الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الجغرافیا / افریقیة /

فهرس الموضوعات

افریقیة


تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/30 ۱۳:۰۷:۰۳ تاریخ تألیف المقالة

2. العصر الإسلامي

 ألف ـ الفتح والولاة

عقب احتلال مصر في 20ه‍ / 641م على يد عمرو بن العاص (الطبري، 4 / 104)، لفت الاتصال الجغرافي لإفريقية بالحدود الغربية لمصر وتعلقهما كليهما بالإمبراطورية البيزنطية، أنظار العرب المسلمين نحو إفريقية؛ لكن فتحها أصبح أكثر صعوبة من تقدم العرب في البلدان الأخرى (عنان، 1(1) / 15)، وعلى الرغم من هذه المصاعب، فقد استولى العرب على هذه المنطقة بشكل أسهل من استيلاء الرومان عليها. وتجاوزت آثار انتصارهم كثيراً نتائج انتصار الرومان وحتى الفرنسيين فيما بعد (ظ: مؤنس، 34-35). فقد انتشر الفتح الإسلامي هناك وتجذر بشكل يرى معه الباحثون أن تاريخ المنطقة تداخل مع المشرق بواسطة الإسلام، وأصبح الفصل بين الإسلام والمغرب أمراً محالاً (جوليان، 2 / 8). 
إن أول تحرك للمسلمين باتجاه إفريقية تمّ على ما يبدو بعد سنة من فتح مصر على يد نفس الفاتح. فبعد فتحه طرابلس، استأذن عمرو الخليفة الثاني في غزوباقي إفريقية. ويبدو أن الخليفة منعه من مواصلة التقدم مستنداً إلى التصور بأن إفريقية هي موضع، أو مدعاة للتفرقة والغدر (البلاذري، 227؛ اليعقوبي، 2 / 156). 
وقد نُقلت في المؤلفات الإسلامية عن إفريقية أحاديث وروايات متناقضة حيناً وذات نظرة غير مشجعة بحق إفريقية (ظ: أبوعبيد، المغرب، 21-22، معجم، 1 / 176؛ مارسيه، 20). وقد حدث تحرك آخر لفتح إفريقية على عهد الخليفة الثالث في إحدى سنوات 26- 29ه‍ / 647-650م (البلاذري، 317؛ اليعقوبي، 2 / 165؛ الطبري، 4 / 250)، عندما أرسل عثمان أخاه من الرضاعة عبدالله ابن سعد بن أبي سرح لغزو تلك البلاد. وقد تقدمت قوات عبدالله في شتى الاتجاهات من إفريقية وغنمت غنائم هائلة. وقد أُشير إلى حاكم إفريقية آنذاك باسم البطريق، وذُكر أن المنطقة الخاضعة لحكمه تمتد من طرابلس إلى طنجة (إفريقية بالمعنى الواسع) (البلاذري، ن.ص). وإن اسم هذا البطريق كُتب بأشكال: جرجيس (اليعقوبي، ن.ص؛ الإدريسي، 1 / 283)، جرجين (ابن أعثم، 2 / 135) وجُرجير (المسعودي، مروج ... ، 1 / 182)، و قيل إنه رومي وإفرنجي (ابن خلدون، 6 / 107)، وحاكم معيَّن من قِبل الرومان. ويرى المسعودي أن جرجير ليس اسماً لشخص، بل كان لقباً لحكام صقلية وإفريقية في الفترة التي سبقت الإسلام (ن.ص). وقد كان اسمه الأصلي غريغوريوس، ومنصبه إكسارخوس (كبير الأساقفة)، ومطالباً بالإمبراطورية وكان يحظى بدعم البربر (أوستروغورسكي، 110). وقد ثبت جرجيس في سُبيطلة، ثم قتل وسقط ما يزيد على 5 / 2 مليون دينار غنيمة بيد الفاتحين (اليعقوبي، ن.ص). ولم ‌يكن ذلك احتلالاً واستيطاناً فحسب، بل كان بشكل أكبر وصولاً لنيل الغنائم و الأسرى (مارسيه، 29-30)، وعادت القوات إلى مصر (البلاذري، 229). 

ولم تدع المشاكل في أواخر عهد عثمان والصراعات في عهد الإمام علي (ع) مجالاً للاهتمام بشؤون إفريقية. وعندما آلت الأمور إلى معاوية وتحولت الخلافة إلى شكل إمبراطورية عربية، حظي فتح إفريقية بالاهتمام من جديد. وفي الحقيقة، فإن فتح إفريقية بشكل متواصل وثابت ومصحوب بالاستيطان بدأ منذ ذلك الحين (عنان، 1(1) / 18-19). ويبدو أن الخلاف بين العمال البيزنطيين في إفريقية وتشبث أحدهم بمعاوية كان على ما يبدو من عوامل اهتمام الحاكم الأموي بالأمر؛ فأرسل معاوية بن حُدَيج السكوني (التجيبي) مع قوة كبيرة إلى إفريقية، فسقطت جلولا مع عدة مدن وقلاع أخرى بيده، وانقاد الناس وهدأوا وعاد الفاتحون بالغنائم والأسرى. وقد حدث ذلك في 45ه‍ / 665م (ابن الأثير، 3 / 92؛ عنان، 1(1) / 19). وخلال ذلك التحرك اعتنق عدد من البربر الإسلام (مارسيه، 31). 
لكن تحرك سنة 50ه‍ / 670م أصبح ذا معنى أوسع من ذلك. في تلك السنة، قام معاوية بإرسال عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية (اليعقوبي، 2 / 229)، فدخلها عن طريق منطقة الجَريد وتقدم بعد سيطرته على المدن والقلاع. وانضم البربر الذين أسلموا إلى قوة عقبة، لكن احتمال ارتدادهم وتمردهم لم‌ يكن مستبعداً. وكان العمل الرئيس لعقبة بناء مدينة القيروان وجامعها في 55ه‍ / 675م ووضع قوة عربية فيها. وكان لهذا العمل أهمية فائقة للحفاظ على المنجزات المتحققة والدفاع في مواجهة الرومان والبربر وامتلاك قاعدة للتوسع اللاحق، وكان دالاً على أن فتح إفريقية سيكون عملاً واسع النطاق ومستمراً (ن.ص؛ ابن الأثير، 3 / 465-466؛ مارسيه، ن.ص؛ جوليان، 2 / 19). 
ومن بعد عقبة، واصل أبو المهاجر الأنصاري التقدم في إفريقية حتى مشارف تلمسان وألحق الهزيمة بكسيلة، زعيم قبيلة أَوْرَبة وأسره. و على عهد يزيد بن معاوية، عاد عقبة مرة أخرى لحكومة وقيادة إفريقية وتقدم هذه المرة بحسب رواية حتى ساحل المحيط الأطلسي. وفي طريق عودته تصدى له كسيلة ــ الذي كان قد حُرِّر، أو فَرّ ــ بقوة من البربر والرومان في بسكرة. وأخيراً قُتل عقبة قرب تهوذه مع 300 فارس كانوا معه. وإن قبره، المعروف باسم سيدي عقبة، الواقع تحت قبة متواضعة على بعد 5 كم جنوب تهوذة، مزار اليوم (ابن الأثير، 3 / 466-467، 4 / 105؛ مارسيه، 31-32؛ جوليان، 2 / 20-22؛ عنان،1(1) / 20). وحينئذ حدثت قضية ارتداد البربر، فاستولى كسيلة على القيروان وحكم القسم الشرقي من المغرب لثلاث، أو خمس سنوات (ابن خلدون، 6 / 109؛ جوليان، 2 / 22). وليس واضحاً ما إذا كان كسيلة نفسه قد ارتد، إلا أنه سمح للمسلمين بالبقاء في القيروان. كما أن طبيعة علاقته بالدولة البيزنطية غير معروفة (مارسيه، 33؛ ابن خلدون،ن.ص). 
وبغية التعويض عن هذه الهزيمة، قام عبد الملك بن مروان بإرسال زهير بن قيس البلوي إلى إفريقية بجيش جرار؛ حيث ألحق زهير في66ه‍ / 686م هزيمة نكراء بقوة كسيلة في مِمْس قرب القيروان وقُتل كسيلة وكثير من أنصاره، ودخل زهير القيروان وأقام فيها معسكراً وأرسل قواته في شتى الاتجاهات لقمع التمرد. فاستغل البيزنطيون صراع العرب مع البربر وجاؤا بأسطولهم من صقلية واستولوا على قرطاجة والمدن الساحلية. فخرجت إفريقية المفتوحة لتوها، من أيدي العرب مرة أخرى (مارسيه، 32-33؛ جوليان، 2 / 24؛ عنان، 1(1) / 21).
كانت حكومة دمشق منشغلة لفترة بقضايا المشرق (ابن الزبير والخوارج)، وبعد قمعها المدعين بالخلافة عادت إلى الاهتمام بإفريقية؛ فعيَّن عبدالملك هذه المرة حسانَ بن النعمان الغساني، عامل مصر، والياً لإفريقية في 73ه‍ / 692م، ووجّهه مع قوة كبيـرة لم يسبق لها مثيل (ظ: ابن خلدون، ن.ص: سنة 79ه‍(. وتقدم المسلمون حتى قرطاجة وهزموا القوات البيزنطية والقوط الإسبان. فدمرت قرطاجة وحكم الإسلام مرة أخرى البلاد الواقعة بين برقة والمحيط الأطلسي (مارسيه، 33-34؛ جوليان، 2 / 24-25؛ عنان، 1(1) / 21-22). 
وبغية إعادة تنظيم جيشه، عاد حسان إلى القيروان. ومنذ مقتل كسيلة كان قد اجتمع عدد من البربر وسكان الجبال حول امرأة حاكمة من قبيلة جراوة من بَتر. وكانت«دهبا» ملكة أوراس، معروفة بالسحر والكهانة، وكانت هي وقبيلتها يهوداً. وفي النصوص العربية أشير إليها بلقب الكاهنة (ابن خلدون، 6 / 107، 109). وقد هُزم حسان في معركته التي خاضها ضد الكاهنة في مسكيانة، فحكمت الكاهنة إفريقية 5 سنوات. وخلال هذه المدة دُمرت المدن والقرى، مما أثار سخط البربر. وعاد حسان من طرابلس بقوة جديدة، فانضم إليه البربر الساخطون وهاجموا ملجأ الكاهنة في أوراس، فقُتلت الكاهنة و نال البربر الأمان بشرط الطاعة واعتناق الإسلام (ن.ص). وقُرر أن يُعدّ البربر جيشاً من 12 ألف جندي لمساعدة المسلمين في حربهم مع الأعداء (ابن الأثير، 4 / 372). وبموت الكاهنة، انتهى عصر الثبات في وجه العرب (جوليان، 2 / 26)، ومن بعد ذلك الحين، ظلت إفريقية جزءاً من رقعة حكم الخلافة، وقد شقّ أسطول المسلمين فيما بعد طريقه إلى السواحل والجزر الأوروبية في البحر المتوسط من ميناء قرطاجة الجديد الذي أسسه حسان. فأسند والي مصر حكومة إفريقية والمغرب إلى موسى بن نصير اللخمي من موالي وقادة الأمويين في 89ه‍ / 708م. فتقدم موسى حتى طنجة وأخضع المغرب الأقصى بأسره، وترك هناك من مواليه البربر طارق بن زياد مع قوة وعاد إلى القيروان (البلاذري، 322). وخلافاً لحسان كان موسى ينظر إلى مقام الولاية بعين الحرب والغنيمة بشكل أكبر. وكان عدد البربر في جيشه قد ازداد. وكانت قواته في البحر وبغارتها صقلية وسردينيا ومَيورقة ومِنورقة تعود بالغنائم والأسرى الكثيرين (عنان، 1(1) / 25-26). كما تقدم قائده طارق في الأندلس وإسبانيا حتى حدود فرنسا (البلاذري، ن.ص). وبسبب اتساع نطاق ممتلكات المسلمين في ناحية المغرب، انفصلت ولاية إفريقية عن مصر أولاً واستقلت، وثانياً أصبحت ولاية الأندلس تابعة لإفريقية (ابن القوطية، 37-39). 
وقد عُرف العصر الذي بدأ من أول فتوحات الخليفة الثالث وإلى استقرار حكم مستقل نسبياً ووراثي بإفريقية في 184ه‍ / 800م، بعصر الولاة. وخلال تلك الفترة، عُيِّن لإفريقية 28 والياً: واحد على عهد عثمان، و 18 في العصر الأموي، و 9 في العصر العباسي. والأعمال المهمة التي أنجزت في هذه الفترة هي: إكمال الفتوحات، نشر الإسلام وتعاليمه في المنطقة ودحر تواجد الإمبراطورية البيزنطية من هناك، انتزاع الأراضي الزراعية من أيدي الروم ومنحها للقرويين من السكان الأصليين، تفتيت الإقطاعات الرومانية الكبيرة إلى إقطاعات محلية صغيرة، الاهتمام بغرس الأشجار وجلب أنواع جديدة من الأشجار المثمرة كفسائل النخيل من العراق والبذور القابلة للزراعة مثل الرز من الصين، زيادة المحاصيل الزراعية والتجارة وعائدات الخزانة، بناء حواضر جديدة مثل القيروان، شق مجرى مائي بين مدينة تونس وحلق الوادي، تقوية سور طرابلس، بناء قصر الرباط في مُنستير، الاهتمام بالتجارة وبناء الأسواق وغير ذلك (ابن عامر، 102-105). 
أما الجانب الآخر من الأمر، فقد كان السلوك السيئ للفاتحين والروح الصعبة المراس لدى البربر. فالفاتحون ومنذ بدء الفتح، نظروا إلى إفريقية على أنها بلاد الغنائم والأسرى وفي حالة عدم اعتناق المغلوبين الإسلام كانوا سيأخذون منهم ما يستطيعون. وقد أعاد زعماء إفريقية عبد الله بن أبي سرح باقتراحهم دفع 300 قنطار من الذهب (البلاذري، 318). وكان البربر المغلوبون وفي كل مرة استطاعوا فيها ورأوا الفاتحين، غافلين عنهم، إما أن يرتدّوا عن العقيدة الجديدة ــ بحسب رواية، فإنهم ارتدوا 12 مرة حتى زمـان عبـور طـارق إلى الأنـدلس (ابـن خـلـدون، 6 / 110) ــ أو يدحرون بنجاح ــ و إن كان موقتاً ــ الفاتحين، مثلما حدث في واقعتي كسيلة والكاهنة. وإن أكبر عملية أسلمة في السنوات الأخيرة من القرن الأول وبداية القرن الثاني تمّت على عهد عمر‌بن العزيز. فقد وقف واليه إسماعيل بن عبد الله وعشرة من التابعين العلماء والعاملين، أنفسهم على تعليم الإسلام وتوجيه أعمال المسلمين في إفريقية (مارسيه، 40). لكن عقب الفترة القصيرة لخلافة عمر الثاني، بدأ عصر جديد في أسرة الخلافة المروانية وسلوك ولاتها في إفريقية وهو ما مهد الطريق لزوال هذه الأسرة وردود الفعل الدينية لسكان إفريقية الأصليين ضد الاستيلاء العربي. فقد كانت سياسة التعصب القَبَلي للحكام المروانيين تراعى في تعيين ولاة إفريقية وأصحاب المناصب الرسمية والعسكرية وكان هؤلاء الولاة والعمال يتابعون انتهاج نفس السياسة، وكانت تنشب الحروب والصراعات بين القبائل العربية في إفريقية، كما هو الحال في بقية ولايات الخلافة (مؤنس، 144). وبغض النظر عن الفوضى في القوة العسكرية العربية، فإن تشدد بعض الولاة في تعاملهم مع السكان الأصليين لم‌يكن يدع لهم سبيلاً، سوى التمرد وعدم الطاعة، حيث انتهج يزيد بن أبي مسلم، والي إفريقية والتلميذ والكاتب السابق لدى الحجاج المعروف، نفس أساليبه في رقعة حكمه. فذهب ممثلو الأهالي البربر إلى دمشق ليشكوا حالهم، لكنهم لم يتلقّوا جواباً، فعادوا أدراجهم. فرفع الناس راية العصيان وقتلوا الوالي يزيد (الطبري، 4 / 254-255). 
وبهذا الشأن أشار الطبري إلى أن سكان إفريقية وإلى عهد هشام بن عبد الملك كانوا أشد الناس طاعة، لكن في تلك الفترة تغلغل بينهم دعاة من أهل العراق وأحدثوا من الفرقة بينهم ما استمر حتى عصر الطبري (4 / 254). وفي الحقيقة، فإن سخط سكان إفريقية وعصيانهم كان بسبب مظالم الحكام والعمال الأمويين، غير أن شيئاً من جور وظلم حكام الخلافة في إفريقية لم يتناقص بانتقال الخلافة إلى العباسيين (ظ: الذهبي، 6 / 411-412). أما ما يتعلق بسكان العراق والدعاة الشرقيين، فقد كان في الحقيقة نقلاً للأفكار السياسية ـ العقائدية الناجمة عن الصراعات الداخلية لمسلمي المشرق، أو الآثار الإنسانية لتلك الصراعات إلى إفريقية بوصفها ولاية بعيدة عن متناول حاضرة الخلافة. وقد اتخذ البربر من هذه الأفكار شعاراً لهم في معارضتهم لعمال الخلافة؛ أي أنهم بدلاً من أن يرتدوا ويرفضوا الإسلام، دخلوا الساحة هذه المرة بشعار وسلاح العقيدة الإسلامية (مثل الشعوبية في إيران). وقد وجدت عقيدة الخوارج طريقها إلى المغرب وإلى إفريقية أولاً بواسطة البقايا والفارين من المجاميع المقموعة على يد الحجاج في المشرق. 
وكان العقد الأخير من الحكم الأموي والعقد الأول من الحكم العباسي في إفريقية والمناطق المجاورة لها، فترة ذروة ثورات الخوارج. فقد قُتل يزيد بن أبي مسلم في ثورة الخوارج في 102ه‍ / 720م (م.ن، 4 / 594؛ ابن خلدون، 6 / 110). وقُتل كلثوم بن عياض، الوالي الأموي الآخر في حرب مع الخوارج في 123ه‍ / 741م. بينما قتل حنظلة الوالي في 124ه‍ / 742م بمعركتي القرن والأصنام وقرب القيروان ما يقارب 180 ألف شخص من الخوارج، وقد عُدّ نصره هذا شبيهاً بغزوة النبي (ص) في بدر. وكان الاتجاهان الإباضي والصفري هما الغالبين على خوارج إفريقية (م.ن، 6 / 111). وفي أوائل العصر العباسي، أدى الخلاف بين أشقاء عبد الرحمان بن حبيب ــ من أحفاد عقبة ــ وابنه على ولاية إفريقية إلى لجوء عبد الوارث شقيق عبد الرحمان إلى قبيلة وَرفَجومة (أو وربجومة). فأعانه البربر الصفريو المذهب من أهل ورفجومة وهجموا على القيروان، فقتلوا كل من وجدوا فيها من عرب قريش وربطوا خيولهم في جامع المدينة (م.ن، 6 / 111-112). 
وإن هذا الإفراط في القسوة والتعصب، وهتك المقدسات، حرض البربر الخوارج الآخرين، أي الإباضية ضد ورفجومة. فهبّ البربر الإباضية من زناتة وهوارة نفوسة وطرابلس بقيادة أبي الخطاب عبد الأعلى وانضم إليهم بقية البربر وفي 141ه‍ / 758م، قاموا بطرد ورفجومة ونفزاوة المتحالفة معها من القيروان وأنهوا هيمنتهما على إفريقية (ن.ص؛ مؤنس، 185). 
ظل الإباضية من أتباع أبي الخطاب 3 سنوات في القيروان. وكان أول خطوة خطاها أبوالخطاب هو الخروج على طاعة العباسيين وإعلانه سيادة وخلافة عبد الرحمان بن رستم الإيراني الأصل ــ الذي كان استناداً إلى ابن خلدون (6 / 112) من أولاد رستم، القائد الإيراني في معركة القادسيــة ــ من موالي العرب وإباضيي المذهب المتعصبين. وبدورهم اجتمع الصفرية في المغرب الغربية بمكناسة وأسسوا مدينة سجلماسة وجعلوها حاضرة لدولة بني مدرار. وقد قدم محمد بن الأشعث الخزاعي، والي المنصور العباسي إلى إفريقية مع قوة من الخراسانيين واشتبك مع أبي الخطاب في سُرْت؛ فقُتل أبو الخطاب وهزم جيشه البربري، وهرب عبد الرحمان بن رستم من القيروان إلى تاهرت وأسس أتباعه البربر مدينة تاهرت في 144ه‍ / 761م. وسقطت إفريقية بأيدي ابن الأشعث (ن.ص). وبعد مدة ثار هاشم الخراساني وأتباعه الخراسانيون (من جيش ابن الأشعث) على الوالي. فاضطر ابن الأشعث إلى أن يسلك طريق العراق، حيث توفي خلال الطريق في 149ه‍ / 766م (اليعقوبي، 2 / 386؛ الزركلي، 6 / 39). 
قـام المنصور بتعيين الأغلب بن سالـم التميمي ــ الذي كان عامل طُبنة ــ والياً على إفريقية، لكنه هو الآخر جوبه بتمرد القوى العربية ورفض السكان الأصليين له، فاضطر إلى العودة. وبهدوء الأوضـاع، عيّـن المنصـور، عـمـر بـن حفـص المهلبـي، الملقـب بـ «هزارمرد» (المعادل لألف رجل) والياً؛ لكن البربر الخوارج من شتى قبائل إفريقية في طبنة، هجموا على هزار مرد الذي هُزم على الرغم من الانتصارات التي حققها في بدء القتال، وحوصر في القيروان. وقيل إن عدد القوات الإباضية كان 350، أو 400 ألف مقاتل، كان من بينهم 85، أو 35 ألف فارس؛ أما هزارمرد، فقد قتل خلال الحصار في 153، أو 154ه‍ / 770، أو 771م، وعقد أهل المدينة الصلح مع أبي حاتم الإباضي بالشروط التي وضعها (اليعقوبي، ن.ص؛ ابن خلدون، 6 / 112-113). 
فعيَّـن المنصور العباسي شخصاً آخر من المهلبيين، يدعـى يزيد‌ بن حاتم والياً، وودعه حتى بيت المقدس بقوة قوامها 50 ألف مقاتل وجهّزه بـ 63 مليون درهم (اليعقوبي، ن.ص؛ الطبري، 8 / 44). فقُتل أبو حاتم، وتشتت قوات البربر، ودخل يزيد المهلبي القيروان في 155ه‍ / 772م، وأعطى الأمان للجميع وبادر إلى تنظيم الأمور، وبقي في القيروان والياً لإفريقية حتى عهد الرشيد (اليعقوبي، ن.ص؛ ابن خلدون، 6 / 113). وكما يستشف من كلام ابن خلدون، فإنه في زمن ثورة أبي حاتم، قاتلت قوات خوارج البربر قوى الخلافة 375 مرة منذ مقتل هزارمرد حتى مقتل أبي حاتم (153-155ه‍( )ن.ص). 
كانت مدة ولاية يزيد بن حاتم (154-170ه‍( إحدى الفترات الطويلة والاستثنائية في عصر ولاة إفريقية. والأمر الآخر المثير للاهتمام هو أن 5 من أفراد أسرته أيضاً تسلموا الحكم من بعده الواحد تلو الآخر حتى 179ه‍ / 795م، وظهر على أرض الواقع نوع من الحكم الوراثي للمهلبيين في إفريقية بشكل رقعة حكم تتمتع بحكم ذاتي نسبياً (ياقوت، 1 / 327؛ مارسيه، 52). وإن هذه الحقيقة هي فاتحة ظهور الأسر الحاكمة فيما بعد في المنطقة. وبطبيعة الحال، فإن فترة حكم المهلبيين هذه لم‌تكن هادئة تماماً، وبسبب انعدام روح الانضباط والقتال لدى القوات العربية المقيمة في المغرب كان على الخلفاء وحكامهم أن يواجهوا تمرد قواتهم نفسها فضلاً عن مواجهة اضطرابات البربر، إلى أن أرسل الرشيد بغية إخماد تمرد ابن الجارود، من قادة الجند هرثمة، القائد المرموق لدى قوات خراسان؛ فقام بتهدئة الأمور وإصلاحها، فبنى سور طرابلس الغرب والقصر الكبير بمنستير في 180ه‍ (أبوعبيد، المغرب، 36؛ ابن خلكان، 6 / 68؛ ابن تغري بردي، 2 / 89). لكن على الرغم من النجاحات التي حققها فيما يبدو، فقد استقال وعاد؛ وكان تصرفه يوضح واقع أن فتح إفريقية كان صعباً وإدارتها أصعب (اليعقوبي، 2 / 411؛ ابن تغري بردي، ن.ص؛ مارسيه، 53). 
ولم تتجاوز سيادة العباسيين عملياً حدود طبنة والزاب (غرب إفريقية) (ابن القوطية، 40)، وكانت سيادة اسمية. فقد كان الرستميون الإباضية في تاهرت والأدارسة العلويون في فاس قد أسسوا لأنفسهم حكومة مستقلة (ظ: بازورث، 45-46). ولم‌ يكن تعقيد الأمور في إفريقية بشكل تستطيع معه الخلافة العباسية على بعد الطريق وانعدام القوة البحرية الكافية، القيام بإصلاحه (عبدالرزاق، 16- 18). وبعد مباحثات ومراسلات (ظ: ابن خلدون، 4 / 196) أصدر الرشيد أخيراً في 184ه‍ / 800 م أمراً بحكم إفريقية والمغرب باسم إبراهيم بن الأغلب، عامل الزاب السابق. ولم ‌يكن هذا حكماً بالولاية، بل كان إسناد حكم ونوعاً من وثيقة للحكم الذاتي والاستقلال. وكانت الخلافة العباسية في ذروة قوتها تعترف بأول تجزئة لها وهو ما كان قد حدث عملياً قبل فترة. 

 

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: