الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الأشاعرة /

فهرس الموضوعات

الأشاعرة


تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/26 ۰۸:۴۵:۲۱ تاریخ تألیف المقالة

IV. الأنثروبولوجيا 


ذات الإنسان، أو حقيقته

يرى بعض المفكرين أن حقيقة الإنسان جوهر مجرد (روح)، فيما يراها البعض جوهراً جسمانياً (بدناً)، و يعتبرها البعض الآخر مزيجاً من كليهما. و لم‌يتحدث الأشعري في اللمع، و مقالات الإسلاميين، عندما يناقش آراء أهل السنة، عن هذا المعنى. و لكن يمكن الاستنتاج بشهادة آثار المتكلمين الأشعريين الآخرين، أن هناك نظريتين قدمتا في باب حقيقة الإنسان من الأشعري و حتى فخر‌الدين الرازي:
ألف ـ الحقيقة الجسمانية: استناداً إلى وجهة النظر هذه، فإن حقيقة الإنسان جوهر جسماني و الروح ــ كمـا صرح الجوينـي ــ جسم لطيف يشبه الأجسام المحسوسة و قد جرت «عادة» الله على أن البدن يكتسب الحياة عندما تتعلق الروح بالبدن، و عندما تنفصل الروح عن البدن، يحل الموت. و على هذا الأساس، فإن الحياة عرض؛ عرض تحصل به الجواهر و الأجسام على الحياة وتحيا به الروح أيضاً (الجويني، الإرشاد، 377؛ تبصرة، 116؛ ابن‌سبعين، 153). و استناداً إلى هذه النظرية فإن الروح تفنى بعد الموت و كانت عدماً محضاً، إلا عند الحشر حيث [إن الله] يعيد تلك الروح (تبصرة، 114-115). و إن ابن حزم رغم تصريح الجويني القاضي بأن الروح جسم، يعلن أن الأشاعرة يعتبرون الروح عرضاً، و يرون بحكم قاعدة «العرض لايبقى زمانين» أن الروح تفنى أيضاً كالجسم (4 / 121). 

ب ـ الحقيقة المجردة

استناداً إلى هذا الرأي ــ الذي دافع عنه الغزالي و فخرالدين الرازي و الباقلاني (ظ: ابن سبعين، 152-153) ــ فإن حقيقة الإنسان، هي روحه المجردة، أو نفسه الناطقة (الغزالي، كيميا، 1 / 15-17) و أخيراً، رأى فخرالدين الرازي في بعض آثاره الفلسفية أن حقيقة الإنسان هي النفس المجردة كما رأى ذلك الفلاسفة، و يؤكد أن هذه النفس ليست جسماً ولامنطبعة في الجسم، و يثبت تجرد النفس بثلاثة براهين تبعاً لابن‌سينا ( المباحث، 2 / 345، 377-379، النفس...، 27 و مابعدها).

الصفات الخاصة بالإنسان

للإنسان صفتان اختصاصيتان هما المعرفة و الأخلاق: 

1. المعرفة

المراد من المعرفة، معرفة الحق و الحقيقة. و لكن ماهي أداة معرفة الحقيقة؟ بدأت الحركة الأشعرية بالمحافظة على التعقل و تجنب النزعة العقلية الصرفة، و لكن أتباع الأشعري أبدوا، كما قلنا، ميلاً أكثر إلى النزعة العقلية الفلسفية، و تحدثوا كالمعتزلة عن حصول المعرفة من النظر (الفكر). و لكنهم تجاوزوا نظرية «التولد و التوليد» الاعتزالية بسبب نفي العلية، و وضعوا «عادة الله» بدلاً من «التوليد»، و بدلاً من أن يقولوا على أسلوب المعتزلة إن «المعرفة تتولد من النظر الصحيح، أو إن النظر الصحيح هو مولد المعرفة»، أعلنوا أن المعرفة تنتج على حسب عادة الله من النظر الصحيح؛ ذلك لأن العلم ممكن كسائر ظواهر العالم والله يؤثر في الممكنات دائماً. و قد رأى الباقلاني أن المعرفة تنتج من النظر لاتولداً و لكن لزوماً (ظ: العلامة الحلي، أنوار، 15). و تحدث ابن‌سبعين خلال طرح رأي الأشاعرة، عن «سلامة العقـل»و أعلـن أن المـعـرفـة تتـولــد مـن النـظـر ــ على رأي الأشاعرة ــ في حالة سلامة العقل (ص 98). و هكذا استعاد العقل مكانته أخيراً في كلام الأشاعرة، و أُخذ به خلال البرهنة على أصـول الدين و تأييد معطيات الوحي باعتباره أداة معرفـة الحقيقة. 


2. الأخلاق (مسألة الحسن و القبـح)

إن الخيـر و الـشر، أو الحسن و القبح بتعبير المتكلمين، يمثلان مسألة أخلاقية. و هذا الموضوع و هو هل أن العقل هو الذي يعرف و يميز حسن الأمور و قبحها، أو النقل، يعد قضية مثيرة للجدل في الكلام الإسلامي، ويعد من المباحث و المسائل المختلف عليها بين المعتزلة والأشاعرة. و قد اعتبر المعتزلة العقل المميز بين الخير و الشر، وتحدثوا عن الحسن و القبح العقليين، و دافع الأشاعرة عن الحسن و القبح الشرعيين و أعلنوا أن الأفعال و الأمور ليست حسنة ولاقبيحة في نفسها و بالتالي، فإن الأفعال لاتستحق بحد ذاتها المدح و الثواب، و لاهي تستوجب الذم و العقاب. و الشرع هو الذي حسن الأفعال و قبحها، و كل ما يأمر الشرع بالقيام به حسن، و كل ما منعه قبيح. و يستنتج الأشاعرة من هذه المعاني نتيجتين: الأولى أنه ليس هناك أي شيء واجب على الإنسان قبل دخول الشرع. فالقيام بالأفعال الحسنة و ترك السيئة تصبح واجبة بعد دخول الشرع و تعيين حسن الأمور و قبحها (الشهرستاني، نهاية، 370-371)؛ و الثانية هي ما عبر عنه مؤلف تبصرة العوام بقوله: «إن أفعال الله ليست حسنة و لاقبيحة لأنه لايمكن أن يكون مأموراً و منهياً» (ص 109؛ أيضاً ظ: الشهرستاني، الملل، 1 / 101-102؛ الكلاتي، 302-303؛ فخرالدين، البراهين،1 / 246-247؛ التفتازاني، 2 / 148-149؛ الجرجاني، شرح، 8 / 181-183؛ القوشجي، 373-374). 
الأفعال الإرادية (نظرية الكسب): هل الإنسان حر في القيام بأفعاله الإرادية،أم لا؟ و بعبارة أخرى هل الإنسان هو الذي يخلق أفعاله الإرادية، أم إن الله يخلق أيضاً أفعال الإنسان الإرادية؟رأى المعتزلة أن الإنسان هو خالق أفعاله الإرادية (نظرية التفويض)، فيما اعتبر أهل الظاهر ــ و منهـم أهل السنـة و الجبرية ــ أفعال الإنسان الإرادية مخلوقة أيضاً من قبل الله (نظرية الجبر). و قد طرح الأشعري نظرية «الكسب» في محاولة منه للتوصل إلى طريق وسط و أعلن كما يقول التفتازاني (2 / 127) أن الله «خالق» أفعال الإنسان الإرادية، و الإنسان «كاسب» لها؛ ذلك لأن الإنسان إذا كان بمقدوره أن يخلق أفعاله، فسيكون قادراً أيضاً على خلق الظواهر الأخرى (الأشعري، مقالات، 218). و اعتبر الأشعري الكسب اقتران قدرة الله و الإنسان و أعلن أن الفعل الإرادي يحدث على أثر هذا الأقتران ( اللمع، 42؛ الجويني، لمع...، 107؛ الجرجاني، شرح، 8 / 146، 233، 398). و يقصد الأشعري كما يقول الجامي أن الإنسان لايؤثر في وجود فعله الإرادي و هو محل فعل نفسه فقط و لذلك، فإن جريان عادة الله يؤدي إلى ظهور القدرة و الاختيار في الإنسان ليحدث فعله الإرادي (ص 39). وقد تحدث كبار المذهب الأشعري كل بطريقته عن نظرية الكسب، و هبوا للدفاع عنها. و على سبيل المثال، يقول الباقلاني في بيان هذه النظرية و تفسيرها: إن ذات العمل مخلوق من قبل الله، و لكن حسنه و قبحه سببهما استطاعة الإنسان (ص 287؛ العلامة الحلي، كشف، 239-240؛ التفتازاني، 2 / 125-127؛ ابن‌رشد، «الكشف»، 121-122) و المراد من الاستطاعة (ن.ع)، القدرة الخاصة على القيـام بالأفعال، أو تركها، و التي يخلقها الله في الإنسـان ــ على مايرى الأشاعرة ــ متزامناً مع القيام بالأفعال، أو تركها (و ليس قبله)، ذلك لأن الاستطاعة عرض على رأي الأشاعرة، و العرض لايدوم في زمانين. و على هذا، فإذا ظهرت الاستطاعة قبل حدوث الفعل، فإن الفعل سوف يكون معلولاً لاستطاعة معدومة (الأشعري، اللمع، 54-55؛ التفتازاني، 1 / 240؛ الكستلي، 119-120). 

المصاد

الآملي، حيدر، جامع الأسرار ومنبع الأنوار، تق‍ : هنري كوربن و عثمان إسماعيل يحيى، طهران، 1347ش؛ الإبانة عن أصول الديانة، المنسوب لأبي الحسن علـي الأشعري، تق‍ : محمد منير عبدوه، القاهرة، 1348ه‍ ؛ ابن حزم، علي، الفصـل، تق‍ : محمد إبراهيم نصر و عبدالرحمان عميرة، جدة، مكتبات عكاظ؛ ابن خلدون، مقدمة، تق‍ : علي عبدالواحد وافي، القاهرة، دار نهضة مصر للطبع و النشر؛ ابن رشد، محمد، «فصل المقال»، «الكشف عن مناهج الأدلة»، فلسفة ابن رشد، بيروت، دار الآفاق الجديدة؛ ابن‌سبعين، عبدالحق، بد العارف، تق‍ : جورج كتّوره، بيروت، دار الأندلس؛ ابن‌سينا، إلٰهيات الشفاء، ط حجرية؛ ابن المرتضى، أحمد، المنية و الأمل، تق‍ : محمد جواد مشكور، بيروت، 1399ه‍ / 1979م؛ الإسفراييني، شاهفور، التبصير في الديـن، تق‍ : محمد زاهد الكوثري، القاهرة، 1374ه‍ / 1955م؛ الأشعري، علي، اللمع، تق‍ : مكارتي، بيروت، 1953م؛ م.ن، مقالات الإسلاميين، تق‍ : هلموت ريتر، فيسبادن، 1400ه‍ / 1980م ؛ البـاقـلانـي، محمـد، التمـهيـد، تق‍ : مـكـارتــي، بـيـروت ،1957م؛ البغـدادي، عبدالقاهـر، الفـرق بين الفـرق، تق‍ : محمد محيي‌الدين عبدالحميد، القاهرة، مكتبة محمد علي صبيح و أولاده؛ تبصرة العوام، المنسوب للمرتضى ابن‌الداعي، تق‍ : عباس إقبال الآشتياني، طهران، 1364ش؛ التفتازاني، مسعود، شرح المقاصد، ط حجريـة، إستانبـول، 1305ه‍ ؛ الجامـي، عبدالرحمان، الـدرة الفاخـرة، تق‍ : نيكولاهير و علي موسوي البهبهاني، طهران، 1358ش؛ الجرجاني، علي، التعريفات، القاهرة، 1357ه‍ / 1938م؛ م.ن، حواش على شرح المطالع، ط حجرية؛ م.ن، شرح المواقف،تق‍ : محمد بدرالدين النعساني، القاهرة، 1325ه‍ / 1907م؛ الجويني، عبدالملك، الإرشاد، تق‍ : محمد يوسف موسى و على عبدالمنعم، القاهرة، 1369ه‍‍ / 1950م؛ م.ن، لمع الأدلة، تق‍ : فوقيه حسين محمود، القاهرة، 1385ه‍ / 1965م؛ الذهبي، محمد، سير أعلام النبلاء، تق‍ : شعيب الأرنؤوط و صالح السمر، بيروت، 1406ه‍ / 1986م؛ الزمخشري، محمود، الكشاف، بيروت، 1366ه‍ / 1947م؛ السبزواري، الملاهادي، «منظومة حكمت»، شرح منظومة، قم، نشر مصطفوي؛ السهروردي، يحيى، مجموعة مصنفات،تق‍ : حسين نصر و هنري كوربن، طهران، 1372ش؛ الشهرستاني، عبدالكريم، الملل و النحل، تق‍ : محمد كيلاني، بيروت، 1395ه‍ / 1975م؛ م.ن، نهاية الأقدام،تق‍ : آلفرد غيوم، باريس، 1934م؛ العلامة الحلي، الحسن، أنوار الملكوت، تق‍ : محمد نجمي الزنجاني، طهران، 1338ش؛ م.ن، كشف المراد، قم، نشر مصطفوي؛ الغزالي، محمد، إحياء علوم الدين، بيروت، دار المعرفة؛ م.ن، الاقتصاد في الاعتقاد، تق‍ : محمد مصطفى أبوالعلاء، القاهرة، 1392ه‍ / 1973م؛ م.ن، تهافت الفلاسفــة، تق‍ : موريس بويج، بيروت، 1927م؛ م.ن،كيمياي سعـادت،تق‍ : حسين خديوجم، طهران، 1361ش؛ م.ن، مقاصد الفلاسفة، تق‍ : سليمان دنيا، القاهرة، 1960م؛ م.ن، نصيحة الملوك،تق‍ : جلال الدين همائي، طهران، 1351ش؛ غولد‌سيهر، إيغناتس، درسهايي دربارۀ إسلام، تج‍ : علي نقي منزوي، طهران، 1357ش؛ فخرالدين الرازي، محمد، البراهين، تق‍ : محمد باقر السبزواري، طهران، 1341ش؛ م.ن، التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي؛ م.ن، جامع العلوم، تق‍ : محمد حسين تسبيحي، طهران، 1346ش؛ م.ن، كتاب الأربعين، حيدرآباد الدكن، 1353ه‍ ؛ م.ن، «لباب الإشارات»، مع التنبيهات والإشارات لابن سينا، تق‍ : محمود شهابي، طهران، 1339ش؛ م.ن، لوامع البينات،تق‍ : طه عبدالرؤوف سعد، بيروت، 1396ه‍ / 1976م؛ م.ن، المباحث المشرقية، قم، 1411ه‍ ؛ م.ن، النفس والروح،تق‍ : محمد صغير حسين معصومي، طهران،1365ش؛ القرآن الكريم؛ القوشجي، علي، شرح تجريد الاعتقاد، ط حجرية؛ الكستلي، مصطفى، حاشية على شرح العقائد، إستانبول، 1310ه‍ ؛ الكلاتي، يوسف، لباب العقول، تق‍ : فوقيه حسين محمود، القاهرة، 1977م؛ اللاهيجي، عبدالرزاق، گوهرمراد، تق‍ : زين‌العابدين قرباني، طهران، 1372ش؛ مانكديم، أحمد، [تعليق] شرح الأصول الخمسة، تق‍ : عبد الكريم عثمـان، القاهرة، 1384ه‍ / 1965م؛ نصيرالديـن الطوسي، محمد، تلخيص المحصـل، تق‍ : عبدالله نوراني، طهران،1359ش     

أصغر دادبه / خ

تكملة ـ المسيرة التاريخية لانتشار الأشاعرة: 


كان القرنان 2و3ه‍ / 8 و9م يمثلان عصراً بالغ الحساسية في تاريخ الفكر الكلامي، حيث أنجز جزء مهم من تدوين مواضيع هذا العلم و ظهورها في هذا العصر. و يمكن تصنيف المنظرين للعقائد الإسلامية في أوساط أهل السنة (بمفهوم أعم) في القرنين 2و 3ه‍ إلى فئتين من حيث كيفية التعامل مع المباحث الكلامية: فئة مثل المعتزلة و المذاهب القريبة منهم، كانت تدعو إلى «علم الكلام»، و كانت تقدم مجموعة ذات نظام و تحليل للعقائد الدينية و الرؤية الكونية بنزعة عقلية، في حين عمدت الفئة الأخرى من خلال الاستناد الكامل إلى السنة، و من خلال تعامل انفعالي مع التعاليم الكلامية، إلى اتخاذ موقف ضد المسائل الكلامية، ومناقشتها أحياناً، و قد توصلوا أحياناً إلى نوع من الكلام المعارض، أو المعتدل. 
و من الواضح في هذا المجال، أن المباحث الكلاميـة ـ الفلسفية، أو ما يصطلح عليه بـ «المباحث الدقيقة» لم‌تكن تجذب سوى الفئة الأولى، فقد كانت الفئة الثانية تأبى الخوض في هذه المباحث الغريبة عن النصوص الشرعية. و قد كانت الفئة الأخيرة التي كانت تبدي بشكل عام نزعة متهربة من الكلام و أحياناً معادية له، تتجلى في فريق «أصحاب الحديث»، و كانت تحمل منذ بداية القرن 3ه‍ على الأقل، عنوان «أهل السنة» كعنوان رسمي و مشترك (مثلاً ظ: ابن سعد، 6 / 269، 283؛ ابن قتيبة، 82؛ ابن النديم، 111). 

I. فكر أصحاب الحديث و مذهب الأشاعرة 

ألف ـ تيار متكلمي أهل السنة

إن ما يعرف في المصادر الإسلامية المتقدمة باعتباره أصحاب الحديث، لايمكن طبعاً أن يعتبر مذهباً واحداً و متماسكاً على الأقل فيما يتعلق بالموقف من المسائل العقائدية؛ ذلك لأن هذه النزعة شهدت طيلة قرن كامل من أداء الأدوار الفاعلة و المصيرية في الأوساط الفكرية، أطيافاً مختلفة طرأت عليها. و من خلال رؤية عامة لمسيرة مواقف هذه الفئة، يجب أن نميز بالخصوص تعاليم المذاهب الحديثية المؤسسة في القرن 2ه‍ بزعامة مالك و سفيان الثوري و الشافعي عن تعاليم أصحاب الحديث في العراق في القرن 3ه‍ بزعامة أحمد بن حنبل. و يجب القول إجمالاً إن ما كان يميز تعاليم أحمد بن حنبل عن أصحاب الحديث السابقين، هو في الغالب الاختلاف في أسلوب التعامل مع النصوص العقائدية؛ ذلك لأن التجنب الشديد لأي نوع من التأويل بالنسبة إلى النصوص القرآنية و الحديث، و التأكيد على قبول ظاهر النصوص دون «كيف» و «لم»، كانا قد حولا المنظومة العقائدية لهذه الفئة من أصحاب الحديث إلى مجموعة غير مبررة من القوالب المأثورة (للإيضاح، ظ: ن.د، أصحاب الحديث). 
و لاشك في أن التهرب من الإجابة على الإشكالات المزايدة للمتكلمين و دعوة الأتباع إلى التعبد في المعتقدات، لم‌يكن بمقدورهما أن يكونا حلاً مناسباً للجميع و في أية بيئة، و لذلك أيضاً، فقد ظهرت في داخل محافل أصحاب الحديث، وجهات نظر كلامية كان بإمكانها مواجهة آراء المعتزلة و المتكلمين المعارضين الآخرين و تحتج لأحقية مذهب أصحاب الحديث. و إذا ما لم‌نستطع اعتبار النزعة إلى بعض المباحث الكلامية بين علماء أصحاب الحديث في القرن 2ه‍ ، مثل ابن‌علية في العراق وابن‌هرمز في الحجاز، سوى بداية لهذا التيار، فإن علينا أن نعترف بأن هذا التيار استمر طيلة القرن 3ه‍ ، على يد عدد من الرجال البارزين من أصحاب الحديث، و أن نقطة البداية المذكورة اتصلت بظهور الكلام الأشعري (للإيضاح حول التيار الكلامي ومحافل أصحاب الحديث، ظ: المقدسي، 60-64، مخ‍ (. 
و خلال دراسة هذه الشخصيات التي انبثقت من جهة من أوساط أصحاب الحديث، و عُرفت دوماً من جهة أخرى باعتبارها خالقة للبدع، من قبل أصحاب الحديث المتطرفين، فإن من الواجب أولاً أن نشير إلـى الحسين الكـرابيسي (تـ 248ه‍ / 862م) (لعلاقته بأصحاب الحديث، ظ: الشريف المرتضى، 29). فقد عارض الكرابيسي بموقف كلامي، أحمدبن‌حنبل كبير محدثي بغداد، في باب خلق القرآن و اعتبر لفظة القارئ لقراءة القرآن مخلوقاً (ظ: الأشعري، 602؛ أيضاً الذهبي، ميزان...، 1 / 544). 
و خلال مواصلة الحديث عن هؤلاء المتكلمين، تجب الإشارة إلى 3 شخصيات طلائعية اعتبرها ابن عساكر خلال حديثه عن مجالات الكلام الأشعري، الفاتحة لهذا الطريق. و اعتبرها خلال ذكره لعبدالعزيز المكي و الحارث المحاسبي و ابن‌كلاب، أوائل «متكلمي أهل السنة» (ظ: ابن عساكر، 116، أيضاً 119). وقد كان لعبدالعزيز بن‌يحيى الكناني المكي، من علماء أوائل القرن 3ه‍ ،‍ مناظرات واسعة مع بشر المريسي في باب خلق القرآن، جمع حصيلتها في كتاب بعنوان الحيدة (ظ: ابن النديم، 236؛ الذهبي، ن.م، 2 / 639). و قد مال الحارث بن أسد المحاسبي، الزاهد البصري الشهير (تـ 243ه‍ / 857م) في العقائد إلى أساليب أهل الكلام، رغم تخرجه من حلقات أهل الحديث، و كانت بعض معتقداته هدفاً لردود أحمد‌بن‌حنبل و اعتراضاته (ظ: الذهبي، ن.م، 1 / 430-431). 
و يستحق ابن‌كلاب، من أصحاب الحديث البارزين في البصرة عنوان المتكلم أكثر من الشخصين الاثنين الآخرين، فهو المتكلم الذي اعتبر كلام الله حقيقة قديمة في نظرية معقدة نسبياً حول هذا الكلام، حيث رأى هذه الحقيقة «ذات معنى واحد مع الله». وهو يعتقد بأن القرآن تعبير عربي لكلام‌ الله، و أن كلام الله حقيقة غير الحروف و الأصوات، و هو عديم الاختلاف و لايقبل الانقسام، و الصوت المسموع من كلام الله هو عبارة عن كلام الله فقط (وليس عينه) (ظ: الأشعري، 584-585؛ القاضي عبد‌الجبار، 7 / 95 و مابعدها؛ لتفسيرها، ظ: فـان إس، .103ff؛ لدراسة هذه الطبقة من المتكلمين، ظ: موسى، 15-82). 
إن تيار «متكلمي أهل السنة» بمعناه الخاص، هو التيار الذي تولى الدفـاع عن مواقف أصحاب الحديـث إزاء الكلام المعتزلي و الفرق الكلامية المعارضة الأخرى، و هـو لم‌يتوصل طيلة القرن 3ه‍ ، إلى تأسيس نظام شامل و تقديم منظومة موحدة في المعتقدات الدينية و علم الكونيات يمكن تقديمها في مقابل المنظومات الكلامية السائدة. و قد وجدت أوساط أهل السنة (بمفهومها الضيق)، القدرة في نفسها على مواجهة المحافل الكلامية المخالفة عندما أسس أبوالحسن الأشعري منظومته الكلامية، وأوجد حلقة قوية في التعليم الكلامي كان بمقدورها خلال فترة قصيرة نسبياً أن تعرّف بالمنظومة الكلامية الجديدة لأهل السنة في البيئات المستعدة من مشرق العالم الإسلامي وحتى مغربه؛ و هي المنظومة التي سرعان‌ما عرفت باعتبارها المذهب الكلامي الأشعري، و عرف أتباعها بـ «الأشاعرة». 
و رغم أن أصحاب الحديث كانوا ألد أعداء الأشاعرة طيلة التاريخ، و لكن الأشعري و أتباعه أيضاً أكدوا دوماً على أنهم أنفسهم من أصحاب الحديث و السنة و الجماعة (مثلاً ظ: الأشعري، 290-297؛ ابن عساكر، 113 و مابعدها، أيضاً 127). ومن خلال نظرة عامة، يجب القول إن معتدلي أصحاب الحديث من المالكية و الشافعية، مالبثوا أن مالوا إلى اتباع المذهب الأشعري، فيما انضم متطرفو أصحاب الحديث، أو الحنابلة إلى صفوف معارضي الأشاعرة بمنطق مختلف تماماً إلى جانب المعتزلة وغالبية الحنفيين (ظ: مقدسي، 64-70). 

ب ـ الاستقبالات الأولى للفكر الأشعري

خلال دراسة الجهود الأولى لنشر الفكر الكلامي الأشعري و الدعوة إليه، يجب قبل كل شيء البحث عن ملامح هذا التيار في مراسلات الأشعري مع المتسائلين في المناطق المختلفة؛ رغم أننا يجب أن نلتفت أولاً إلى أن مثل هذه المراسلات لم‌تكن دوماً تعني تحقيق النجاح في الدعوة إلى المذهب و نشـره. و تلاحظ في فهرس آثار الأشعـري ــ التي تم العثور عليها، أو التي فقدت ــ عناوين رسائل و أجوبة من أبي‌الحسن الأشعري إلى أهالي المناطق المختلفة حيث تسترعي انتباهنا في هذا المجال مكاتباته الواسعة مع أهالي مدن إيران المختلفة. و يدل وجود عناوين لرسائل مثل كتاب الطبريين وجـواب الخراسانيـة و كتـاب الأرجانييـن و جواب السيرافييـن و جواب الجرجانيين و جوابات الرامهرمزيين و جوابات أهل فارس، في فهرس آثار الأشعري على اهتمامه الخاص بالإيرانيين باعتبارهم متلقي تعاليمه (ظ: ابن عساكر، 132-134). و يجب أن نضيف إلى العناوين المذكورة، المراسلات المحدودة للأشعري مع جيرانه في العراق، مثل جواب الواسطيين و مكتوباته إلى البلاد العربية، مثل جواب العمانيين و جواب الدمشقيين و جواب المصريين، و جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر (ظ: ن.ص، أيضاً 136). 
و لأن الأشعري كان قد استقطب تلاميذ من البلاد الإسلامية المختلفة، فإن عودة هؤلاء التلامذة الذين كان كل واحد منهم داعية محلياً لتعاليم الأشعري، كانت من شأنها أن تكون خطوة مؤثرة باتجاه نشر مذهبه. و خلافاً للتوقعات، فإننا نرى قلة عدد التلامذة العراقيين في الفهرس المفصل الذي قدمه ابن عساكر عن تلامذة الأشعري، فلم يسجل سوى اسم أبي عبدالله ابن مجاهد البصري و أبي‌الحسن الباهلي البصري و ابن سمعون المذكر البغدادي (ص 177-207). و لكننا نطالع في القسم المتعلق بإيران من الفهرس، أسماء عدد من العلماء الخراسانيين، مثل أبي سهل الصعلوكي و أبي‌زيد المروزي و زاهر بن أحمد السرخسي من خراسان و القفال الشاشي و أبي‌بكر الأودني من المناطق الشافعية في بلاد ماوراء‌النهر في الشاش و بخارى. كما نلاحظ في مناطق إيران الأخرى أسماء رجال من جرجان و طبرستان و أصفهان وفارس (ظ: ن.ص). 
و من خلال نظرة نقدية إلى هذا الفهرس، يجب التذكير بأن الأسماء المذكورة في كتاب ابن عساكر مع التراجم و الإيضاحات المذكورة في ذيل كل منها، لاتقدم فائدة تاريخية في إظهار مدى تأثير كل من العلماء المذكورين في نشر المذهب الأشعري، فهو أقرب ما يكون إلى فهرس رمزي لم‌يدقق المؤلف كثيراً في تنظيمه، و لم‌يحرص على وجوب أن تكون الشخصيات المختارة نفسها على المذهب الأشعري. 
و بعيداً عن المبالغات الموجودة في كتاب ابن عساكر، فإن منطقة فارس تعد من المناطق الداخلية في إيران التي يمكن أن نعتبر دور تلامذة الأشعري فيها جاداً في نشر هذا المذهب هناك. و استناداً إلى تقرير ابن فورك الذي كان في شيراز في القرن 4ه‍ / 10م كشاهد عيان، فقد خرّج شخص يدعى أبا عبدالله حمويه السيرافي الذي كان قد أدرك الأشعري لفترة طويلة، خلال عودته إلى وطنه، تلاميذ مبرزين في علم الكلام الأشعري (ظ: ابن عساكر، 128). و قد تم تأييد مكانة حمويه المهمة في الرواية الإجمالية لابن النديم، و ذكر إلى جانبه شخصاً يدعى «الدمياني» (من أهل سيراف حسب بعض المخطوطات)، باعتباره حاملاً للواء الأشاعرة (ظ: ابن‌النديم، 231؛ أيضاً ظ: ياقوت، 2 / 606: دميانة من بلاد الأندلس).
كما يجب أن نذكر أصفهان، فاستناداً إلى رواية أبي‌نعيم، أن أحد تلامذة الأشعري و هو أبو عبدالله محمد بن القاسم الشافعي عاد إلى موطنه في 353ه‍ / 964م، و أدى فيه دوراً باعتباره «متكلماً على مذهب أهل السنة»، من خلال انتحال المذهب الأشعري (ظ: أبونعيم، 2 / 300؛ ابن عساكر، 197). و في جرجان أيضاً عرف أبو عبدالرحمان الشروطي باعتباره «متكلم أهل السنة»، حيث كان من تلامذة الأشعري، و كان طبعاً أول من نشر المذهب في تلك المنطقة (ظ: السهمي، 424؛ ابن عساكر، 206). و في غرب العراق، تجب الإشارة إلى أبي الحسن عبدالعزيز بن محمد الطبري الذي كان على ما يبدو طبرياً في الأصل، و ألف آثاراً في مجال الكلام و قد كان من تلامذة الأشعري المقربين، وذهب لفترة إلى الشام، و نشـر مذهب أستاذه فيها (ظ: م.ن، 195). 
و مهما كان دور كل من تلامذة الأشعري في نشر مذهبه، فإن مما لاشك فيه أن اثنين من تلامذة الأشعري البصريين لعبا الدور الأكبر في نقل كلامه إلى الجيل الثاني. و في هذا المجال، كان أبوالحسن الباهلي (تـ قبل 370ه‍ / 980م) أكثر الشخصيات تأثيراً، فقد نقل هذا التراث الكلامي إلى 3 شخصيات بارزة من الجيل اللاحق و هي الباقلاني و ابن فورك و أبوإسحاق الإسفراييني، ويجـب أن نذكر مـن بعـده أبـا عبدالله ابـن مجاهـد البصـري (تـ 370ه‍( حيث كان الباقلاني مديناً لحلقاته الدراسية في قسم مما تعلمه من الكلام الأشعري (ظ: الصريفيني، 152؛ ابن عساكر، 177- 178؛ أيضاً البغدادي، 221). 
و يمكن بشكل إجمالي اعتبار العثور على أسماء عدد من علماء بغداد و خراسان و جرجان و قومس و أصفهان في جيل الأشاعرة التالي (طبقة تلامذة أصحاب الأشعري) شاهداً على الانتشار النسبي لهذا المذهب في المناطق المذكورة في هذا العصر (ظ: ابن عساكر، 207- 208). و مما يجدر ذكره أن المقدسي اكتفى بالإشارة إلى حضور أقلية الأشاعرة في بغداد (ص 112) في النصف الثاني من القرن 4ه‍ و ذلك في كتابه أحسن التقاسيم بهدف إظهار الأوضاع المذهبية في كل من البلدان الإسلامية، و ذلك على الرغم من دقته المستحقة للاهتمام في هذا الكتاب، و لكن قد أغفل التوزيع السكاني للأشاعرة في الأقاليم الأخرى، و أما الشيخ المفيد، المتكلم الإمامي في بغداد، فقد أخبرنا في تقرير أكثر دقة عن أواخر القرن 4ه‍ ، أو السنوات الأولى من القرن 5ه‍ كحد أقصى، عن عدد أتباع الأشعري في بغداد و البصرة في العراق، و عن انتشار هذا المذهب بين الشافعيين الإيرانيين في فارس و قومس و خراسان (ظ: الجمل، 24). 

 

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: