الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / الاجتهاد /

فهرس الموضوعات

الاجتهاد

الاجتهاد

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/8 ۲۱:۵۱:۰۱ تاریخ تألیف المقالة

وفي مقابل الفقهاء المحدثین، کان الفقهاء المتکلمون قد سلکوا مساراً آخر في نفي الاجتهاد. ورغم أن ردود أبي سهل النوبختي علی کتاب اجتهاد الرأي لابن الراوندي (ابن الندیم، 225؛ الشیخ الطوسي، الفهرست، 13) و أبي القاسم الکوفي علی أهل الاجتهاد (النجاشي، 266) لم تصلنا (أیضاً ظ: م.ن، 220، أثر مشابه لعبدالله الزبیري)، ولکننا نستطیع أن نجد نموذج موقف متکلمي ذلک العصر بالنسبة لمسألة الاجتهاد في آثار مثل الإیضاح المنسوب إلی ابن شاذان (ص 54 و ما بعدها). و«نقض الإشهاد» لابن قبة الرازي (ص 99، 109، 113). وقد بیّن ابن قبة في عبارة له هذه الملاحظة باعتبارها وجهة نظر عامة للإمامیة، بأن الأحکام کلها منصوص علیها، ولامکان للتحدث عن العلة – التي کانت من أسس اجتهاد الرأي – في الفرائض السمعیة (ظ: ص 113، 122). وأخیراً تجب الإشارة إلی ابن عقیل العماني من بین الفقهاء المتکلمین، حیث حظت آراؤه الفقهیة بالاهتمام دوماً علی مدی القرونف إلا أن دقائق نهجه الفقهي لم تخضع حتی الآن للدراسة اللازمة رغم هذ الشهرة. ویمکننا بشکل عام اعتبار فقهه استمراراً لمذهب المتکلمین، و مقأمة لفقه الشیخ المفید و مدرسة بغداد.

وبعد ابن جنید الإسکافي الذي کان یؤمن بصراحة بحجیة القیاس واجتهاد الرأي استثناء خاصاً في القرن 4هـ، وقد ألف في هذا المجال بعض الآثار (ظ: الشریف المرتضی، الانتصار، 238؛ النجاشي، 387-388). وهو یعتبر أسلوبه استمراراً لأسلوب ابن شاذان الفقهي، ولفقهه قرابة نسبیة مع الفقه الحنفي من الناحیة الملیة (للدراسة، ظ: ن.د، 2/ 610-611). وعلینا أن نعتبر العقدین الأخیرین من القرن 4هـ منعطفاً في تاریخ الفقه الإمامي. و مع ظهور الشیخ المفید و الشریف المرتضی و الشی الطوسي من بعده، انطلق في العراق حرکة لتدوین الفقه الإمامي، و تنظیم أسسه، کانت بحد ذاتها استمراراً لحرکة مذهب المتکلمین، و هیمنت بنفوذها علی أوساط الفقه الإمامي لقرون تلت. ورغم الاختلافات الملفتة للنظر التي کانت موجودة بین الأنظمة الفقهیة لهؤلاء العلماء الثلاثة، إلا أنهم تعاملوا کلهم بشکل واضح تعاملاً تحلیلیاً و نظریاً مع الفقه. و قد کان هذا الأسلوب من التعامل الذي سمي فیما بعد بـ «الاجتهاد» مع تغییر في مفهوم المصطلح، یعرف بتعابیر مثل «الاستخراج» (ظ: الشیخ المفید، التذکرة...، 43؛ ابن البراج، 522) و«التفریع علی الأصول» (الشیخ الطوسي، المبسوط، ن.ص). وقد کان فقهاء مدرسة بغداد بل و حتی الشیخ الطوسي یعتبرون مصطلح «الاجتهاد» دالاً علی تعامل غیر مسؤول مع الأحکام الفقهیة (ظ: الشیخ المفید، أوائل ...، 154، الزیادات؛ الشریف المرتضی، الذریعة، 2/ 188، 308 و ما بعدها؛ الکراجکي، 296؛ الشیخ الطوسي، عدة...، 1/ 39؛ أیضاً ابن زهرة، 543-544). وفي هذا المجال، کان الشیخ المفید نفسه قد ألف کتاباً في الرد علی کتاب ابن جنید في «اجتهاد الرأي» (النجاشي، 402).

ورغم أن فقیهاً مثل الشریف الرضي طرح في آثاره و بشکل متزامن مع جهود مدرسة بغداد، اجتهاد الرأي والقیاس بمفهوم قریب من ابن جنید (ظ: پاکتچي، 9)، إلا أنه لمیصلنا منذ ذلک الوقت شاهد یدل علی استمرار مسیرة القبول باجتهاد الرأي. و في القرن 6هـ/ 12م، کانت إضافة «دلیل العقل» إلی الأدلة النقلیة الثلاثة من قبل ابن إدریس الحلي (ص 2) طلیعة تحول بدأ بعد مایقرب من قرن في مدرسة الحلّة. فقد اعتبر المحقق الحلي الاجتهاد أمراً مقبولاً من خلال تقدیم تعریف جدید له کان بإمکانه أن لایشمل القیاس، واعتبر الشیعة من «أهل الاجتهاد» (ص 179). ونحن نستطیع أن نعتبر حرکة المحقق الحلي في تعریف الاجتهاد استمراراً لمسیرة مدرسة بغداد، لأنه رأی أن الاجتهاد هو بذل الجهد التام لـ «استخراج» الأحکام الشرعیة (قا: استخدام «الاستخراج» في مدرسة بغداد).

 

المصادر

ابن أبي الحدید، عبدالحمید، شرح نهج‌البلاغة، تقـ: محمد أبوالفضل إبراهیم، القاهرة، 1379هـ/ 1959م؛ ابن أبي داود، عبدالله، المصاحف، القاهرة، 1355هـ؛ ابن إدریس، محمد، السرائر، طهران، 1270هـ؛ ابن بابویه، محمد، علل الشرائع، النجف، 1385هـ/ 1966م؛ م.ن، من لایحضره الفقیه، تقـ: حسن الموسوي الخرسان، النجف، 1376هـ/ 1957م؛ ابن البراج، عبدالعزیز، شرح جمل العلم و العمل، تقـ: کاظم مدیر شانه‌چي، مشهد، 1352ش؛ ابن زهرة، حمزة، «غنیة النزوع»، الجوامع الفقهیة، طهران، 1276هـ؛ ابن سعد، محمد،کتاب الطبقات الکبیر، تقـ: زاخاو و آخرون، لیدن، 1904-1915م؛ ابن قبة الرازي، محمد، «نقض الإشهاد»، مع کمال‌الدین لابن بابویه، قم، 1405هـ؛ ابن الندیم، الفهرست؛ أبوداود السجستاني، سلیمان، سنن، تقـ: محمد محیي‌الدین عبدالحمید، القاهرة فدار إحیاء السنة النبویة؛ أبوهلال العسکري، الحسن، الفروق اللغویة، القاهرة، 1353هـ؛ الإیضاح، المنسوب للفضل بن شاذان، بیروت، 1402هـ/ 1982م؛ پاکتچي، أحمد، الآراء الفقهیة و الأصولیة للشریف الرضي، طهران، 1406هـ؛ البخاري، محمد، صحیح، القاهرة، 1315هـ؛ البرقي، أحمد، المحاسن، تقـ: جلال‌الدین محدث الأرموي، قم، 1371هـ؛ الترمذي، محمد، سنن، تقـ: أحمد محمد شاکر وآخرون، القاهرة، 1357هـ/ 1938م و مابعدها؛ الخوارزمي، محمد، جامع مسانید أبي حنیفة، حیدرآبادالدکن، 1332هـ؛ الخیاط، عبدالرحیم، الانتصار، تقـ: نیبرغ، القاهرة، 1344هـ/ 1925م؛ الدارمي، عبدالله، سنن، دمشق، 1349هـ؛ الشافعي، محمد، الرسالة، تقـ: أحمد محمد شاکر، القاهرة، 1358هـ/ 1939م؛ الشریف المرتضی، علي، الانتصار، النجف، 1391هـ/ 1971م؛ م.ن، الذریعة، تقـ: أبوالقاسم گرجي طهران، 1363ش؛ م.ن، «مسألة في إبطال العمل بأخبار الآحاد»، رسائل الشریف المرتضی، المجموعة 3، قم، 1405هـ؛ الشیخ الطوسي، محمد، الاستبطار، تقـ: حسن الموسوي الخرسان، النجف، 1375-1376هـ؛ م.ن، عدة الأصول، تقـ: محمدمهدي نجف، قم، 1403هـ/ 1983م؛ م.ن، الفهرست، النجف، المکتبة المرتضویة؛ م.ن، المبسوط، طهران، 1387هـ؛ الشیخ المفید، محمد، أوائل المقالات، تقـ: واعظ چرندابي، تبریز، 1371هـ؛ م.ن، التذکرة بأصول الفقه، قم، 1413هـ؛ الصفار، محمد، بصائر الدرجات، طهران، 1404هـ؛ عبدالرزاق الصنعاني، المصنف، تقـ: حبیب الرحمان الأعظمي، بیروت، 1403هـ/ 1983م؛ القاضي عبدالجبار، «فضل الاعتزال»، فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة، تقـ: فؤاد سید، تونس، 1393هـ/ 1974م؛ الکراجکي، محمد، کنزالفوائد، تبریز، 1322هـ؛ الکشي، محمد، معرفة الرجال، اختیار الشیخ الطوسي، تقـ: حسن المصطفوي، مشهد، 1349ش؛ الکلیني، محمد، الکافي، تقـ: علي أکبر الغفاري، طهران، 1391هـ؛ مالک بن أنس، الموطأ، تقـ: محمد فؤاد عبدالباقي، القاهرة، 1370هـ/ 1951م؛ المجلسي، محمدقاقر، بحارالأنوار، بیروت، 1403هـ؛ المحقق الحلي، جعفر، معارج الأصول، قم، 1403هـ؛ المرشد بالله، یحیی، أمالي، بیروت، 1403هـ/ 1984م؛ مسلم بن الحجاج، صحیح، تقـ: محمد فؤاد عبدالباقي، القاهرة، 1374هـ/ 1954م؛ النجاشي، أحمد، رجال، تقـ: موسی الشبیري الزنجاني، قم، 1407هـ؛ النسائي، أحمد، سنن، القاهرة، 1348هـ؛ النعماني،محمد، «تفسیر»، مع ج 90 بحارالأنوار، بیروت، 1403هـ/ 1983م؛ الونشریسي، أحمد، المعیار المعرب، بیروت، 1401هـ/ 1981م.

أحمد پاکتچي/ خ.

 

الْتَعریف الْاصْطلاحي للاجتهاد

اشتقت کلمة الاجتهاد في اللغة من «الجهد»، وتعني بذل الوسع والمجهود في طلب الأمر (مثلاً ظ: ابن منظور، مادة جهد). وفیما یتعلق بتعریف «الاجتهاد» اصطلاحاً، فقد استخدام الفقهاء و الأصولیون تعبیرات مختلفة، و لکن أکثرهم لایقصدون من هذه التعبیرات إلا معنی واحداً. واستناداً إلی التعریف المشترک بین علماء أهل السنة والإمامیة، فإن الاجتهاد عبارة عن «بذل الجهد»، أو «استفراغ الوسع» لاستنباط الحکم الشرعي من الأدلة الفقهیة المعتبرة، و هذا التعریف الذي تمتد جذوره إلی القرون الإسلامیة الأولی (مثلاً ظ: الشریف المرتضی، الذریعة، 2/ 188) کان شائعاً مع اختلافات في التعبیر حتی العصور المتأخرة کثیراً. وقد ضمن بعض أهل النظر هذا التعریف عامل «الظن» أیضاً ورأی أن الاجتهاد هو السعي لتحصیل الظن بالحکم الشرعي (مثلاً ظ: ابن الحاجب، 209؛ العلّامة الحلي، مبادئ...، 240)، ولکن الذین لایعتبرون الظن حجة، استخدموا في هذا الصدد تحصیل «الحجة» للحکم الشرعي بدلاً من تحصیل الظن. وبالإضافة إلی ذلک، فقد طُرحت في العصر الأخیر هذه المسألة، و هي أن بذل الجهد لایکفي دون وجود نملکة» الاستنباط، و لذلک فقد عرّفوا الاجتهاد بدنه ملکة تمکّن الإنسان علی استنباط، ولذلک فقد عرّفوا الاجتهاد بأنه ملکة تمکّن الإنسان علی استنباط الحکم الشرعي من الأدلة، ولم یستبعد الشیخ محمدحسین الأصفهاني، المعروف بالکمپاني في تعریفه للاجتهاد، بعد أن اعترف بضرورة وجود الملکة فیه، أن أحکام الاجتهاد الشرعیة لیست مترتبة علی نفس الملکة – لوحدها – بل تستلزم أیضاً في الغالب فعلیة الاستنباط جملة، و بعبارة أخری، فإن فعلیة الاستنباط جملة هي أیضاً جزء من موضوع أحکام الاجتهاد بالإضافة إلی الملکة. و لذلک فقد عرف الاجتهاد بدنه «تحصیل الحجة علی الحکم الشرعي استناداً إلی الملکة»؛ أي أنه لم یعتبر الاجتهاد هو الملکة نفسها من خلال الأخذ بنظر الاعتبار قید «الملکة»، بل إنه ضمّنه أیضاض تحقیق الملکة (5/ 363). وفي الحقیقة، فقد اعتبر الجنس في تعریفه «تحصیل الحجة الصادرة عن الملکة»، خلافاً للتعاریف التي اعتبرت فیها «الملکة» هي الجنس (ملکة یقتدربها...).

 

أدوار الاجتهاد

یعود تاریخ الاجتهاد إلی عصر النبي الأکرم (ص). ورغم أن الآیات و السور المکیة في القرآن تبین في الغالب الأخلاق و الأسس العقائدیة و هي التوحید و النبوة و المعاد، إلا أنها تضم في ذات الوقت الخطوط العامة للأحکام أیضاً مثل النهي عن الربا و شرب الخمرة والأمر بالصلاة والزکاة، حیث تسلط الضوء علی جانبها الأخلاقي. وقد تم إبلاغ القسم الأکبر من الأحکام والأوامر والنواهي الإلهیة من قبله (ص) في فترة إقامتة في المدینة، وتشکیله الحکومة الإسلامیة، وذلک في قالب الآیات المدینة في القرآن الکریم. وبذلک فقد ظهر في عهد حیاة الرسول (ص) کلا المصدرین الأساسیین لاستنباط الأحکام، أي الکتاب و السنة إلی جانب بعضهما. و فیما یتعلق بـ «السنة» التي هي قول رسول الله (ص) و فعله و تقریره، یری علماء أهل السنة أن الرأي الشخصي للني (ص) کان له دور أیضاً، ویقصد هؤلاء العلماء من رأي النبي، اجتهاد الرأي و الأخذ بالقیاس، و لیس معرفة النصوص، لأن المراد من النصوص کان واضحاً للنبي (ص)، و لم تکن صعوبة فهم المراد من اللفظ المشترک، أوتعارض الددلة تعنیان شیئاً له (ص) (ابن نظام‌الدین، 2/ 366). وفوق ذلک فإن اجتهاد النبي (ص) من کل الجوانب الثلاثة، أي جوازه، ومجاله و موضعه، و تحققه و وقوعه، أبدیت بشده آراء کثیرة و مختلفة. فمن جهة یری جمهور أهل السنة الجواز العقلي والشرعي لاجتهاد النبي (ص)، حتی إن البعض (ظ: الشوکاني، 255) ادعی الإجماع في باب جوازه العقلي. و من جهة أخری أنکر أبو علي الجبائي، و أبو هاشم الجبائي، و القاضي عبدالجبار من المعتزلة الجواز العقلي للاجتهاد، و رفض أبوالحسن الأشعري و أتباعه جوازه الشرعي (ابن نظام‌الدین، ن.ص؛ الإسنوي، 4/ 529-531؛ علاءالدین البخاري، 3/ 205). وهناک أیضاً اختلاف بشأن موضع اجتهاد النبي و مجاله و هو هل أن رسول الله (ص) کان له الحق في أن یجتهد في کل من الأحکام و الموضوعات، أم في الموضوعات فقط؟ و یتفق علماء أهل السنة بشأن اجتهاد النبي في الموضوعات مثل الحرب و القضاء (ن.ص)، حتی إن الشوکاني (ن.ص) ادعی الإجماع في ذلک؛ و أما فیما یتعلق بالاجتهاد في الأحکام الشرعیة، و فتیاه في الأحکام فهناک اختلاف (الشوکاني،ن.ص؛ الإسنوي، 3/ 264-268؛ أمیربادشاه، 4/ 185؛ ابن أمیر الحاج، 3/ 296).

وفیما یتعلق بوقوع الاجتهاد و تحققه في الأحکام الشرعیة من قبل النبي (ص) یری جمهور أهل السنة و منهم الشافعي و مالک و أحمد بن حنبل و عموم المحدثین أن النبي (ص) کان یدلي بالجواب بمجرد وقوع الحادثة، أو طرح السؤال دون أن ینتظر نزول الوحي، و ذلک استناداً إلی قیاسه و رأیه الشخصي (أمیر بادشاه، ابن نظام‌الدین، ن.صص). ولکن الحنفیین یرون أن النبي (ص) کان یجتهد برأیه بعد أن ینتظر الوحي لفترة دون أن ینزل حکم من جانب الله (ابن أمیر الحاج، 3/ 294؛ السرخسي، 2/ 91، 96؛ علاءالدین البخاري، 3/ 205-206؛ ابن نظام الدین، ن.ص). و تردد البعض الآخر في هذا الخصوص (الشوکاني، 256). وفي هذا المجال مال الغزالي إلی التوقف في أحد المواضع (المستصفی، 2/ 355)، و نفی في موضع آخر (المنخول، 468) الاجتهاد في القواعد و الأصول، و قبله في الفروع. و أما علماء الإمامیة فقد رأوا أن اجتهاد النبي ممنوع شرعاً و عقلاً (العلّامة الحلي، مبادی، 241، نهج‌الحق...، 405-406؛ الکرکي، 298)، فیما رأی البعض مثل الشریف المرتضی (الذریعة، 2/ 310) اجتهاده (ص) جائزاً عقلاً بشرط وجود المصلحة، ولکنه ممنوع شرعاً. ومع کل ذلک، فإن علینا أن نعتبر طوراً من الاجتهاد جائزاً له (ص) حتی فیما یتعلق بالأحکام، فإذا کان بإمکانه أن یصدر الحکم القضائي بموجب البیّنات و الأَیمان فیما یتعلق بالموضوعات المرافَع فیها، فإن باستطاعته أیضاً في باب الأحکام أن یحصل علی أحکام مصادیق الموضوعات من عموم الآیات و إطلاقها و ینقلها إلی المکلفین. و ذلک لأن هذا النوع من الاجتهاد هو أمر عقلائي و قطعي الاعتبار، ولاتمکن مقارنته أبداً مع الرأي و القیاس، اللذین لاحجیة لهما لأي شخص من وجهة نظر الشیعة.

و فیما یتعلق بباب اجتهاد الأئمة المعصومین (ع)، فإن علینا أن نبدي رأینا علی الشاکلة نفسها. فأصحاب النبي (ص) لم یکونوا بحاجة ماسة طبعاً أثناء حیاته إلی الاجتهاد بسبب سهولة الحصول علی أجوبة یقینیة لحل مشاکلهم. ومع ذلک فقد کانوا یستخدمون في الحالات النبي لم یکونوا یستطیعون فیها الاتصال بالمعصوم (ع)، نصوص القرآن والسنة و عموماتهما و إطلاقاتهما و ظواهرهما الأخری استناداً إلی فهمهم، و یتوصلون بذلک إلی أحکام الموضوعات، و قد کان ذلک یعتبر بحد ذاته نوعاً من الاجتهاد البسیط و الابتدائي. و یمکن حمل بعض النماذج التي نقلها القائلون باجتهاد الصحابة في حیاة الني (ص) علی هذا النوع من الاجتهاد مثل حکمیة سعد بن معاذ في حق بني قریظة في حضور النبي الأعظم (ص)، و تأییده (ص) له (ابن هشام، 3/ 249-251)؛ أو اجتهاد أصحابه بشأن أمره (ص) بأن لایؤدوا صلاة العصر حتی الوصول إلی حي بني قریظة، و عمل الصحابة بکلا الحالتین دون أن یوبخ النبي (ص) أیاً من الفریقین (ظ:البخاري، 5/ 50)، أو إجابة معاذ بن جبل علی سؤال النبي (ص) عندما بعثه علی قضاء الیمن بقوله «أجتهد برأیي»، والذي حظي بتأییده (ص) استناداً إلی الروایة (أبو داود، 3/ 303).وقدنقل علماء أهل السنة في الغالب اجتهاد الصحابة في عهد النبي (ص) استناداً إلی آرائهم الشخصیة ولکن یوجد في نفس الوقت اختلاف کبیر في الآراء بینهم. و قد رفض عدد قلیل من علماء أهل السنة جواز اجتهاد الصحابة مطلقاً (ظ: الغزالي، المستصفی، 2/ 354؛ ابن أمیر الحاج، 3/ 301؛ الامدي، 4/ 407)، ولکن أکثر الأصولیین قالوا بجوازه سواء کان الصحابي یعمل في القضاء و الإفتاء، أو لا، و سواء کان في حضور النبي (ص)، أم بعیداً عنه (البدخشي، 3/ 269؛ أمیر بادشاه، 4/ 193).وکان هناک في مقابلهم فریق آخر اعتبروا غیاب النبي (ص)، وکذلک کون الصحابي والیاً و قاضیاً شرطاً (الغزالي،ن.ص؛ العطار، 2/ 427؛ الآمدي، ن.ص). کما توجد في باب تحقق ووقوع اجتهاد الصحابة في حیاة النبي (ص) عدة آراء (ظ: ابن أمیر الحاج، 3/ 301-302؛ ابن نظام‌الدین، 2/ 375؛ الآمدي، 4/ 407-408؛ الغزالي، ن.م، 2/ 355).

ومع وفاة النبي الأعظم (ص)، انتهی أیضاً نزول الوحي، وتولی الصحابة إدارة الحکومة الإسلامیة، و کان یتوجب علیهم أن یجدوا أجوبة للمسائل المستحدثة، و المشاکل الجدیدة. وقد کان الأسلوب السائد و المتبع من قبل الخلفاء و عموم الصحابة یتمثل في أنهم کانوا أولاً یحکمون في المسألة إن وجدوا جوابها في کتاب الله و السنة، وإلا کانوا أحیاناً یتشاورون مع الصحابة الآخرین، أو یصدرون الفتوی استناداً إلی آرائهم الشخصیة، و علی أساس تحدید المصلحة. وفي هذه الفترة انتشر الاجتهاد بالرأي للعثور علی الحکم في حالات فقدان النص إلی حد بحیث کان البعض یجتهد أیضاً مع وجود النص، ویؤخذ باجتهاده، بل والأکثر من ذلک أن أخطاء الصحابة الواضحة کانت تبرر أحیاناً باعتبارها اجتهادات و تأویلات. و قد ثبت عمل الصحابة بالقیاس و الرأي في مقام الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیة في قضایا عدیدة (ابن قیم، 1/ 61، 203، مخـ)، ومع ذلک، فقد کان بین الصحابة أشحاص یتجنبون اجتهاد الرأي کلیة، وإبداء الآراء الشخصیة في الأحکام الشرعیة (ظ: أبو زهرة، تاریخ ...، 2/ 21-22؛ خضري، 116). ورغم أن تفرق الآراء کان یلاحظ علی نطاق واسع في هذه الفترة بسبب القرب من مصدري التشریع الإسلامي الأصیلین و سهولة التوفر علیهما، إلا أن حصیلة اجتهادات الصحابة کانت في نفس الوقت مختلفة في الکثیر من الحالات (م.ن، 117-124)، ولکن هذه الاختلافات لم تکن تُقَبَّح و تُدان فحسب، بل إن اختلافات علماء الأمة هذه اعتبرت علی العکس من ذلک بوارق من الرحمة الإلهیة (الشاطبي، الاعتصام، 2/ 170-171؛ أبوزهرة، ن.م، 2/ 27).

وفي عصر التابعین ازداد اتساع نطاق الاجتهاد الحر بالقیاس إلی عهد الصحابة، و قد کان من الطبیعي أن یساعد علی ذلک أمور من قبیل البُعد عن زمان نزول الوحي، و ظهور بعض الغموض في فهم النصوص، ووقوع المسائل و المشکلات الکثیرة التي لم یکونوا یواجهونها في سیرة النبي (ص) و عهد کبار الصحابة والخلفاء الراشدین، و رغم أنه کان مایزال هناک بین التابعین أشخاص یتجنبون بشدة التأویل والاجتهاد الحر (ظ: ابن قیم، 1/ 73-75). کما لم یزل هناک في بدایة هذا العهد صغار الصحابة الذین تفرقوا في البلاد الإسلامیة المختلفة، وکانوا منشغلین بتعلیم القرآن والفقه، وکل منهم یمثل ملجأ و مرجعاً علمیاً وفقهیاً للناس في محال إقامتهم إلی جانب تلامیذهم الذین عرفوا فیما بعد بـ «التابعین»، ولم تکن المذاهب الفقهیة قد ظهرت بعد في هذا العهد، ولم یکن تقلید مذهب خاص وفقیه معین یعني شیئاً. ولذلک فإن مصادر الاجتهاد کانت هي نفسها مصادر عهد الصحابة، مع‌هذا الاختلاف و هو أن التابعین کانوا یهتمون أیضاً بأقوال الصحابة و فتاواهم، و کانوا یرون وجهة نظرهم الفقهیة هي المعتبرة في حالات إجماعهم، أو اتفاق غالبیتهم في الرأي، ویعتبرونها من مصادر الفقه (ظ: أبوزهرة، ن.م، 2/ 34-37).

وفي أواخر عهد التابعین، ظهر بین تلامذتهم فقهاء و مجتهدون کبار مثل أبي حنیفة وسفیان الثوري ومالک بن أنس و الشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل و داود الظاهري و الطبري، وقد وجدوا أثناء حیاتهم أنصاراً، وازداد أتباعهم بعد وفاتهم، وفي هذا العصر – الذي یجب اعتباره حقاً أهم عصر في فقه أهل السنة واجتهادهم – ظهرت المذاهب الفقهیة الواحد تلو الآخر، وازداد تنوعها و اتساعها. و بلغت الاختلافات الفقهیة بین المذاهب حداً بحیث ظهر في أوائل القرن 2 حتی منتصف القرن 4هـ، 138 مذهباً و التف حول کل منها عدد من الأتباع. و شیئاً فشیئاً تواجه فيالعراق والحجاز المذهبان الفقهیان الرئیسان لدهل الرأي وأهل الحدیث – واللذان کانا کلاهما قد تأسا منذ عهد الصحابة والتابعین – فمذهب أهل الرأي بزعامة أبي حنیفة النعمان بن ثابت في العراق، ومذهب أهل الحدیث بقیادة مالک بن أنس في الحجاز. و بذلک وضعت المصطلحات الفقهیة الأساسیة مثل القیاس و الاستحسان والمصالح المرسلة و غیرها في القرنین 2 و3هـ. واتسعت مصادر الاجتهاد کماً وکیفاً قیاساً إلی عصر التابعینف واعتُمد القیاس الذي یعتبر من أرکان اجتهاد الصحابة والتابعین في فقه أبي حنیفة علی نطاق واسع حتی ضُرب المثل بـ «قیاس أبي حنیفة» (ظ: القلقشندي، 1/ 453). وکان الشافعي أیضاً یستخدم القیاس، بل إنه کان یری الاجتهاد مترادفاً مع القیاس (الرسالة، 477). وکان أحمد بن حنبل یعمل بالقیاس في حالة عدم توفر الدلیل النقلي (ابن قیم، 1/ 32)، وکثیراً ما کان أتباعه و منهم ابن تیمیة و ابن قیم الجوزیة یؤیدون الأخذ بالقیاس في الاجتهاد بتشدد أکثر منه (ظ: ابن تیمیة، مخـ؛ ابن قیم، 1/ 130 وما بعدها). وفي مقابل فقهاء مذاهب أهل السنة، کانت الظاهریة تنکر القیاس بشکل کامل (ظ: ابن حزم، مخـ).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: