الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / الاجتهاد /

فهرس الموضوعات

الاجتهاد

الاجتهاد

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/8 ۲۱:۵۱:۰۱ تاریخ تألیف المقالة

اِلْاِجْتهاد، مصطلح فقهي یدل علی اجتهاد الفقیه و بذل سعیه وجهده للتوصل إلی الحکم الشرعي من مصادر الفقه. و یدعی الفقیه الذي یستنبط الأحکام باجتهاده بـ «المجتهد»، وأما الشخص الذي یقلده فیسمی «المقلِّد».

 

تاریخ نشأة الاجتهاد

من خلال الرؤیة التاریخیة إلی الشکل البدائي للاجتهاد في الفقه الإسلامي، علینا أن لانعتبره منفصلاً عن عنصر «الرأي» أبداً، ذلک لأن تعبیر «اجتهاد الرأي» باعتباره مصطلحاً، کان مطروحاً علی نطاق واسع للتعریف بأسلوب نظري للإجابة علی بعض المسائل الفقهیة في القرون الهجریة الأولی، دون أن یکون «استخدام الرأي» ظاهرة منفصلة عن «اجتهاد الرأي». وقد سجلت في عهد الصحابة نماذج من استخدام الرأي في إجابات بعض الصحابة علی الأسئلة الفقهیة، وقد أطلق علیها في الآثار المدونة اللاحقة اسم «الاجتهاد». ورغم أن استخدام اجتهاد الرأي لم یکن محدوداً مبمنطقة خاصة، إلا أن الدور الأساس الذي أداه فقهاء العراق و خاصة الکوفیین في بیان أسس الاجتهاد و تثبیتها، أقر علاقة وثیقة بین اجتهاد الرأي و مدرسة الکوفة دوماً.

وقد تبقت منذ عهد الصحابة، روآیات مختلفة تشیر إلی أن الفقهاء العراقیین و الحجازیین کانوا یختلفون في وجهات النظر بشأن بعض مسائل الفقه الاجتهادیة (علی سبیل المثال، ظ: عبدالرزاق، 2/ 225؛ مالک، 19). ولذلک فقد کان الصحابة الحجازیون ینتقدون في الحقیقة نزعة العراقیین إلی الرأي من خلال نقد «الفتیا العراقیة» (مثلاً ظ: عبدالرزاق، 1/ 575).

وفي العقود الأخیرة من القرن 1هـ، کان قسم لایستهان به من وجوه الاختلاف بین فقه العراق و الحجاز یعود إلی «اجتهاد الرأي». ودون أن نتناول أسباب تلک الظاهرة، علینا هنا أن نکتفي بالإشارة إلی هذه الملاحظة التي تتمثل في أن مذاهب العراق الفقهیة کانت تنزع إلی اجتهاد الرأي أکثر من الحجاز، و قد کانت تقود الفقه إلی التعقید الأکثر و الحداثة، و في الحقیقة یجب تقسیم مراحل تعقید الفقه و مسیرته نحو التدوین إلی ثلاث مراحل: الأولی، المرحلة التي کان یتم الرجوع فیها إلی الفقیه في أحداث الحیاة الیومیة، و کان الفقیه فیها یجیب علی تلک الأسئلة فقط، وأحیاناً یتجنب الإجابة الصریحة، ویسلک سبیلاً قریباً من الاحتیاط، أو وسطاً (الفقه الأولي)؛ الثانیة، هي المرحلة التي کانت تطرح فیها الأسئلة الفرضیة في الأوساط الفقهیة، و تقدم علیها الأجوبة اللازمة (الفقه التقدیري)؛ و أما المرحلة الثالثة فقد تحول فیها لافقه إلی علم مدون (الفقه المدون). ورغم أننا لانستطیع النظر إلی هذه المراحل الثلاث إلا بشکل نسبي، لکن یبدو أن اجتهاد الرأي کان له مفهومه الخاص في کل من هذه المراحل.

وحتی منتصف القرن 2 هـ، کان علم الفقه قد اجتازه هذه المراحل، وقد کانت إعادة النظر في استخدام اجتهاد الرأي هي التي مهدت الطریق لاجتیاز مرحلة إلی أخری. وتکشف لنا دراسة المصادر بوضوح، أن اندفاع العراقیین في اجتیاز هذه المراحل کان أکثر بمرات من الحجازیین. و هناک وثائق تدل علی أن فقهاء الکوفة في النصف الثاني من القرن 1 هـ أبدوا اهتماماً خاصاً لاستخدام اجتهاد الرأي؛ ورغم أن هذه الوثائق الروائیة تعود بالموضوع إلی عهد النبي (ص) و أصحابه، إلا أن بالإمکان من خلال بحث إسنادها الروائي باعتبارها مصدراً تاریخیاً، إثبات شیوع استخدام اجتهاد الرأي في حالة عدم العثور علی حکم من المصادر النقلیة، و طرحه کرأي في النصف الثاني من ذلک القرن، و ذلک استناداً إلی تلک المصادر. ومن جملة هذه الإسنادات روایة عمارة بن عمیرة الذي کان فقیهاً من الطبقة الثانیة للتعابعین في الکوفة، نقلاً عن ابن مسعود. حیث تسلط الضوء علی الإطار العام للأدلة الفقهیة، و من الواجب بمقتضاها الرجوع إلی آراء الصالحین (الصحابة) في حالة عدم العثور علی حکم المسألة في الکتاب والسنّة، وفي حالة عدم العثور علی حکم منهما یجب العمل باجتهاد الرأي (ظ: النسائي، 8/ 230؛ الدارمي، 1/ 60؛ أیضاً ظ: الخوارزمي، 2/ 112-113). کما روی عامر الشعبي فقیه الکوفة المعروف رسالة عن عمر بن الخطاب إلی شریح القاضي، اشتملت علی مضمون مماثل، ودار الحدیث فیها عن اجتهاد الرأي في معرض التوصیة بالاحتیاط في الفتوی (النسائي، الدارمي، ن.صص). وقد کانت هناک روایة کوفیة ثالثة متداولة، نقلاً عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو، نسب فیها مضمون القول المنسوب إلی ابن مسعود، إلی معاذ بن جبل، وقد قرن فیها تأیید النبي (ص) باجتهاد الرأي (أبوداود، 3/ 303؛ الترمذي، 3/ 616).

وإلی جانب هذه الطائفة من الروایات، کانت هناک تعالیم أخری واسعة الانتشار، کانت تروی في قالب أحادیث نقلاً عن صحابة مثل عمرو بن العاص و أبي هریرة عن النبي (ص)، مضمونها أن الفقیه إن اجتهد، فسوف ینال أجرین إن أصاب، وأجراً واحداً علی الأقل إن أخطأ (ظ: البخاري، 8/ 157؛ مسلم، 3/ 1342). وهذا الحدیث الذي أصبح فیما بعد أساس نظریة «التصویب» (ظ: القسم التالي من المقالة) کان من شأنه أیضاً أن یکون في المراحل الأولی من ظهور الفقه تأییداً مناسباً لنهج أصحاب الاجتهاد.

وقد کان ابن مسعود و تلامذته في الکوفة یمثلون المرحلة الأولی من الفقه الکوفي، حیث کانوا یجتهدون بالرأي للإجابة علی مسائل الحیاة الیومیة فقط، غیر أنهم کانوا یتجنبون مواجهة مسائل الفقه التقدیریة، ویحذرون أیضاً الآخرین من التطرق إلیها (مثلاً ظ: الدارمي، 1/ 46-48، 54؛ الخوارزمي، ن.ص). وکان یتواجد إلی جانبهم بشک لفعال عدد من الباحثین في المسائل التقدیریة، أطلق علیهم اسم «أصحاب أَرَأیتَ» رغم اعتراضات أصحاب السلف (أصحاب الأثر) في الأوساط الفقهیة (مثلاً ظ: الدارمي، 1/ 65-66). وقد کان إبراهیم النخعي و عامر الشعبي فقیها الکوفة البارزان و من أصحاب الأثر، یتمسکان في النصف الثاني من القرن 1 هـ باجتهاد الرأي في حدود الإجابة علی مسائل الحیاة الیومیة، استناداً إی المستندات الروائیة، في حین أنهما کانا یخالفان العمل بالقیاس، و کذلک الاتساع التقدیري للفقه (ظ: م.ن، 1/ 52، 65-67). وفي نفس الوقت کان هناک في البصرة فقهاء کبار، مثل الحسن البصري و ابن سیرین، یأخذون باجتهاد الرأي في إطار محدود، رغم المعارضات التي کانوا یبدونها بشأن القیاس (ظ: م.ن، 1/ 65؛ کمثال، ظ: ابن أبي داود، 178). وحتی محاربة فقهاء أهل الأثر للقیاس، لم یکن تجنبها عملیاً، ذلک لأن بالإمکان العثور أحیاناً علی نماذج من العمل بالقیاس في الآراء الفقهیة لأشخاص، مثل سعید ابن جبیر الکوفي و الحسن البصري (مثلاً ظ: عبدالرزاق، 1/ 310، رقم 1187، 1267).

ومع کل ذلک، فإن «أصحاب أَرَأَیْتَ» الذین لم یکونوا متمتعین بنفوذ في الماضي، کانوا في الطبقة الثالثة من التابعین أشهر فقهاء العراق باقتضاء الظروف التاریخیة و الاجتماعیة. و لعل القاسم بن عبدالرحمان حفید ابن مسعود الذي کان من فقهاء الکوفة في عصر النخعي والشعبي، کان یتعامل أکثر من الناحیة العلمیة مع مسائل لا أجوبة لها من خلال عمله في القضاء (ابن سعد، 6/ 212). فکان یدفع تلمیذه محارب بن دثار إلی «الانبساط» في الفقه (ظ: المرضد بالله، 1/ 219). وعلی أي حال، فإن المیزة الأبرز لهذا التطور، تتمثل في حماد بن أبي سلیمان الأستاذ الأصلي لأبي حنیفة في الفقه، الذي کان یسعی في فترة دراسته لأن یتلقی بشتی الأسالیب الأجوبة علی الأسئلة التقدیریة المختلفة من إبراهیم النخعي (ظ: الدارمي، 1/ 52). وقد أصبح حماد الذي عرف فیما بعد کأحد الفقهاء المهمین لمذهب «أهل الرأي» مرجعَ أتباعه بعد وفاة إبراهیم النخعي (96هـ/ 715) (ظ: ابن سعد، 6/ 232)، کما شغل مکانه من بعده نظیره الفقیه الحکم بن عتیبة الذي یع بدوره من أساتذة أبي حنیفة، وذلک بعد وفاة الشعبي (104هـ) (ظ: م.ن، 6/ 231). وفي الحقیقة، فقد کان هذان الاثنان اللذان کانا في عصرهما أهم مدار لصدور الفتوی في الکوفة (ظ: م.ن، 6/ 223)، یعتبران زعیمي الحلقتین الکوفیتین المنسوبتین إلی النخعي و الشعبي. و هذا الاستبدال یشیر بوضوح إلی أن دخول اجتهاد الرأي في مرحلة جدیدة، لم یکن مجرد انتصار لأصحاب أرأیتَ علی أصحاب السلف في قالب تغلب أقلیة علی بیئة الکوفة الفقهیة فحسب، بل یجب اعتباره في الحقیقة تطوراً طبیعیاً في تعالیم الحلقات التقلیدیة للفقه الکوفي.

وفي العقدین الأولین من القرن 2 هـ ترسخت مکانة الفقه التقدیري واجتهاد الرأي في مدرسة الکوفة، وانسحبت محاربة اجتهاد الرأي إلی الهامش. و علی سبیل المثال، علینا أن نذکر عبدة بن أبي لبابة الذي کان أحد فقهاء أصحاب الأثر في ذلک العصر، والذي کان قد ضاق ذرعاً بـ «أصحاب أَرَأَیتَ»، و کان یتمنی أن یترکوه و شأنه، ولایسألوه (الدارمي، 1/ 67).وفي هذه الفترة أذعن الحجاز أیضاً للفقه التقدیري و الشکل الجدید من اجتهاد الرأي، بحیث إن العطاء بن أبي رباح مفتي مکة کان یولي الأهمیة لمسائل الفقه التقدیري، ویعلن بصراحه أن آراءه تستند في طائفة منها علی الأثر، وفي طائفة أخری علی اجتهاد الرأي (ظ: ابن سعد، 5/ 345؛ عبدالرزاق، 2/ 8-9، مخـ)؛ وفي المدینة عُرف ربیعة بن عبدالرحمان أیضاً بـ «ربیعة الرأي» من خلال التحلیل الفقهي علی أساس الرأي والأثر. وعلینا هناأن نشیر أیضاً إلی الرأي المنسوب إلی واصل بن عطاء مؤسس الاعتزال کوجهة نظر تستحق الاهتمام فیما یتعلق بالاجتهاد في هذا العصر، واستناداً إلیها یجب علی الفقیه انتهاج طریق «العقل السلیم» في حالة فقدان دلیل من الکتاب والسنّة (القاضي عبدالجبار، 234، 236). ورغم أن تقدیم نظام واضح لاستخدام العقل السلیم في ذلک العصر هو أمر مستبعد، إلا أن علاقة الاستبدال بین الاجتهاد و عنصر العقل تحظی بأهمیة فائقة في هذه النظریة، في نفس الوقت الذي لم ترد فیه من الناحیة العملیة إشارة إلی الاجتهاد. و تجب الإشارة فیما یتعلق ببدایة عهد التدوین في الفقه الکوفي إلی مکانة أبي حنیفة بشکل خاص. فقد کان یری أمامه طریق الاجتهاد و العمل بالرأي مفتوحاً و کان یعتبر هذا الأسلوب نهج کبار التابعین، و ذلک استناداً إلی الأسلوب السائد في ذلک العصر بین الکوفیین في حالة فقدان الأدلة النقلیة. و منوجهة نظره، فإن الهدف من الاجتهاد هو الحصول علی أقرب حکم إلی الحکم الحقیقي، أو «الصواب»؛ وتوضیحاً لذلک علینا أن نضیف أن اجتهاد الرأي في مجال الأحکام التعبدیة کان له استخدام محدود للغایة، و قد کان العمل بالاجتهاد علی نطاق واسع سائداً في أحکام الشریعة المرتبطة بموضوعات الحیاة الیومیة، و لم یکن التعبد و التقرب السبب و الحکمة الأساسیة لوضعها، بل لإیجاد نظام حقوقي و جزائي نزیه في المجتمع (ظ: ن.د، 4/ 532-533). وقد کان تنظیم الأسالیب و تقنینها، والتدوین النسبي لمبادئ الاجتهاد النظریة، هو الذي یطرح اجتهاد الرأي في فقه أبي حنیفة بشکل متمیز بین معاصریه (ظ: ن.ص). ورغم أن أبا حنیفة نفسه لم یؤلف أي کتاب في هذا المجال، إلا أن أول من عمد من تلامذته إلی بیان الأسس النظریة للاجتهاد هو محمد بن الحسن الشیباني في مؤلف بعنوان «اجتهاد الرأي» (ابن الندیم، 257)، وقد واصل هذه الحرکة في الأجیال التالیة أتباع أبي حنیفة الآخرین مثل عیسی بن أبان و علي بن موسی القمي من خلال تألیف آثارمستقلة في هذاالباب (ظ: م.ن، 258، 260).

وقد تعرض بعض التیارات للاجتهاد الحنفي في أواخر القرن 2هـ بالنقد. فقد بادر الشافعي من خلال تدوین کتاب الرسالة إلی بیان أصول الاستنباط الفقهي في إطار غیر حنفي، ورفض في هذا الأثر أي نوع من الآراء الفقهیة یتجاوز القیاس عبر التأکید علی حجیة القیاس، و اعتبر «الاجتهاد» کلمة مرادفة للقیاس (ظ: ص 477)،ولکن مصطلح «أهل القیاس» کان یستخدم أحیاناً في تاریخ الفقه الإسلامي کفکرة تقابل «أهل الاجتهاد (ظ: أبوهلال، 61)، وفي الحقیقة کان یبرز الفرق بین القائلین بمحدودیة الاجتهاد بالقیاس. و بین القائلین بتعمیم الاجتهاد.

کما تعرض الاجتهاد الحنفي للهجوم الشدید من قبل المعتزلة المتقدمین – الذین کانوا ینزعون في الفقه إلی نوع من القول بأصالة الظاهر – فنقض مفکرون أمثال بشر بن المعتمرو ثمامة بن أشرس وأبي موسی المردار و جعفر بن مبشر من خلال تألیف آثار في الرد علی المذهب الحنفي، الاجتهاد حتی في نطاق القیاس (ظ: الخیاط، 81؛ ابن الندیم، 186، 207، 208؛ ابن أبي الحدید، 20/ 31). وبالطبع فإنهم و منذ النصف الثاني من القرن 3هـ، أبدوا وجهة نظر إیجابیة أیضاً بشأن اجتهاد الرأي إثر التغییر الذي حدث في المسار العام لنظام المعتزلة الفقهي، و قد تجسدت ثمرة ذلک في کتاب الاجتهاد لأبي هاشم الجبائي (ظ: ابن الندیم، 222). کما ألف ابن الراوندي المفکر الذي تلقی تعالیمه الأولی من مدرسة المعتزلة، ثم ارتبط فیما بعد بمدرسة الإمامیة، کتاباً في مجال «إثبات اجتهاد الرأي» أیاً (ظ: م.ن،225).

ومن جهة أخری، فإن علماء أصحاب الحدیث المعارضین التقلیدیین لأصحاب الرأي لم یکونوا أبداً یهددون أساس الاجتهاد، رغم انتقاداتهم الدائمة للاجتهاد الحنفي (ظ: ن.د، 4/ 542، مخـ)، و تدل المقارنة بین الآراء الفقهیة لأبي حنیفة وسفیان الثوري اللذین کانا أبرز ممثلي أصحاب الحدیث، علی أن الاختلاف بین هاتین المدرستین لم یکن في أساس الاجتهاد، بل کان أکثر ارتباطاً بجوانبه التطبیقیة (ظ: ن.د، 4/ 529، أیضاً أصحاب الحدیث). و بصورة عامة، فإن علماء أصحاب الحدیث کانوا یؤیدون دائماً في آثارهم أساس الاجتهاد، و أفضل شاهد علی ذلک فتح باب بعنوان «الاجتهاد» و ذکر روایات مؤیدة له في صحیح البخاري (8/ 1150) و سنن أبي داود (3/ 303)، من الصحاح الستة. وقد رجح بصراحة أبوالحسین ابن المنادي من علماء أصحاب الحدیث في القرن 3هـ، في کتاب بعنوان تفضیل الفقهاء المستنبطین علی المحدثین، فقهاء أهل الاجتهاد علی المکتفین بالروایة (ظ: الونشریسي،12/ 315).

وفي النصف الثانيمن القرن 3هـ، کانت روح التقلید تتغلب تدریجیاً علی روح الاجتهاد عملیاً، علی‌الرغم من أن جمیع المذاهب الفقهیة کانت تصر علی أهمیة الاجتهاد من الناحیة النظریة، وقد کان فقهاء مثل محمد بن جریر الطبري وابن خزیمة وابن المنر (توفوا کلهم بین 310-318هـ) البقیة الباقیة من الفقهاء الذین کانوا یرون أنفسهم أحراراً في الاجتهاد. وفي الحقیقة، فإن المذاهب المختلفة لفقه أهل السنّة کانت قد وصلت بشکل متزامن نذ أواخر القرن3هـ وعلی إثر سلسلة من الأسباب الاجتماعیة، إلی هذه النتیجة المشترکة، وهي أن یعمدوا إلی بسط و تفریع المذاهب الموجودة بدلاً من إیجاد مذاهب فقهیة جدیدة. و قدکانت مذاهب الطبري والفقیهین المعاصرین له قد أسست علی أساس المذاهب السابقة إلی حد کبیر. و کان أغلب الفقهاء في عصر الطبري یعتبرون في عداد أتباع أحد المذاهب الفقهیة الشائعة؛ و هو الوضع الذي ترسخ في القرن4هـ أکثر من ذي قبل، و أدخل فقه أهل السنة في مرحلة جدیدة (ظ: مبحث انسداد باب الاجتهاد في القسم التالي من المقالة).

وفیما یتعلق بعصر الأئمة (ع) (حتی 260هـ/ 874م)، یجب التذکیر بأن «اجتهاد الرأي» و أحیاناً «الاجتهاد» بشکل مختصر، تعرضا للذم باعتبارهما نوعاً من التجاوز عن السنة، في روآیات علی لسان الأئمة (ع) (کمثال صریح، ظ: البرقي، 211)، ولکننا یجب أن لانعتبر ذلک أبداً بمفهوم النفي الشامل للأسالیب الاستنباطیة، بل و حتی العمل بالرأي في فقه الإمامیة الأول. ورغم أن الدراسات الحالیة للتوصل إلی معرفة دقیقة للمکاتب والاتجاهات الموجودة في مجالات فقه الإمامیة في القرون الأولی، تعاني من نقص کبیر، إلا أن بالإمکان تسلیط الضوء بشکل عام علی عدة تیارات متمیزة نسبیاً کانت توظف في فقهها فکراً تحلیلیاً یتجاوز نصوص الروایات.

ویمثل التیار الأول، و هو مکتب کلامي – فقهي، عبر الأجیال المتعاقبة علماء مثل هشام بن الحکم، و یونس بن عبدالرحمان، و أبي جعفر السکاک، و الفضل بن شاذان (عن هذه السلسلة، ظ: الکشي، 539). وقد وصلتنا فیما یتعلق بهذا المذهب معلومات عن الأخذ بالاجتهاد، بل و حتی العمل بأنواع من القیاس عن یونس و ابن شاذان علی الأقل (ظ: الشریف المرتضی، «مسألة...»، 311؛ أیضاً ظ: ن.د، 3/ 343). وعلیناً أن نذکرمن التیار الثاني فقهاء آل أعین و علی رأسهم زرارة بن أعین، و عبدالله بن بکیر من بعده و اللذان عرفا بنوع من النزعة إلی الرأي (ظ: الکشي، 156؛ الشیخ الطوسي، لااستبصار، 3/ 271-272، 276) حتی تعرض نزوع زرارة إلی الرأي للنقد من قبل مدرسة یونس بن عبدالرحمان، باعتباره نهجاً متطرفاً (ظ: الکشي، ن.ص؛ قا: الکلیني، 7/ 101؛ عن الروایات الدالة علی مضاهاة زرارة لأبي حنیفة، ظ: الکشي، 145، 146، 149). وفیما یتعلق بالتیار الثالث یمکننا أن نذکر رجالاً مثل هشام بن سالم و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، حیث کانوا یطرحون رأیاً حول استنباط الأحکام الفقهیة نقلاً عن الأئمة (ع)، یتولی بموجبه الأئمة إلقاء أصول الأحکام فیما یقع تفریع و نشر هذه الأصول علی عاتق الفقهاء (ظ: ابن إدریس، 477، نقلاً عن جامع البزنطي؛ قا: روایة مشابهة نقلاً عن زرارة و أبي بصیر، المجلسي، 2/ 345). وقد استمرت هذه التیارات التي یمکن تسمیتها مع قدر من التسامح اصطلاحاً بـ «أهل الاجتهاد»، أو «أهل الاستنباط» علی الأقل، استمرت في مسیرتها بشکل واضح حتی عصر الغیبة (260هـ)؛ ولکن کان في مقابلها جو من محاربة الرأي في أوساط الفقه الإمامي، حیث کان حکم کل مسألة یعتبر استناداً إلی تعالیمها «معیّناً» في الکتاب والسنة، ویعد أي نوع من الاجتهاد و الاستنباط خارج نطاق هذه النصوص غیر جائز. و نحن نشعر بهذه الحالة بشک لواضح في جمیع أرجاء الآثار القدیمة لمحدثي الإمامیة.

وعلینا أن نذکّر دون أن نقصد نفي جمیع الحالات الاستثنائیة، بأن هذا الجو المحارب للرأي طغی علی الإمامیة في بدایة عصر الغیبة، و قد کان هذا الاتجاه موجوداً لدی محدثي الإمامیة و متکلمیهم بشکل مشترک. وفي نفس الوقت الذي کانت قد قبلت فیه المذاهب الفقهیة، والفقهیة الکلامیة الأخری سوی أقلیة من أصحاب الظاهر «اجتهاد الرأي» کأسلوب مستحسن في الإجابة علی المسائل الفقهیة، کان الإمامیة یحاربونه بشکل متواصل حتی إن الرد علی الاجتهاد و فروعه کان له في هذه الفترة باب خاص في آثار محدثي الإمامیة (مثلاً ظ: الصفار، 319-322؛ البرقي، 209-215؛ النعماني، 91 و مابعدها). وفي الحقیقة، فقد کان الأسلوب المتداول حتی نهایة القرن 4هـ في الخطوات التي خطاها فقهاء الإمامیة من أصحاب الحدیث باتجاه تدوین الفقه الإمامي، یقوم علی وضع نصوص الروایات بحذافیرها تحت تصرف الباحثین عن الفتوی، باعتبارها «حکماً معمولاً به»؛ وتلاحظ في مثل هذه الآثار إضافات و استنتاجات للمؤلفین بندرة (ظ: ابن بابویه، من لایحضره ...، 1/ 3-5؛ الشیخ الطوسي، المبسوط، 2/ 1). ویمکننا أن نذکر من جملة هذه الآثار کتاب الکافي الکبیر للکلیني، و کتاب الشرائع لعلي ابن بابویه و من لایحضر الفقیه لمحمد بن علي ابن بابویه. وکتوضیح لوجهة نظر هذا المذهب، علینا أن نذکّر، بأن فقیهاً مثل محمد ابن بابویه، لم یکتف بنفي الاجتهاد فحسب، بل انتقد أي شکل من التخطي لنصوص الروایات والقیام بـ «الاستنباط» و «الاستخراج» في الفقه (ظ: ابن بابویه، علل...، 1/ 62؛ أیضاً ظ: ن.د، 2/ 432-433).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: