سواه مهما کان، إنما وجد بأیجاده تعالی، و هو ممکن و مخلوق و حادث، ولم یکن أيُّ مخلوقٍ ظلاً لخالقه، و ما وراء تلک النسبة التي ورد بها الشرع فلا تربطه أي نسبة بالخالق تعالی غیر المخلوقیة» (3/ المکتوب رقم 122). و کما هو ملاحظ هنا فإن النسبة بین الواجب و الممکن هي النسبة بین الخالق و المخلوق، و إن الرؤیة التي قدمها الشیخ في هذه الفترة من حیاته بشأن هذا الموضوع هي نفسها التي کانت مقبولة لدی عامة المسلمین المتشرعین و غیر المتصوفة أیضاً. و فضلاً عن أن الشیخ ینکر بشکل صریح عینیة الواجب و الممکن و کون الحق و الخلق واحداً کما أسلفنا (أیضاً: 2/ المکتوب رقم 42)، فهو یأبي أیضاً قبول کون عالم الخلق تجلیاً لصفات الحق، ذلک أن الصفات الإلهیة کاملة لاعیب فیها ولا نقص، بینما لایخلو علام الممکنات من العیب و النقص کما یقول (3/ المکتوب، رقم 113، 114)، کما أن العلم و القدرة و کافة الصفات الإنسانیة ناقصة و محدودة بأسرها ولا تقاس إطلاقاً بعلم الله و قدرته و سائر صفاته (3/ المکتوب رقم 100، معارف لدنیة، 27–30)، و إن کل صفة ننسبها لله هي ولیدة أذهاننا، و إن الله أسمی من کل صفة نتصورها له «سُبحانَ رَبِّکَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا یَصِفُونَ» (الصفات / 37/ 180). و بإنکاره هذه الأمور یدحض الشیخ أحمد في الحقیقة، مبادئَ مدرسة و فکرة وحدة الوجود.

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: