الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / أفلوطین /

فهرس الموضوعات

أفلوطین


تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/4 ۰۸:۳۳:۴۲ تاریخ تألیف المقالة

 

العالم المحسوس

يمكن أن يعبر عن أفلوطين بأنه فيلسوف «هذا العالم» وفيلسوف «غير هذا العالم»؛ وكما أسلفنا فقد كان يقول: إنه يستحيي من أن يكون في جسد. وهو يؤمن بشكلين من العناية، أو التفكير المسبق: إنسانية وإلٰهية. ويرى تكوين العالم المحسوس أيضاً صادراً عن العناية الإلٰهية. وبحسب قوله، فإننا لو قلنا: بعد زمن معين ظهر العالم الذي لم يكن قبل ذلك موجوداً، فينبغي أن نفترض أنه كان نتيجة العناية، أي شكل من أشكال التنبؤ المسبق والمحاسبة من جانب الله حول أنه كيف كان بإمكان هذا العالم الكلي أن يوجد. وكيف كان بإمكان الأشياء أن تكون بأفضل شكل ممكن. لكن لما كنا قد أيّدنا وأثبتنا أن هذا العالم دائم (خالد) ولم يكن عدماً على الإطلاق، فسيكون كلامنا صحيحاً ومدروساً حين نقول: إن العناية لعالم الكل تعني تطابقه مع العقل وأسبقية العقل على العالم، لابمعنى أن له تقدماً زمنياً عليه، بل بسبب أن العالم يوجد من العقل والعقل مقدَّم من حيث الماهية وهو كمثال ونموذج أصلي لعلة العالم، والعالم مثال، أو صورة له ويأتي إلى الوجود بواسطة ذلك الوجود والخلود. وأن طبيعة العقل والموجود هي العالم الحقيقي والأول غير المنفصل عن ذاته، ولايضعف بواسطة التقسيم، بل إنه ليس غير كامل حتى في أجزائه، ذلك أن كل جزء ليس مقتطعاً من الكل، بل إن جميع حياته وجميع العقل يعيش مع بعضه في الواحد ويفكر ويجعل الجزء كلاً ويربط الجميع في محبته. ولأن الجزء الواحد ليس منفصلاً عن الآخر، والآخر صرفاً لم يصبح غريباً عن البقية، فعلى هذا لايسيء أحدهما إلى الآخر برغم كونهما متضادين. ولأنه في كل موضع واحد، وفي كل نقطة كامل، فإنه يقف ساكناً ولايعرف التغيير (التاسوعة III، الرسالة 2، الفصل 1). 
وبعد وصفه ذلك العالم الحقيقي، يضيف أفلوطين إنه من ذلك العالم الحقيقي والواحد يصدر هذا العالم الذي هو في الحقيقة ليس واحداً، ذلك أنه متعدد ومنقسم في الكثرة، حيث كل جزء فيه منفصل عن الجزء الآخر وغريب عنه ولايقتصر الأمر على عدم وجود محبة فيه، بل توجد عداوة بسبب الانفصال، وتتقاتل بالضرورة أجزاؤه التي هي في حالة نقصان مع بعضها. وهذا العالم ينبغي أن يكون موجوداً لاكنتيجة لعملية استدلالية، بل ظهر إلى الوجود لأنه كان من الضروري أن توجد طبيعة أخرى؛ إذ إن ذلك العالم الكلي الحقيقي لم يكن بشكل يكون معه آخر الموجودات؛ لأنه كان الأول وكانت فيه طاقة هائلة، بل كل الطاقة في الحقيقة. وهي الطاقة التي أوجدت شيئاً آخر من غير أن تكون باحثة عن الإيجاد [أي أن خلق هذا العالم كان عملاً إبداعياً]؛ إذ إنها لو كانت تبحث عن ذلك لما كان بمقدورها أن يكون لها ذلك من ذاتها ولما كان هو أيضاً من جوهرها، بل لكانت مثل صانع لايملك القـدرة علـى إيجاد شيء مـن ذاتـه؛ وهكذا، فـإن العقل ــ وعـن طريـق منحـه شيئاً من ذاته للمـادة ــ أوجـد كل شيء فـي سكينة لايشوبها هيجان (نفس الرسالة، الفصل 2). 
ويعتقد أفلوطين أن الدافع والسبب وراء جميع هيجانات وفوضى هذا العالم المحسوس هو وجود مادة هي أساس جميع الأشياء المحسوسة. وفيما يتعلق بالمادة، فإنه يلاحظ هذا التناقض لدى أفلوطين، حيث يقول: إن المادة اشتُقت من الواحد بواسطة الروح (التاسوعة III، الرسالة 4، الفصل 1، الرسالة 9، الفصل 3). والمادة لدى أفلوطين هي نفس المادة الأرسطية التي امتزجت دائماً بالصورة. والمادة من وجهة نظر أفلوطين غير جسمانية ليس لها أية واقعية على الإطلاق، بل هي إمكان وجود محض (التاسوعة II ، الرسالة 5 ، الفصل 5)، وصورة كاذبة باهتة له. والمادة لاموجود محض (التاسوعة III ، الرسالة، 6 ، الفصل 7)، وفقدان صرف (التاسوعة II ، الرسالة 4 ، الفصل 14)؛ لكن برغم أن المادة لاموجود، فإن لها شيئاً من الوجود بهذا الشكل ومثيلاً لذلك الفقدان (أو العدم) (نفس الرسالة، الفصل 16)، وبعبارة أخرى لأفلوطين، فإن المادة هي «شوق عارم للوجود» (التاسوعة III ، الرسالة 6 ، الفصل 7). 
إن وصف أفلوطين للمادة، إن لم يكن في التعبير، بل من حيث المضمون، هو نفس وصف أفلاطون لها. لكن بفارق مهم واحد وهو أنه واتباعاً منه لنظرية الفيثاغوريين، يرى أن المادة ليست لاموجوداً محضاً فحسب، بل يعدّها مصدراً للشر والسوء كذلك. فالشر في البدء لايمكنه أن يتعلق بالروح، ذلك أن الروح بحسب طبيعتها الأسمى متحررة من الشر، وهي تصاب به نتيجة تماسها وارتباطها بشيء هو شر في ذاته وهذا الشيء هو المادة (التاسوعة I، الرسالة 6 ، الفصل 5 ، عن وصف واف للمادة من وجهة نظره، ظ: التاسوعة II ، الرسالة 4 ، الفصول 1-16، التاسوعة III ، الرسالة، 6 ، الفصل 7)؛ ذلك أننا لو اعتبرنا الشر فقداناً للخير، فعلى هذا، تكون المادة هي الفقدان الأول والمطلق للخير. إذن، فالمادة هي «الشر الأول»، والجسم هو «الشر الثاني»، ويمكن أن تُعَـدّ الروح فـي المرتبة الثالثـة فقط ــ عندما تستسلم لشر هي غريبة عنـه ــ شريرة (التاسوعة I، الرسالـة 8 ، الفصول 10-13 ، 3 ، التاسوعة II ، الرسالة 4 ، الفصل 16). 
وهنا ينبغي التذكير بأن ذم أفلوطين للمادة ليس من حيث ماهيتها العينية، بل بشكل أكبر بسبب تأثيرها المدمر في الحياة الروحية للإنسان؛ كما ينبغي أن لانغفل عن أن معارضة أفلوطين للمادة كان لها دافع آخر وهو معارضته الشديدة التي لاهوادة فيها للمذهب المادي السائد في المذهب الفلسفي للرواقيين. ومن جهة أخرى، ولما كانت الروح تقع على حدود عالم ماوراء المحسوس، فلا مفر ــ بطبيعة الحال ــ من أنها تمنح النور لما تحتها وتختلط بالمادة وتنفذ فيه مع قسم من طاقاتها وتؤثر فيه، وتغادر خلود العالم المعقول لتلج العالم المحدود بالزمن. والآن وعن طريق ارتباط القوى الروحية والمعنوية بالمادة، يظهر عالم الظواهر المحسوس، برغـم أن المادة كشيء غير جسماني وعديم الصفـة لم يكن بإمكانه أن يكون موضوع الإدراك الحسي. ويمكن مقارنة هذا المعطى مع أعمال الإنسان، ذلك أن الطبيعة بذاتها هي فكرة، لكنها فكرة غير واعية، بل إنها صنع، أو خلق بسيط من بلا قصد وغير واع (التاسوعة III ، الرسالة 8 ، الفصل 2). وبرغم أن أفلوطين يحاول أن ينسب إلى الطبيعة شكلاً من أشكال المعرفة والإحساس الوجودي ويسلبها القصد والإدراك الحسي ويقارن وعيها بوعي الإنسان النعسان (نفس الرسالة، الفصل 3). 
إن تصوير أفلوطين للطبيعة هو خاص، وإلى حد ما مثير للعجب. فمخلوقات الطبيعة من وجهة نظره شبيهة بصور أحلام. فهي وكأنها تخلقها بشكل غريزي، لاتفكر فيها ولاتهدف من وراء ذلك إلى شيء. وهكذا، فإن العالم المحسوس لم يظهر بدافع إرادي وبتفكير، بل هو نتاج ضرورة الطبيعة. بمعنى أن الروح منحت شكلاً للمادة المحتاجة إلى التشكل، لإضاءة ما يقع تحتها. وضرورة الطبيعة هذه كانت موجودة على الدوام وهي الآن أيضاً موجودة؛ وهذا ما جعل أفلوطين يلغي بإصرار نظرية البداية الزمنية والنهاية الزمنية للعالم أيضاً (التاسوعة II، الرسالة 9 ، الفصل 2 ، التاسوعة III ، الرسالة 2 ، الفصل 2 ، التاسوعة IV ، الرسالة 3 ، الفصل 10 ، التاسوعة VI، الرسالة 1، الفصل 1 ، أيضاً التاسوعة II ، الرسالة 1 ، الفصول 1-4 ,9 ، التاسوعة III ، الرسالة 2، الفصل 1 ، التاسوعة IV ، الرسالة 3 ، الفصل 9 ). 
ومن جهة أخرى، فإن أفلوطين ــ واتباعاً منه لآراء الرواقيين والفيثاغوريين وأفلاطون ــ يعتقد باتساع العالم وظهوره بشكل دوري، أي أن العالم وبعد دورات معينة يعود دائماً مرة أخرى إلى وضعه السابق بشكل دقيق، وتبدأ دورة جديدة (التاسوعة V ، الرسالة 7 ، الفصلان، 1-2)، لكن الروح هي صانعة العالم المحسوس، وإن ارتباطها الضروري بالمادة يعد شكلاً من أشكال السقوط والانحطاط. وعلى هذا، يعدّ أفلوطين الروح الصانعة للعالم، الروح الثانية، لا الروح الأولى؛ ذلك أن تلك الروح الأسمى والأولى، أي الروح العالمية لاتغادر إطلاقاً عالم ماوراء المحسوس ولاتدخل العالم الجسماني (التاسوعة I ، الرسالة 8 ، الفصل 14). وبإزاء العالم المحسوس الذي ظهر بهذه الطريقة، يمكن أن يكون اتجاهان: فمن جهة وكشيء من صنع الروح، ينبغي أن يكون بذاته كاملاً وجميلاً؛ ومن جهة أخرى، ولكونه عالماً حسياً، فهو في حقيقته صورة ملوثة بلاهوية وذات ظلال للعالم الواقعي الذي ينبغي للروح أن تحاول التحرر من أسره بأسرع وقت. ولهذا الأمر لدى أفلوطين أهمية خاصة، ذلك أنه يرى أن الأصالة للعالم المعقول الذي يقع ماوراء هذا العالم وهي تؤجج شوق الروح الحقيقية لحظة بلحظة للعودة إليه. 
لكن على الرغم من الاستهانة والذم الذي يكنه أفلوطين للعالم المحسوس، إلا أن ذلك لايمكن مقارنته بالمعتقدات المتشاءمة والمعادية للعالم التي يحملها بعض معاصريه مثل المسيحيين وبشكل خاص الغنوصيين الذين خُصصت الرسالة 9 من التاسوعة II لتوجيه نقد شديد لمعتقداتهم ونظرياتهم بل إنه يمتدح كثيراً جمال النظم والانسجام الموجود في العالم المحسوس. نعم إن العالم المحسوس هو صورة منعكسة عن الوجود الحقيقي في مرآة الوجود الكاذب، وهو في الحقيقة ألعوبة، لا أكثر كما كان أفلاطـون أيضاً يعدّ البشر ألعوبات بأيدي الآلهة («القوانين»، 644 D). 
والأرواح والصور المعقولة برغم كونها تناثرت في كثرة المحسوسات، لكنها واحدة وغير محسوسة؛ وبرغم أن الروح تمنح النور للمادة، لكنها تنعكس مثل وجه غريب في مرايا كثيرة (التاسوعة I ، الرسالة 1 ، الفصول 8,10,12). إن ثناء أفلوطين على العالم المحسوس تبلور أكثر من كل شيء بتأثير النظرة العالمية للرواقيين، برغم أنه يختلف معهم في بعض الجوانب. وهو مع ما قاله في الطبيعة، يعدّها كمصنوعة ومخلوقة من قوى روحية، وهي كائن حي يتمتع بأجمل أشكال الانسجام، ويرى أن عالم الظواهر في كليته قيِّم وصادر عن العناية الإلٰهية؛ وقد صنع روح جميع الأشياء وبلورها، وكل العالم الجسماني فيها في حالة اجتهاد. وهكذا، فإن كل شيء حتى ما يبدو بلا روح هو حي وذو روح (التاسوعة V، الرسالة 1، الفصل 2). وبحسب تعبير أفلوطين ليس العالم بيتاً مصنوعاً من المواد الميتة، بل هو موجود حيوى تكون أجزاؤه أيضاً حية بنفس الشكل. والعالم جسد عضوي تسرى في كافة أرجائه روح واحدة (التاسوعة IV، الرسالة 4 ، الفصل 36). وكل واحد من أجزاء العالم له انسجام كامل مع كله. وإن التنازع والصراع والتضاد أيضاً هو في الواقع وسيلة لصيانة العالم ليكون كلاً، والانسجام فيه هو نتيجة وجود الأضداد كما يصدر انسجام في المشهد المسرحي من الصراع بين الممثلين، أو من نغمات الزير والبم في الموسيقى (التاسوعة III ، الرسالة 2 ، الفصل 16). 
وفي موضع آخر يقال إن العالم من خَلْق الله، وعلى هذا، فهو كامل مكتفٍ بذاته وغير محتاج؛ كل شيء فيه: النباتات، الحيوانات، المخلوقات الأخرى، الآلهة المتعددة، الجن، الملائكة، وكذلك الأرواح الطاهرة للبشر الطيبين الذين يتمتعون بالفضيلة وسعداء. لاشيء فيه بلاحياة، فالسماء في حالة دوران بنظم كامل. ومن جهة آخرى، يستفيد أفلوطين للثناء على العالم المحسوس بدليل أخر وهو العناية الإلٰهية التي يشير إليها مراراً، بل ويخصص إحدى أجمل كتاباته لوصفها وتحليلها (التاسوعة III ، الرسالة 2، الفصل 3) 

الإنسان

الفلسفة من صنع الإنسان، فلا عجب إذن أن الفكر الفلسفي في آخر تحليل له كان منذ البدء ينصب على الإنسان وموضعـه في العالم. وبدوره كان العالـم ــ من وجهة نظر أكبـر فلاسفة اليونان ــ ثنائياً: العالم المحسوس والعالم المعقول. كما أن البشر ــ وبالانسجـام مع هذين العالميـن ــ لهم وجود ومصيـر ثنائي: إما مرتبطون دفعة واحدة بهذا العالم، أو دفعة واحدة بذلك العالم. كما يعتقد البعض، أو على الأقل يدّعون أنهم يتعلقون بكلا العالمين. وفي أوساط الفلاسفة أيضاً يفضّل فريق ذلك العالم على هذا العالم ويعدّون وجودهم في هذا العالم قصيراً وعابراً، بل غير مطلوب وإجبارياً. ويتمنون الخلاص من سجن هذا العالم بأسرع وقت. وأفلوطين بشكل خاص من الفلاسفة الذين يؤمنون بشدة بعالم ماوراء المحسوس، أو بالعالم المعقول. فالروح لديه أبرز مظاهر عالم ماوراء المحسوس. والأرواح التي في عالم ماوراء المحسوس بمنجى من أي نوع من الألم والمعاناة. فهي أجزاء من تلك الروح الكلية العالمية التي تحكم العالم من غير أن تكون في هذا العالم. وتلك الأرواح هي خارج الزمان، ذلك أنه لايوجد زمن ولاتغيير فيما وراء المحسوس (ن.م، الرسالة 7، الفصل 11 ، التاسوعة IV ، الرسالة 4 ، الفصل 1). فلا هي بحاجة إلى فكر استدلالي ولا للوعي الذاتي والتذكير، إذ لاحاجة بها لمعرفة شيء لم تعرفه من قبل. وهي شفافة لبعضها ومراقبة للعقل والخير الأفضل من الوجود (نفس الرسالة، الفصل 2). 
ومن جانب آخر، لايمكن للأرواح أن تبقى على تلك الحالة؛ واستناداً إلى ضرورة أن الكثرة صدرت عن الوحدة الأولية، لزم أن توجد تلك الأرواح أرواحاً أخرى لتختلط بما هو في المرتبة الأدنى منها ولكونها تقع على حدود العالم غير المحسوس، فينبغي لها أن تودع جزءاً من ذاتها في العالم المحسوس الذي هو بحاجة إلى رعايتها. ومن جهة أخرى، فإن وجودها في هذا العالم يشكل مزايا قيمة لها؛ وإن طريق عودتها إلى حالتها الأولى لن يُغلق؛ لكن المزايا التي تكسبها من الحياة الأرضية هي أولاً معرفة هذا العالم المحسوس الذي ههنا، وتربية وتوسيع القوى الموجودة في العالم المعقول وهي في حالة نعاس؛ وكذلك إدراك أكثر لقيمة العالم العلوي الذي تجعل تجربة الشر والسوء، قيمته أكثر وضوحاً. وعلى هذا، واستناداً إلى الضرورة التي أشرنا إليها، فإن تلك الأرواح تتجه أولاً إلى العالم المحسوس بغية أن تصبح المغتنية به وأن تمنحه النور، لكن بعد تعاملها مع العالم المحسوس والانهماك به تنسى ذاتها الحقيقية وتتجه نحو الأمور الجسمانية، وعن هذا الطريق تصبح أسيرة لها، وتخرج من الوحدة مع عالم ماوراء المحسوس وتفقد وجودها المتماسك وتركز اهتماماً على جزء واحد فقط (ظ: ن.م، الرسالة 3 ، الفصل 17 ، الرسالة 7 ، الفصل 13 ، الرسالة 8 ، الفصل 4). وإذا لم يكن انضمام الأرواح إلى الأشياء الجسمانية إجبارياً، بل يحدث على وفق اختيار ونزوع حر منها، يمكن أن يعَدّ ذلك عملاً اختيارياً وتقصيراً من الروح وغفلة منها عن العالم المعقول. لكن من وجهة نظر أفلوطين، فإن هذه أيضاً ضرورة ناجمة عن نزوع الأرواح إلى الأمور الجسمانية. ويبدو أن مصائرها السيئة هي أن تدخل الأجساد المناسبة لها في الزمن المقدر من غير اختيار وتفكير ثانوي بفعل دافع غريزي لايقـاوَم، أو قوة سحرية، بحيث يبدو أن كل واحـدة ــ وبموجب قانون خالد ــ تدخل الجسد الذي ينسجم وخصوصياتها ورغبتها. 
والنتيجـة النهائية هـي أن الـروح ــ وبسبب كونها بحسـب مفهومها واسطة بين العالم المحسوس وعالم ماوراء المحسوس ــ تدخل الجسد. كما أن الروح الفردية، أو الجزئية استناداً إلى مفهومها، تتعلق بجزء مما هو جسماني. وهكذا تصاب الروح بالثنائية؛ لكن مهما يكن، فلأن مصدرها ومنبعها هو عالم ماوراء المحسوس، فهي خالدة وذات صلة بالعنصر الإلهي. ومن جهة أخرى، فإن هذا الموجود غير الجسماني الذي كان في البدء أيضاً بلاجسم، ارتبط فجأة بأجسام مادية وانفصل عن عنصره الأصلي وامتزج بعنصر غريب، وبحسب الضرورة أصيب بحياة ثنائية متصلة بهذا العالم من جهة وبذلك العالم من جهة أخرى (ن.م، الرسالة 4 ، الفصل 17). إذن، فللإنسان شكلان من «الذات»، أو بتعبير أفلوطين «روح ثنائية»: الأولى الروح العلوية التي تعيش فيما وراء المحسوس، والأخرى الروح المحدودة الأسيرة في سجن الجسد و المتعاملة مع نبضاته واختلاجاته (التاسوعة I ، الرسالة 1، الفصل 10). 
وبحسب تعريف أفلوطين، فإن الجسم في الحقيقة ظل للوجود. فكما أن صورة إنسان ما ينقصها الكثير من الأشياء وبشكل خاص الشيء المصيري، أي الحياة، فكذلك وجود الأشياء التي تدرك بالمحسوسات، هو ظل للوجود ومنفصل عن الحياة في نموذجها الأصلي والتي لها أكبر الوجود (التاسوعـة VI، الرسالة 2، الفصل 7 ، الرسالة 3، الفصل 8). لكن من جهة أخرى، فإن الجسم شيء مركب من جميع الكيفيات والمادة وإذا كانت الجسمية أصل الشكل المانح التي تصنع الجسم بالتحاقها بالمادة، إذن فأصل الشكل المانح يشمل بوضوح جميع الكيفيات ويضمها جميعاً (التاسوعة II، الرسالة 7 ، الفصل 3). 
وبصورة عامة، وبحسب حكم أفلوطين، فإن طبيعة الأجسام إلى الحد الذي تكون فيه مشتركة في المادة، شرٌّ، لكنه ليس الشر الأول؛ ذلك أن الأجسام لها نوع من الصور هو ليس بالصورة الحقيقية. وهي في حركتها غير المنظمة يهدم بعضها بعضاً وتحول دون نشاط الروح الخاص. إذن‌ هي‌ شر‌ثانٍ (التاسوعة I، الرسالة 8، الفصل 4). والجوهر الأصيل للإنسان، أي الإنسان الحق، هو ماهيته، أو طبيعته الأسمى (ن.م، الرسالة 1، الفصل 7). وهذا الجوهر هو علة القرابة بين روح الإنسان والروح الكلية العالمية والتي من جنسها (التاسوعة IV ، الرسالة 7 ، الفصل 12). ولاتحتفظ بالعقل الإلٰهي فحسب فوقها، بل تضمه في ذاتها بكامل سعته (التاسوعة 1، الرسالة 1 ، الفصل 8). وهي حتى في مدة حياتها الأرضية أيضاً مرتبطة بالعالم المعقول، و تودِع الروحَ السفلى فحسب لدى العالم المحسوس وتشغلها به (التاسوعة VI ، الرسالة 7 ، الفصل 5). 
والآن لوطرح سؤال عن كيفية وجود الروح في الجسد، فإن ذلك وبحسب قول أفلوطين ليس مثل وجود جسد، أو جسم في مكان، أو صفة في موضوع، أو جزء في كل، أو كل في أجزائه، أو صورة محسوسة في المادة، بل إن وجود الروح في الجسم أصبح مثل وجود القوة المؤثرة في جسمها الطبيعي، أو وجود النار في الهواء الساخن والمضاء. إذن، فالأصح أن لانقول إن الروح موضوعة في الجسد، بل إن الجسد موضوع في الروح (التاسوعة IV ، الرسالة 3 ، الفصول 20-23 ، وخاصة 21). 

 

 

 

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: