أفلوطین
cgietitle
1442/12/4 ۰۸:۳۳:۴۲
https://cgie.org.ir/ar/article/236486
1447/1/24 ۱۷:۵۵:۱۱
نشرت
8
(الخصائص العرفانية لفلسفة أفلوطين): استناداً إلى ما قاله أفلوطين عن الروح، فلن يكن بعيداً عن الحقيقة لو قلنا إنها إحدى المعالم البارزة للنظرة العالمية الفلسفية لديه هي النزعة الروحانية. فإذا كانت الذات الحقيقية للإنسان هي الروح، فمن أين جاءت هذه الروح ؟ وماذا كانت ؟ وما هو مصيرها في المستقبل ؟ وإلى هنا اتضح إلى حد ما جواب أفلوطين عن السؤالين الأولين. والآن جاء دور جواب السؤال الثالث وهو: قيل إن الروح كانت قبل حياتها في هذا العالم موجوداً مجرداً من غير جسم وجسد، وإن حياتها في الجسد أدى إلى اضطرابها وتدنسها وعدم استقرارها؛ وعلى هذا، فإن اليوم الذي تنجو فيه مرة أخرى من سجن الجسد هو في الحقيقة وقت تحررها الثاني؛ ذلك أن أفلوطين ــ وكما قيل آنفـاً ــ يرى الروح خالدة وغير قابلة للفناء. ومن جهة أخرى، فإن استدلاله كان أن الروح ليست جسمانية إطلاقاً وعلى هذا، فإنها لايمكن أن تكون مركبة، وإن كونها بسيطة هو السبب في عدم قبولها للتحلل؛ بل إن أفلوطين خصص رسالة مستقلة لإثبات عدم قبول الروح للفناء (ن.م، الرسالة 7)؛ واتّباعاً منه للاستدلال الذي قدمه أفلاطون بشأن عدم وجود قابلية الفناء في ما هو أصل ومنشأ الحياة والحركة، يشير إلى هذا النوع من الأنشطة الذي تُظهر الروح فيه طهارتها ونقاءها وقرابتها للعنصر الإلٰهي، وكذلك مكانتها اللائقة في عالم أسمى (نفس الرسالة، الفصل 10). ويستدل أفلوطين بأن الأرواح كلها لو كانت فانية وقابلة للفناء، لكان على كل شيء أن يتجه إلى الزوال منذ فترة طويلة، لكن ولكون الروح الكلية العالمية غير قابلة للفناء، فينبغي أن تكون أرواحنا التي هي من سنخها ومن نفس جوهرها أيضاً غير فانية (نفس الرسالة، الفصل 12). ومن جهة أخرى، يرفض أفلوطين بشدة المعادَ الجسماني، ذلك أنه يعدّه بقاء، أو خلوداً للسجن الذي تكون الروح أسيرة فيه. والبعث الحقيقي بعيد كل البعد عن الأجساد، أو الأجسام التي هي من طبيعة متضادة مع الروح ومعارضة للوجود الواقعي (التاسوعة III ، الرسالة 6 ، الفصل 6). والنظرية الأخرى التي اقتبسها أفلوطين عن الفيثاغوريين وأفلاطون ودافع عنها بإصرار، هي تناسخ الأرواح. فلما كانت الأرواح إثر نزوعها إلى العالم المحسوس قد تموضعت في الأجساد، فإنها خلال خروجها من هذه الأجساد أيضاً تبحث عن أماكن لها وتجد المسكن اللائق بها. والأرواح التي لاتستطيع، أو التي لاتمتلك الجدارة لأن تسحب نفسها إلى العالم العلوي، تبحث مضطرة مرة أخرى عن جسم آخر مكاناً لها، وبشكل خاص الجسد الذي يتناسب وإياها. وهكذا، تصبح الروح تائهة في أشكال مختلفة في شتى أرجاء العالم، ويحدد نوع النشاط المهيمن عليها كلّ واحد من هذه الأشكال. وإن الروح التي انفصلت عن الجسد تختار ذلك النمط من الحياة الذي كان نشاطها المهيمن والغالب في الحياة الأرضية منصباً عليه (التاسوعة III، الرسالة 4 ، الفصل 2). ويحدث أحياناً أن تنغمس إحدى الأرواح الدنسة والدنيئة، في المادة وتخرج من الحالـة الإنسانية وتموت (التاسوعة I، الرسالة 8 ، الفصل 13)، أو تتحيز في أجساد الحيوانات، أو حتى النباتات (التاسوعة III، الرسالة 4، الفصل 2)، إلا أن الأرواح الأخرى تجد طريقها في الأجساد الإنسانية المناسبة لها، فتعين رغبتها وحالتها الداخلية ذلك البدن، أو الحياة التي تختارها (نفس الرسالة، الفصل 5). كما أن هناك مجموعة أخرى من الأرواح تعرج مباشرة إلى السماء وتتحيز في الكواكب لتتفرج من هناك على العالم الكلي. ذلك أن طاقات الروح لاتُظهر العالم المعقول فحسب، بل يتجلى فيها نظام الروح العالمية أيضاً، وتنقسم في الأفلاك المختلفة الثابتة منها والمتحركة. فأكثر الأرواح طهارة ونقاء تتجاوز العالم المحسوس دفعة واحدة وتعود إلى مكانها الأول فيما وراء المحسوس (نفس الرسالة، الفصل 6). وخلال ذلك لاينبغي استبعاد الجانب الطبيعي والجسماني فحسب، بل الجانب الأخلاقي لهذه العملية أيضاً. فالأرواح ينبغي لها أن تتعلق بأجساد وتكون عرضة لمصير كي تستطيع رؤية جزاء أعمالها في الحياة الأرضية. فالأرواح التي كانت بشكل متواصل أسيرة الحياة الشهوانية لاتمسخ إلى حيوان، أو نبات فحسب، بل إلى ذلك النوع من الحيوان، أو النبات الذي تجره طريقة عيشها الخاصة نحوه. فالبشر الذين كانوا منغمسين في الملذات يصبحون في عداد السباع؛ والأشخاص الذين يتبعون شهواتهم وغرائزهم يصبحون حريصين وباحثين عن اللذة بهوس؛ ويتحول عشاق الموسيقى إلى طيور صادحة؛ والملوك الجهلة عقباناً (نفس الرسالة، الفصل 2). وهنا يرد السؤال التالي: أي نوع من الأرواح يواجه مصيراً كهذا؟ وبطبيعة الحال، فإنه لاينبغي أن تكون تلك الروح التي هي ــ استناداً إلى تعبير واستدلال أفلوطين ــ موجود خالص ومجرد، بل يجب أن تكون روحاً ممتزجة بالمادة ومركبة من الأجزاء الدنيئة والسفلية للعالم الأرضي (التاسوعة I ، الرسالة 1، الفصل 12). ومن هنا يقول أفلوطين: إنه عند انفصال الروح الأسمى عن جسد الإنسان ترافقها أيضاً تلك الروح الدنيئة والسفلية المستنيرة منها (نفس الرسالة، الفصل 10). والروح ليس لها أي استذكار آخر للوقائع والتاريخ في عالمها هذا، ذلك أنه لايوجد في العالم المعقول تغير وزمن، وبالدخول فيه، فإن الزمن ودورة الحياة وكذلك الاستذكار سيكون منصباً ومقتصراً على فكرة شكل واحد ومرتبط بعالم ماوراء المحسوس. ويرى أفلوطين أن استذكار الحياة الأرضية خاص بالأرواح التي لاتسمو بذاتها إلى عالم ماوراء المحسوس، أو تغادره مرة أخرى. وبالنتيجة، تُلغى على يد أفلوطين نظرية أفلاطون الشهيرة بشأن «الاستذكار» (التاسوعة IV، الرسالة 3، الفصل 25).
بشكـل عام، يمكن القول إن أفلوطين ــ وكمـا هو متوقَّع ــ لم يخصص للأخلاقيات بحوثاً مستقلـة، ولم يتناولهـا بالتفصيل كما ينبغـي. والسبب فـي ذلك ــ باحتمال كبير ــ ينبغي أن يكون هو عدم وجود أهمية أساسية ومصيرية للنشاطات العملية للبشر من وجهة نظره. وإن ما له أصالة أكبر في الحياة هو الصفات النظرية لحياة البشر والفكر. وعلى هذا، ومن وجهة النظر هذه، فإن المتوقع أن لاينبري لدراسة الأقسام المهمة من بحوث الفلسفة التقليدية للأخلاق مثل نظرية الفضائل وبشكل خاص القضايا المتعلقة بالحياة السياسية والاجتماعية. ومن وجهة نظره، فإن ما يحظى بالأهمية الفائقة لحياة البشر هو السعي لإعداد الروح للعروج إلى عالم ماوراء المحسوس والاتحاد، أو التوحد بالواحد، أو بعبارة أخرى بالله. إن هدف حياة جميع البشر هو نيل السعادة، أو الحظاظة. لكن من وجهة نظر أفلوطين، فإن السعادة لاتكمن في اللذة، أو الحياة الرغيدة وهدوء العواطف، أو الحياة المتناغمة مع الطبيعة، أو النشاط الطبيعي، بل إن أكثر أشكال الحياة كمالاً هو في التفكير والنشاط الفكري (التاسوعة I، الرسالة 4 ، الفصلان 1,3). وسعادة الإنسان الحقيقية هي تعامله مع ذاته ومع باطنه ومع الذات الأسمى في ذاته. ولادور للأمور الخارجية في ذلك. كما أن المعاناة والآلام والأمراض والشقاء ليس لها تأثير في حياته الأسمى. فهو يهوِّن على نفسه جميع أنواع البلاء والمصائب وكذلك موت الأقارب والأبناء. والسعادة من وجهة نظر أفلوطين مرتبطة بتركيبة الإنسان وصفاته المعنوية والروحية. وهنا يتضح تأثير أفكار الرواقيين في أفلوطين، أي إعادة الروح إلى ذاتها وطهارة الروح المفكرة من كل ما هو خارجي. وهكذا، يمكن القول إن فلسفة الأخلاق لدى أفلوطين لها صفة سلبية. فأهم سمات الحالة الأخلاقية للإنسان من وجهة نظره هي الإعراض عما هو محسوس. والمفهوم الأساسي للأخلاق لدى أفلوطين هو التطهر، أو التصفية والتزكية والتحرر والانعتاق من الجسمانيات والتوجه نحو العالم الآخر. وإن شر الروح وسوءها عبارة عن الامتزاج بالجسم والتعلق به. وفضيلة الروح هي في التحرر من الجسم والنشاط الخالص لذاتها (ن.م، الرسالة 2، الفصل 3). والروح بذاتها ليست دنسة، لكنها تُدنس بسبب ارتباطها بالجسد. ولذا، فـإن هـدف جميـع الفضائـل هـو تطهيـر الـروح (ن.م، الرسالة 6 ، الفصل 6).
ربما لايروق لكثير من المتخصصين في أفلوطين، أو الباحثين فيه ولايقبلون إذا سمينا من وجهة نظر معينة النظام الفلسفي لأفلوطين بشكل ما عرفاناً فلسفياً، أو فلسفة عرفانية بأوسع معانيها . فقد كانت الإسكندرية وكذلك مدينة روما في القرن 3م مهداً ومكاناً نشأت فيه معتقدات وآداب وتقاليد وطقوس دينية متنوعة. ومن بين ذلك، كانت تنشط فرق مسيحية ذات استنباطات مختلفة عن المسيحية وكذلك الغنوصيون المسيحيون وغير المسيحيين. وكانت الآثار والمؤلفات الكثيرة للفرق الغنوصية تقع بأيدي القراء سراً وعلانية، بحيث كانت الأفكار والاستنباطات الغنوصية قد وجدت طريقها إلى أوساط تلامذة أفلوطين وأصدقائه أيضاً. ويذكر فرفوريوس من بين الغنوصيين المعاصرين لأفلوطين أشخاصاً بعضهم اليوم معروف وأغلبهم مجهول، وهو يسميهم المبتدعة والفرقويين الذين تخلوا عن الفلسفة القديمة. يقول فرفوريوس: كان أفلوطين غالباً ما يهاجم في دروسه ومحاضراته مواقفهم وأفكارهم وقد كتب رسالة سميناها «الرد على الغنوصيين» (الفصل 16 أيضاً ظ: التاسوعة II ، الرسالة 9 ؛ عن الغنوصيين، ظ: پويش، 162-174). وكما نعلم، فإن الغنوصيين الذين أخذوا اسمهم من غنوصيس (المعرفة) كانوا يعدّون فِرقاً وسطاً بين المسيحيين وغير المسيحيين، لهم جميعاً نزعات عرفانية نوعاً ما. وكان لرؤاهم ومعتقداتهم دور مهم وفاعل جداً في النزعات العرفانية للفترات التالية، سواء المسيحية منها، أم الإسلامية. لكن أفكار الغنوصيين و تعاليمهم واعتمادهم وتأكيدهم على النظرة العالمية الأسطورية والسرية و الغامضة، كان بإمكانها في الحقيقة أن تهدم الأفكار الفلسفية لأفلوطين. وكان لنظرة الغنوصيين العالمية بشكل أكبر سمة أسطورية ـ دينية أكثر منها فلسفية؛ بينما كانت النزعات الشخصية والفلسفية لأفلوطين بعيدة عن النظرة العالمية الدينية، بل إنه نفسه كان يتجنب التقاليد والطقوس والتشريفات الدينية، بحيث يكتب تلميذه فرفوريوس: في الوقت الذي كان فيه تلميذ أفلوطين وصديقه الحميم، أميليوس قد هام في الطقوس الدينية وكان في البدء في كل مكان وفي مناسبات الاحتفالات الدينية يتردد على المعابد، طلب يوماً إلى أفلوطين أن يرافقه في ذهابه إلى المعبد وينبري لشكر الآلهة، أجـاب أفلوطين: ينبغي لها ــ أي الآلهـة ــ أن تأتي إلي لا أن أذهب أنا إليها (الفصل 10). ومع كل ذلك، فإن أفلوطين في حياته اليومية الخاصة كان يعيش ويفكر بتصوف وزهد كبيرين. وبحسب قول فرفوريوس فإنه لم يكن يتخلى عن وعيه على الإطلاق، إلا في نومه؛ بل كان بتناوله القليل من الطعام يقلل من نومه ويتجه دوماً نحو عقله وتفكيره (الفصل 8). وفي وصفه أخلاقه ومعنوياته يزيد فرفوريوس إلى ذلك قوله: إنه كان سمحاً وعطوفاً وفي غاية النبل والجاذبية ... ، وكان بسهره يحافظ على روحه طاهرة ونقية، وفي حالة جد دائم باتجاه الأمر الإلٰهي الذي كان يحبه من أعماق قلبه. ويفعل كل شيء ليهرب من «الموجة المرة للحياة الماصة للدم في هذا العالم». وهكذا، فإن الله الذي ليس له تمثال ولا أية صورة معقولة، بل له مكان فوق العقل وكل معقول، كان يظهر لهذا الرجل الإلٰهي. وكان الهدف يبدو قريباً من أفلوطين على الدوام، ذلك أن غايته وهدفه كان الاتحاد بالله الذي هو فوق كل شيء. وخلال الفترة التي كنت فيها معه حقق 4 مرات ذلك الهدف وناله في فعلية لايمكن قولها وليس بالقوة ... ، وعندما كان ينحرف عن الطريق كانت الآلهة غالباً وبإرسالها عموداً من نور، تضعه على الصراط المستقيم؛ بمعنى أن ما كان يكتبه إنما كان يكتبه بإشراف منها (الفصل 23). يتضح من هذه الصفات أن الهدف النهائي لأفلوطين من التفكيـر الفلسفي ــ شأنه شأن العارفين الصادقيـن في جميع الأزمنة والأعصر ــ كان الاتحاد بالمصدر الوحيد للوجود، أي الالتحاق بالله. وقد وصف هو نفسه في موضعين تجربة حياته العرفانية (التاسوعة IV ، الرسالة 8، الفصل 1). وكان يعتقد أن طريق بلوغ الهدف هو الشهود والإشراق، الغير قابل للوصف، جدير بالرؤية. وبحسب قول أفلوطين، فإن الحيرة تظهر بشكل خاص بسبب كون وعينا للواحد ليس عن طريق المعرفة، أو الإدراك العقلي، كما هو الحال في معرفة المقولات الأخرى، بل بواسطة «حضور» أسمى وأرقى من المعرفة. وتجرب الروح سقوطها وابتعادها عن «الوحدانية»، وعندما تكون لديها معرفة عقلية بشيء ما، فهي ليست واحدة كلية، ذلك أنها في خضم معرفة عقلانية للعقل الكثير. وبهذا النحو، تمر الروح عبر الواحد، وتصاب بالعدد والكثرة. وعلى هذا، ينبغي للشخص أن يرتقي إلى الأعالي لما هو أسمى من المعرفة، ولاينفصل إطلاقاً عن الوحدانية، بل عليه أن ينفصل عن المعرفة والأشياء المعروفة وعن كل شيء آخر حتى الشيء الجميل الذي هو موضوع النظر؛ ذلك أن كل شيء جميل يتأخر على الواحد وآت منه، كما يأتي جميع ضياء النهار من الشمس (التاسوعة VI، الرسالة 9 ، الفصل 4). وعندما يظهر الله في الروح فجأة لايعود هناك شيء بين هذين الاثنين، فهما ليسا اثنين بل هما واحد. والروح في لحظة شهود الحق (الواحد) لاتصبح مع ذاتها واحدة فحسب ويختفي التضاد والثنائية بين العقل و الروح، بل مع الواحد أيضاً. وعندها لاينبغي الحديث عن شهود الله، بل عن «الألوهية»؛ تصبح الروح نوراً خالصاً مستريح البال مطمئناً، وكأنها تصبح اللهَ، أو الأفضل أن نقول إن الروح تعود لتعرف أنها الله (التاسوعة V ، الرسالة 8 ، الفصل 11). ومن هنا يقول أفلوطين في موضع: لكن اشتياقنا ليس ابتعادنا عن الذنب، بل في الألوهية (التاسوعة I ، الرسالة 2، الفصل 6). وفي تجربة حياتية كهذه تنسلخ الروح من ذاتها، فلا أثر للتفكير هناك، ذلك أن الروح أصبحت واحدة مع ما هو ماوراء التفكير. فهناك لاحركة ولاحياة ولا فكر ولا وعي، بل هدوء وسكينة عدم الحركة في الله. وإن هذا أسمى من كل جمال وفضيلة. وفي هذا الوضع تكون الروح في حالة النشوة وهزة الطرب1 وأيضاً البساطة، أو الخلوص وتسليم الذات مما يمكن مقارنته بالسكر وجنون الحب (التاسوعة V، الرسالة 3، الفصل 1). ولاثنائية هناك بل الشاهد والمشهود واحد، ذلك أنه لايشاهد في الواقع، بل متحد معه (التاسوعة VI، الرسالة 9 ، الفصل 11). والملفت للنظر أن أفلوطين استخدم مفردة «إكستاسيس» ــ التي تعادل تماماً الانسلاخ من الذات ــ هذه المرة الوحيدة في جميع كتاباته. و الاتحاد العرفاني مع الحق هو ليس بمشيئة الشخص؛ وعليه أن يكون في حالة «انتظار» دائم ليتجلى ويظهر له الحق (التاسوعة V، الرسالة 3 ، الفصل 17 ، الرسالة 5 ، الفصل 8). ويمكن بلوغ هذا الهدف عن طريق آخر أيضاً. فخلال حديثه عن دور الحب في الاتحاد العرفاني، فإنه يسمي الواحد (الحق، الله) حباً لمرة واحدة فقط (التاسوعة VI، الرسالة 8 ، الفصل 15)، ذلك أنه في موضع آخر يعدّ الواحد علة الحب ومانحه، والذي نحن نحبه به (ن.م، الرسالة 7 ، الفصل 22)؛ إنه حب من النوع الذي لايزول لدى بلوغ وصال المحبوب، بل يبقى على حاله راسخاً في الوصال النهائي (التاسوعة I ، الرسالة، 6 ، الفصل 7، التاسوعة III ، الرسالة 5، الفصل 4). وهذا الاتحاد اتحاد حبي سببه المحبوب (الواحد، الله) نفسه وذلك يحصل عن طريق التشبه به قدر المستطاع. يقول أفلوطين في وصف هذه الحالة: تكون حالة الروح أحياناً بشكل تستهين فيه حتى بالتفكير الذي كانت تقبله في أزمنة أخرى؛ ذلك أن التفكير شكل من أشكال الحركة، والروح لاتريد أن تتحرك، إذ إن الشخص الذي يراها هو نفسه لايتحرك. ومع هذا، فعندما تصبح هذه الروح عقلاً، فإنها تفكر. وللعقل قوة للتفكير ينظر بواسطتها إلى كل شيء في ذاته؛ وله أيضاً قوة أخرى ينظر بواسطتها إلى ما هو أبعد وأسمى من ذلك بإدراك ووعي شهودي (مباشر)كان في البدء يرى بواسطته، ومن ثمّ وحين رأى، اكتسب العقل. فذلك الأول هو العقل المفكر، والآخر العقل المحب1. وحينما يخرج عن حاله الطبيعي ويسكر بخمر الآلهة يغدو محباً، ويصبح مفعماً بوجود حسن بسيط. ومن الأفضل له أن يكون سكران بسكر كهذا ليكون واعياً بوقار (التاسوعة VI، الرسالة 7، الفصل 35). وفي حالة كهذه من السكر، تمتطي الروح فورة موجة العقل وتسحب إلى الأعلى بطفرتها، وفجأة تبصر من غير أن تعلم كيفية حدوث ذلك (نفس الرسالة، الفصل 36)، وأخيراً وفي سفرها العروجي، تجد حالها وقد تحسّن مرة أخرى، فتصبح مستريحة البال وتبلغ العقل والعلم عن طريق الفضيلة وترتبط بالخير بواسطة العلم. هذه هي حياة الآلهة والبشر الربانيين والسعداء، التحرر من أشياء هذا العالم وفرار الواحد الفريد إلى الواحد الفريد. وبهذه العبارة ينهي أفلوطين الرسالة التاسعة من التاسوعة VI (قا: ابن عربي، 2 / 156،الذي يقول: لأن الله أمرنا بالفرار إلى الله).
إن ما كان قد ترجم إلى العربية من كتابات أفلوطين وأفكاره من غير أن يعرف أنه هو مصدر هذه الأفكار، وجد طريقه إلى العالم الإسلامي بواسطة مجموعة تحمل عنوان أثولوجيا، وكان له دور فاعل جداً في بلورة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي (عن بحث تفصيلي بهذا الشأن، ظ: ن.د، أثولوجيا، وخاصة 5 / 643). وفي الختام نذكر مختارات من أهم البحوث في أفلوطين لمزيد من المراجعة:
Bréhier, E., La Philosophie de Plotin, Paris, 1952; The Cambridge Companion to Plotinus, ed. L. P. Gerson, Cambridge, 1996; Inge, W., The Philosophy of Plotinus, London, 1999; Schwyzer, H. R., «Plotinos», Pauly, XXI / 471-592; ibid, Supplement, XV / 310-328; Wallis, R. T., Neo-Platonism, London, 1972; Whittaker, Th., The Neo-Platonists, Cambridge, 1961; Zeller , E. ,Die Philosophie der Griechen in ihrer geschichtlichen Entwicklung, Hildesheim, 1963, III(2) / 500-687.
ابن عربي، محمد، الفتوحات المكية، القاهرة، 1329ه ؛ ابن النديم، الفهرست؛ الرازي، محمد بن زكريا، رسائل فلسفية، بيروت، 1402ه / 1982م؛ القفطي، علي، تاريخ الحكماء، تق : ليبرت، لايبزك، 1903م؛ وأيضاً:
Aristotle, De Anima; Eusebios, Praeparatio evangelica; Plato, Kratylos ; id, Nomoi ; id, Phaidros ; id, Philebos ; id, Politeia ; id, Sophistes; Plotinos, Ennéades ; Porphyry, «On the Life of Plotinus and the Order of His Books», tr. A. H. Armstrong, ibid, London, 1966, vol. I; Puech, H. Ch., Plotin et les gnostiques, Geneva, 1960.
شرف الدين خراساني (شرف) / ه
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode