الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / الأزارقة /

فهرس الموضوعات

الأزارقة

الأزارقة

تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/11 ۱۸:۰۹:۱۲ تاریخ تألیف المقالة

اَلْأَزارِقة، إحدى‌ الفرق‌ الرئيسة للخوارج‌ (المحكِّمة) التي عرفت طوال‌ تاريخ‌ الثقافة الإسلامية بكونها أشد فرق‌ الخوارج‌ تطرُّفاً دائماً.

أُخذ الاسم‌ الذي عرفت‌ به‌ هذه‌ الفرقة من‌ اسم‌ والد نافع‌ ابن‌‌الأزرق‌ (ن‌.ع‌) أول‌ أئمتهم‌. و استناداً إلى‌ الأشعار المتوفرة لدينا المنسوبة لرجال‌ هذه‌ الفرقة، فإنهم‌ غالباً ما كانوا يدعون‌ أنفسهم‌ باسم‌ «الشُراة» (للاطلاع‌ على‌ نموذج‌ من‌ هذه‌ الأشعار، ظ: غابريلي، 357؛ عباس‌، 93، 94، مخ‍(. وكان‌ لقب‌ «الشراة» عنواناً مشتركاً شائعاً بين‌ المحكَّمة الأوائل‌ و بقية فرق‌ الخوارج‌.كما توجد بيـن‌ أيدينا أشعار أيضاً كان‌ فيها شعراء الأزارقة يدعون‌ أنفسهـم‌ بـ‍ «الخوارج‌»، و كذلك يدعون‌ بهذا الاسم‌ أشقاءهم‌ في العقيدة، ولم‌‌يكونوا يرون‌ في هذا الاسم‌ عيباً (للاطلاع‌ على‌ نماذج‌، ظ: غابريلي، 346,355؛ عباس‌،106، 122، 125، 134).

إن‌ عـامـة المسلميـن‌ الذيـن كانـوا يـدعـون‌ أهـل‌ التحكيـم‌ بـ‍ «الخـوارج‌»، ولتمييز فرقهـم‌ المختلفة عـن‌ بعضها كانـوا يعرفون أتباع‌ نافع‌ بالأزارقة، و هي التسمية التي كانت‌ مستخدمة آنذاك استناداً إلى‌ الرسائل‌ و القصائد المتوفرة التي ترجع‌ إلى‌ الربع‌ الثالث‌ من‌ القرن‌ 1ه‍، أي منذ أوج‌ الحياة السياسية لهذه‌ الفرقة (مثلاً ظ: المبرد، 3/1260؛ البلاذري، 5/270؛ الطبري، 5/615، 619،6/120؛ أيضاً عباس‌، 93). و في نفس‌ هذه‌ الفترة تحـدث‌ عنهـم‌ ابـن‌ إباض‌ زعيـم‌ الجنـاح‌ المـعـتدل‌ للمحكمــة ــ ومــن‌ غـيـر أن‌ يستـخـدم‌ تـعبـيـر الأزارقـة ــ بعبـارة «أتباع‌ ابن‌‌الأزرق‌» (عبدالله‌ بن‌ إباض‌، 135). وخلال‌ القرنين‌ 2و3ه‍/ 8و9م‌ كان‌ لقب‌ «الأزارقة» متداولاً أيضاً بين‌ شتى‌ فرق‌ المحكمة (مثلاً ظ: عيسى‌ ابن‌ فورك، 284).

و من‌ الناحية الفكرية، و بصورة عامة فإن‌ مايميز الأزارقة عن‌ بقية فرق‌ أهل‌ التحكيم‌، هو في النظرة الأولى تطرُّفهم‌ في إدانة «القعود» و وجوب‌ «القيام‌ بالسيف»‌، وتعاملهم‌ المتشدِّد مع‌ عامة المسلمين ومن‌ لايتبنّى‌ معتقدهم‌. وقد أدى‌ الانشغال‌ المتواصل‌ في الحروب‌ لهذه‌ الفرقة وقصر حياتها إلى‌ أن‌ لاتتوفر الفرصة لها لتدوين‌ تعاليمها الدينية. و في الحقيقة، فإنه‌ برغم‌ وجود أفراد من‌ أهل‌ العلم والأدب‌ في صفوفهم،‌ فإن‌ قواعدهم‌ لم‌تكتسب‌ صيتاً بوصفها محافل‌ ثقافية.

ومن‌ حيث‌ التاريخ‌ السياسي، فقد لعب‌ الأزارقة دوراً خطيراً في وقائع‌ النصف‌ الثاني للقرن‌ 1ه‍ وخاصة خلال‌ السنوات‌ 64-78ه‍/684-697م، فقد أسسوا في فترة الأربعة عشر عاماً هذه‌ إمامة خارجية في حالتي الكر و الفر شهدت ــ برغم‌ قصر المدة ــ عدة أئمة.كانت‌ المناطق‌ التي تبسط عليها هذه‌ الإمامة سلطتها، مناطق‌ متناثرة تمتد من‌ خوزستان‌ حتى‌ سجستان‌ في الشرق‌، و في الشمال‌ في الري و طبرستان‌.

 

الجذور التاريخية لظهور الأزارقة

عقب‌ حرب‌ النهروان‌ وخلال‌ السنوات‌ 37-65ه‍/657-685م تركّزت‌ فرق‌ المحكمة في مدينتي الكوفة و البصرة، حيث‌ يلاحظ اتجاهان‌ متضادان‌ في مواقفهم‌ السياسية: كان‌ فريق‌ منهم‌ من‌ دعاة القيام‌ بالسيف‌ يبادرون‌ إلى‌ الخروج‌ على‌ الحكومة المركزية الأموية في مكان‌ما ‌بين‌ الحين‌ والآخر، وكانوا يُواجهون‌ ــ بطبيعة الحـال‌ ــ بردّ فعلٍ‌ دموي من قبل الحكام‌؛ أما الفريق‌ الآخر الذي كان يُشار إليه‌ باسم‌ القَعَدة، فقد كانوا على‌ خلاف‌ الفريق‌ المذكورآنفاً، يجيزون التقية والقعود أمام النظام‌ الجائر ضمن‌ شروط معينة.

و خلال‌ الفترة الأولى‌ للحكم‌ الأموي، اتخذ المغيرة بن‌ شعبة والي الكوفة (حك‍ 41-50ه‍/661-670م‌) سياسة معتدلة في مواجهة القَعَدة من‌ المحكمة وخلال‌ إمارة زياد (حك‍‌ البصرة: 45-53ه‍؛ حك‍ الكوفة:50-53ه‍( على‌ العراق‌، أمضى‌ كثير من‌ المعتدلين‌ من‌ أهل‌ التحكيم‌ حياتهم‌ بهدوء وسلام‌ في هذه‌ البلاد أيضاً‌، ولم‌‌تكتفِ الحكومة بعدم‌ التعرض‌ لهم‌، بل‌ كانت‌ أحياناً تقدم‌ لهم‌ العطايا أيضاً، حتى إنها فوَّضت‌ إليهم‌ مناصب كذلك (ظ: المبرد، 3/1189). و بصورة عامة فإن‌ سياسة زياد في التعامل‌ مع‌ أهل‌ التحكيم‌، كانت‌ المواجهة المتشددة مع‌ الفرق‌ المتطرفة لهذا المذهب‌ والداعين‌ إليه علناً، و ترك أهل‌ القعود و التقية و شأنهم‌ (ظ: م‌.ن‌، 3/1187-1189)، لكنه‌ تعامل‌ بشدة مـع‌ المحكمة عقب‌ ثورة قريب‌ و زحّاف‌ سنة 50ه‍ (ظ: الطبري، 5/238).

و بعد موت‌ زياد (53ه‍( و انتقال‌ إمارة العراق‌ إلى ولده‌ عبيدالله‌ في 55ه‍ ،تابع في البدء السياسة المعتدلة نسبياً في التعامل‌ مع‌ القاعدين،‌ لكنه‌ غيّر أسلوبه‌ بعد فترة و قتل كل‌ من‌ وجده‌ على‌ مذهب‌ المحكمة، أوسجنه (ظ: المبرد، ‍3/1184-1185؛ الطبري، 5/312-314). و قد أهاجت‌ الثورات‌ المتلاحقة للمحكمة، ردود الفعل‌ العنيفة لابن‌ زياد و بلغت‌ أوجها عندما بادر إلى‌ ارتكـاب‌ مذبحة جماعية بحقهم‌، و قتل‌ خلالها زعيمهم‌ الفكـري أبا بلال‌‌‌ مرداس‌ ‌‌بن ‌‌‌أدية (ظ: م‌.ن‌، 5/564). وقد أدى‌ قتل‌ القعدة والقضاء على‌ زعماء ذوي آراء معتدلة مثل‌ أبي‌ بلال‌، إلى‌ أن‌ تقترب‌ المواقف‌ السياسية للخوارج‌ المتطرفين‌ و المعتدلين‌ أكثر من‌ بعضها البعض خلال‌ فترة انتقال‌ السلطة من‌ الفرع‌ السفياني لبني أمية إلى‌ الفرع‌ المرواني، و في فترة التدهور المقطعي للخلافة الأموية، بحيث‌ شكلا في بعض‌ الفترات‌ جبهة واحدة. وفي هذه‌ الفترة، برزت‌ على‌ الساحة أسماء رجال من زعماء الأزارقة في المستقبل أمثال‌ نافع‌‌ ابن‌‌‌الأزرق‌ و عبيدة‌ بن‌ ‌هلال‌ وبني‌الماحوز بوصفهم‌ طلائع‌ ثورة كبيرة ضد الأمويين‌ (كأمثله، ظ: المبرد، 3/1204-1205؛ البلاذري، 4(1)/392، 4(2)/93-94؛ الطبري، 5/471).

تزامناً مع‌ ثورة ابن‌ الزبير ضد بني أمية في مكة و عقب‌ تحرك جيش‌ من‌ الشام‌ بهدف‌ القضاء على‌ هذه‌ الثورة، اتجه‌ خوارج‌ البصرة و اليمامة إلى تشكيل‌ ائتلاف‌ سياسي، و برغم‌ وجود بون‌ شاسع‌ في المبادئ‌ تحالفوا مع‌ ابن‌ الزبير متمسكين‌ بمبدأ «الدفاع‌ عن‌ البيت‌». وعلى‌ رأس‌ قائمة أسماء المحكمة المشاركين‌ في هذا التحالف‌ ورد اسما نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ و نجدة بن‌ عامر، و أُشير أحياناً ‌إلى أن‌ نافعاً كان‌ المشجِّع‌ الرئيس‌ لهذا التحالف‌ (ظ: م‌. ن، 5/564؛ قا: المبرد، 3/1211). و قبل‌ واقعة الحَرَّة، انضم‌ زعماء المحكمة إلى‌ ابن‌ الزبير و شاركوا في الحرب‌ ضد الحصين‌ بن‌ نمير (ظ: م‌.ن‌، 3/1205؛ الطبري، ن‌.ص‌)، لكن‌ مع‌ وصول‌ خبر موت‌ يزيد بن‌ معاوية (ربيع‌ الأول‌ 64) من‌ العاصمة، تخلى‌ الجيش‌ الشامي عن‌ الحرب‌، و اتجه المحكمة نحو البصرة واليمامة بطرحهم اختلافاتهم المبدئية مع ابن الزبير (ظ: المبرد، 3/1211؛ الطبري، 5/564-566).

و خلال‌ البحث‌ في أولى عوامل هذا الانفصال،‌ يرد في الروايات‌ اسم‌ ابن‌ الأزرق‌ و أنصاره‌ و خاصة بني ماحوز (ظ: البلاذري، 4(1)/317)، لكن‌ و على أي حال، فإن زعماء و أتباع‌ الجناحين‌ الآخرين‌ من‌ الأجنحة الرئيسة للمحكمة، أي جناح‌ نجدة ابن‌ عامر و جناح‌ عبدالله‌ بن‌ إباض‌ قد شاركوا في هذا الانفصال وتخلوا عن ابن الزبير (ظ: م‌.ن‌،4(2)/101-102). ومع‌ الأخذ بنظر الاعتبار العلاقة السلمية بين‌ نجـدة ــ الحاكم‌ الخارجي المقتدر في شبه‌ الجزيرة العربية ــ و بين ابن‌ الزبير حتى‌ في سنة 68ه‍ (ظ: الطبري، 6/138-139)، يبدو أن‌ فريق‌ نافع‌ ـ الذي عرف‌ أتباعه‌ في السنوات‌ التالية باسم الأزارقة ــ كان‌ له‌ الدور الرئيس‌ في هذا الانفصال‌. ولدى‌ وصول‌ نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ وبقية المحكمة الذين‌ انفصلوا عن‌ ابن‌ الزبير، إلى البصرة، ألقي عليهم القبض‌ بأمر من‌ ابن‌ زياد وزُجَّ بهم‌ في السجن‌ (ظ: ابن‌ حبيب‌، «أسماء المغتالين‌»، 171؛ البلاذري، 4(1)/345، ،401، 4(2)/52).

و في فترة قصيرة عقب‌ موت‌ يزيد (أوائل‌ 64ه‍(، ومع‌ عقد تحالف‌ بين‌ القبيلتين الواسعتي النفوذ الأزد و ربيعة بزعامة مسعود ابن‌ عمرو العتكي، أعلن‌ البصريون‌ عن‌ إطاعتهم للحاكم‌ ابن‌ زياد الأمير السابق‌ للعراق‌. و في مقابل‌ ذلك هبَّت‌ للمعارضة أرهاط مضر وخاصه قبيلة تميم‌ ذات‌ النفوذ الواسع‌ بزعامة الأحنف‌ بن‌ قيس‌ (ظ: ابن‌ حبيب‌، المحبر، 254؛ ابن‌ الأثير، الكامل‌، 4/134-136). وعقب‌ بيعة الناس‌ لابن‌ زياد، أجبروه بإصرار أن يطلق‌ سراح‌ المحكمة المسجونين‌ لديه‌ الذين‌ كانوا من ذويهم‌، و قد وافق‌ ابن‌ زياد على‌ ذلك مرغماً (ظ: المبرد، 3/1212؛ البلاذري، 4(1)/420، 4 (2)/116-117).

و بعد إطلاق‌ سراحه‌ من‌ السجن‌ سارع‌ نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ إلى إعداد فريق من‌ المحكمة المقاتلين‌ و استقر في إحدى محلات‌ البصرة المسماة بالمربد (ن‌.ص‌، أيضاً بشأن‌ حديث‌ عن‌ تجمعهم‌ على‌ شاطئ نهرالأساورة، ظ: 4(2)/98). و خلال‌ ذلك نشبت‌ حرب‌ شاملة بين‌ القبائل‌ الثلاث‌ الرئيسة المقيمة في البصرة: الأزد وربيعة ومضر، أجبرت‌ ابن‌زياد على‌ الفرار من‌ العراق‌. و بمقتل‌ مسعود بن‌ عمرو العتكي زعيم‌ قبيلـة الأزد ــ في شوال‌ 64 بحسب‌ إحدى‌ الروايات‌ (ظ: م‌.ن‌، 4(2)/108-109).ــ بلغت‌ هذه‌ الحرب‌ الداخلية أوج شدتها (ظ: ابن‌ الأثير، الكامل‌، 4/139). وفي تلك الأيام راجت‌ إشاعات‌ نسبت‌ مقتل‌ مسعود بن‌ عمرو إلى‌ الخوارج‌ وبشكل‌ خاص‌ إلى‌ أتباع‌ نافع‌ ابن‌‌‌الأزرق‌، و جرى‌ الحديث‌ أحياناً عن‌ اتفاق‌ سري‌ بين‌ الخوارج‌ والأحنف‌ بن ‌قيس‌ زعيم‌ بني تميم‌ (ظ: البلاذري، 4(1)/407، 423، 4(2)/ 98، 99، 101، 106، 120؛ للاطلاع‌ على‌ أخبار عن العداء القديم لمسعود تجاه‌ الخوارج‌، ظ: ابن‌ حبيب‌، «أسماء المغتالين‌»، ن‌.ص‌؛ البلاذري، 4(1)/180)، لكن‌ بعض‌ المؤرخين‌ من‌ أمثال‌ أبي‌عبيدة معمر بن‌ المثنى‌ يرون‌ أنه‌ لاأساس‌ لمثل‌ هذه‌ الروايات‌ (مثلاً ظ: م‌.ن‌، 4(2)/111-112).

و بصورة عامة فباستثناء قلة من‌ رجال‌ المحكمة الذين‌ اشتركوا في القتال‌ إلى‌ جنب‌ مقاتلي قبائلهم‌ في هذه‌ الحرب‌ الأهلية، آثر أغلب‌ المحكمة ــ وخاصة أتباع‌ نافع‌ ـ أن‌ يعتزلوا القتال‌ (ظ: المبرد، 3/1212، 1235). و في الحقيقة فإن‌ أتباع‌ نافع‌ قد استفادوا من‌ هذه‌ الفرصة على‌ أفضل‌ وجه‌ (ظ: الطبري، 5/567). ففي الأيام‌ التي كان‌ فيها البصريون‌ منهمكين‌ في الصراعات‌ القَبَلية وكانوا غافلين‌ عن‌ أنشطة المحكمة، قام‌ هؤلاء بإقامة مخيم‌ عسكري منيع‌ لم‌يدرك زعماء البصرة‌، الخطر الذي يشكله‌ هذا المخيم‌ عليهم، إلا بعد تشكيله.

 

الأزارقة و الحياة السياسية

 

أول‌ قاعدة للإمامة الأزرقية في الأهواز

أخيراً و في الحرب‌ الأهلية في البصرة، توصلت‌ القبائل‌ المتحاربة إلى‌ شكل‌ من‌ أشكال‌ الاتفاق‌، فبايعـوا عبدالله‌ بن‌ الحـارث‌ الهاشمـي، الملقـب‌ بـ «بَبّة» لإدارة شؤون‌ المدينة.و في هذه‌ الفترة بادر نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ الذي لم‌‌يكن‌ يرى‌ البقاء أكثر في البصرة مجدياً، بالتوجه‌ مع‌ أنصاره‌ إلى‌ الأهواز (ظ: المبرد، 3/1213، 1221-1223). عقب‌ هذه‌ الهجرة الجماعية إلى‌ الأهواز و التي شكلت‌ منعطفاً في تاريخ‌ بلورة ثقافة الهجرة لدى‌ المحكمة، ونقطة انطلاق‌ لانشقاقهم‌ الكبير‌، بادر جمع‌ آخر من‌ محكمة البصرة بدورهم‌ إلى‌ التوجه‌ نحو دار هجرة نافع‌، وتركوا البصرة للمحكِمة القاعدين‌ (خاصة الإباضيين‌) الذين لم‌يكونوا مؤيدين‌ للأنشطة المتطرفة لنافع‌ و أتباعه‌ (ظ: الطبري، ن‌.ص‌).

و تزامناً مع‌ اشتداد شوكة الخوارج‌ في الأهواز، اتخذ نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ قسماً من‌ المواقف‌ الدينية مما يمكن‌ أن‌ يُعدَّ مرحلة حاسمة في تاريخ‌ انشقاق‌ فرق‌ المحكمة. فقـد أعلن‌ أن‌ الثورة أمر لايمكن‌ التخلف‌ عنه‌ و تبرأ من‌ فريق‌ القاعدين‌ ومن‌ بينهم‌ الإباضية. وعقب الإعلان عن‌ هذه‌ العقيدة و بعض‌ الآراء المتطرفة الأخرى‌، قام‌ بقية زعماء الفرق‌ الأخرى‌ للمحكمة أمثال‌ نجدة بن‌‌عامر وعبدالله‌بن‌إباض بدورهم‌ بالبراءة من‌ نافع‌ (ظ: عبدالله‌ بن‌ إباض،135؛ المبرد، 3/1213-1214؛ الطبري، 5/568).

قام‌ ابن‌ الأزرق‌ الذي لم‌يُرِد لنفوذه‌ أن‌ يكون‌ مقتصراً على‌ الأهواز، بالتوجه‌ إلى‌ البصرة سنة 65ه‍، وتمكن بسرعة مذهلة من الاستيلاء على مناطق‌ السواد و أطراف‌ البصرة و تطويق‌ البصريين‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ (ظ: المبرد، 3/1103؛ اليعقوبي،2/264؛ الطبري، 5/ 568-569، 613). بادر عبدالله‌ بن‌ الحارث‌ الأمير المنتخب‌ للبصرة، بتعيين‌ قائد يدعى‌ مسلم‌ بن‌عبيس‌ و وجَّهه‌ لحرب‌ الأزارقة، فواجه نافع مقاومة أجبرته على‌ التراجع ‌إلى موضع‌ يدعى‌ دولاب‌ من‌ مناطق الأهواز (ظ: البلاذري، 4(1)/ 418؛ الطبري، 5/614). وفي هذا الموضع‌ دارت‌ رحى حرب‌ دولاب‌ بين‌ جيش‌ البصريين‌ و أتباع‌ نافع‌ و التي عُدت‌ واحدة من‌ أشرس‌ حروب‌ الأزارقة في التاريخ‌، و أدت إلى‌ مقتل‌ أعداد ضخمة من‌ زعماء البصرة ومن‌ بينهم‌ مسلم‌ بن‌‌عبيس‌ من‌ جهة، و إلى إنزال‌ ضربات‌ ماحقة بالأزارقة. و قد قتل‌ في هذه‌ المعركة نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ و بعض‌ زعماء الأزارقة، و برغم‌ تحقيق‌ الخوارج‌ نصراً محدوداً لكنهم‌ تحملوا خسائر فادحة (ظ: المبرد، 3/1222-1223؛ خليفة، 1/322-323؛ البلاذري، 4(2)/115؛ الطبري، 5/613-615؛ أبوالفرج‌، 6/142 ومابعدها).

 

فترة إمامة عبيدالله‌ بن‌ الماحوز

من‌ بين‌ الزعماء المتطرفين‌ للخوارج‌ كان‌ بنو الماحوز الذين‌ اتجهوا عقب‌ مقتل‌ أبي بلال‌ مرداس‌ بن‌ أديّة إلى الخروج‌ بالسيف‌ (البلاذري، 4(2)/93-94)، وشاركوا نافع‌ ابن‌ الأزرق‌ في تحالفه‌ مع‌ ابن‌ الزبير (ظ: م‌.ن‌، 4(2)/ 28)، وكانوا في جناح‌ نافع‌ عندما حدث‌ الانشقاق‌ في صفوف‌ المحكمة خلال‌ السنوات‌ 64-65ه‍ (الشهرستاني، 1/ 109؛ أيضاً ظ: الطبري، 5/566، 613). وفي حرب‌ دولاب الطويلة‌، قام‌ الأزارقة عقب‌ مقتل‌ نافع‌ بقليل‌ باختيار عبيدالله‌ بن‌‌الماحوز للإمامة (ظ: م‌.ن‌، 5/614؛ ابن‌‌أعثم‌، 3/204؛ أيضاً ظ: ابن‌أبي ‌الحديد، 4/ 141). و خلافاً لنافع‌ الذي كان‌ من‌ قبيلة بكر‌بن‌ وائل‌ (من‌‌ أرهاط ربيعة)، كان‌ ابن‌‌ الماحوز من‌‌ القبيلة المنافسة، أي تميم‌ (من‌ أرهاط مضر). ومع‌ الأخذ بنظر الاعتبار بعض‌ الشواهد يمكن‌ القول‌ إنه ــ قياساً إلى نافع‌ ــ كان‌ ذا أسلوب‌ أكثر اعتدالاً.و إن البحث‌ في أوضاع‌ زعماء المحكمة المشاركين‌ في التحالف‌ مع‌ ابن‌ الزبير، يدل‌ على‌ أن‌ زعماء قبيلة بكر بن‌ وائل‌ أمثال‌ نافع‌ و عبيدة بن‌ هلال‌ و نجدة بن‌ عامر كانوا يميلون‌ إلى مواقف‌ أكثر تشدداً، بينما كان‌ الزعماء التميميون‌ أمثال‌ عبدالله‌ بن‌ إباض ينزعون‌ إلى‌ مواقف‌ أكثر اعتدالاً من‌ جهة، ومن‌ جهة أخرى‌ توجد روايات‌ تقوم‌ على‌ أن‌ ابن‌ الماحوز في بدء تسلمه‌ مقاليد الأمور في مخيم‌ الأزارقة، تلقى‌ دعماً من‌ قوات‌ جاءت‌ إليه من‌ اليمامة (منطقة نفوذ نجدة بن‌ عامر) (ظ: خليفة، ن‌.ص‌؛ أبوالفرج‌، 6/146؛ ابن أبي الحديد، 4/143)، و يمكن‌ لهذا الأمر أن‌ يفسر التحسن الذي طرأ على‌ العلاقات‌ المتوترة بين‌ مخيم‌ الأزارقة وإمامة النجدات‌.

ومهما يكن‌، بادر ابن‌ الماحـوز ــ قبـل‌ ضياع‌ الفرصـة ــ إلـى إعادة تشكيل‌ عسكره الذي أصيب‌ بالخسائر جراء حرب‌ دولاب‌، وواصل‌ الحرب‌ مع‌ معارضيه‌ (ظ: م‌.ن‌، 4/141؛ أيضاً الشهرستاني، ن‌.ص‌). أدت‌ النتائج‌ المخيِّبة لحرب‌ البصريين‌ مع‌ الأزارقة في حازر عقب‌ حرب‌ دولاب‌، إلى أن‌ يتخلى‌ عبدالله‌ بن‌ الحارث‌ الأمير المحافظ للبصرة عن‌ الحرب‌ نهائياً، وكان‌ ينوي أن‌ يوقف‌ حربه‌ مع‌ الأزارقة (ظ: المبرد، 3/1235؛ البلاذري، 4(2)/123). واصلت‌ مجاميع‌ من‌ أهل‌ البصرة الحرب‌ مع‌ الأزارقة بأسلوب‌ الكر و الفر على‌ نطاق‌ محدود، إلى أن‌ قام‌ ابن‌ الزبير بتعيين‌ الحارث‌ بن‌ أبي ربيعة حاكماً على‌ ولاية البصرة فأصبحت‌ مقاومة البصريين‌ ضد الأزارقة تحظى‌ بتأييده‌ (ظ: المبرد، 3/1235-1239؛ ابن‌أبي الحديد، 4/141-143).

أقام‌ ابن‌ الماحوز في الأهواز و رسّخ‌ حكومة الأزارقة في جميع‌ أرجاء خوزستان‌ و إلى‌ حدٍّما في فارس‌، وتمكن‌ من‌ خلال‌ جبايته‌ الضرائب‌ من‌ المناطق‌ الخاضعة لنفوذه‌ من‌ تأمين‌ نفقات‌ معسكره‌ (ظ: المبرد، 3/1239؛ خليفة، 1/322-323). و بعد حوالي 3 أشهر من‌ الهدوء في ميادين‌ القتال‌، وجَّه‌ الزبير بن‌ علي، خليفته‌ في المستقبل‌، على‌ رأس‌ جيش‌ نحو البصرة (ظ: المبرد، ن‌.ص‌؛ الطبري، 5/615). سار الزبير حتى‌ شاطئ الفرات‌ وكان‌ ينوي أن يصل‌ البصرة من‌ خلال‌ إقامته جسراً على‌ النهر (المبرد، ن‌.ص‌؛ الطبري، 5/615-617، 621). استغل‌ أهل البصرة الزيارة التي حدثت‌ مصادفة للمهلب‌ بن‌ أبي صفرة الأزدي لمدينتهم‌ وشجعوه‌ ــ و هو السياسي الخبير بالشـؤون‌ العسكريــة ــ بشتـى‌ السبل‌ على‌ قبول‌ قيادة عسكر البصرة (ظ: المبرد، 3/1240-1241؛ البلاذري، 5/262؛ الطبري، ن‌.ص‌).

أدى‌ نزول‌ شخص‌ عميق‌ التفكير و مقتدر مثل‌ المهلب‌ إلى ميدان‌ الصراع‌، إلى أن‌ تتغير المعادلة لمصلحة البصريين‌. فقد اضطر الزبير بن‌ علي الذي لم‌تكن‌ تصله‌ التعزيزات‌ من‌ الأهواز كما كان‌ ينبغي بسبب‌ بعد المسافة ومفاجأات الحرب إلى التراجع‌ حتى‌ نهر تيرى أولاً، ثم‌ الانسحاب‌ إلى مشارف‌ الأهواز (ظ: المبرد، 3/1242-1243؛ الطبري، 5/615-617، 621، 6/305). و برغم‌ كون‌ الإجراءات‌ المحدودة التي اتخذها ابن‌ الماحوز كإرساله‌ مجموعة بقيادة واقد مولى‌ آل‌ أبي صفرة لقتل‌ المُعارِك شقيق‌ المهلب‌ وخليفته‌ في نهر تيرى (المبرد، 3/1246؛ ابن‌ أبي الحديد، 4/ 148-149)، ناجحة و مؤثرة في دعم المجموعة التي بإمرة الزبير بن‌ علي، لكنها لم‌‌تكن‌ ذات‌ تأثير حاسم‌ و مصيري في الحرب‌.

شهدت‌ منطقتي سِلّى‌ وسِلِّبْرى‌ الواقعتان قرب‌ الأهواز أواخر سنة 65ه‍ معركةً أخرى‌ من‌ المعارك الشهيرة للأزارقة. ففي هذه‌ المعركة تولى‌ ابن‌ الماحوز قيادة العسكر‌ بنفسه‌، وكان‌ عبيدة بن‌هلال‌ و الزبيربن‌ علي القائدين‌ لميمنة عسكره‌ و ميسرته‌. و ربما كان‌ اشتراك مقاتلين‌ من‌ عالية (نجد الشمالية) وخاصة من‌ عمان‌ إلى جانب‌ البصريين‌ في هذه‌ المعركة (ظ: المبرد، 3/1254؛ الطبري، 5/ 618)، انعكاساً لروح‌ التوسع‌ لدى‌ أئمة النجدات‌ في المناطق‌ الداخلية لشبه‌ الجزيرة العربية اعتماداً على‌ النظرية التي أشير إليها القائمة على‌ تحسين‌ العلاقات‌ بين‌ إمامة الأزارقة وإمامة النجدات‌.و في معركة سلى‌ و سلبرى و برغم‌ تفوق‌ الأزارقة في الأسلحة والمعدات‌، وخلافاً لانتصارهم الأول‌ في طردهم البصريين‌، تمكن‌ البصريون‌ بعودتهم‌ من‌ جديد بقيادة المهلب‌، من‌ تحقيق‌ الانتصار، وقُتل‌ ابن‌ الماحوز في المعركة (ظ: المبرد، 3/1256- 1258؛ ابن‌‌قتيبة، المعارف‌،622؛ ابن‌ أعثم‌، 3/ 208 ومابعدها). إثر هذه‌ الهزيمة، تراجع الأزارقة نحو أرّجان‌ بين‌ فارس‌ وخوزستان‌ (ظ: المبرد، 3/1257)، بينما أقام‌ المهلب‌ في الأهواز (الطبـري، 5/ 619). وقيل‌ إن عـدد الأزارقة في هذا الانسحـاب‌ ــ فضـلاً عن‌ الأعداد الكبيرة من‌ القتلى‌ الذين سقطوا في معركة سلى‌ وسلبــرى‌ ــ كــان‌ يربو على‌ 3 آلاف‌ (م‌.ن‌، 5/622).

 

فترة إمامة الزبير بن علي

ورد في المصادر عند الحديث‌ عن‌ أنشطة المحكمة عقب‌ مقتل‌ أبي بلال‌ وعلى‌ أعتاب‌ الانشقاق‌ الكبير، ذكر للزبير بن‌ علي (مثلاً ظ: البلاذري، 4(2)/94). وكان‌ الدور الذي لعبه‌ الزبير بوصفه قائداً عسكرياً في الوقائع‌ التي حدثت‌ على‌ عهد ابن‌ الماحوز، قد بوّأه‌ منزلة ــ وهو الذي كانت‌ له‌ صلة قربى‌ بالإمام السابق‌ ويبدو أنه‌ كان‌ ابن‌ أخيــه‌ ــ بحيــث بايعته‌ الأزارقة فور مقتل‌ ابن‌ الماحوز في أرجان‌ (ظ: المبرد، 3/1261-1262؛ ابن‌ أبي‌الحديد، 4/156). و برغم‌ المعارك الصغيرة التي خاضها الزبير بن ‌‌علي خلال‌ السنوات‌ الثلاث‌ لتوليه‌ مقاليد الأمور (الطبري،6/306؛ للاطلاع‌ على‌ عدة معارك عقب‌ سلى‌ و سلبرى، ظ: ابن‌ أعثم‌، 3/212-224)، كان‌ في بدء توليه‌ القيادة يتحاشى‌ خوض‌ معركة شاملة‌، وقد ركز كل‌ جهوده‌ في إعادة تنظيم‌ صفوف‌ قوات‌ الأزارقة المتناثرة في المناطق‌ الداخلية لإيران. و إذا كان‌ بالإمكان ضمّ الروايات‌ المختلفة إلى بعضها، فإن الزبير عقب‌ معركة سلى‌ و سلبرى و انسحابه‌ إلى أرجان‌، توجه‌ من‌ هناك إلى رامهرمز (الطبري، 6/305)، ثم تراجع في 66ه‍ إلى المناطق الواقعة في أقصى الشرق من إيران و خاصة ولاية فارس‌ (إلى إصطخر على‌ وجه‌ التحديد) (ظ: المبرد، 3/1262؛ الطبري، 5/617-622؛ ابن‌ عبدربه‌، 1/219؛ ابن‌أبي‌الحديد، 4/157).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: