الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبوالعلاء المعري /

فهرس الموضوعات

أبوالعلاء المعري

أبوالعلاء المعري

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/7 ۱۳:۱۴:۲۳ تاریخ تألیف المقالة

ویمکث ابن القارح فترة فيالجنة، و هناک یتذکر أن علیه أن یزور أهل النار أیضاً، وفي طریقه التقی بالعفاریت الذین آمنوا بالإسلام و بالنبي (ص)، ورأی مدناً لیست کمدن الجنة، فیها أحواض ماء و مزارع للشجر، والتقی هناک بأحد شعراء الجن وسمع منه شعراً (ص 289-304). ثم وصل ابن القارح إلی جهنم،وهناک رأی إبلیس وقد کبّل بالأغلال والسلاسل، وکان زبانیة جهنم ینهالون علی رأسه ضرباً بالمقامع فیتساءل إبلیس عن اسم ابن القارح و مهنته،فیجیبه أنه کان في الدنیا أدیباً یتخذ من الأدب وسیلة للتقرب من الملوک و الحکام، فیذم إبلیس مهنته، ویذکر له حاجته، فیقول له ابن القارح إنه لایقدر علی نفع له. فیقول له إبلیس إنه لم یقصد طلب العون منه، بل یرید السؤال لماذا حُزمت الخمر علی الإنسان في الدنیا وأحلت له في الآخرة؟ ثم یستشهد بشعر لبشار بن برد الشاعر الشهیر، الشعر الذي فضّل فیه إبلیس علی الآدمیین. حینها یری ابن القارح بشاراً في أصناف العذاب و یتحدث إلیه بشأن بعض أشعاره (ص 309-313).

وخلال رحلته هذه یری ابن القارح فریقاً آخر من شعراء العصر الجاهلي وما بعده و یحاور هم بشأن حیاتهم و شعرهم، ثم یعود إلی الجنة. وفي طریقه یلتقي بآدم أبي البشر ویسأله عن أبیات عربیة منسوبة له، فینکرها وبعدها من نظم بعض الحکماء. إلا أن ابن لاقارح یقول ربما قلتَها ثم نسیتَ، فیقول له آدم إنه کان یتکلم بالعربیة بادئ الأمر في الجنة، فلما هبط إلی الأرض أصبحت لغته السریانیة التي ظل یتحدث بها حتی وفاته، ولما ردّه الله إلی الجنة، عاد لسانه عربیاً. إذن لیس من الممکن أن تکون تلک الأشعار العربیة من نظمه (ص 360-362).

وأخیراً نجد ابن القارح في الجنة، وقد اتّکأ علی مفرش من السندس، وبأمر الحور العین أن یحملن ذلک المفرش، فیضعنه علی سریر من سرر أهل الجنة – المصنوع من الزبرجد، أو العسجد – أحاطه البارئ بحَلَقٍ من ذهب حتی یأخذ کل واحد من الغلمان وکل واحدة من الجواري المشبَّهة بالجمان، واحدةً من تلک الحلق؛ فیُحمل علی تلک الحال إلی محله المشیّد بدار الخلود، فکلما مرّ بشجرة نضخته أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الکافور، وتدعوه الثمرات من کل جانب و هو مستلق علی ظهره إلی نفسها. فإذا أراد عنقوداً من العنب، النقضب من الشجرة بمشیئة الله، وحملته القدرة إلی فمه؛ وأهل الجنة یلقونه بأصناف التحیة. ولایزال کذلک أبداً سرمداً، ناعماً في الوقت المتطاول منعَّماً (ص 378-379).

وهنا تجدر الإشارة إلی أن الجنة و النار اللتین صورهما أبوالعلاء في رسالة الغفران، مستقیتان من القرآن وأشعار وأساطیر العرب القدماء من جهة، و حصیلة خیاله الخلاق و ذوقه الفني من جهة أخری.

وفي القسم الثاني من رسالة الغفران ینبري أبوالعلاء إلی الذجابة علی کل واحد من الأسئلة التي طرحها ابن القارح في رسالته. ولیس في هذا القسم أسلوب قصصي و خیال خلاق و لاعرض لدقائق و قضایا لغویة وأدبیة، بل یصطبغ بصبغة رسائل عهد أبي العلاء – الرسائل الإخوانیة في القرنین 4 و 5هـ - و أبرز خصائصه أنه تتجلی فیه أفکار و نظریات و عقائد و أحکام أبي العلاء نفسه بشأن المیول و لافرق و الشخصیات المختلفة. ویقول أبوالعلاء في البدء مشیراً إلی ثناء ابن القارح علیه في رسالته: إني لمکذوب علیه کما کذبت العرب علی الغول، یُظن أنني من أهل العلم، ولست أنا کذلک. ویقال إنني من أهل الدین، ولو ظهر ماوراء الحجاب، لما اکتفی المادحون له بسب، ولسقوه السم بالشَّبّ. وقد شهد الله أني أجذَلُ بمن عابني، لأنه صدق فیما رایني. وأهتمّ لثناءٍ مکذوب، یجعلني کالصید الهارب الذي لایرغب بطعام لشدة ظمئه. ولولا کراهتي حضوراً بین الناس وإیثاري أن أموت میتة تیس في کناسه، ‌فاجتمع معي أولئک الذین یحسنون الظن بي، لاتضح أنهم ضلوا طریق الرشد( ص 389-393).

وکما یلاحظ فإن سخریة أبي العلاء المریرة الخاصة به، من نفسه و من غیره تتجلی في هذه العبارات. وهو یقول في موضع آخر بنفس اللهجة الساخرة: قد کدت ألحَقُ برهط العدم، من غیر الأسف ولاالندم، ولکنما أرهب قدومي علی الجبّار، ولم أصلح نخلي بإبار (ص 395).

وکما قیل فإن أبا العلاء کان من عشاق المتنبي و مادحیه، وقد شرح دیوانه (للاطلاع علی لقائه بالشریف المرتضی وحوارهما بشأن المتنبي، ظ: یاقوت، 3/123-124). ومن جهه أخری نعلم أن الآخرین کانوا یشکون بصحة عقیدة المتنبي خلال حیاته و بعد موته أیضاً. ویبدي أبوالعلاء رأیه فیه ویقول: وقد دلّت أشیاء في دیوانه أنه کان متألّهاً، رغم أنه کان کسائر الناس في حیرة. ثم یضیف: وإذا رُجع إلی الحقائق، فنطقُ اللسان لاینبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالَم مجبول علی الکذب والنفاق. ویحتمل أن یُظِهر الرجلُ بالقول تدیّناً، وإنما یجعل ذلک تزیّناً، یرید أن یصل به إلی ثناء، أو غرض من أغراض الدنیا الخادعة الفانیة ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون و فیما بطن ملحدون (ص 419-420). وفي الناس من یتظاهر بالمذهب و لایعتقده، یتوصل به إلی الدنیا الفانیة (ص 461).

ویقول أبوالعلاء إن العرب لما جاءها النبي (ص)، اتّبعه منها متبعون، والله أعلم بما یوعون. فلما ترسخت دعائم الإسلام، مازج العرب غیرهم من الطوائف، وسمعوا کلام الأطباء وأصحاب الهیئة وأهل المنطق، فانحرفت منهم طائفة کثیرة (ص 420). وهنا یبین أبوالعلاء دوافع المیل إلی الإلحاد ویقول: ولم یزل الإلحاد في بني آدم علی مر الدهور (ص 421)، ذلک أن الزندقة داء قدیم، والزنادقة هم الذین یسمون الدَّهریة الذین لایقولون بنبوة ولاکتاب (ص 429).

وبشأن بشار بن برد شاعر العرب لاضریر الذي اشتهر بسوء العقیدة والانغماس في الشهوات وقتل في نهایة المطاف بأمر من الخلیفة العباسي المهدي، یقول أبوالعلاء: إنه کان قد أخذ زندقته عن غیره، لکن وکما قیل عثر بین کتبه علی رقعة مکتوب فیها إني أردت أن أهجو فلان بن فلان الهاشمي، فصفحت عنه لقرایته من رسول الله (ص). ثم یضیف أبوالعلاء: ولا أحکم علیه بأنه من أهل النار (ص 429، 432).

ومن جهة أخری یلعن أبوالعلاء الزنادقة ویقول إنهم یستعبدون الطغام بأصناف مختلفة ولایخجلون من ادّعائهم الربوبیة (ص 439). وکانت عقول العرب في الجاهلیة تجنح إلی رأي الحکماء و ما سلف من کتب القدماء، إذ کان أکثر الفلاسفة لایؤمنون بنبي، وینظرون إلی من زعم ذلک بعین الغبي (ص 440).والأمر الملفت للانتباه في هذا القسم من الکتاب هو التعریف الذي یقدمه للزمان ویعدّه خاصاً به: الزمان شيء أقلّ جزءٍ منه یشتمل علی جمیع المدرکات، و هو في ذلک ضد المکان، لأن أقل جزء منه لایمکن أن یشتمل علی شيء کما تشتمل علیه الظروف (ص 426). ویرفع أبوالعلاء علی القرامطة أیضاً سوط التهکم و النقد (کما یفعل ذلک مراراً في لزوم مالایلزم أیضاً)، ویعتبرهم مخادعین للعوام و مضلین، هدفهم الوصول إلی کرسي الحکم (ص 442-443).

وحُکم أبي العلاء علی الصوفیة أیضاً منهکم و هازل، فهو یوقل عن الحسین بن منصور الحلاج مثلاً إنه قد افتري علیه، ذلک أنمجال الکذب واسع. و جمیع ماینسب إلیه مما لم تجرِ العادة بمثله، کذب محض. وفي الصوفیة إلی الیوم من یرفع شأنه، ویجعل مع النجم مکانه. و بلغني أن ببغداد قوماً ینتظرون خروجه، وأنهم یقفون بحیث صلب علی دجلة یتوقعون ظهوره ولیس ذلک ببدع من جهل الناس (ص 453-454). وأدلُّ رتب الحلاج أن یکون مشعوذاً، لاثاقب الفهم ولاحاد الذکاء، علی أن الصوفیة تعظّمه (ص 463).

ویضیف أبوالعلاء: إن التألّه موجود في غرائز الناس، و هو ملجؤهم. و یلقن الطفل الناشئ ماسمعه من الأکابر، فیکون إما مجوسیاً، أو صابئیاً. ولکن أبن من یصبر علی أحکام العقل، ویصقل فهمه أبلغ صقل؟ قلما وُجد بین الناس من خُص بفضیلة العقل (ص 464).

کما یذم أبالعلاء المعتزلة بقوله: کم من متظاهر باعتزال، وهو مع المخالف في نزال، یرتکب الآثام و یشرب الخمر(ص 465-466). ولایبقي المعريُّ الأشعريَّ بمأمن من ذمه فیقول: مَثَلُه کمثل راعٍ حُطَمة، یخبط في الدهماء المظلمة. لایعباً بالمکان الذي یقود إلیه القطیع لتحصل علی الکلأ. وما أجدره أن تهجم الذئاب علی قطیعه (ص 466). ثم ینبري لنقد مذهب الحلولیة (ص 468-469). وبعد توجیه النقد الشدید لابن الراوندي وذمودحض کتاباته، یثني علی القرآن بعبارات جمیلة جداً (ص 469-472).

وعن الخصائص الأدبیة و الفنیة في رسالة الغفران، تمت دراسات وافیة منها: الغفران، تحقیق و درس لبنت الشاطئ (القاهرة، 1954م)؛ الجدید في رسالة الغفران لها أیضاً (بیروت، 1973م)؛ لغة أبي العلاء في رسالة الغفران لفاطمة الجامعي الحبابي (بیروت، بدون تاریخ)؛ النقد واللغة في رسالة الغفران لأمجد الطرابلسي (دمشق، 1951م).

والآن تجدر الإشارة إلی آراء بعض مشاهیر المستشرقین الأوروبیین في رسالة الغفران: طبع نیکلسون في بضعة أعداد من «مجلة الجمعیة الملکیة الآسیویة» في بریطانیا خلال 1900، 1902م مقاطع من رسالة الغفران استناداً إلی إحدی مخطوطاتها – التي کان یظن أنها المخطوطة الوحیدة – منظّمة مع ترجمتها إلی الإنجلیزیة و إیضاحات و هوامش. والملاحظة الأولی بشأن عمله أنه لم یکن یعرف الشخصیة التاریخیة لابن القارح، فخلط بینه و بین أبي منصور الدیلمي، أي أبي الحسن علي بن منصور ابن أحد أفراد جیش سیف الدولة الحمداني (نیکلسون، «رسالة الغفران»، 78-79). وعلی هذا فهو لم یکن علی علم بوجود رسالة لابن القارح أیضاً.والملاحظة الثانیة هو أنه استناداً إلی المخطوطة الوحیدة التي کانت بحوزته، لم یقرأ المتن بشکل صحیح في بعض المواضع، ولذا فإنه لم یدرک معناه أیضاً. ومن جهة أخری فهو یقول خلال إبدائه رأیه بشأن خصائص رسالة الغفران، خاصة القسم الأول منها: قلما یتهرب أبوالعلاء من النثر المصنوع ذي الاستعارات المتکلفة و السجع المفروض (ن.م، 75). کما یقول نیکلسون عن مضمون رسالة الغفران: لایمکن إنکار أن أبا العلاءیصور جنة المؤمنین مثل قاعة فخمة ملأی بالغجر والمطربین الخالدین الذین لایلتزمون بالأخلاق (ن.م، 78). وهو یکرر حکمه هذا في مؤلفه الآخر فیعتبر تلک القاعة الفخمة مسکناً للشعراء الکافرین المعفوّ عنهم، فأصبحوا في عداد السعداء («تاریخ ...»، 318-319).

کما نشر المستشرق الإسباني الشهیر آسین پلاثیوس سنة 1919م کتاباً أثار ضجة باسم «البعث الإسلامي في الکومیدیا الإلهیة». کما طبعت ترجمته الإنجلیزیة في 1926م تحت عنوان «الإسلام و الکومیدیا الإلهیة». وقد أثار هذا الکتاب الذي مایزال قیماً من حیث توسیع نطاق البحث و التحقیق للعثور علی معادلات و مماثلات بین رسالة الغفران والکومیدیا الإلهیة لدانته، منذ صدوره عاصفة في الأوساط الأدبیة الأوروبیة خاصة المتخصصین في أدب دانته. والهدف الرئیس للمؤلف من وراء هذا الکتاب هو إظهار تأثیر العقائد و النظریات و الدوافع الإسلامیة في الأثر الکبیر للشاعر الذیطالي و یتناول خلال ذلک مسألة المعراج في القرآن والروایات المختلفة التي ظهرت بشأنها فما بعد، ویعد ماورد في سورة الإسراء و من ثم الأحادیث الخاصة بالمعراج نموذجاً سابقاً لفهم دانته وإدراکه للجنة و النار (المقدمة، 13-14). وهو یبحث أیضاً في بعض کتابات ابن عربي مثل رسالة الإسراء إلی مقام الأسراء الذي لم یطبع بعد، وکتابه الفتوحات المکیة، عن أوجه شبه بینها وبین الکومیدیا الإلهیة وبقیة آثار دانته (ص 45-53).

ثم یخصص آسین پلاثیوس فصلاً لتأثیر رسالة الغفران في الکومیدیا الإلهیة والعثور علی المتماثلات والمعادلات في هذین الأثرین، ویقول: إن أبا العلاء في رسالة الغفران کان یهدف علی مایدو إلی أمرین: فمن جهة کان یرید بسخریة رقیقة غیرمحسوسة تقریباً أن یذم تشدد معلمي الأخلاق في تعارضه مع الرحمة الإلهیة اللامتناهیة، ومن جهة أخری الاحتجاج علی الإدانة والتعذیب الخالد لکثیر من الأدباء خاصة الشعراء الذین – رغم کونهم ملحدین و مذنبین – کانوا مشهورین في الأدب العربي (ص 55). ثم یضیف: إن أبا العلاء و من غیر أن یشیر بشکل مباشر إلی سعة (الرحمة الإلهیة یسعی بمهارة أدبیة إلی أن یظهر أن کثیراً من الشعراء الکفرة الفسقة، عفي عنهم بعد تویتهم أخیراً ودخلوا الجنة (ص 55-56).

ثم یسرد آسین پلاثیوس خلاصة من مشاهد القسم الأول من رسالة الغفران ویثارنها بمشاهد من الکومیدیا الإلهیة 56-67). وأخیراً یصل إلی هذا الستنتاج: إن هدف أبي العلاء من اقتباسه الأدبي من قصة المعراج کان فنیاً بشکل رئیس، وهذه هي نفس المیزة التي تلاحظ في شعر دانته أیضاً،ذلک أن الکومیدیا الإلهیة رغم کونهاتعدّ دائرة معارف للتعالیم اللاهوتیة، أو المثل الأخلاقیة، إلا أنها فضلاً عن ذلک أثر أدبي راق، وأثر أبي العلاء هو أیضاض کذلک. ورغم أن رسالة الغفران غیر منظومة، إلا أنها مفعمة بکل مافي النمط الشعري من إبداع و هو مایسمی في الأدب العربي بالنثر المسجَّع (ص 67).

 

نظرته العالمیة

لاشک في أن أبا العلاء أحد أبرز الشعراء المفکرین أو المفکرین الشعراء في تاریخ الأدب العالمي. لکن ینبغي أن نتذکر أنه شاعر بالدرجة الأولی ولیس فیلسوفاً. هو مفکر غیر أنأفکاره بعیدة عن النظم و التسلسل المنطقي لأفکار الفلاسفة، بل یمکن القول إنه برم بنظم کهذا. وإحساسه هو دلیل أفکاره: إحساسه بنفسه، بهذا العالم، بذاک العالم، بالناس والتاریخ، بالتعامل و السلوک، بالتصورات و المعتقدات، بإیمان الناس وحبهم، بکل مایعتبر الناس به أنفسهم بشراً. أبوالعلاء فنان فنه شعره، و شعره کل وجوده. و الکلمات الشعریة قوالب صب فیها کل وجوده العاطفي و العقلي، و خلق فیها تماثیل خلادة مما لامثیل له ولایمکن تقلیده. و قد سمی نتاج إبداعه الفني هذا لزوم مالایلزم و لزوم مالایلزم یعني أن یتکرر في القافیة في جمیع الأبیات حرف لایؤدي عدم وجوده إلی إحداث نقص و خلل في الشعر. وقد اختار المعري هذا الشکل من الشعر لاختیار قدراته و إمکانیات إبداعاته الشعریة. والتفنن الشعري هذا لم یکن خاصاً بأبي العلاء،بل یعثر علیه لدی شعراء الجاهلیة أیضاً، ونماذجه لیست قلیلة (ظ: الیظي، 388-390). ولزوم مالایلزم هو محاولة شاقة و شعریة، وقد تعمد أبوالعلاء تحمل هذه المشقة. وهذه المشقة هي في اللعب بالکلمات أو الصراع معها. و کأن أبا العلاء کان في صراع مع نفسه، واتخذ من کلماته الشعریة أسلحة لصراعه هذا مع نفسه. والإنصاف یقتضي أن نقول إنه انتصر في هذا الصراع. و شعر أبي العلاء – في فترة تقرب من 60 سنة – مرآة صادقة تعکس العلام المحیط به وعالمه الداخلي؛ أشعاره هي ردود أفعاله مثل ردود أفعال أي شاعر مبدع تجاه عالمیه الخارجي و الداخلي.

وینبغي البحث عن أبرز دلائل شخصیة المعري الروحیة في هیمنة عقله علی جمیع وجوده. وحتی إحساسه الذي أشیر إلیه، یبدو کأنه یمرّ من خلال مصفاة العقل ثم یخرج إلی البیان. و کلمة العقل لدی أبي العلاء ترادف الفکر. و من ناحیة أخری فإن خصیصة عقله تکمن في شکه، کما یقول هو في لزوم مالایلزم (2/894): أما الیقین فلایقین، وإنما/ أقصی اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا.

ویبدو أن شعار المعري هو نفسه الذي رفعه دیکارت الفیلسوف الفرنسي الکبیر (1591-1650م) بعده بحوالي 6 قرون، وأعلن أنه أول خطوة في طریق التفکیر الفلسفي: لیس هناک شيء یقیني، وینبغي الشک في کل شيء. وهذا الشک العقلي للمعري أصبح دافعاً لاتخاذ مواقف معارضة، أو مؤیدة لشخصیته و أشعاره و أفکاره في الفترات اللاحقة. وقد اعترف المعري بشکل صریح أمام تلمیذه الخطیب التبریزي بأنه شاک (ظ: ابن الجوزي، یوسف، 144).

والصراع بین الشک والیقین یصیب الإنسان بالتناقض الفکري، والتناقض في القول آخر المطاف. ولذا فإن الحکم فیه أمر عسیر ویضلل في الغالب من یصدرون أحکاماً بشأنه.والمعري إنسان من هذا النمط، لکن ینبغي الاهتمام بهذا الأمر و هو أن شکه ولید تشاؤمه قبل کل شيء. فالمعري متشائم من کل شيء حتی من نفسه. وأخیراً تجدر الإشارة إلی أن أسلوب حیاة المعري الخاص کان أیضاً مؤثراً في تشکیل نطرته العالمیة: التقوی والزهد وأکل النباتات، و حتی الامتناع عن تاول الحلیب والعسل و البیض و ماینتج من الحیوان. وهنا نقدم خلاصة لآراء المعري وأفکاره مع الأخذ بنظر الاعتبار نظرته الشاملة للعالم في عدة موضوعات: 1. حیاته الخاصة؛ 2. الله؛ 3. الدنیا؛ 4. الإنسان و المصیر والموت والروح و المعاد؛ 5. العقل؛ 6. الأدیان و المذاهب؛ 7. الزواج والتناسل.

 

1. حیاته الخاصة

کما أشیر آنفاً فإن أبرز خصائص فکر المعري تشاؤمه من کل شيء، فهو یشبّه الناس بکلاب تکأکأت علی جیفة وتعاوت علیها، ثم یری نفسه ألأمها (لزوم...، 1/123). ویلوم الذین یظنون به الیسر و الدیانة و العلم...(ن.م، 1/118). ویجد نفسه في صراع مع نفسه، فهو یکذب علیها لعلمه أنها تحب الکذب (ن.م، 1/222). ومن جهة أخری فهو یحب الحیاة، ذلک أنها خدعته بداعها و کذبها (ن.م، 1/196).

ویشهد أبوالعلاء اللهَ علی أنه متّبع لأهوائه النفسیة، فویل له حین یضمه القبر و علیه أن یجیب (ن.م، 1/269)؛ ویجد المعري نفسه هذه المرة في ثلاثة سجون: عماه و جلوسه في بیته و کون روحه في الجسد الخبیث (ن.م، 1/308). وهو یرضی بالقلیل و لایهتم بالقوت، ویشهد الله علی أن إقامة الصلاة بالنسبة له أجلّ من الدرّ و الیاقوت (ن.م، 1/278). ولایعلم أهو مجبر في علمله أم مخیَّر (ن.م، 1/402). ویقول المعري بعبارة رائعة إنه شرب خمر الهمّ الذي کان قلبه کأساً له، وشعر رأسه الأبیض زید ذلک الکأس (ن.م، 1/418). ویری حیاته بعد بلوغه الأربعین هي والموت سیّان، ویعد الحیاة بعدها خسراناً (ن.م، 1/408). وبعد أن یتجاوز الخمسین عاماً أیضاً یشکو من مصاعب الحیاة ویعدّ عشرها، أو خمسها کافیاً له (ن.م، 2/853). ولایری الخیر في حیاة مابعد الخمسین وهویعاني الأمراض والرعشة (ن.م، 2/945). ویتمنی المعري مراراً الموت في أشعاره (ن.م، 3/1247). وبلغ برمه بالحیاة أن تمنی معه البقاء في قبره یوم النشور، وهو غیر مسرور بالحیاة، ویری أن راحة جسمه هي عندما یستقر في القبر ویعود إلی عنصره التراب. وحین یتفسخ جسده لایعبأ بعدها من الذي یدوس علی قبره، أو یحفره (ن.م، 2/821، 823). ویتحدث المعري حتی عن معاده بشکل هو من وجهة نظر معارضیه دلیل علی عدم اعتقاده بالبعث (ن.م، 2/936-937).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: