الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الأشاعرة /

فهرس الموضوعات

الأشاعرة


تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/26 ۰۸:۴۵:۲۱ تاریخ تألیف المقالة

III. الأشاعرة في مواجهة المذاهب الأخرى 

ألف ـ الحنفيون و الأشاعرة

في‌‌ القرون 3-6ه‍ ، خلال الانتشار المتزايد للمذهب‌الكلامي الأشعـري في‌‌البيئات الشافعية ـ المالكية، كان‌‌ قسم ‌كبير من شرق العالم‌ الإسلامي رقعة لنفوذ المذهب الحنفي.‌ ولكن‌‌المذهب‌الحنفي كان‌‌‌‌مذهباً جامعاً في‌‌الفروع والأصول، فلم‌‌يكن هناك إحساس‌ بفراغ مشابه في أوساط الحنفيين، خلافاً للشافعيين و المالكيين الذين كان مذهبهم يلبي الاحتياجات في الفروع فقط، و كان أتباع هذين المذهبين يتبعون قبل ظهور الأشعري نهج أصحاب الحديث في الأصول غالباً وكانت هناك أقلية تتجه إلى تعاليم المذاهب الكلامية مثل الاعتزال. و لذلك فإن المذهب الأشعري لم‌يكن منتشراً في أقصى الشرق، إلا في ‌المناطق الشافعية من خراسان، و كان انتشاره المحدود في‌بلاد‌ ماوراء ‌النهر، على ‌شكل جزر مذهبية في‌ منطقة الشاش و بخارى، حيث كانت تضم بشكل تقليدي عدداً من الشافعيين. 
و من أجل دراسة مواجهة الحنفيين للفكر الأشعري، يجب أولاً التذكير بأن هناك وجهين مختلفين للفكر الكلامي الحنفي كانا متواجدين في شرق البلاد الإسلامية، كان كل منهما يتخذ حسب تركيبته موقفاً مختلفاً عن‌ الفكر الأشعري. و منذ النصف الثاني من 
القرن 2ه‍ ، كان قد ظهر في شرق خراسان مذهب يمكن أن نسميه بمذهب الحنفيين العدليين؛ و هو المذهب الذي كان يتفق مع أفكار المعتزلة في الكثير من الأصول الأساسية مثل التوحيد الصفاتي والقدر و الأمر‌ بالمعروف (ظ: ن.د، 4 / 523-524). و في القرن 3ه‍ لم‌يكن ازدهار هذا المذهب قد انحسر بعد، و لم‌يبدأ بالزوال، إلا منذ القرن 4ه‍ )ن.ص). و في العهد الساماني (261-389ه‍ / 875-999م) كان مذهب الحنفيين من أهل السنة و الجماعة هو المذهب الغالب على المحافل الكلامية في بلاد ماوراء‌النهر و الذي كان قد اقترب كثيراً من مواقف أصحاب الحديث من حيث التعاليم، سوى الإصرار على فكرة الإرجاء. 
و رغم أن موجة انتشار المذهب الأشعري اقترنت مع الفترة التي كان فيها مذهب الحنفيين العدليين قد انحسر من قبل الحنفيين من أهل السنة و الجماعة، و لكن هذه المجموعة من الحنفيين كانت دوماً في عداد أشد المواجهين للمذهب الأشعري فـي الشرق. ورغم أن تعييـن مذهـب الخـوارزم (تـ 387ه‍ / 997م)، صاحب مفاتيح العلوم تكتنفه الصعوبة، إلا أننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار انتماءه الجغرافي إلى خوارزم، إحدى المناطق الحنفية ذات النزعة إلى الكلام، فإن انطباعه عن مكانة المذهب الأشعري بين المذاهب الكلامية يحظى بأهمية فائقة؛ ذلك لأنه اعتبر و دون أي تردد، مذهب الأشاعرة المذهب الثاني من مذاهب «المشبّهة» (ظ: الخوارزمي، 27؛ قا: الشهرستاني، 1 / 85، الذي ذكرهم في عرض المشبهة و في عداد الصفاتية). 
و قد كان وزير العهد السلجوقي الأول، عميد الملك أبونصر الكُندُري (مق‍ 456ه‍ / 1064م) طيلة وزارته، أو على الأقل خلال فترة مهمة من هذا العهد، يتعصب بشدة للمذهب الحنفي، وكان يحارب بأساليب مختلفة نشاط الأشاعرة و دعوتهم في خراسان، إلى درجة أنه تسبب في هروب كبار الأشاعرة من خراسان، و سنّ لعن الأشاعرة على المنابر (ظ: ابن عساكر، 108؛ ابن الأثير، 10 / 33، 209). تعد كُندر، مسقط رأس عميدالملك، قرية بالقرب من تُرشيز (كاشمر حالياً) في خراسان، و قد ذكر المقدسي، أن أهاليها كانوا في القرن 4ه‍ من «القدرية» (ص 253)؛ و هي العبارة التي يجب أن تُرجَع إلى «الحنفيين من أهل العدل» في تفسيرها على أساس المعلومات التاريخية. 
و كرد فعل لهذه الضغوط، بادر العلماء الأشاعرة في خراسان، مثل أبي‌بكر البيهقي (تـ 458ه‍( و أبـي‌القاسم القشيري (تـ 465ه‍( إلى تأليف آثار في تأييد المذهب الأشعري (ابن عساكر، 100-108: نص البيهقي، 109-112: نص القشيري). و قام البعض مثل أبي نصر القشيري، بإعداد شهادات أشار فيها العلماء المعروفون إلى أحقية المذهب الأشعري، أو على الأقل بطلان لعنه (ظ: م.ن، 113-120، 310-317). 
كان سقوط الكندري و تولي الخواجه نظام‌ الملك لزمام الأمور، تحولاً لصالح انتشار المذهب الأشعري، و لم‌يوقف لعن الأشاعرة على المنابر و حسب، و أعاد العلماء الهاربين إلى موطنهم، بل إنه أسس من خلال إنشاء النظاميات، قاعدة لازدهار المذهب الأشعـري، لعبت دوراً لايمكن إنكـاره في اتساع هـذا المذهب (ظ: ابن الأثير، 10 / 33، 209). و قد حظي شيخ أشاعرة خراسان، إمام الحرمين الجويني باهتمام خاص من قبل نظام الملك، و كتب الجويني كتابه في العقائد الأشعرية بعنوان العقيدة النظامية باسمه (ظ: ابن خلكان، 3 / 169). 
و على أي حال، فإننا لايمكن أن نعتبر أسلوب الكندري العنيف مقياساً للتعامل التاريخي بين الحنفيين و الأشاعرة. و رغم أن معارضة الحنفيين العدليين للفكر الأشعري استمرت بإصرار، استمراراً مع القرن 5 و كذلك في القرن 6ه‍ ‍، و لكن هذه المعارضات كانت على مستوى الاختلافات النظرية؛ ففي القرن 6ه‍ مثلاً تحدث القزويني الرازي في تقاريره المتفرقة في هذا المجال، مراراً عن الحنفيين من أهل العدل، و معارضتهم للأشاعرة، و اعتبر مواقف «الأصوليين الإمامية» قريبة للغاية من هؤلاء الحنفيين (ظ: ص 41، 105، 255، 482، 486، 497، مخ‍ ). 
و رغم أن في جانب المذهب الحنفي لأهل السنة و الجماعة، كان أساس تعاليم المذهب قريباً جداً من المذهب الأشعري و لكن لم‌يكن يلاحظ لبضعة قرون، إقبال جماعي على المذهب الأشعري، سوى الميول الفردية. و مما يجدر ذكره، أن أبا منصور الماتريدي المتكلم السمرقندي أسس تزامناً مع حياة أبي الحسن الأشعري في العراق، الفكر التقليدي للحنفيين من أهل السنة و الجماعة في قالب نظام كلامي كان بإمكان صيغته التنافس بشكل جيد مع النظام الكلامي الأشعري، و لم‌يكن القبول الواسع الذي حظي به هذا النظام الكلامي بين الحنفيين في المشرق، قد ترك أرضية لنفوذ المذهب الأشعري. 
و بانهيار الدولة السامانية في أواخر القرن 4ه‍ ، هيأت الأسباب المختلفة الأرضية لأن يقلص الحنفيون في الشرق الهوة المذهبية بينهم و بين جيرانهم السنة في الغرب، و يبدو مرونة إزاء الفكر الكلامي الأبرز المطروح في المحافل السنية الجارة، أي المذهب الأشعري. و في هذه الفترة، وجد العلماء الحنفيون البارزون، مثل أبي‌العباس قاضي العسكر، كلام الأشعري قريباً للغاية من كلام الماتريدي في محاولة منهم لاتخاذ موقف معتدل إزاءالفكر الأشعري و لم‌يروا في آثاره مايستحق التحذير، سوى انحرافات قليلة مثل «مسألة التكوين و التكون» (ظ: ابن عساكر، 139-140). و يعد قاضي القضاة أبوعبد الله الدامغاني من العلماء الحنفيين المعروفين الآخرين في القرن 5ه‍ ــ الذي ينحدر أصله من الشرق و كان يسكن في العراق ــ حيث لم‌يتردد في إصدار رسالة خطية يعارض فيها لعن الأشاعرة (ظ: م.ن، 332). 
و فضلاً عن المواقف المذكورة التي لاتشير إلى شيء أكثر من الود بين أتباع المذهبين، فإننا نلاحظ أحياناً تأثرات أكثر عمقاً خلال هذا التقريب. ففضلاً عن الشخصيات المعدودة التي بقيت في الفروع متمسكة بالمذهب الحنفي و اعتبرت نفسها بصراحة أشعرية في الأصول (مثلاً ظ: م.ن، 259؛ ابن الأثير، 10 / 93؛ القرشي، 2 / 46)، فإن ذروة التقارب بين الحنفيين والأشاعرة تبرز فـي أن المحافل الحنفية، كانت فـي السنين الأخيرة من القـرن 3 و الأولى من القرن 4ه‍ ، تظهر ميلاً خفياً لأن تلغي خلال إعلانها لمواقفها الصريحة، فكرة الإرجاء باعتباره أهم ما يفصل بين مذهبهم و مذهب أصحاب الحديث و الأشاعرة، و أن لايؤكدوا على الفكرة المثيرة للفرقة. و لكن هذا الاتجاه أدى من الناحية العملية إلى أن يحل الفكر المعارض للإرجاء في بعض كتب الاعتقاد محل فكرة الإرجاء. و النموذج الأبرز على ذلك و الذي يكمن اعتباره حصيلة التقريب بين المذهب العقائدي الحنفي والأشعري، هو نص «الفقه الأكبر (3)» الذي تم إعداده على أساس تقليد كتابة «الفقه الأكبر» الحنفي، و برزت في جميع أرجائه آثار الفكر الأشعري.
إن ما ذكره تاج الدين السبكي في القرن 8ه‍ ، من أن معظم الحنفيين هم على المذهب الأشعري في الأصول (ظ: 3 / 378)، وأن مواضع الاختلاف بين الحنفيين و الأشاعرة تقتصر على 13 مسألة (ظ: م.ن، 2 / 261)، لم‌تكن بعيدة عن الواقع في الظروف التي سادت عصره. و قد ألف هو نفسه في إطار التقريب بين الأشاعرة و الحنفيين (و منهم الماتريدية)، كتاب السيف المشهور في الرد على شرح عقائد أبي منصور الماتريدي (ط صائم يپرم، إستانبول، 1989م)، و تناول في قصيدة نونية الكلام الأشعري و الكلام الماتريدي بالدراسة المقارنة (السبكي، 3 / 379-383: نص القصيدة)، و مما يجدر ذكره أن أبا عذبة الحسن بن عبدالمحسن (تـ بعد 1172ه‍ / 1768م) أجرى هو أيضاً في القرن 12ه‍ / 18م دراسة مقارنة بين هذين المذهبين في كتاب بعنوان الروضة البهية فيمـا بين الأشاعـرة و الماتريديـة (ط بيـروت، 1989م) (أيضـاً ظ: موسى، 280 و ما بعدها). 

ب ـ الصراع مع الكرامية و الحنابلة

يعد المذهب الأشعري في طبيعته، مذهباً قائماً على الأساليب العقلية و الكلامية و لذلك، فإن مواجهته للمذاهب الكلامية المنافسة كانت في الغالب مواجهة نظرية و نقاشية، و لكن على الرغم من أن الأشعري كان يعتبر أفكاره منبثقة من آراء أصحاب الحديث و متطابقة معها، إلا أن أصحاب الحديث كانوا دوماً ألد أعداء الأشاعرة في الأمصار الإسلامية، و الذين كانوا يعرفون منذ هذه الفترة في الغالب باسم الحنابلة الخاص. و في خراسان كانت الفرقة الكرامية التي كانت كأصحاب الحديث تتجنب استخدام الأساليب العقلية و تأويل النصوص، تمثل العدو الأول للأشاعرة. و بالطبع فإن مما لايستبعد أن نقول إن مثل هذه المواجهات بين الكراميين في الأمصار المركزية مثل كرامية الشام و مصر، و علماء أصحاب الحديث في إيران كانت قائمة أيضاً ضد الأشاعرة. 
و من البديهي أن الدور السياسي للكرامية في خراسان والحنابلة في العراق، كان يخرج هذه الصراعات من حالة المصادمات النظرية البحتة، ليضفي عليها طابع العنف. و قد كانت مظاهر العنف هذه تتمثل أحياناً في نيسابور و بغداد في المصادمات الفرقوية، و كانت أحياناً تستعمل في النزاعات بين الوزراء و الأمراء من أجل السيطرة على الحكم. و لذلك، فليس من العجيب أن نرى أن المصادمات الحادة بين أصحاب الحديث بـل و حتـى الحنابلـة فـي إيران ــ الذين لم‌يكونوا يمتلكون أي نصيب من السلطة و النفوذ السياسيين في أنظمة الحكـم ــ و بين الأشاعرة، و كذلك المواجهات بين الكراميين و الأشاعرة في الشام (ظ: الكوثري، 16) كانت محدودة بالمجادلات النظرية، وكتابة الرديات. 
و بعد فترة من عهد المناظرات العلمية بين ابن فورك الأشعـري، و بيـن محمـد بـن هيصـم، متكلم الكراميـة (تـ 409ه‍ / 1018م) في خراسان (ظ: فخرالدين، 61، 64: نص المناظرات)، حدثت في النصف الثاني من القرن 5ه‍ ، مصادمات عنيفة في خراسان، و كأمثلة على ذلك، تمكن الإشارة أولاً إلى حرب أهلية فـي نيسابور في 488ه‍ ، حيـث تسببت في وقـوع قتلى كثيريـن و دمار كبير بين الجناح المتحالف مع «الشافعية» (الأشاعرة) بزعامة أبي القاسم ابن إمام الحرمين الجويني و الحنفية بزعامة القاضي ابن ‌صاعد ضد الكرامية بزعامة محمشاد (ظ: ابن‌الأثير، 10 / 251؛ عن عواقب هذه المنازعات، ظ: العتبي، 394-396). 

و في القرن نفسه، تجب الإشارة إلى مؤلَّف جدلي لأبـي‌منصـور البغـدادي (تـ 429ه‍ / 1038م)، العالم الأشعـري، أو المتعاطف مع هذا المذهب و المهاجر إلى خراسان (عن مذهبه، ظ: البغدادي، 322) تحت عنوان فضائح الكرامية (ظ: السبكي، 4 / 140)، حيث واصل عمله في النصف الثاني من نفس القرن محمد‌بن إسحاق الزوزني من أشاعرة خراسان في أثر حول فضائح ابن كرام دوّن على ما يبدو على أسلوب كتابة المثالب (ظ: تبصرة العوام، 65-69).

و في أواخر القرن 6ه‍ ، فإن الدعوة إلى المذهب الأشعري من قبل فخرالدين الرازي في منطقة هراة التي كانت منطقة نفوذ الكرامية، كانت في الحقيقة بمثابة إعلان حرب مباشرة ضد الكرامية، و عندما لم‌تجد المناظرات الكلامية نفعاً، حرض الكراميون الأمير الغوري على أن يخرج فخرالدين الرازي من تلك المنطقة، و ذلك من خلال إشعال نزاع في 595ه‍ / 1199م (ظ: ابن‌الأثير، 12 / 151-152).

و في القرن 5ه‍ ، انطلقت من مناطق إيران المختلفة بموازاة انتشار المذهب الأشعري و نفوذه، صيحات اعتراض علماء من أصحاب الحديث ضد هذه التعاليم. و في النصف الأول من هذا القـرن، تجب الإشـارة إلى أبي علي الحسن بن علـي الأهوازي (تـ 446ه‍ / 1054م) الذي هب لمحاربة المذهب الأشعري بتأليف كتاب بعنوان مثالب ابن أبي بشر الأشعري، و ابتعد في هذه الردية عن أسلوب النقد الكلامي (عن مخطوطته، ظ:GAS,I / 603؛ لنقد مفصل، ظ: ابن‌عساكر، 364 وما‌ بعدها). و من العلماء المحاربين للأشاعرة من أصحاب الحديث في النصف الأول من ذلك القرن، أبو نصر السجزي (تـ 444ه‍( الذي كان عالماً إيرانياً مجاوراً في حرم مكة، حيث قام في مؤلفيه ببيان الأسس العقائدية لأصحاب الحديث، و تناول المذهب الأشعري و خاصة وجهة نظر الأشاعرة في باب خلق القرآن بالنقد غير المباشر في كتابه الإبانة، و بالنقد المباشر في رسالته إلى أهل زبيد (ظ: ن.د، 5 / 400-401).

و في النصف الثاني من القرن 5ه‍ ، عرف عالمان من أصحاب الحديث، أحدهما من أصفهان و الآخر من هراة، من قبل الحنابلة، باعتبارهما رواد محاربة «البدعة» (حسب اصطلاحهم) (ظ: ابن‌الجوزي، المنتظم، 8 / 315): الأول عبدالرحمان ابن منده الأصفهاني (تـ 470ه‍ / 1077م) الذي كان يشدد على أتباعه في اتباع السنة و الابتعاد عن «البدعة»، و كان يحارب المذهب الأشعري بشدة (ظ: الذهبي، سير، 18 / 350)، و لكن تعاليمه لم‌تكن تتجاوز حدود الوعظ و الخطابة، و لم‌يكن يلاحظ عليه ميل إلى تأليف نصوص اعتقادية في الرد على الأشاعرة (ظ: ن.د، 4 / 149). و لكـن نظيره فـي هـراة، الخواجـه عبـدالله الأنصـاري (تـ 481ه‍ / 1088م) الذي اعتبر في مؤلَّف مهم بعنوان ذم الكلام، مذهب أصحاب الحديث غير قابل لأن يجمع مع الأسلوب الكلامي، وذلك فضلاً عن تأليف آثار مثل الفاروق في الصفات و كتاب الأربعين في التوحيد، في إثبات مواقف أصحاب الحديث، وبذلك، وجه هجماته الشديدة إلى الأشاعرة (عن الآثار المذكورة، ظ: الذهبـي، ن.م، 18 / 505، 508-509؛ عـن مخطـوطـة ذم الكـلام، ظ: GAS,I / 674؛ لنشـرهـا و شـرحهـا، ظ: حاجـي خليفـة، 1 / 828).

كان العراق في أواسط القرن 5ه‍ ، مسرحاً لمصادمات فرقوية بين الحنابلة و الأشاعرة. و كمنعطف في هذه المصادمات، يجب ذكر قدوم أبي‌نصر القشيري الذي كان من علماء خراسان الأشاعرة إلى بغداد، في 469ه‍ ، الذي عمل على نشر المذهب الأشعري في ظل دعم مشايخ الشافعية في النظامية مثل أبي إسحاق الشيرازي. كان انتشار هذه الموجة على حساب النفوذ الاجتماعي و السياسي للحنابلة في مركز الخلافة، و قد تسبب هذا التزاحم في فتنة كبرى في بغداد تم تسجيلها في المصادر التاريخية (ظ: ابن‌الأثير، 10 / 104-105؛ السبكي، 4 / 234-235).

استمرت النزاعات الفرقوية بين الحنابلة و الأشاعرة في بغداد، في القرن 6ه‍ أيضاً، و كانت الدعايات المتحمسة و المتطرفة أحياناً للدعاة الأشاعرة تتسبب في النزاعات؛ و يمكن أن نذكر من بين هؤلاء الدعاة أشخاصاً مثل أبي‌الفتوح الإسفراييني و أبي‌المظفر البروي (ظ: ابن الجوزي، المنتظم، 10 / 107- 108، 110-111، 239).
و كان أبوالفرج ابن الجوزي، باعتباره عالماً من مشاهير الحنابلة في القرن 6ه‍ ،مستمراً في إصراره على نفي علم الكلام، وكفاية الإيمان بعقيدة السلف (ظ: صيد...، 459-460) و قد كان هذا هو التفكير الذي كان يتكرر دوماً في القرون التالية أيضاً في تعاليم الحنابلة، و كان يضعهم في صف معارضي الكلام الأشعري. و في الحقيقة، يمكن القول إن مذهب الحنابلة كان المنافس الجدي الوحيد للكلام الأشعري في أوساط أهل السنة، و ذلك في عصر ما بعد المغول، بغض النظر عن الطيف المحدود المتبقي من مذهب الماتريدية الحنفي.

ج ـ المواجهـة بيـن المتكلمين المعتزلة و الإمامية و بين الأشاعرة

رغم أن بالإمكان توقع المواجهة بين المتكلمين المعتزلة و الإمامية و بين العلماء الأشاعرة في البلاد المختلفة، و لكن من الطبيعي أن تكون أكثر المصادمات حساسية قد حدثت في العراق و إيران، حيث كانت تضم هذه المذاهب بشكل فعال إلى جانب بعضها البعض. 
و خلال الحديث عن المعتزلة، يجب التذكير بأن أول هجوم عليهم من جانب الأشاعرة، يلاحظ في كتاب أبي‌بكر الباقلاني الجدلي التمهيد (ط القاهرة، 1947م) و ذلك بعد آثار أبي‌الحسن الأشعري نفسه، حيث خصص قسماً مهماً من التمهيد للرد على المعتزلـة. و بعـد حوالـي قـرن، كـان أبو إسحـاق الإسفرايينـي (تـ 418ه‍( العالم الأشعري الشهير، في أثر بعنوان المختصر في الرد على أهل الاعتزال و القدر (ظ: الإسفراييني، 193)، قد انتقد مواقـف المعتزلة، كما خطا أبـو منصور البغدادي (تـ 429ه‍( خطوة أخرى في هذا الاتجاه من خلال تأليف فضائح المعتزلة (ظ: السبكي، 5 / 140). 

و في مقابل هذه الموجة من كتابة الرديات، لاتلاحظ موجة معاكسة في أوساط المعتزلة، بل يلاحظ على العكس من ذلك أن المعتزلة اعترفوا رسمياً في مؤلفاتهم الكلامية بالأشاعرة بشكل تدريجي باعتبارهم فئة مخالفة و لكنها فئة كلامية معتبرة في نفس الوقت، و بادروا بين الحين و الآخر إلى نقل آرائهم والمقارنة بينها (مثلاً ظ: مانكديم، 440). و قد درس شوارتس في مقالة له، نقض القاضي عبدالجبار لنظرية الكسب لدى الأشعري (ص 229-263).

و قد ذكر ابن أبي الحديد باعتباره أحد الكتّاب المتأخرين المنتمين إلى المذهب المعتزلي، الأشاعرة أيضاً إلى جانب المعتزلة و الإمامية و الزيدية خلال ذكره للفرق الكلامية و ذلك في مقدمة شرحه على نهج البلاغة (1 / 17). و قد طرح هو نفسه على بساط البحث رأي الأشاعرة في مواضع مختلفة من الشرح عند بحثه المقارن في المسائل الكلامية (مثلاً ظ: 1 / 59؛ عن صراعات المعتزلة و الأشاعرة في بغداد، ظ: برنشويغ، 345-356).

و تتجسد أولى المصادمات النظرية للإمامية مع الكلام الأشعري، في مناظرات الشيخ المفيد مع ابن‌مجاهد و أبي‌بكر الباقلاني، حيث وصلنا قسم من هذه المناظرات (عن الإشارة لها، ظ: المفيد، الجمل، 24، لنقلها، ظ: مسألة...، 21-26). و قد خصص الباقلاني في كتاب التمهيد، قسماً مهماً للرد على الإمامية أيضاً، ولكن كتابة الرديات على الإمامية لم‌تستمر بين علماء الأشاعرة اللاحقين.

و خلافاً للتوقع لايلاحظ في آثار الشيخ المفيد الكلامية، وخاصة في أوائل المقالات، ذكر صريح للأشاعرة باعتبارهم فرقة كلامية مستقلة، و يلاحظ طيلة القرنين 5و6ه‍ ، هذه النزعة إلى عدم الاعتراف باستقلال الأشاعرة في نصوص الكلام الإمامي. ومن الملفـت للنظـر أن ابن‌شهر‌آشــوب نفسـه لم‌يورد ــ خلافـاً للتوقـع ــ ذكراً للأشاعـرة في أواخر القـرن 6ه‍ في كتاب المناقب عند ذكره لفرق المتكلمين المختلفة (ظ: 2 / 46) بحيث يبدو التعمد في ذلك واضحاً.

و فيما يتعلق بارتباط الإمامية بالأشاعرة في القرن 6ه‍ ، فإن مما يستحق الاهتمام كثيراً، مذكرات القزويني الرازي المتفرقة في النقض. و هو يمتلك معرفة عن مذهب الأشاعرة و يذكّر بأن أحد المساجـد الرئيسة الثلاثة في موطنـه الري هو لـ «الأشاعرة» (ص 551-552)، و قـد وصف الأشاعرة بصفة «المجبّـرة» ــ في نفس الوقت الذي عبر فيه عن حبه للمعتزلة والحنفيين من أهل العدل ــ و لم‌يأل جهداً في معارضتهم في كل مناسبة (مثلاً ظ: ص 105، 344، مخ‍ (.

كما يلاحظ في عصر ما بعد المغول، تزامناً مع حدوث تحول في صياغة الكتب الكلامية للإمامية، اهتمام بكلام الأشاعرة إلى جانب كلام المعتزلة، حيث يمكن أن نجد نماذج من هذا الاهتمام في آثار هذا العصر، مثل قواعد المرام لابن ميثم البحراني (ص 78، 88، مخ‍ ( و «الأرجوزة» الكلامية لابن‌داود الحلي (ص 60) وكشف المراد للعلامة الحلي (ص 224، 234، مخ‍ (. و بالطبع فإن من غير الصحيح اعتبار هذا الاهتمام بمفهوم تعديل موقف المتكلمين الإماميين بالنسبة إلى المذهب الأشعري و الشاهد على ذلك أحد آثار العلامة الحلي المفقودة و الذي سماه التناسب بين الأشعرية و فرق السوفسطائية، و قد كان في الحقيقة ردية على الأشاعرة (ظ: م.ن، رجال، 46؛ أيضاً الطباطبائي، 108). 

المصادر

 ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تق‍ : محمد أبوالفضل إبراهيم، القاهرة، 1379ه‍ / 1959م: ابن الأثير، الكامل؛ ابن تومرت، محمد، أعز مايطلب، تق‍ : عمار الطالبي، الجزائر، 1985م؛ ابن الجوزي، عبدالرحمان، صيد الخاطر، بيروت، 1407ه‍ / 1987م؛ م.ن، المنتظم، 1357- 1359ه‍ ؛ ابن خلدون، العبر؛ ابن خلكـان، وفيات؛ ابن داود الحلي، الحسن، «أرجوزة في الكلام» سه أرجـوزة، تق‍ : حسيـن درگاهي وحسـن طارمـي، طهـران، 1367ش؛ ابن سعـد، محمد، كتـاب الطبقات الكبير، تق‍ : زاخاو و آخرون، ليدن، 1904-1915م؛ ابن شهر آشوب، محمد، مناقب آل أبي طالب،قم، مطبعة علمية؛ ابن عساكر، علي، تبيين كذب المفتري، بيروت، 1404ه‍ / 1984م؛ ابن قتيبة، عبدالله، تأويل مختلف الحديث، بيروت، دار‌الجيل؛ ابن‌ميثم البحراني، ميثم، قواعد المرام في علم الكلام، قم، 1398ه‍ ؛ ابن‌النديم، الفهرست؛ أبونعيم الأصفهاني، أحمد ، أخبار أصبهان، تق‍ : ددرينغ، ليـدن، 1934م؛ الإسفراييني، شاهفور، التبصير، تق‍ : محمد زاهد الكوثري، بيروت، 1408ه‍ / 1988م؛ الأشعري، علي، مقالات الإسلاميين، تق‍ : هلموت ريتر، فيسبادن، 1980م؛ البغدادي، عبدالقاهر، الفرق بين الفرق، تق‍‌ : إبراهيم رمضان، بيروت، 1415ه‍ / 1994م؛ تبصرة العوام، المنسوب للمرتضى بن الداعي الرازي، تق‍ : عباس إقبال الآشتياني، طهران، 1364ش؛ حاجي خليفة، كشف؛ الخطيب البغدادي، أحمد، تاريخ بغداد، القاهرة، 1349ه‍ ؛ الخوارزمي، محمد، مفاتيح العلوم، تق‍ : فان فلوتن، ليدن، 1895م؛ الذهبي، محمد، سير أعلام النبلاء، تق‍ : شعيب الأرنؤوط و آخرون، بيروت، 1405ه‍ / 1985م؛ م.ن، ميزان الاعتدال، تق‍ : علي محمد البجاوي، القاهرة، 1382ه‍ / 1963م؛ السبكي، عبدالوهاب، طبقات الشافعية، تق‍ : محمود محمد الطناحي و عبدالفتاح محمد الحلو، القاهرة، 1383ه‍ / 1964م؛ السمعاني، عبدالكريم، الأنساب، تق‍ : عبدالله عمر البارودي، بيروت، 1408ه‍ / 1988م؛ السهمي، حمزة، تاريخ جرجان، بيروت، 1407ه‍ / 1987م؛ الشريف المرتضى، علي، الفصول المختارة، النجف، المكتبة الحيدرية؛ الشهرستاني، محمد، الملل و النحل، تق‍ : محمد فتح‌الله بدران، القاهرة، 1375ه‍ / 1956م؛ الصريفيني، إبراهيم، تاريخ نيسابور (منتخب السياق لعبدالغافر الفارسي)، تق‍ : محمد كاظم المحمودي، قم، 1403ه‍ ؛ الطباطبائي، عبدالعزيز، مكتبة العلامة الحلي، قم، 1416ه‍ ؛ العتبي، محمد، تاريخ يميني، تج‍ : ناصح الجرفاد‌قاني، تق‍ : جعفر شعار، طهران، 1345ش؛ العلامة الحلي، الحسن، رجال، النجف، 1381ه‍ / 1961م؛ م.ن، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، قم، مكتبة المصطفوي؛ فخرالدين الرازي، أساس التقديس، القاهرة، 1354ه‍ / 1935م؛ القاضي عبدالجبار، المغني، القاهرة، 1380ه‍ / 1961م؛ القرشي، عبد‌القادر، الجواهر المضيئة،حيدرآباد الدكن، 1332ه‍ ؛ القزويني الرازي، عبدالجليل، نقض، تق‍ : جلال الدين محدث الأرموي، طهران، 1358ش؛ الكوثري، محمد زاهـد، مقدمة تبيين كذب المفتري (ظ: هم‍ ، ابـن عسـاكـر)؛ مـانكـديـم، أحـمـد، [تعليـق] شـرح الأصـول الخمسـة، تق‍ : عبد‌الكريم عثمان، القاهرة، 1384ه‍ / 1965م؛ المفيد، محمد، الجمل، النجف، 1368ه‍ ؛ م.ن، مسألة أخرى في النص على علي (ع)، قم، 1413ه‍ ؛ المقدسي، محمد، أحسن التقاسيـم، بيـروت، 1408ه‍ / 1987م؛ موسـى، جـلال محمـد، نشأة الأشعريـة و تطورها، بيروت، 1982م؛ ياقوت، البلدان؛ و أيضاً:

 

Bernand, M., introd. Le Muġnī d’al-Mutawalli, Cairo, 1986; Brunschvig, R., «Muʿtazilisme et Ašʿarisme à Baġdād», Arabica, 1962, vol. IX; GAS; Makdisi, G., «Ash’arī and the Ash’arites in Islamic Religious History», Studia Islamica, 1962, vol. XVII, 1963, vol. XVIII; Répertoire chronologique d’épigraphie arabe, ed. E. Combe et al., Cairo, 1937; Schwarz, M., «The Qāḍī ʾAbdal-Ğabbār’ s Refutation of the Aš‘arite Doctrine of Acquisition (Kasb)», Israel Oriental Studies, Tel Aviv, 1976, vol. VI; Van Ess, J., «Ibn Kullāb und die Miḥna», Oriens, 1967, vols. XVIII-XIX.
أحمد پاكتچي / خ

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: