الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبوالمطهر الأزدي /

فهرس الموضوعات

أبوالمطهر الأزدي

أبوالمطهر الأزدي

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/12 ۱۸:۳۳:۳۸ تاریخ تألیف المقالة

ثم یتطرّق إلی أصفهان و الأصفهانیین، ویکشف عن أنه أصفهاني، فیقول:

یاسائلي عن أصفهان و دهلها / حَکَمَ الزمان بنحسهم و خرابها

شبّانها ککهولها و کهولها / کضیوخها و شیوخها ککلابها

هي بلدتي لکنني فارقتها / طفلاً فلم أعبق بلؤم ترابها

ثم یقسم أنه مانسی بغداد بلدته و تربته وأرضه، فأصفهان لاتنعم بجو لطیف وتکتظ بمظاهر القبح (ص 21). ولتعمیم انتقاداته اللاذعة علی سائر الأشیاء، یعمد إلی ذکر أسماء حارات أصفهان و أزقتها (ص 22-23)، فیذکر الکثیر منها مع ترجمته العربیة، ویتعمد أحیاناً إلی استخراج مفاهیم قبیحة مشینة من ترجماته التي تبدو مخالفة للحقیقة، ولکنها تقدم للباحث – رغم سخریتها – أشکالاً صحیحة لأسماء الحارات الفارسیة. وعلی سبیل المثال فإنه عندما یترجم کلمات «ورکان» إلی «گرگها = الذئاب» (ص 23)، و«واذار» إلی «بادآور= منفخ» (ص 22)، فإن ضبط هذه الأسماء یصبح مسلماً به بالنسبة لنا، کما أننا ندرک بدن «الواو» في لهجة أصفهان قد یحل أحیاناً محل «الگاف = من الحروف الفارسیة» و «الباء»، شأنها شأن بعض اللهجات الفارسیة الأخری. وقد ضبط تفضلي و شرح علی هذا النهج 3 کلمات من هاتین الصفحتین (ص 101). و هذه الحارات عبارة عنک سارمرنه، وکلمیرای، و واذار (ظ: ن.ص)، وکورسمان و کورستان، وگورستان، وموشک آباد (ظ: ن.ص؛ للأسماء، ظ: أبو المطهر، ن.ص)، وحارة ورکان (ظ: تفضلي، ن.ص)، وکلمانان، وکوي کران، وکوي کوران، وکربار، ومسجد جوزجیر (أبوالمطهر، 23). ولایلاحظ في حارات أصفهان هذه مهناً و حرفاً محترمة ذات شأن وبال کحرف البغدادیین، بل إن کل أهالیها یمتهنون أعمالاً حقیرة ودنیئة، فها هو علی سبیل المثال حرفيّ یضیح قائلاً: زِبلٍ ... (عبارتان فارسیتان، ظ: قسم الکلمات المعربة في هذه المقالة؛ أیضاً ص 24). و هکذا یطلق أبوالقاسم العنان للحدیث عن مدح بغداد شعراً و نثراً (ص 25-26)، إلا أن هذا المدح لبغداد و الذم الذط ینهال به علی أصفهان یجرانه فجأة إلی وصف جواد فیخصص مایقرب من 10 صفحات من الکتاب لهذا الغرض (ص 26-35). ولعله یمکننا أن نعزو وصفه الممل و غیر المناسب هذا، إلی أنه کان یرید لحدیثه في کل باب یطرقه أن یکون جامعاً شاملاً، ولایستعبد تأثره بروح و أصول مناهج کتب الأدب وکذا المقامات و أسس تدوینها. و قد ورد مثل هذا الاسترسال من الوصف غیر المناسب في مواضع أخری من الکتاب. و بعد وصفه للجواد، یجري مقارنة بین ألبسة و أبسطة المدینتین (ص 35)، ثم یذکر عطور بغداد في صفحتین تقریباً (ص 36-37). ونلاحظ بدهشة أن البغدادیین کانوا یعرفون مایقرب من سبعین نوعاً من العطور.

وینتقل أبوالقاسم من المعاییر الکلیة شیئاً فشیئاً إلی مسائل جزئیة ملموسة للغایة: فبعد تقدیمه أوصافاً غیر مناسبة لبیوت الأصفهانیین، یتجه صوب أبوابهم و جدرانهم التي کنفوها بالطین و لطخوها بالسرجین، وغرفهم التي فرشوها بزلاليّ رُوَیدشتیة و قطف سودانیة ومسوح کردیة ومخاد جابرانیة، وإلی ملابسهم غیر المتناسقة، وأقمشتهم الخشنة في الغالب وهي من غزل بیوتهم، و عمائمهم القبیحة التي تنهدهم علی جوانب خدودهم وتعظی آذانهم، وکذا ملابسهم الأخری: البلاني و السندانة و البنفجي، وکلها نتنة قمیئة (ص 37).

وحینئذ یتفرّع الکلام إلی الأطعمة، و هو أغنی أقسام الکتاب من وجهة نظر الباحث الإیراني: فیلاحظ أکثر من 70 تسمیة فارسیة بین المأکولات البغدادیة العدیدة. وفي سیاق حدیثه هذا یتطرق إلی وصف «الخوان»، فیصف علی سبیل المثال کیفیة عض خواناً قائمیاً [الحَمَل المحشو] (ص 38-41). وفي ختام هذا الفصل، حیث یُرفع الخوان، یمکننا مطالعة أجمل مقطوعات الکتاب: إذ یدخل فرّاس متهلل الوجه، نظیف الثیاب حسن الشمائل، خفیف الروح یناول الضیوف «الخلال السلطاني، أو الخلال المأموني» المطیب، ثم یلقي علی أیدیهم أشناناً أبیض و أبیض و طرح فیه أرز مطحون و طین خراساني و قلیل کندر و صندل وکافور وا إلی ذلک، و هو مزیل لکل و ساخة، أو دهون عالقة بالأیدي. کما یُقدّم معه طست و إبریق صنع بید مهرة، فیغسل الجمیع أیدهم ویجففوها بمندیل في غایة اللطافة و لارقة (ص 41-42).

وإزاء کل هذه الآداب و العادات الأرستقراطیة، نراه یسخر بشدة من أطعمة الأصفهانیین و طریقتهم في تناولها: فهم یبسطون السُّفر الرویدشتیة و یضعون علیها: «بیار بسنه (ربما پیاز [البصل] بسته) وسیر بسته و موسیر بسته و باذنجان بسته و شلجم بسته و خیار بسته» و أیضاً «الرسکبجة» (وقد ترجمها إلی البطون وعدّه طعام الکلاب و السنانیر) و«قدوراً مطبوخة بلحم البقر الغلاظ تُنهش کما تَنهش الفهود، وتؤکل کما تأکل السباع». ویستمر هذا الوصف بذکر عدة أطعمة أصفهانیة أخری (ص 42).

ویستأثر ذکر الفواکه بحیز واسع، فنری أسماء الکثیر من الفواکه البغدادیة الباهظة الثمن بأسماء إیرانیة إلا أن أبا القاسم لایستحسن طبعاً ما اختص منها بأصفهان: ساف أمرود و بهم رود ونارمرود وسلم رود «وقد أوجعني والله الرود (ربما: أمرود)» (ص 43-44). وینتهي هذا الحدیث إلی الورود و النباتات، ویستمر إلی 4 صفحات أخری. ویبدأ بعده أوسع أبواب الکتاب، أي مجالس الطرب والموسیقی والمغنین و العازفین من النساء و الرجال (ص 49). ومن البدیهي أن مدینة أصفهان تُهزَم في هذه المناظرة بشکل سافر ومتواصل، فالمطرب الأصفهاني جهم قبیح المظهر یقتل الغناء، خارج عن الإیقاع، مظلم الخُلق، منقطع الحَلق، فاسق (ص 50)، في حین نری القیان البغدادیات ملاک في صورة إنسان وأسماؤهن ساحرة للغایة، مثل: تحفة و مرجان و أقحوان و حدائق و قهوة. و یستمر إلی 7 صفحات في وصف جمال محیاهن و قدودهن وحلو حدیثهن و غنائهن ووشي ثیابهن المزرکشة بالذهب (ص 50-57)، إلا أن أبا القاسم یری في أصفهان عوض تلک الملاک الرخیمة الصوت، قِرْدة کأنها غول طلع من بریة، فیسخر من کل عضو فیها و ملامحها الظاهرة (ص 57). ویغطي السیل الهادر من سبابه وشتائمه المقذعة التي لاتخلو أحیاناً من ظرف بالغ و قد انها لبها علی أصفهان، أکثر من 10 صفحات من الکتاب. وبدیهي أن وصفه للغناء ینتهي به إلی الحدیث عن غلمان و ولدان الطب، إلا أنه وبعد إشارة عابرة إلی الغلام البغدادي الذي لانیر له في أصفهان، یوجه سهامه المحمومة صوب الغلام الأصفهاني ثم یتأوه قائلاً: «آه سقی الله مدینة بغداد» (ص 67-69).

وفي أثناء وصفه بغداد، یلتمسه شخص الحدیث أ:ثر عن جواریها (ص 70)، فنجد في حدیثه عنهن هذه الجملة الفصیحة من حیث الترکیب النحوي والعامیة من حیث الألفاظ و المطابقة، وتعد نموذجاً جیداً لطابع الحکایة الشعبي: «جاریة من متماجنات بغداد التین (اللتین علی الدرجح) قد جمعوا (بدلاً من جمعن) حسن الخُلق والخَلق» (ظ: ص 71). ویستغرق وصف مجالس وأحوال وجمالات زادمهر جاریة ابن جمهور وذکائها ودهائها وفنها وخاصة فساد خُلقها، 6 صفحات، وینقل خلال ذلک حشداً من الملاحظات و اللطائف الظریفة، ویستعین بها في تسلیط الأضواء الکاشفة بکل مهارة علی مجتمع بغداد الغارق في وحل الفساد و البطر و الإباحیة في القرنین 4 و 5 و یمیط اللثام عما استتر منه. وتنتهي بنا هذه الدوصاف إلی أن «الجاریة البغدادیة لاتعرف إلا الدنیا و الدینار» (ص 72)، ثم یدعم قوله ذلک بنقل روایة حول زادمهر، تنطوي علی واقع مر مریر: فهي تخاطب العاشق الوله الذي التمسها طرقها بخیاله، أن أرسل دینارین حتی دجیئک بنفسي (ص 72-73). فهذه الجواري لسن بحرائر النساء، بل أسیرات تم شراؤهن منذ نعومة أظفارهن وتعلّمن في بیوت النخاسین أنواع فنون الشعر و الموسیقی والرقص، وهاهن یخضعن للبیع و الشراء بأسعار باهظة.

ویطول کثیراً حدیث أبي لاقاسم للضیوف الأصفهانیین في وصف مجالی الطرب و الغناء (ص 78) و أخیراً، و من دجل أن یُثبت في الظاهر و من باب الهزل و لامداعبة، رواج مثل هذه المحافل في بغداد و مکانتها فیها، فإنه یذکر أسماء و روایات طائفة من وجهائها الذنی ذهلوا لسماع صوت ساحر و بدرت منهم أعمالاً و ردوداً غریبة. ویُعد البعض ممن وردت أسماؤهم في هذه الروایات، شخصیات بارزة شهیرة، مثل: المرزباني وابن خیرون و القاضي ابن صِبر وقاضي القضاة ابن معروف وابن الحجاج الشاعر و ابن نُباتة الشاعر وابن الأزرق الکلواذاني وأبومحمد البرداني و ابن المتیّم الصوفي وابن غیلان البزارز و ابن الوراق (ص 78-83) وابن غسان الذي کان أدیباً ظریفاً انتهی به الحال إلی إغراق نفسه في دوامة کلواذا (ص 83). ثم یذکر لما حدث لستة أشخاص آخرین یحمل آخرهم اسم غلام بابا (ص 83-87).

وفي ذیل مجالس الطرب، ینقل أبوالقاسم حادثة عجیبة للغایة، ویزعم أنه شهدها: فقد أحصیت في 306هـ (وربما 360هـ) بکرخ بغداد، 460 جاریة مغنیة وعازفة و 10 حرائر و 75 غلاماً «هذا سوی من کنّا لانظفر بهم ولانصل إلیهم لعزتهم و خرسهم و رقبائهم، وسوی من کنّا نسمعه ممن لایتظاهر بالغناء و الضرب» (ص 87). وعلی أیة حال، فإن هذه الروایة، سواء وقعت في 306 أو 360هـ، وسواء شهدها أبوالمطهر، أم نقلها عن شخص آخر، تدل علی التفشي العجیب للغناء و کثرة الجواري القیان في ذلک العصر. وبعد هذه الروایة یتحدث أبوالقاسم عن لقائه بابن الحجاج و جماعة أخری في منتزه، وینقل 6 مقطوعات من أشعاره (ص 88-91).

وبعد تسجیله هذه الذکریات، یشعر الشیخ أبوالقاسم بجوع، فیطلب من صاحب الدار إحضار مقدمات الطعام من أطایب المأکولات والحلویات، بأشعار ومقطوعات نثریة مقذعة و في نفس الوقت جمیلة، مزج فیها الجد بالهزل (ص 91-93). وحینما یشبع، یغسل یدیه و یطلب النرد و الشطرنج، فیصاب الجمیع بوجل من منافسته، إلا أن دحدهم یستسلم للقضاء في نهایة المطاف. وخلال شرحه لمشاهد لعبه وإطنابه في الإشادة بقدراته، نراه لایحرم منافسه من ملاحظاته المتهتکة و مزاحه البذيء. ویطول لعب الشطرنج الذي غلبت علی قطعه الأسماء الفارسیة (فرزان و البیاذق و الرخ، والشاه و لاشاه مات و کذلک الشطرنج والدست) لینتهي طبعاً بفوز أبي القاسم (ص 93-99). وفي النهایة تبسط سفرة العشاء و یتحدث أبوالقاسم کعادته عن کل شيء فیخلط الجد بالهزل و یصف مأکولات الأصفهانیین مادحاً تارظ و متسهزءاً تارة أخری (ص 100). وهنا نلاحظ أن حدة انتقاداته اللاذعة تخف قلیلاً، فلایخلو مدحه للأصفهانیین و أصعمتهم من نوع من الصدق في بعض الأحیان.

ونواجه جمهرة هائلة من أسماء الأطعمة، إلا أنه یذکر بعضها واحدة تلو الأخری مع معلومات طریفة حین وصفه لها وذکره لموادها و کیفیة طبخها. وأما الأطعمة التي حظیت باهتمامهة الأکثر، فهي: السکباج والباذنجان و الدوغباج و الحساء و الطباهجة والهریسة والتنوریة (ص 100-101)، إلا أن طعم المأکولات البغدادیة لم یزل عالقاً علی لسانه، فیأسف لأن الأصفهانیین قد حرموا منها. ثم یطلب ماء لیتذرع من خلاله إلی الإطراء علی جو أصفهان، فیعلن فجأة أنه قد أظلم أهل أصفهان (ص 101-102).

وحینما یعاود الحدیث في وصف المأکولات، یبدد بصب جام غضبه علی بغداد سافراً (ص 104). ومن هذا الفصل و حتی نهایة الکتاب، تنهال علی بغداد جمیع إقذاعاته التي کان یکیلها لأصفهان آنفاً. وتبلغ انتقاداته لبغداد من الحدة بحیث یثور أحد الضیوف ویقول: «یا أبا القاسم ماکنت تقول في بغداد شیئاً من هذا النمط قبل هذا و إنما کنت تعیب دهل أصفهان»، فیرد قائلاً:

لَنَبعَةٌ من نواحي أصبهان أری

ویابس من قفافٍ غیر محروث

أشهی إلی وأحلی ما أقمت بها

من کرخ بغداد ذي الرمان و التوث

(ص 105)، ثم یواصل ذمه بغداد، ولکن لیس معلوماً سبب تطرقه فجأة إلی موضوع لا ارتباط له بالحکایة، إذ یسأله شخصهل یعرف شیئاً من السباحة؟ فیغضب و یزعم أنه في السباحة أمهر من الضفدعة والتنین، ثم یورد 13 نوعاً من السباحة (ومنها الطاووسي والعقربي)، ویقول إنه أخذها علی أستاذین في بغداد (ص 107). وهنا یعرب شخص عن رغبته في التعرف إلی مصطلحات الملاحین، فیذکر له عدداً کبیراً من أسماء سفن الملاحین وزوارقهم (حوالي 20 اسماً) ومصطلحاتهم العامیة التي یندر وجودها في کتب المعاجم (ظ: ص 107). وهنا یعرب شخص عن رغبته في التعرف إلی مصطلحات الملاحین، فیذکر له عدداً کبیراً من أسماء سفن الملاحین و زوارقهم (حوالي 20 اسماً) ومصطلحاتهم العامیة التي یندر وجودها في کتب المعاجم (ظ: ص 107-108). ویبدو خروجه المفاجئ عن الموضوع غریباً إلی حدّ ما، رغم أننا قد رأینا نظیره آنفاً، إذ غالباً ما یهیيء لاي موضوع یرید تبیانه، مقدمات تمهیدیة و یُعد مشهده، و قد کان أحیاناً ماهراً حقاً في تمهیداته تلک. ولکن یبدو أنه کان یعرف أن هذه المعلومات لم یتوفر علیها الجمیع، فلذا أصر علی إقحامها في موضوع ما، فلم یجد موضعاً أفضل من هذا. و بینما نحن في ذلک إذا بالموضوع یتغیر فجأة مرة أخری، فنری شخصاً سأله عن داره في بغداد، فیجیبه بأنها في سکّة الجوهري، وإنها دار «أُسَّست علی غیر التقوی». ثم نراه یصف داره التي بکاها بعد اغترابه عنها مر البکاء، بأبیات مضحکة و مستهجنة للغایة (ص 108-109). ثم یریق في جامه صهباء أصفهانیة و یمدحها، ویؤدي به مدحه للصهباء إلی مدح لاذع ومقذع لصاحب الدار و تقریع لبعض ضیوفه (ص 109-112)، وآنذاک، حینما یعرب عن ارتیاحه لأصفهان، یسأله شخص فیما إذا کان قد نسي أصدقاءه البغدادیین، فیرد علیه ممطراً بغداد و أهلها باللعنة، رغم اقتصاره في أبیات أخری له علی لعن البغدادیین فقط، و کأنه یعز علیه زوال مصدر أفراحه العدیدة تلک (ص 113). ثم نری الشیخ جالساً بین ضیفین، یحاور أحیاناً الضیف الجالس عن یمینه وأحیاناً أخری الجالس عن یساره وفي لامشهد الذي أعدّه أبوالمطهر لهذا المسرح، یعود القارئ بذاکرته دون إرادة منه إلی فکاهة وسخریة کتّاب القرن 17 م في أوروبا، وذلک بتجسیم هیئة أبي القاسم و ملامح وجهه و أطواره التي ترتسم بیسر في الخاطر، وخاصة کلامه الزائف و الخادع الذي یتداوله مع هذین الشخصین. فحینما یلتفت لأحدهما یبادره بإطرائه علیه و ذمه للآخر، وهکذا یفعل مع الآخر، فقد تکرر سلوکه هذا أکثر من مرة (ص 113-115).

وینته طالحدیق إلی وصف القیان، فیصور بعض المشاهد بقدرة فائقة، إلی أن یری الشیخ أخیراً شخصین جالسین إلی جانبي قینة (ص 117-118). وهنا یبدأ بذم الغریم العذول، وبالطبع فإن غریمه رجل ثقیل. فینشغل بوصفه ویمطره بوابل من العبارات المقذعة غیر المعهودة و المضحکة أحیاناً. ولیس غریباً کلیة مثل هذاالهجاء علی الشعر و النثر العربیین، إلا أن مایجریه أبوالقاسم کالسیل الهادر علی لسانه ینم عن خیاله الجامح للغایة و قریحته المتدفقة رغم أن ألفاظه و عباراته الرکیکة قد أزالت طلاوة وطراوة الکثیر منها. فیخاطب أبوالقاسم غریمه قائلاً: یا قبح شَیقٍ لاح من نصول و یاکتاباً جاء من مُخْلفٍ للوعد مشحوناً بعُذْر طویل، یاشوکةً في قدم، یا أول لیلة الغزب إذا بعد عن الحبیب، یا طلعة الرقیب، یا إفطار الصائم علی الخبز البحت،... یا شماتة الأعداء و حسد الأقرباء و خیانة الشرکاء، وحینما یضحک شخص من کلامه، ینهمر علیه بزید مائج من تقاریعه اللاذعة والمشینة (ظ: ص 119-122).

وهنا یعتري الحضور هلعاً وحیرة شیئاً فشیئاً لتمادي الشیخ في غضبه المتواصل، فیتدبروا أمره للخلاص منه بشکل ما، ولکن أنّی الخلاص من داهیة ماکر مثله؟ فیضطر الضیوف إلی سقیه أقداحاً (بالدوستکانیات)، حتی ینام، إلا أنه کان یزداد عربدة کلما سقي أکثر (ص 122-123). وتبلغ به الثمالة حداً بحیث نضح الشراب منه بدلاً من عرقه. ورغم کل هذا فقد استمر في سبابه و إنشاده سخیف الشعر ولاذعه (ص 123). فلم یعد یخاطب شخصاً بعینه، بل یمطر الجمیع بوابل کلماته المقذعة، بل کان یعرب عن غبنهم إیاه ویدعي ظلمهم له بذرادتهم إسکاره. و لهذا ینال مضیفهم (صاحب الدار) نصیباً وافراً من هجائه. وفجأة نراه یقول: «مایشفي غلیلي منکم إلا هذا السلطان»، وکأن خوفاً قد اعتراه، فدعا له وطالبه بسلب أموال جمیع هؤلاء الضیوف اللهاة، بل و مصادرة ثروة صاحب الدار وزجه في السجن (ص 124-125). وهنا یستولي علیه النوم، ولکنه لیس مستعداً بالطبع للکف عن هذا المجلس الرائع الذي احتواه بمهارة فائقة، فتراه یحاول طرد النوم عن عینیه ما استطاع إلیه سبیلاً، فیمزح قلیلاً مع القینة المغنیة و الغلام الدیلمي (ص 126-131). وتبلغ عربدته و نزقته هنا ذروتهما فیعمد للغناء و یطالب الجمیع بوضع کلّ منهم یده علی کتف الآخر ویشکلوا حلقة (ص 131-133). وهنا لایطیق أحد الأشخاص فعاله تلک فیقرّعه علی إسفافه، فیجیبه بأن سخفه ملیح، ثم یلتمس مغنیاً إنشاد شیئا علی الإیقاع «الماخوري»، وبعدها یثب قائماً و یأخذ في الرقص و ینطلق في الغناء (ص 133-134). وعندما یضیق المغني به ذرعاً، یهتف به قائلاً: «من هذا الطاعون الذي امتحنتمونا به؟»، وبالطبع لایقف أبوالقاسم مکتوف الأیدي، بل یجیبه بمقطوعات من الشعر و النثر (ص 134- 137)، ثم یعکف بهذه المناسبة علی مدح نفسه بمقطوعة رجزیة مفصلة ظریفة و عذبة للغایة. فیبدأ أولاً بالتعریف بأصدقائه المهیبین و المثیرین للرعب، مثلک صباح الطاق وکردویه و عاقول الدرمني و رکویة و حرمل بن خردل، ثم یقدم نفسه و یزعم قائلاً «أنا آکل رملاً، أخرأ صخرة، أبلع نوی، أخراً نخلاً، أنا الموج الکدر، أنا النار، أنا الرحاد إذا استدار، أنا مشیتُ أسبوعین بلار رأس، أنا فرعون، أنا نمردود، أنا شهدت الغول عند نفاسها و حملت جنازة الشیطان، نُفیت إلی الشاش و فرغانة ورُددت إلی طنجة و إفرنجة و أندلس و إفریقیّة فما قلِعت لها ... ونابي سکین جزار...» 0ص 137- 139). وإذا ما عراضه أحد في تلک الحال، یبادر إلی شتمه بتعابیر غریبة: «یاقمیصاً بلا زُرّ، یا شُبت الصبیان، یا بخل الأهوازي، یا أکره من غریم أتی علی میعاد، یا أمرّ من طعم السؤال» (4 صفحات في هذا المضمار، 139-143).

وأخیراً یستسلم أبوالقاسم البغدادي للنوم، إلا أن المؤلف لایری التریث جائزاً هنا، فیرسم في الفور مشهد الشیخ الدغل عند الفجر: فالشیخ هو أول مَن ینهض من النوم، ویسلم، ویقرأ الشهادة ویتلو آي الذکر الحکیم؛ فیبتسم أحد الأشخاص حینما یری أحوال الشیخ، الدغل عند الفجر: فالشیخ هو أول مَن ینهض من النوم، ویسلم، ویقرد الشهادة ویتلو آي الذکر الحکیم؛ فیبتسم أحد الأشخاص حینما یری أحوال الشیخ، إلا أن هذه الابتسامة تثیر عقیرة الشیخ فیزه مجر قائلاً: «ویحک أکلّ هذا الطرب بعد قتل الحسین الذبیح علیه و علی آبائه الطاهرین السلام» ثم ینشد قائلاً:

«لعن الله من یعادي علیاً وحُسیناً من سوقة و إمام»

وها نحن مازلنا نتذکر أن حکایة أبي القاسم سبق وأن بدأت بهذه الکلمات و الأشعار. و حینئذ ینهض و یرتدي الطیلسان ویعود من حیث أتی (ص 145-146).

ویقول المؤلف في الختام: «هذه حکایة أبي القاسم البغدادي التمیمي و أحواله التي توضح لک أنه کان غُرّة الزمان، و عدیل الشیطان، ومجمع المحاسن و المقابح، متجاوزاً الغایة و الحد، متکاملاً في الهزل والجد، موفوراً من الأخلاق و النفاق،متخلقاً منها بدخلاق أهل العراق» (ص 146).

المصادر

آذرنوش، آذرتاش، «الکلمات الفارسیة في الشعر الجاهلي»، مقالات وبررسیها، طهران، 1356ش، عد 31؛ أبوالمطهر الأزدي، محمد، حکایة أبي القاسم البغدادي، تقـ: آدم متز، هایدلبرغ، 1902م؛ أدي شیر، معجم الألفاظ الفارسیة المعربة، بیروت، 1980م؛ الباخرزي، علي، أمیة القصر، تقـ: محمد التونجي، بیروت، 1391هـ/ 1971م؛ تفضلي، أحمد، «إطلاعاتي دربارۀ لهجۀ پیشین إصفهان»، نامۀ مینوي، طهران، 1350ش؛ الثعالبي، عبدالملک، یتیمة الدهر، تقـ: محمد محیي‌الدین عبدالحمید، بیروت، دارالفکر؛ الجاحظ، عمرو، البخلاء، تقـ: طه الحاجري، القاهرة، 1990 م؛ م.ن، البیان والتبیین، تقـ: حسن السندوبي، القاهرة، 1351هـ/ 1932م؛ حمزة الأصفهاني، تاریخ سني ملوک الأرص والأنبیاء، برلین، 1340هـ/ 1922م؛ ضیف، شوقي، المقامة، القاهرة، 1973م؛ طباطبائي، أبوالفضل، مقدمة سفرنامۀ أبودلف در ایران، طهران، 1342ش؛ طه، عبدالواحد ذنون، «مجمتع بغداد من خلال حکایة أبي القاسم البغدادي»، المورد، بغداد، 1394هـ، عد 4(3)؛ مبارک، زکي، النثر الفني في القرن الرابع، بیروت، 1352هـ/ 1934م؛ مینورسکي، فلادیمیر، مقدمة سفرنامۀ أبودلف در إیران، تجـ: أبوالفضل طباطبائي، طهران، 1342ش؛ وأیضاً:

EI2; EI2, S; Gabrieli, F., «Sulla, Ḥikāyat abīl- Qāsim si abūl Mutahhar al-Azdi», RSO, 1942, vol. XX; GAL, S; Metz, A., introd, Abulkâsim ein bagdāder Sittenbild (vide; PB, ‘ab-ul-Mutahhar).

آذرتاش آذرنوش/ خ.

الصفحة 1 من3

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: